فتوى سماحة مفتى الديار السعودية محمد بن إبراهيم آل الشيخ
في جواز نقل مقام إبراهيم عليه السلام حيث وجد
إعداد
هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل في كتابه الكريم: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ والصلاة والسلام على خاتم رسله الذي أتى بالحنيفية السمحة، وعلى آله وصحبه، ومن لسبيلهم نهج وبعد: فإنه لما كثر الوافدون إلى بيت الله الحرام في عصرنا هذا الذي توفر فيه من وسائل نقلهم ما لم يتوفر قبل، وازدادوا زيادة لم تعهد فيما مضى- أدى ذلك إلى وقوع الطائفين في حرج شديد فيما بين المقام وبين البيت ؛ ولذلك قدمت الرابطة الإسلامية رغبتها إلينا في أن نكتب رسالة في حكم تأخير المقام عن ذلك الموضع إلى موضع في المسجد الحرام قريب منه محاذ له؛ رفعا للحرج، فاستخرت الله تعالى، وكتبت إجابة لها هذه الرسالة، ورتبتها على ما يلي
1
بيان موضع المقام في عهد النبوة، وأن أول من أخره عنه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه
2
إيراد أدلة القائلين بأن موضع المقام اليوم هو موضعه في عهد النبوة، والجواب عنها.
3
سرد العلل التي علل بها تأخير عمر المقام، وترجيح التعليل برفع الحرج عن الطائفين.
4
بيان حكم تأخير المقام اليوم عن موضعه إلى موضع في المسجد الحرام قريب منه محاذ له
والله أسأل أن يكون هذا الجواب خالصا لوجهه الكريم، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب
بيان موضع المقام في عهد النبوة
وأن أول من أخره عمر بن الخطاب
ثبت عن السلف الصالح: أن مقام إبراهيم - عليه السلام - كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر - رضي الله عنه - في سقع البيت، وأن أول من أخره عن ذلك الموضع عمر بن الخطاب، وممن ثبت ذلك عنه من أعيانهم المذكورون في ما يلي:
1
أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها - عند البيهقي، قال في [سننه]: أخبرنا أبو الحسن بن الفضل القطان، أخبرنا القاضي أبو أحمد بن كامل ، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 361)
السلمي، حدثنا أبو ثابت، حدثنا الدراوردي ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - : أن المقام كان زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر - رضي الله عنه - ملتصقا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. اهـ صحح الحافظ ابن كثير إسناده في [تفسيره] في الكلام على آية المقام، وقواه الحافظ في [فتح الباري]، في كتاب التفسير في الكلام على تلك الآية، قال ج ( ص (137): أخرج البيهقي عن عائشة مثله، أي: مثل ما روى عن عطاء وغيره من التصاق المقام بالبيت إلى أن أخره عمر بسند قوي، ولفظه: أن المقام كان في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي زمن أبي بكر ملتصقا بالبيت ثم أخره عمر ا. هـ كلام [الفتح]، ولا يرد على جزم رواية أبي ثابت المذكورة. (الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 362)
شك رواية يعقوب بن حميد بن كاسب عند الفاكهي قال يعقوب : حدثنا عبد العزيز بن محمد بن هشام بن عروة عن أبيه قال عبد العزيز : أراه عن عائشة : أن المقام كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سقع البيت، فإن يعقوب بن حميد بن كاسب ليس بشيء.
قال ابن أبي حاتم في [الجرح والتعديل]: قرئ على العباس بن محمد الدوري أنه سأل يحيى بن معين عن يعقوب بن كاسب فقال: (ليس بشيء)، وقال أيضا: سمعت أبي يقول: (هو ضعيف الحديث)، وقال النسائي : في [الضعفاء والمتروكين]: يعقوب بن حميد بن كاسب ليس بشيء، مكي، وقال العقيلي في [الضعفاء]: حدثنا زكريا الحلواني قال: رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقايات على ظهور كتبه، وسألته عنه فقال: رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها فطالبناه بالأصول فدفعنا ثم أخرجها بعد، فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري كانت مراسيل فأسندها وزاد فيها. اهـ.
