العولمة وصراع الحضارات
يقول الدكتور جعفر شيخ إدريس إن الصراع سنة ماضية، والصراع بين الحضارات إنما هو في جوهره صراع بين معتقدات لا بين طبقات ولا عرقيات.
فأصحاب الطبقة الواحدة، والمنتمون إلى قومية واحدة بل قبيلة واحدة قد يقتل بعضهم بعضاً إذا اختلفت معتقداتهم.
وهذا هو الذي توصل إليه دارسو الحضارات من الغربيين؛ فإنهم يكادون أن يكونوا مجمعين على أن الحضارة وإن تكونت من عناصر كثيرة إلا أن أهم عنصر فيها هو العنصر الثقافي، وأن أهم عنصر في الثقافة هو الدين.
وأوضح أن كلمات الحضارة والمدنية والثقافة والعولمة وإن كانت عربية إلا أنها جعلت في استعمالنا الحديث رموزاً تدل على المعاني والمفهومات نفسها التي تدل عليها الكلمات الغربية التي جعلناها ترجمة لها.
فلننظر في تلك المعاني والمفهومات كما هي عند أهلها. وأنسب ما نبدأ به هو الأمريكي هنتنجتون أول من أشاع تعبير صراع الحضارات في مقال مشهور نشر في صيف عام 1993م، ثم نشر موسعاً في كتاب بالعنوان نفسه.
ينقل هنتنجتون عن عدد كبير من العلماء الغربيين تعريفهم لما أطلقنا عليه كلمة المدنية أو الحضارة، والفرق بينها وبين ما نسميه ثقافة؛ فما الحضارة أو المدنية وما الثقافة؟. يمكن أن نلخص مجمل أقوال من نقل عنهم هنتنجتون في مفهوم الحضارة والثقافة فيما يلي:
يضع المفكرون الألمان حداً فاصلاً بين الحضارة والثقافة، فالحضارة عندهم تشمل التقنية وسائر العوامل المادية، أما الثقافة فتشمل قيم المجتمع ومثله العليا وخاصياته الفكرية والفنية والخلقية الكبرى.
لكن سائر المفكرين الغربيين خالفوا الألمان في هذا؛ فهم يرون أن الحضارة والثقافة كليهما تشيران إلى منهاج حياة أمة من الناس، وأن الحضارة إنما هي الثقافة مكبرة، وأن كليهما يشمل القيم والمعايير والمؤسسات وطرائق التفكير السائدة في أمة من الناس، وأن الدين هو أهم العناصر المكونة للحضارة، وأن الحضارة ليست متطابقة مع العرق؛ فأصحاب العرق الواحد قد ينتمون إلى حضــارات مختلفة، كمـا أن الحضـــارة الواحـــدة ـ كالحضارة الإسلامية ـ قد تضم مجتمعات مختلفة الأعراق والألوان والأشكال. والحضارة هي أوسع وحدة ثقافية؛ فأهل قرية إيطالية مثلاً قد يتميزون ثقافياً عن قرية إيطالية أخرى لكنهم يشتركون في ثقافة إيطالية تميزهم عن أهل القرى الألمانية. والألمان والإيطاليون ينتمون إلى ثقافة أوروبية تميزهم عن الجماعات الصينية والهندية. هذا الذي يجمع الأوروبيين هو حضارتهم التي تميزهم عن الحضارات الصينية والهندية. فالحضارة هي أعلى تجمُّع ثقافي للناس، وأوسع مستوى للهوية الثقافية لهم. وليس فوق الانتماء الحضاري للناس إلا انتماؤهم إلى الجنس البشري.
أما العولمة فيقول عنها الدكتور جعفر إنها في أساسها تصيير المحلي عالمياً؛ فهي وصف لعمل مستمر تدل عليه كلمة Globalization لكنها في الوقت نفسه وصف لبعض نتائج هذا التعولم.
النتيجة النهائية المثالية للتعولم أن تكون للعالم كله لغة أو لغات مشتركة، وأن تكون التجارة فيه مفتوحة ومتيسرة بين كل بلدان العالم، وأن يسود فيه نظام اقتصادي واحد، ونظام سياسي واحد، وأن تسود فيه عقيدة واحدة، وأن تكون للناس فيه قيم مشتركة في مسائل كحقوق الإنسان والعلاقة بين الجنسين، وأن يكون هنالك أدب عالمي يتذوقه الناس كلهم، وأن يسود فيه تبعاً لذلك نظام تعليمي واحد، وهكذا.
