الأعرابي منذ عصور الجاهلية الأولى لم يتعود أبدا على العمل والإنتاج،

حسني المتعافي

...................

إن الأعرابي منذ عصور الجاهلية الأولى لم يتعود أبدا على العمل والإنتاج، كان يعيش على التنقل بحثا عن المراعي، وبالطبع كانت القبيلة في هذه الظروف الخانقة القاتلة هي الكيان الوحيد المقدس الذي يهلك المرء إذا ابتعد عنه، كان الولاء المطلق للقبيلة، كانت هي ما يمثله الدين والوطن بالنسبة للشعوب الأخرى، كان الحفاظ على شرف القبيلة وبناء أمجاد لها هو المقصد الأعظم لكل عربي، تولدت من جراء ذلك فضائل ومساوئ، من المساوئ أن كل قبيلة كانت تعتبر كل ما يملكه الآخرون –وخاصة النساء- حقا لمن غلب، كان وضع المرأة بالغ السوء باعتبار أنها تنشأ في الحلية ولا جدوى منها في المعارك والغارات، وباعتبار أن سبيها بواسطة قبيلة أخرى عار لا يُمحى، وعندما ظهر الإسلام كان من مقاصده إعداد وبناء الأمة الخيرة الصالحة، كان ذلك مضادا لما نشأ عليه العرب والأعراب، استدعى التأليف بين قلوب القبليين عملا إلهياً خاصة امتنَّ به الله على رسوله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}الأنفال63، كان هذا في حياة النبي، أما بعد انتقاله فقد أصبح كل منهم موكولا إلى درجة التزكي والسمو والرقي التي وصل إليها، لقد رباهم الرسول وعلمهم وزكاهم في حياته، ولكنه لم يعد مسئولاً عنهم بعد انتقاله، بل أصبح شهيدا عليهم، والأستاذ الجامعي الذي بذل قصارى جهده في تعليم الطلبة ليس مسئولا عن تقصيرهم في استعمال ما تعلموه بعد تخرجهم، لذلك لم يكن غريبا أن يتضخم ما كان قد بقي في نفوسهم من تقاليد الجاهلية وتتفاقم آثاره، هذا فضلا عن أن حوالي مائة ألف قد أسلموا بعد الفتح ولم يهاجروا لم يُتح لهم المجال ليتعلموا وليتزكوا على يد الرسول، ولقد شكل كل ذلك قوة ضاغطة أدت إلى ما حدث من تحريف وتخريب وفتن، لقد تمّ تحويل تراث وتقاليد الأعراب إلى دين، وتضخمت الغارات لتأخذ شكل ما سُمِّي بالفتوحات، وتمّ استعباد سكان البلاد المفتوحة (العلوج) ونهب كل ثمرات أعمالهم، كانت الأموال التي نهبها العرب والأعراب نقمة عليهم، وكما تنبأ الرسول من قبل تنافسوا الدنيا فأهلكتهم، وقعت الفتن التي هلك فيها ما لا يُحصى عدده منهم، سرعان ما استردت الشعوب المقهورة عافيتها وأمعنت في الانتقام منهم، ثم جاء التتار والصليبيون لينتقموا من الجميع، عاد الحجاز ليكون أفقر مما كان عليه في العصر الجاهلي، وعلى مدى حوالي 12 قرنا كان سكانه يعيشون إما على ما يجود به المحسنون وإما على نهب قوافل حجيج هؤلاء المحسنين