وكان آخر جاسوس إسرائيلي على واشنطن هو جوناثان بولارد والذى اعتقل في نوفمبر 1985 بتهمة القيام بأعمال تجسس على الولايات المتحدة لصالح إسرائيل . فالضرر الذي ألحقه بولارد بمصالح الأمن الأميركي قد يكون من المستحيل الإحاطة بأبعاده. فما قدّمه للإسرائيليين يشتمل على أكثر من ألف وثيقة سرية بينها وثائق تقع الواحدة منها في مئات الصفحات. ومنها ما كان مصنّفاً بين الوثائق السرية جداً أو ما يُعرف «بالوثائق المصنفة الحساسة» التي تشتمل على «معلومات عن الأنظمة التكنولوجية المتقدّمة لجمع المعلومات وما جُمع بواسطتها».
وتشتمل هذه الوثائق على معلومات مفصّلة عن حكومات الشرق الأوسط وجيوشها، وعن مواضع السفن وأساليب الحرب وأنظمة الأسلحة الأميركية، وعن تحليل الأمريكيين لأنظمة الصواريخ السوفييتية. كما تشتمل على معلومات وافرة عن أساليب المخابرات الأميركية البشرية والإلكترونية في جمع الأخبار. وحذّرت وزارة العدل بصورة خاصة من أن الحصول على تلك المعلومات يكشف هوية المخبرين الذين تستخدمهم المخابرات الأميركية في الشرق الأوسط وربّما في أماكن أخرى. وفي البداية على الأقل وصلت غالبية هذه الوثائق المسروقة إلى الحكومة الإسرائيلية كما أن بولارد وزوجته قدّما بعض هذه الوثائق لجمهورية الصين الشعبية وأطلعا بعض أصدقائهما عليها.
البيت الأبيض .. من «ووتر جيت» إلى «أوباما جيت»
تعود أشهر فضائح التجسس الأمريكي إلى فترة حكم الرئيس السابق ريتشارد نيكسون في السبعينات من القرن الماضي، الذي تولى رئاسة بلاده بفارق طفيف للغاية منافسه الديمقراطي هيوبرت همفري. وجد نيكسون نفسه بحاجة ماسة للتجسس، إذ أراد تمديد رئاسته لمدة أخرى، على مكاتب الحزب الديمقراطي في مبنى «ووتر جيت»، إلا أن إلقاء القبض على 5 أشخاص من المكلفين بزراعة أجهزة تجسس على مكاتب الحزب المنافس، أدى إلى توجيه أصابع الاتهام لنيكسون شخصيا، واضطرته اعترافات بعض هؤلاء المقبوض عليهم إلى تقديم استقالته، والمثول أمام المحكمة في واشنطن، الأمر الذي انتهى بسجنه، ليخرج بعدها بعفو رئاسي من الرئيس جيرالد فورد.
لكن في يونيو من هذا العام، كشفت صحيفة جارديان البريطانية عن وثيقة مسربة من وكالة الأمن القومي الأمريكية NSA تتحدث عن مشروع تجسس ضخم يمكن الاستخبارات الأمريكية من الدخول إلى أنظمة كبرى شركات الإنترنت ومنها مايكروسوفت وجوجل و فيسبوك وجلب أية معلومات تحتاجها عن أي مستخدم لتلك الشركات وبدون أية عقبات.
الوثيقة التي حصلت عليها جارديان عبارة عن عرض تقديمي ببرنامج باور بوينت مؤلف من 41 شريحة مصنف على أنه بالغ السرية ويبدو أنه يستخدم لتدريب عملاء الإستخبارات على إمكانيات هذا النظام. كما قامت الصحيفة بالتأكد من صحة هذا المستند والذي يعود تاريخه إلى شهر أبريل من العام الحالي 2013. والمشروع عبارة عن برنامج يحمل اسم بريسم PRISM و يتم تنزيله على أنظمة الشركات، ويمكن هذا البرنامج أجهزة الإستخبارات من الحصول على كافة المعلومات التي تملكها شركات الإنترنت (من تاريخ المحادثات والصور و الأسماء و الملفات المرسلة والمكالمات الصوتية و الفيديو…إلخ) وحتى أوقات دخول المستخدم وخروجه وبشكل فوري (Realtime).