وأن تكون كل هذه الأمور التي تعولمت مناسبة للناس من حيث كونهم بشراً، ومساعدة لهم على تحقيق طموحاتهم المادية والروحية، أي تكون للعالم حضارة عالمية واحدة. هذا هو الهدف النهائي المثالي، لكن العولمة قد تكون ناقصة، وقد تكون تامة من غير أن تكون مناسبة للبشر بل مفروضة عليهم لظروف طارئة.
المهتمون بقضية العولمة متفقون تقريباً على أنه وإن كانت الكلمة جديدة إلا أن ما تصفه ليس بجديد، بل يرى بعضهم أن السير نحو هذه العالمية بدأ منذ مئات السنين.
فإذا كانت هذه هي العولمة فما وسائلها التي تجعلها ممكنة وتحركها؟ يذكر بعض المؤرخين أنه كان للعولمة في الماضي سببان رئيسان هما الهجرة والغزو.
ولكن لنا أن نسأل: لماذا يهاجر الناس، ولماذا تغزو بعض البلاد بعضاً؟ إنهم يفعلون ذلك؛ لأنهم يرونه ـ بحسب قيمهم ـ في مصلحتهم المادية أو الروحية.
هذا إذن هو الدافع الأول المحرك للهجرة أو الغزو أو أي نوع آخر من أنواع الاتصال بين أمة وأمة. لكن الناس إنما يقررون الهجرة إلى مكان معين أو غزو أمة معينة بحسب ما يصلهم من معلومات عنها، وبحسب إمكانية الوصول إليها.
هذان إذن عاملان آخران هما المعلومات ووسائل الانتقال؛ وهذان يعتمدان كثيراً على مستوى التقنية الذي تصل إليه الأمة المهاجرة أو الغازية أو الساعية لأي نوع آخر من أنواع العلاقات أو التأثير.
دوافع أمة لغزو أمة أخرى أو هجرة بعضهم إليها هي في غالبها دوافع اقتصادية، لكن بعضها قد يكون ثقافياً. والأمران متشابكان؛ فحتى الغازي لأسباب اقتصادية ينقل معه ثقافته وقد يفرضها على المهزومين إذا كان غازياً ذا إمكانات كبيرة، وقد يتأثر بثقافة من غزاهم، بل وقد يتبناها ويترك ثقافته، وقد يكون التأثر والتأثير متبادلاً. والمهاجر أو الغازي لأسباب ثقافية قد يستفيد فوائد اقتصادية، وقد يحدث لثقافته التي هاجر من أجلها ما يحدث للمهاجر.
كان غزو المسلمين للعالم مثالاً للغزو بدافع حضاري؛ فقد كانوا يعدون أنفسهم أصحاب رسالة موجهة للعالم كله كلفوا هم بتبليغها إليه بالوسائل السلمية ما أمكن، وإلا باللجوء إلى الحرب. لكن حتى المسلمين الذين كانوا يهاجرون طلباً للرزق كانت مهمتهم الرسالية ماثلة أمامهم، فأثروا في البلاد التي هاجروا إليها تأثيراً كبيراً، فنقلوا إليها ـ كما نقل الغزاة قبلهم ـ دينهم ولغتهم ولم يتأثروا بهم إلا في أمور لا تتعارض مع دينهم، بل قد يكون بعضها من مقتضيات الدعوة إليه، كتعلم لغتهم.
أما المسلمون الذين يهاجرون إلى البلاد الغربية في أيامنا هذه فإنهم يفعلون ذلك لأسباب في غالبيتها العظمى اقتصادية، وتجربتهم تدل على أن الغالبية العظمى منهم تفقد هويتها الثقافية ـ لغة ومظهراً وديناً ـ وتذوب في المجتمعات الغربية.
لكن أكثر ما يحتفظون به ويؤثرون به في تلك المجتمعات هو طعامهم. غير أن قلة من هؤلاء الذين هاجروا لأسباب اقتصادية كانت ـ مع القلة التي تسافر لأسباب دعوية أو دراسية ـ سبباً في قبول بعض الغربيين للإسلام، وفي انتشار بعض المظاهر الإسلامية كالمساجد والمدارس والمكتبات والحجاب.
أما الغربيون الذين ذهبوا إلى العالم الإسلامي غزاة أو لأسباب اقتصادية فإن قلة قليلة منهم هي التي تأثرت بالثقافة الإسلامية أو اعتنقت الإسلام.
ولذلك كان دخول بضعة آلاف من الجنود الأمريكان في الإسلام في المدة القصيرة التي قضوها في السعودية إبان حرب الخليج أمراً ملفتاً للنظر شاذاً عن القاعدة..لكن دخول غير الغربيين المهاجرين إلى العالم الإسلامي كان ولا يزال أمراً معتاداً.
