وبعد المحاولة الانقلابية بات كل من يفكر فى معارضة السلطة أو التعليق على أدائها يصنف فى عداد الخائنين.فعدد كبير الآن من كبار الصحفيين أو الكتاب الذين كانوا يعبرون عن رأيهم فى أداء الحكومة إما فى المعتقلات أو قيد الإقامة الجبرية ولا يسمح لهم بمغادرة البلاد. ففى مناخ جنونى كهذا هل تعتقد أن هناك من يتجاسر على المعارضة أو حتى يناقش الأحداث بموضوعية دون أن يكون أمنه وسلامته وسلامة عائلته معرضة للخطر؟
إن الدعاية الإعلامية الكاذبة فى أوروبا أيام هتلر وموسولينى كانت هى العامل الأول والرئيسى فى حشد الجماهير نحو أهداف بشعة، وسيأتى يوم تكتشف فيه جماهير شعبنا كيف أنهم تم تضليلهم واندفعوا إلى ارتكاب بعض الحماقات بسبب تلك الدعاية التحريضية الكاذبة، وإلى أن يحين هذا الوقت سيبقى عدد كبير منهم للأسف ضحايا هذا التضليل الإعلامى المحرض.
• قلتم إن أكثر المستفيدين من هذه العملية هو أردوغان، وهذا يعنى أن هناك مستفيدين آخرين، فمن هؤلاء حسب رأيكم؟
- عقب فشل المحاولة الانقلابية جرت عمليات تصفية واسعة فى صفوف المؤسسة العسكرية قبل التحقيق فى أحداثها والكشف عن ملابساتها، وتم استدعاء مجموعة من العسكريين الذين أدينوا وتمت محاكمتهم فى محاولات انقلابية من قبل، ليحلوا محل هؤلاء المُسَرَّحين.
من جهة أخرى أفادت بعض التقارير التى أعدها الخبراء أن عمليات التصفية والتسريح شملت أيضا كل من لم يدعم السلطة الحالية فى محاولاتها جر البلاد إلى مغامرات مجهولة العواقب،حتى ولو كانوا من مؤيديهم. إننى لست على علم بكافة التفاصيل والمجريات لكن يمكننى القول: إن هناك آلافا من العسكريين الذين ليس لهم علاقة بالانقلابات ولا يؤيدونها قد جرى تصفيتهم، وإذا ما نظرتم إلى هوية هؤلاء الـمُسَرَّحِين ونوعية الذين حلوا محلهم فى رتبهم يمكنكم حينئذ الاطلاع على المستفيدين.
صمت الجيش
• هل تعتقدون أن الجيش التركى سيظل صامتا إزاءتلك الممارسات التى تم القيام بها فى الشوارع؟
- من واجب الحكومة أن تسارع بالكشف عن الذين قاموا بهذا العمل وتقديمهم للقضاء، وبذلك ستتم تبرئة من لم يشارك فى الانقلاب وتُنْفَى عنهم التهم. لكن الواقع يشهد بأن الإجراءات المتبعة والممارسات التى تجرى على الأرض تسير عكس هذا الاتجاه. لقد وقعت منذ البداية أحداث مؤسفة، فقد تعرضت سمعة الجيش التركى للإهانة من خلال عرض صور على شاشات التلفزة الموالية للحكومة لضباط رفيعى المستوى فى صورة مهينة،
وعليهم آثار التعذيب أثناء التحقيق معهم. كما تم ضرب أحد الجنود الذين كانوا يتواجدون فى الشارع حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، فى حين أن هذا الجندى لم يكن على علم أساسا بسبب خروجه إلى الشارع.
وبالتأكيد مثّلتْ كل هذه الممارسات إهانة للعسكرية الوطنية، ولا شك أن كل من شاهدها أو اطلع عليها من أفراد القوات المسلحة مهما كانت هويته قد أصيب بنوع من الأذى وخدش الكرامة.