أوضحت الصحيفة البريطانية أن المشروع بدأ في سنة 2007 وبسرية تامة، وأول من شارك به كان شركة مايكروسوفت منذ إنطلاقه في شهر يناير من ذلك العام، ثم لحقتها ياهو في 2008، ثم جوجل وفيسبوك وبالتوك في 2009، ثم يوتيوب في 2010 وسكايب وAOL في 2011 وفي النهاية آبل في 2012. و المشروع مستمر بالتوسع ليضم شركات أخرى ومنها دروب بوكس بحسب الوثيقة. أي أن المشروع غطى معظم مواقع التواصل والبريد الإلكتروني على الإنترنت وهو ما يثير قلق المستخدمين بشكل كبير حتى أنه أعتبر أكبر فضيحة في تاريخ الإنترنت. لكن معظم الشركات التي قامت جارديان بمراسلتها عن هذا المشروع أنكرت معرفتها عن وجود برنامج حكومي كهذا أو حتى عن سماعها باسمه من قبل. وأكثر ما يثير الجدل هو أن هذا البرنامج يمكن وكالات الإستخبارات من الحصول على ما تريد من معلومات بدون مذكرة أو تصريح رسمي وبدون الحاجة إلى إذن من الشركات المشاركة بالمشروع، مما يعد خرقاً كبيراً للخصوصية.
كانت تلك الحلقة الاولى في الفضيحة، وبعدها بأيام نشرت الصحيفة خريطة توضح نشاط التجسس على أجهزة مستخدمي الكمبيوتر حول العالم، قامت بها وكالة الأمن القومي الأمريكية، خلال مارس الماضي، تظهر أرقام البيانات، التي حصلت عليها الوكالة. وكشفت الوثيقة أن عدد «نقاط البيانات»، التي حصلت عليها الصحيفة خلال مارس فقط بلغت 97 مليار نقطة من شبكات كمبيوتر مختلفة حول العالم. وجاءت إيران على قائمة الدول الأكثر جمعا للمعلومات من جهة الوكالة بمجموع 14 مليار نقطة بيانات، ثم باكستان 13.5 مليار تليها الأردن 12.7 مليار، بعدها مصر 7.6 مليار نقطة بيانات.
وأقر «جيمس كلابر»، مدير المخابرات القومية الأمريكية بقيام السلطات الحكومية بتجميع بيانات لبعض مستخدمي الإنترنت، لكنه أشار إلى أن ذلك لا يشمل المواطنين الأمريكيين أو المقيمين على الأراضي الأمريكية. وقال «كلابر» إن القانون الذي يسمح لوكالات حكومية أمريكية بجمع بيانات من شركات الإنترنت يجيز فقط استهداف أشخاص غير أمريكيين، وخارج الولايات المتحدة.
وكان إدوارد سنودن، الذي عمل كمتعاقد مع وكالة الأمن القومي الأمريكية، هو الذي سرب تلك الوثائق إلى صحيفتي جارديان البريطانية وواشنطن بوست الأمريكية. يقول عنه الصحفي الأمريكي جلين جرينوالد في مقابلة منشورة منذ شهرين في صحيفة لاناسيون الأرجنتينية ان «سنودن» لديه ما يكفي من المعلومات ليلحق في دقيقة إضافية أضرارا أكبر من تلك التي تسبب بها أي شخص آخر في تاريخ الولايات المتحدة.
لم يكن أحد يتخيل أن كلمات الصحف الامريكي حقيقة. بالفعل نشرت صحيفة لوموند الفرنسية منذ أيام الكارثة التي كان يخفيها الأمريكيون عن حلفائهم، وهي أن واشنطن تتجسس على مليارات المكالمات الهاتفية للمواطنين الفرنسيين، وبدأت الفضيحة تتسع يوما بعد يوم ويتبين تجسس إدارة أوباما ليس فقط على مواطني فرنسا بل ومواطني دول أخرى كثيرة من حلفائها، حتى تبين أن الإدارة تتجسس على هواتف العديد من قادة أكبر وأهم دول العالم، ولم ينج هؤلاء من نشاط أجهزة الاستخبارات الأمريكية «سي آي إيه»، «ديلما روسيف» رئيسة البرازيل والمستشارة الألمانية انجيلا ميركل، والبقية تأتي.