أما غزو الغرب للعالم فقد كان في أساسه لأسباب اقتصادية، لكن الدافع الرسالي كان أيضاً حاضراً فيه حضوراً بيناً..فالغربيون كانوا يرون أن لهم رسالة هي أن يحضِّروا العالم ويجعلوه نصرانياً. وهم يرون أن حضارتهم تفوق الحضارات الأخرى لزعمهم بأنها تمتاز بعقلانية لا توجد في غيرها، وأن هذه الميزة هي التي تؤهلها لأن تكون الحضارة العالمية.
يرى أحد الأساتذة الأرجنتينيين أن أحسن من يعبر عن هذا الاعتقاد هو الفيلسوف هيجل وينقل عنه قوله: "إن الروح الألمانية هي روح العالم الجديد".
ويقول: إن هيجل يرى أن الروح الأوروبية التي هي روح ألمانيا هي الحقيقة المطلقة التي تحقق نفسها بنفسها من غير أن تكون مدينة لأحد سواها.
ويقول الكاتب: إن هذه القضية ـ يعني قضية هيجل ـ لم تفرض نفسها على أوروبا والولايات المتحدة فحسب؛ بل على كل المجال الفكري لأطراف العالم.
وينقل الدكتور جعفر عن أستاذ بجامعة ديوك الأمريكية قوله: "إنه لأمر عجيب وإنها لحركة في غاية التعصب العنصري أن تعتقد أوروبا أن عليها منذ عام 1500م أن تحضِّر عالماً ظلت فيه منذ قرون حضارات (مثل الحضارة الصينية والهندية والإسلامية...) قبل أن تجعل من نفسها مركزاً جديداً للعالم باسم النصرانية وأوروبا زمرة من الجماعات الهمجية الصاعدة".
استطاعت أوروبا أن تفرض نفسها وكثيراً من جوانب حضارتها على تلك الحضارات بالغزو والاحتلال والاستعمار، ثم بوسائل الإعلام والضغوط الاقتصادية، والتهديدات العسكرية. يقول مؤرخهم المعاصر بشيء من الزهو:
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان الاستعمار الغربي قد شمل أفريقيا كلها، وأحكم سيطرته على شبه القارة الهندية وبقية آسيا..وفي أوائل القرن العشرين أخضـع الشــرق الأوسـط كله ـ عدا تركيا ـ لسيطرته المباشرة، ومع نهاية عام 1920م كانت الإمبراطـــورية العثمانية قـد قسـمت بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.
في غضون هذا التوسع أخضع الغرب الحضارات الهندية والإسلامية وأخضع أفريقيا وتوغل في الصين وجعلها تابعة للنفوذ الغربي لمدة أربعمائة عام تمثلت العلاقة بين الحضارات في خضوع المجتمعات غير الغربية للحضارة الغربية.
ذلك ما كان حتى عام 1920م؛ فماذا حدث بعده؟ استمر الغرب في تفوقه التقني واستمر في تأثيره الكبير على كل مجتمعات العالم لاسيما بعد الطفرة التي حدثت في تقنية الاتصالات والانتقال والتي زادت في إمكانية العولمة.
تتمثل هذه الهيمنة الغربية الآن ـ كما لخصها كاتب أمريكي ـ في أن الأمم الغربية:
- تملك وتدير النظام المصرفي العالمي.
- وتسيطر على كل أنواع العملة الصعبة.
- وأنها هي الزبون العالمي الأول.
- وأنها هي التي توفر للعالم معظم بضائعه الجاهزة.
- وأنها تسيطر على أسواق الرأسمال العالمية.
- وأنها تمارس قدراً كبيراً من القيادة الأدبية في كثير من المجتمعات.
- وأن لها قدرة على التدخل العسكري العظيم.
- وأنها تسيطر على المضايق البحرية.
- وأنها تقوم بمعظم البحوث والتطوير للتقنية المتقدمة.
- وأنها المتحكمة في التعليم التقني الفائق.
- والمهيمنة على المدخل إلى الفضاء.
- وعلى صناعة الطيران.
- وعلى وسائل الاتصال العالمية.
- وعلى التقنية العالية لصناعة الأسلحة.
العولمة لم تكن ـ كما كان يرجى لها إذن ـ أن تسود في العالم ثقافة إنسانية تناسب كل الناس وتساعد على تعاونهم وتطورهم والاستفادة من خيرات بعضهم بعضاً. بل كادت العولمة وكاد التحديث أن يكون تغريباً بسبب هذا التفوق الغربي وعدم تسامح حضارته مع الحضارات الأخرى.