والنداء في قوله: «إِنَّ الْمُؤَذِّنِينَ»، يعني في النداء للصلاة، «إِنَّ الْمُؤَذِّنِينَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، هذا استدل به جمهور العلماء على فضل التأذين، واستدلوا به على أن التأذين أفضل من الإمامة، وهذه فيها خلاف، لعله يأتي الإشارة لشيء من ذلك، لكن في خصوص هذا الحديث يقول: «إِنَّ الْمُؤَذِّنِينَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، قيل: إنه على ظاهره، وأن طول العنق طول حقيقي، وقيل: إنه تشوُّفهم يوم القيامة لرحمة الله -سبحانه وتعالى.
والظاهر أن يحمل اللفظ على ظاهره؛ لأن هذا هو الأصل أن يحمل على ظاهره، ولا يُحْوِجُ إلى تأويل إلا أن يأتي دليل يدل عليه.
وهذا ظاهر؛ لأن الناس يوم القيامة يعرقون، كما في الأحاديث الصحيحة، في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر وغيره أنهم: «يَعْرَقُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْعَرَقُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ إِلَى حِقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجَمُ فِي الْعَرَقِ إِلْجَامًا»(13)، ويكونون في هول وشدة عظيمة، فلا شك أن من كان أطول عنقًا، فإنه دلالة على سلامته، ودلالته على نجاته من هول وشدة ذلك اليوم.
وهذا جزاء العمل الذي عملوه؛ لأنهم لما أعلنوا التوحيد والنداء بهذه الكلمات العظيمة، ونوهوا به ونادوا بها، كان الجزاء من جنس العمل أن ينوه بهم وأن يرفع ذكرهم؛ لأنهم رفعوا ذكر الله -سبحانه وتعالى- بالنداء بهذه الكلمات العظيمة بالتوحيد، من أول الآذان إلى آخره كله توحيد، تقول الله أكبر، وختامه: لا إله إلا الله، والشهاداتان، وكذلك الدعوة إلى الصلاة، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، وكذلك إعادة التكبير بعد ذلك في آخره.
ثم بعد ذلك يشمل التأذين يدخل فيه الإقامة، وهم ينوهون بها عمومًا لمن كان بعيدًا من المسجد، أو إعلان بالوقت، ثم بعد ذلك إعلان بها للحاضرين وهي الإقامة، فكان هذا الجزاء، قوله: «إِنَّ الْمُؤَذِّنِينَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وهذا يوم عظيم والحاجة فيه، أو والمنجي فيه هو العمل، ولا ينفع فيه إلا من قدم شيئًا، ولهذا كان الجزاء كما تقدم من جنس العمل.
وقد ورد له شواهد، منها حديث أنس(14) عند أحمد(15)، بمعنى حديث معاوية(16)، ومثل حديث أبي هريرة عند ابن حبان(17)(18) أيضًا، شواهد لحديث معاوية -رضي الله عنه: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا»، قيل بعضهم رواه: «إِعْنَاقًا»، «أَطْوَلُ النَّاسِ إِعْنَاقًا» بالكسر، وقالوا: «إِسْرَاعًا»؛ يعني أسرع من العنق وهو سرعة السير، وهو «أنه كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص»، يعني من السير، وسرعة السير، وأنه يكون لهم ما لا يقع لغيرهم من شدة ذلك اليوم وضيق ذلك اليوم؛ لكن الرواية: «أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
(1) أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه (387).
(2) أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة، باب من لعنة النبي -صلى الله عليه وسلم- (2604) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما.
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم: من آذيته (6361)، مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب من لعنه النبي -صلى الله عليه وسلم- (1201) من حديث أبي هريرة.
(4) أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم (2603) من حديث أَنَس بْن مَالِكٍ.
(5) سبق تخريجه.
(6) أخرحه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب من لعنه النبي -صلى الله عليه وسلم- (2600) من حديث عَائِشَة.
(7) أخرجه مسلم كتاب الصلاة، باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه (387)، من حديث معاوية بن أبي سفيان.
( المائدة: 58. (9) صحيح: أخرجه أحمد في المسند (16478)، أبو داود: كتاب الصلاة، باب كيف الأذان (499)، الترمذي: كتاب أبواب الصلاة، باب بدء الأذان (189)، قال الترمذي: حسن صحيح، ابن ماجه: كتاب الأذان والسنة فيها، باب بدء الأذان (706)، قال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح.
(10) المصدر السابق.
(11) أبو محذورة القرشي الجمحي المكي المؤذن. له صحبة، واختلف في اسمه واسم أبيه ونسبه، فقيل: اسمه أوس، وقيل: سمرة وقيل: سلمة، وقيل: سلمان. واسم أبيه معير، وقيل عمير بن لوذان بن وهب بن سعد بن جمح، وقيل: ابن لوذان بن ربيعة بن سعد بن جمح، وقيل: ابن لوذان بن عريج بن سعد بن جمح، وقيل: ابن لوذان بن ربيعة بن عريج بن سعد بن جمح. مات سنة تسع وخمسين، وقيل: سنة تسع وسبعين. انظر: الاستيعاب (ص: 853 ترجمة 3145)، والإصابة (7/365 ترجمة 10502).
(12) صحيح: أخرجه النسائي: كتاب الأذان، كيف الأذان (632)، قال الألباني في صحيح النسائي: حسن صحيح.
(13) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب من سأل الناس تكثرا (1475)، مسلم في الزكاة باب باب في صفة يوم القيامة أعاننا الله على أهوالها (2862)، واللفظ له، من حديث ابن عمر بنحوه مختصرا.
وأخرجه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفة يوم القيامة أعاننا الله على أهوالها (2863، 2864) من حديثأبي هريرة، والمقداد بن الأسود.
(14)أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار. الإمام، المفتي، المقرئ، المحدث، راوية الإسلام، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي النجاري المدني، خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقرابته من النساء، وتلميذه، وتبعه، وآخر أصحابه موتا، وروى عنه علما جما، وغزا معه غير مرة، وبايع تحت الشجرة. دعا له النبي بالبركة، فرأى من ولَده وولَدِ ولَدِه نحوا من مئة نفْس. مات سنة إحدى وتسعين. انظر: الاستيعاب (ص: 53 ترجمة 43)، والإصابة (1/ 126 ترجمة 277).
(15) صحيح: أخرجه أحمد في المسند (12729) من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال الألباني في صحيح الجامع (1031): صحيح.
(16) سبق تخريجه.
(17) الإمام العلامة، الحافظ المجودأبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد بن سهيد بن هدية بن مرة بن سعد بن يزيد بن مرة بن زيد بن عبد الله بن دارم بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمي البستي. صاحب التصانيف ومن أشهرها الصحيح. ولد سنة بضع وسبعين ومئتين. كان من أوعية العلم في الفقه، واللغة، والحديث، والوعظ، ومن عقلاء الرجال. مات في شوال سنة أربع وخمسين وثلاث مئة, وهو في عشر الثمانين. انظر: سير أعلام النبلاء (16/ 92 ترجمة 70)، وطبقات الحفاظ (ص: 374).
(18) صحيح: أخرجه ابن حبان في صحيحه (1670)، من حديث أبي هريرة، قال الألباني في صحيح الموارد (252): صحيح.