نعم .. فقد كشفت صحيفة جارديان أن الولايات المتحدة تتجسس على هواتف زعماء 35 دولة، طبقا لما ورد في وثائق سرية سربها عميل الاستخبارات الأمريكي ادوارد سنودن، الذي تطلب واشنطن اعتقاله، مؤكدة أنه وفقا لما ورد في الوثائق فإن مسؤولا في هيئة حكومية أمريكية قدم أرقام الهواتف لوكالة الأمن القومي الأمريكية. وذكرت إن موظفين في البيت الأبيض ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع صدرت لهم تعليمات بنقل بيانات الأرقام لساسة أجانب، فيما لم ينكر البيت الأبيض مزاعم التجسس، واكتفى بالقول إن ذلك لن يتكرر في المستقبل. وجاء في مذكرة سرية تحمل تاريخ أكتوبر 2006 نشرت الجارديان مقتطفات منها «في حالة واحدة جرت مؤخرا زود مسؤول أمريكي وكالة الأمن القومي الأمريكية بمائتي رقم هاتف لرؤساء 35 دولة كبرى»، ولم تكشف المذكرة السرية عن هوية هؤلاء الزعماء. ويظهر تقرير الجارديان، أن التنصت على زعماء عدد من الدول قد يكون أوسع نطاقا عما كان يعتقد في السابق.
وأشار تقرير لمنظمة «كريبتوم»، وهي مكتبة رقمية أمريكية مستقلة للمستندات السرية، منذ أيام إلى قيام وكالة الاستخبارات الأمريكية بالتجسس على 1.9 مليار اتصال هاتفي في مصر ونحو 8 مليارات مكالمة هاتفية في السعودية. وجاء في تقرير «كريبتوم» على موقعه الإلكتروني, أن الولايات المتحدة نفذت نحو 125 مليار عملية تجسس على مستوى العالم في شهر يناير من العام الحالي فقط. وأضاف أن هذه العمليات شملت دولا مثل الأردن والعراق ومصر وإيران وأفغانستان وباكستان. وفصل التقرير عمليات التجسس لتشمل 1.6 مليار في الأردن و7.8 مليار في العراق و1.73 مليار في إيران. وكانت عمليات التجسس على أوسع نطاق في أفغانستان التي شهدت نحو 22 مليار عملية تجسس.
كما أشارت الصحيفة البريطانية إلى وجود تعاون بريطاني في هذا الصدد مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية . وكشف تقرير عن الاستخبارات البريطانية تستخدم تقنية «تمبورا» منذ 18 شهرا. وتتكون التقنية من برنامجين أحدهما تحت اسم «ماسترينج ذي إنترنت» والآخر باسم «جلوبال تيليكوم إكسبلويتيشن». وتتابع هذه التقنية 200 كابل انترنت تبلغ طاقة نقل كل منها 10 جيجا بايت من البيانات مع قدرة الوكالة على تحليل بيانات تتدفق عبر 46 كيبل من تلك الكابلات في آن واحد، ما يعني قدرتها على تتبع 600 مليون مكالمة هاتفية يوميا. وهذا الكم من البيانات يحول وكالة الاستخبارات البريطانية إلى قوة استخبارات هائلة. ويجعلها الأقوى بين أكبر خمس وكالات استخبارات في العالم هي الأمريكية والبريطانية والكندية والأسترالية والنيوزيلاندية. وكشف مترجم يعمل في الوكالة لوسائل الإعلام البريطانية عام 2003 معلومات عن اشتراك الوكالة مع نظيرتها الأمريكية في عمليات تجسس على اتصالات سرية تتم بين وفدي الدولتين تتعلق بحرب العراق، تبين فيما بعد أنها تمت استناداً إلى دليل ملفق بعلم من رئيس الوزراء البريطاني آنذاك توني بلير ومن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش.