2
عروة بن الزبير، قال عبد الرزاق في [مصنفه]: عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبا بكر وعمر بعض خلافته كانوا يصلون صقع البيت حتى صلى عمر خلف المقام . وأصرح من هذه الرواية ما روى عبد الرحمن بن أبي حاتم في [العلل] عن أبي زرعة، عن أبي ثابت، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن المقام كان في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر ملتصقا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وتقدم أن هذا الحديث رواه أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي عن أبي ثابت عن الدراوردي عن
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 363)
هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، والروايتان ثابتتان، فدل ذلك على أن عروة روى هذا الحديث عن خالته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -، فكان يحدث به عنها تارة، ويتكلم به تارة أخرى من غير أن يسنده إليها فروي عنه بالوجهين.
3
عطاء وغيره من أصحاب ابن جريج عند عبد الرزاق، قال في [مصنفه]: عن ابن جريج، قال: سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أن عمر أول من رفع المقام، فوضعه موضعه الآن، وإنما كان في قبل الكعبة، صحح الحافظ ابن حجر العسقلاني إسناده في [فتح الباري] ج (، ص (137)، قال في كلامه على المقام في كتاب التفسير: ( كان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخره عمر إلى المكان الذي هو فيه الآن، أخرجه عبد الرزاق في [مصنفه] بسند صحيح عن عطاء وغيره. اهـ. ومعنى قول ابن جريج : (يزعمون): (يقولون) من باب استعمال الزعم في القول المحقق، نظير ما رواه البخاري في صحيحه في باب إذا حرم طعاما، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ قال البخاري : (حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا الحجاج بن محمد، عن ابن جريج قال: زعم عطاء : أنه سمع عبيد بن عمير يقول: سمعت عائشة تزعم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا . . . .) الحديث، وذكر الحافظ في شرح قول الراوي: (زعم عطاء أن أهل الحجاز يطلقون الزعم بمعنى: القول، وقرر الحافظ هو والنووي (الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 364)
أن ذلك الاستعمال كثير، قال النووي في شرح قول ضمام بن ثعلبة : (يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك) قال: قوله: (زعم) و (تزعم) مع تصديق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه دليل على أن (زعم) ليس مخصوصا بالكذب والقول المشكوك فيه، بل يكون أيضا في القول المحقق والصدق الذي لا شك فيه، وقد جاء من هذا كثير في الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "زعم جبريل كذا"، وقد أكثر سيبويه وهو إمام العربية في كتابه الذي هو إمام كتب العربية من قوله: (زعم الخليل) (زعم أبو الخطاب) يريد بذلك: القول المحقق، وقد نقل ذلك جماعات من أهل اللغة وغيرهم، ونقله أبو عمرو الزاهد في [شرح الفصيح] عن شيخه أبي العباس ثعلب عن العلماء باللغة من الكوفيين والبصريين. اهـ.
وقال الحافظ في [الفتح] في كتاب العلم في شرح قول ضمام بن ثعلبة المتقدم: إن الزعم يطلق على القول المحقق أيضا، كما نقله أبو عمرو الزاهد في شرح فصيح ثعلب، وأكثر سيبويه من قوله: (زعم الخليل) في مقام الاحتجاج.
ومما استدل به الحافظ في [فتح الباري] لاستعمال الزعم بمعنى القول المحقق قول عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في حديثه في (المواقيت): ويزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ويهل أهل اليمن من يلملم يعني: ابن عمر بقوله: (يزعمون): الصحابة. قلت: ويشهد لكون (يزعمون) في رواية عبد الرزاق المتقدمة عن ابن جريج، عن عطاء وغيره من أصحاب ابن جريج بمعنى: القول المحقق-