كيف تُفكر داعش؟ لا تبدو غامضة تلك الاستراتيجية التي انتهجها تنظيم الدولة الإسلامية، منذ إعلانه عن وجوده رسمياً داخل سورية في إبريل/نيسان 2013، كانت داعش تفكر، وبمستوى متقدم من البراغماتية، بأولوياتها كـ "دولة"، لا كفصيل جهادي يقاتل النظام السوري. لذلك، لم يكن "إسقاط النظام السوري" ضمن أولوياتها المرحلية، بل كانت أولوياتها تتركز في اتجاهين:
الأول: الحصول على مزيدٍ من الجغرافيا. وهنا، كان أمام التنظيم لتحقيق ذلك خياران، مقاتلة النظام السوري، أو مقاتلة الفصائل الثورية. وبالطبع، وجد التنظيم أن السيطرة على المناطق الخاضعة لفصائل ثورية محدودة التسليح، ومترددة في قتال الدولة الإسلامية، بسبب ما اعتبرته "حرجاً شرعياً" من قتال "إخوة المنهج"، أسهل بكثير من السيطرة على مناطق خاضعة لنظامٍ يمتلك سلاح طيران، وأسلحة ثقيلة، وكثافة نيران، ومخزون ذخيرة لا يكاد ينفد، إضافة إلى وجود ميليشياتٍ عقائديةٍ تقاتل معه. وهذا ما يُفسر أن كل المدن والقرى والمساحات الواسعة التي سيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية في سورية كانت مُنتزعة من الفصائل الثورية، لا من النظام.
الثاني: الحصول على "التمويل والسلاح"، عبر السيطرة على أي مواقع، تُسهم في عملية التمويل، كآبار البترول في الشرق السوري، والاستيلاء على مقرات بعض البنوك "كالبنك المركزي في الموصل"، إضافة إلى فرض أتاوات على التجار وعلى حركة السِلع في المناطق الخاضعة له.
أما السلاح، فقد أدرك تنظيم الدولة أن "السلاح النوعي"، وبكميات كبيرة، لن يكون متوفراً سوى في قواعد النظامين السوري والعراقي ومخازنهما، وهذا ما يُفسر أن معارك تنظيم الدولة الإسلامية مع النظام السوري لا تكاد تخرج، حصراً، عن السعي إلى السيطرة على مواقع القواعد والمطارات العسكرية التي تحتوي على كميات هائلة من السلاح، ابتداءً بالمعركة التي خاضها التنظيم، للسيطرة على مطار منغ العسكري في ريف حلب، وليس انتهاءً بسيطرته على مقر الفرقة 17 ومقر اللواء 93 ومطار الطبقة العسكري في محافظة الرقة.
مستقبل تنظيم الدولة الإسلامية
مع هذا القدر من التحول الدراماتيكي السريع في المشهد السياسي العربي، لا تخلو محاولات استشراف المستقبل من مجازفة. ومع ذلك، يمكن من استقراء السلوك السياسي للدول الكبرى، ومدى التغيّر في المشهد الإقليمي وفي موازين القوى العسكرية، أن نحاول استشراف المرحلة المقبلة، لكي نعرف من أي الجهات الأربع ستهب رياح التغيير.
وتبدو الساحة العراقية أكثر وضوحاً فيما يخص مستقبل تنظيم الدولة الإسلامية. فبمجرد أن تنجح الضغوط الدولية والإقليمية، المتزامنة مع شعور القوى السياسية المحلية باقتراب الخطر، في تكوين نظام سياسي، تُشارك فيها جميع المكونات العراقية، ولا يشعر فيه السنّة بالتهميش، ويعيد التحالف مع العشائر السنية، وهو ما تنتظر الولايات المتحدة إنجازه، تبدأ بعده بتنفيذ ضربات جوية مكثفة لمواقع ومعسكرات تنظيم الدولة الإسلامية، بالتوازي مع تحرك قوات الحكومة العراقية ومقاتلي العشائر على الأرض. وذلك في مشهدٍ ربما لا يختلف كثيراً عما جرى في العراق عام 2006. عندها، سيضطر تنظيم الدولة الإسلامية إلى التراجع، وسيخرج من المدن الكبرى، عائداً إلى الهوامش والصحاري الخارجة عن السيطرة.
" معارك تنظيم الدولة الإسلامية مع النظام السوري لا تكاد تخرج، حصراً، عن السعي إلى السيطرة على مواقع القواعد والمطارات العسكرية التي تحتوي على كميات هائلة من السلاح. " |
في المقابل، يبدو مستقبل تنظيم الدولة الإسلامية في سورية أكثر تعقيداً، ومحاطاً بهالة من الغموض الكثيف، بسبب تشابك الحالة السورية، وعدم وجود طرف سياسي "لا النظام ولا الفصائل الجهادية" يمكن للقوى الدولية تسليحه والتحالف معه، من ثم توجيه ضربات جوية مكثفة، متزامنة مع التقدم الميداني للقوات المحلية (بطريقة تُشبه ما حصل في مواجهة النظام الليبي ونظام طالبان بأفغانستان)، لذا، يبدو أن عمر تنظيم الدولة الإسلامية في سورية سيكون أكثر طولاً مما هو في العراق، وتقلص جغرافيته مرهونٌ بوجود قوات عسكرية كبيرة على الأرض، يمكن التحالف معها دولياً.
وحتى ذلك الحين، لا يبدو أن تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يحسب خطواته جيداً، سيُقدم على مغامرة اجتياح الحدود السعودية أو الأردنية، وإن فعل، لن يعدو الأمر مجرد مناوشاتٍ تحمل رسائل سياسية، ولا تهدف إلى السيطرة على مناطق داخل حدود هاتين الدولتين.
لكن، يبدو أن القضاء الكامل على تنظيم الدولة الإسلامية سيكون أمراً متعذراً في المدى المنظور، فكل ما تستطيعه القوى الإقليمية والدولية، في حال توفرت الظروف المناسبة، هو الحد من تمدده، ودفعه إلى التراجع، ونزع سيطرته على المدن الكبرى.
وقبل كل ما سبق، إن "داعش" ظاهرةٌ تكونت وفق شروط التاريخ، لا خارجها، وستبقى، وسيتكرر خروج تنظيمات مشابهة، ما دامت الظروف الموضوعية، الفكرية والسياسية، تملك كل الخصوبة اللازمة لولادة مزيدٍ من الكوارث والأزمات.
- See more at: http://www.alaraby.co.uk/opinion/f879ecd9-c7c8-4e77-be46-c9b8d89b9050#sthash.GDiXtMyg.dpuf --