نسمع فى حياتنا المعاصرة أن إنساناً ذهب
إلى قاضٍ ليحكمَ له فى قضية بينه وبين أخيه ، أما قضية اليوم التى أُحدث
حضراتكِم عنها فهى من الغرابة بمكان ، إذ يذهب المرءُ إلى القاضى ليحكمَ فى
القضية لأخيه لا له ، وفى المقابل يأتى أخوه إلى القاضى نفسه لا ليدفع عن
نفسه تهمة ، وإنما ليدفع حقه لأخيه عن طيب خاطر ، ورضا نفس ، ولكن كيف كان
ذلك ؟
تعالوا بنا مع أبى هريرة رضى الله تعالى عنه وهو يحدثنا عن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فذكر أحاديث منها " وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
: إشترى رجل من رجل عقارًا له فوجد الرجلُ الذى إشترى العَقار فى عَقاره
جَرَّةً فيها ذهب . فقال له الذى إشترى العقار . خُذْ ذهَبك مِنّى . إنما
إشتريتُ منك الأرض ولم أبتعْ منك الذَهبَ فقال الذى شرى الأرض : إنما بعتُك
الأرضَ وما فيها . قال : فتحاكما إلى رجلٍ . فقال الذى تحاكما إليه :
ألكما ولد ؟ فقال أحدهما : لى غلام . وقال الآخر : لى جارية . قال : أنكحوا
الغلام الجارية . وأنفِقوا على أنفسِكما منه وتصدقا (1) رواه الإمام مسلم فى صحيحه .
هذا الحديث يقص علينا قصة رجال ثلاثة ، إنطبَعوا على الخير ، وترفعوا عن
الطمع . كان المبتاع أميناً فلم يُخْفِ خبرَ الكنز منتهزاً أو منهوماً .
وكان عفيفاً زاهداً فلم يطلبْ شركة فيه . وكان وَرِعاً ملتزماً فنظر إلى
عقد البيع ونوع المبيع فبرئ مما زاد ، ورآه حراماً على نفسه . وكان البائع
يشبهه حذَراً من الغدر ، وخوفاً لمغبة الطمع ، ونأياً عن الشبهة . نظر إلى
العقد ولم يفصِّل إجمال المبيع فلم يغلبه بريق الذهب على الوازع . فرفضَ
الذهبَ ليسلمَ الدِّيْن . وكان الحاكم مُلهماً سديد الحكم ، فسوّى بين
المحتكَميْن بإجتهادٍ صالح ذكىّ ، وأرضى الله وأنصف المحتكمينْ فى حكومته .
والحديث كما ترى أخى المستمع الكريم . قصةٌ ، والنفوس تسكُن للقصص ،
والقلوب تَهشُّ للحكايات ، فإذا كانت هادفةً ترسَّبت منها بالتأثير
أهدافُها .
مقدمة.. إشترى رجل من رجل عَقارًا .. فوجد الذى إشترى العقار فى عقاره جرّةً فيها ذهب رزق جميلٌ .. ولكن ماذا صنع ؟
تأتى العقدة .. فقال للبائع : خذ ذهبك فإنما إشتريتُ منك الأرض ولم أبتع
الذهب .." هل فرح البائع بالذهب .. كلا .. بل ردّه عنه قائلاً : إنما بعتك
الأرض وما فيها ..
ثم يأتى الحلُّ .. لم يقبل المبتاعُ الذهبَ .. ولم يقبل البائعُ الذهبَ ..
لا بد من رفع القضية للفصل ( فتحاكما إلى رجل ) تُرى كيف حكم الرجل ؟ ولأى
دليل إستند ؟ إنه لم يجد الدليل فإجتهد ليصل إلى ما يطمئنُ إليه من عدلٍ .
( فقال الرجل ألكما ولد ؟ فقال أحدهما : لى غلام . وقال الآخر : لى جارية .
فقال : أنكحا الغلام الجارية وأنفقا عليهما منه وتصدقا ) كم كان متهللاً
فرحاً ذلك القاضى لأن اللهَ وفقه للرأى ، ثم لأن الله وفّقه لتحقيق ما
إهتدى إليه .. إنها ثمرة الخير والأمانة والعفة فى نفوس الجميع .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] وتأمل معى أخى المستمع بركة هذه الأمانة
والعفة .. لقد كانت البدايةُ مجردَ بيعة يفترقُ بعدها البيّعان ، وينتهى
الأمر عند هذا الحد ، ولكن لأن كلاً من البائع والمشترى أمين وعفيف ، فقد
تمت البيعة وقد اْلتَأَمَ الشملُ فإذا البيتان بيتٌ واحدٌ ، وإذا الأسرتان
أسرةٌ واحدة ، ويُسدلُ الستار على صورة من الفرح والعرس الجميل .
هذا ... والله تعالى أعلم
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
-------------------
صحيح مسلم بشرح النووى . كتاب الأقضية . باب إستحباب إصلاح الحاكم بين الخصمين . رقم 1721 حـ 12/29.
الكاتب : الدكتور. عبد الرحمن إبراهيم فودة
المصدر : صيد الفوائد