اللافت فى الأمر أنه كان هناك فئة بين الجماهير التى خرجت بإخلاص لإنقاذ الوطن من شر الانقلاب كما صُوّر لها تقوم بالسيطرة على الشوارع، وتمارس هذه الأعمال الوحشية، يظهرون بين الناس وكأنهم أفراد من شعبنا العاديين، فى حين أن مكانة الجيش فى نفوس الشعب التركى لا تسمح له بممارسة هذه الأفعال.
• أشارت بعض التحليلات والكتابات ان الفئة التى انخرطت فى صفوف الجماهير يبدو عليها أنها مدربة ومجهزة سلفا للقيام بهذه الأفعال، فملابسهم وطريقة تعبيراتهم وخطاباتهم تشبه إلى حد كبير تعبيرات وملامح المنظمات المتطرفة من أمثال داعش والقاعدة وغيرهما. هذا فضلا عن أنهم كانوا مدربين على قيادة آليات ومركبات صعبة كالدبابات، ممن لا يتسنى للمواطن العادى أن يكون على دراية بها. والسؤال هنا: هل قاموا بدعوة هؤلاء الذين أعدوهم من قبل ليلعبوا دورا فى هذه المسرحية؟
- لا أستطيع أن أخمن ماذا يمكن أن يقوم به الجيش بعد هذه المرحلة؟ لقد كان الجيش هو المؤسسة الوحيدة التى لا تزال تحافظ على تقاليدها وثقافتها رغم الضغوط التى مورست عليها.
تعيش السلطة الحالية الآن حالة من جنون القوة، لذا تتسم إجراءاتها وعملياتها التى تقوم بها إزاء الجيش حاليا بالسرعة، ومن شأن هذه التحولات السريعة التى تقوم بها أن تأتى بنتائج عكس ما تتوقع، وتمهد لظهور نوع آخر من المشاكل لم يكن فى حسبانهم، لأن اتخاذ قرارات بلا دراسة أو تأن وروية تجاه مثل هذه المؤسسات الجادة يفتح أبوابا من المشاكل يستمر أثرها حتى زمن طويل.
إن تركيا بحكم موقعها الجغرافى تكتسب أهمية كبيرة فى المنطقة، ومن جانب آخر فعضويتها فى كيان دولى كبير كالناتو يضفى عليها طابعا آخر من الأهمية ويفرض عليها فى الوقت نفسه شروطا معينة، لذا فإن هذه الأهمية وهذا الوضع سيحتم على المجتمع الدولى دورا تجاه تركيا، حتى لا تنزلق فيما انزلقت فيه دول الجوار من الفوضى والاضطراب.
كما آمل أن تُلقى ثقافة »الدولة» بثقلها فى هذا الموضوع وتدفع المسئولين إلى التعقل لإنهاء هذا الوضع المتردى الذى لا يفتأ أن يخرجنا من دوامة للأخطاء ليدخلنا فى دوامة أخري، وألا يجعلوا الجيش ميدانا لتصفية حساباتهم مغلبين فى ذلك مصالح دولتهم وأمتهم على المصالح الشخصية الضيقة، حتى لا يؤدى عدم الحرص فى هذا الخصوص إلى الإضرار بمكانة الجيش وسمعته التى يستحقها.
انتفاضة الشعب
• كيف تفسرون عدم انتفاضة الشعب التركى ضد هذه الإجراءات التعسفية التى يمارسها أردوغان وحكومته؟
- أحب أن أوضح هنا نقطة مهمة وهى أنه ليس فى ثقافة الشعب التركى ولا من أعرافه فكرة التمرد، خاصة إذا كانت هذه الإجراءات التعسفية التى تُمارَس ضده تتم من قبل الدولة، فإنه يميل إلى تقبل الأمر الواقع حتى ولو لم يكن راضيا عنه.