لكن تبدو ردود الفعل الأوروبية إزاء هذه الفضيحة مرتبكة. ويقول الخبراء إن هذا متوقعا لأن الساسة الأوروبيين لم يقدموا على اتخاذ أي إجراء منذ عام 2011 بعد صدور قانون الأمن الوقائي الأمريكي رغم أنهم كانوا على علم بإمكانية تجسس المخابرات الأمريكية سياسيا على أوروبا. وأشار هؤلاء الخبراء إلى أن الاتحاد الأوروبي لم تكن لديه الرغبة في التعامل مع الأمر، أو أنه ليست لديه القدرة على التحرك والتعامل معه.
وفي هذا السياق قال بنيامين بيرجمان، الكاتب في المدونة الألمانية المعنية بالشؤون السياسية وعضو الجمعية الرقمية الألمانية: «ما كشف عنه سنودين حول برنامج بريزم كان معروفا لدى خبراء التجسس في أوروبا منذ أمد طويل. وأضاف في حديث مع وكالة الأنباء الألمانية أن تقريرا صدر بطلب من البرلمان الأوروبي كشف أنه حتى عام 2012 كان يجوز للسلطات الأمريكية الحصول على ما ترغب به من معلومات تتعلق بأمنها وذلك منذ عام 2008 . ولم يشكل الأمر مفاجأة للوهلة الأولى.
إلا أن تقرير 2012 وجه انتقادات شديدة للمشرعين الأوروبيين بسبب إمكانية التجسس السياسي على المعلومات، خصوصاً أن مستخدمي الإنترنت في أوروبا لم يدركوا بعد أهمية ذلك. وما أثار الانتباه أن لا أحد في أوروبا، سواء على مستوى المفوضية أو على مستوى المشرع الوطني أو حتى البرلمان الأوروبي، كان على علم بتفاصيل برنامج التجسس المذكور رغم أنه دخل حيز التنفيذ العملي منذ 3 سنوات . وخلص التقرير الأوروبي إلى استنتاج أن الاتحاد الأوروبي أهمل قضية حماية مواطنيه، لأن القانون الأوروبي سمح للسلطات الأمريكية بالكشف عن معلومات المواطنين غير الأمريكيين.
ويبدو أن الأوروبيين ركزوا جل اهتمامهم، فيما يخص مكافحة جرائم الانترنت، على جانب واحد، حيث تركز الاهتمام في الاتحاد الأوروبي على كل التوجهات التي قد تهدد المواطنين والتي لا تدخل في إطار برنامج حكومي. فالأوروبيون ناقشوا كثيرا قرصنة المعلومات وسرقة البيانات الشخصية، تماما كما ناقشوا مطولا شؤون تنظيم شركات الانترنت؛ لكن عندما كان الأمر يتعلق بنشاطات تنظمها جهات حكومية أجنبية، كانت أنظار الأوروبيين تتجه صوب الصين وروسيا، ولم تتجه صوب العلاقة الحساسة مع الولايات المتحدة وذلك لأسباب سياسية. ولا يمكن القول أن هناك سبباً واضحاً يفسر ما تقوم به الإدارة الأمريكية، إلا أنه من الواضح أنها تعاني مما يعرف باسم حب النفوذ، وهو الشيء الأوحد الذي يفسر رغبتها في أن تكون على إطلاع كامل بما يدور في عقول حلفائها أو أعدائها على حد سواء، فالأمر لا يمكن اختزاله في مجرد عمليات تجسس فحسب، بل أن هناك وباء تعاني منه واشنطن بمختلف قادتها على مر العصور. ولا يمكن بأي حال قبول هذا المستوى من التجسس تحت ذريعة أنه يساعد في مكافحة الإرهاب، وإلا فكيف امتد لزعماء دول حليفة، ولم يقتصر على دول تنظر إليها واشنطن على أنها دولا معادية تقليديا مثل روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية.
رصد عن صحيفة عكا أونلاين
ف . ع
--