أضف إلى ذلك أن الإجراءات التعسفية الأخيرة لم يشهد لها التاريخ التركى القريب مثيلا، ففرض الوصاية الكاملة التى تحدثنا عنها على وسائل الإعلام، وتحويلها إلى جهاز يضخ الدعاية السوداء ضد أى فئة أو فصيل يحاول الاعتراض حتى ولو كان من المقربين منهم بالأمس، ومصادرة المؤسسات الإعلامية، والزج بالصحفيين المستقلين فى غياهب السجون والمعتقلات، والتضييق على كل الوسائل التى يمكن أن يعبر فيها الإنسان عن رأيه حتى وسائل التواصل الاجتماعي، كل هذا أدى فى النهاية إلى أن أصبحت وسائل الإعلام الحكومية الموالية ومن يدور فى فلكها هى المصدر الوحيد للمعلومات؛ ومن ثم فالشعب الذى يتابع هذه الوسائل لا يمكنه تقييم الوضع إلا فى ضوء هذه المعلومات المفلترة التى تقدمها له وسائل إعلام أردوغان وفريقه؛ إذ ليس له من سبيل آخر يمكنه من الاطلاع على حقيقة ما يجرى من أمور.
وبعد فضائح الفساد فى ديسمبر عام 2013 والإجراءات التى اتخذوها فى سلكى القضاء والشرطة التى تحدثنا عنها آنفا لم يكتفوا بذلك بل وجهوا نوابهم فى البرلمان لإصدار قانون أسموه» الاشتباه» أو الشبهة المعقولة، وهو قانون يتيح للقضاء إصدار مذكرات اعتقال فى حق من تحوم حوله »الشبهات» دون وجود أدلة تدينه.كما أسسوا محاكم خاصة تتكون من قضاة مقربين أطلقوا عليها محاكم »الصلح والجزاء»، يحال إليها هؤلاء المعتقلون بناء على تلك الشبهة المعقولة، فصارت القوانين والمحاكم والاعتقالات بذلك أداة للعقوبات السياسية.
وفى سلك الشرطة أيضا قاموا بالتخلص من خيرة رجال الشرطة الذين تلقوا تدريبات عالية المستوى فى أوروبا وأمريكا، ولديهم خبرة عالية فى الكشف عن الجرائم والتعامل مع مرتكبيها ومنع العمليات الإرهابية قبل حدوثها، فضلا عن رعاية القوانين واحترام حقوق الإنسان، واستبدلوا بهم آخرين من المقربين. وبدلا من أن تكون الشرطة جهازا لخدمة الشعب، يمثل الحقوق والعدالة صارت أداة فى يد الحكومة تبطش بها كما تشاء، وعاد التعذيب مرة أخرى إلى السجون والمعتقلات بعدما كانت حديثا يتناقله الناس عن الماضي.
وفى هذا الجو المرعب الذى بات يخيم على البلاد لا يمكن أن يجازف الناس ويفكرون بالخروج.
فسابقا كانت الجماهير تخرج بكثرة للاعتراض حتى على المشاكل البسيطة كما خرج الناس للحفاظ على البيئة فى منتزه »جيزى بارك» بتقسيم، عام 2013، وجرى قمعهم بشدة على يد حكومة الحزب الحاكم الذى كان يتزعمها أردوغان آنذاك. ومن بعدها خفت حدة هذه الاعتراضات حتى تلاشت تماما بسبب الإجراءات التى قاموا بها والقوانين التى سنّوها. والآن وبعد محاولة الانقلاب دع عنك فكرة توجيه النقد إلى الحكومة بل بلغ التعسف حدا أن يعدّوك من الخائنين إذا لم تشترك معهم فى الهجوم على خصومهم، وتبنى خطابهم.
• ولست أدرى هل يكون من المنطقى فى مناخ كهذا أن نتوقع من أبناء الشعب أن ينزلوا إلى الشوارع لإدانة هذه الممارسات التعسفية التى تمارسها الحكومة؟
- إن الكفر قد يدوم لكن الظلم لا يمكن أن يدوم. إن دائرة الظلم فى البلاد آخذة فى الاتساع، وبالتأكيد ستطال شرائح أكبر من المجتمع، وهو ما بدأ يحدث بالفعل، ووقتا ما سيشعر الشعب التركى بالحاجة إلى التعبير عن رأيه تجاه هذا الظلم، وسيسعى لإسماع صوته للآخرين.
صفقة سياسية