| التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| |
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 3:50 pm | |
| [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]الأندلسبلاد الأندلس هي اليوم دولتا إسبانيا والبرتغال، أو ما يُسمَّى: شبه الجزيرة الأيبيرية، ومساحتها (مجموع الدولتين) ستمائة ألف كيلو متر تقريبًا؛ أي: أقل من ثُلثي مساحة مصر.
ويفصل شبه الجزيرة الأندلسية عن المغرب مضيق أصبح يُعرَف منذ الفتح الإسلامي بمضيق جبل طارق، (ويسميه الكُتَّاب والمؤرخون العرب باسم درب الزقاق)، وهو بعرض 12.8كم بين سَبْتَة وجبل طارق.
جغرافية الأندلسفلاشة موقع الاندلس
تقع شبه الجزيرة الأيبرية في الجنوب الغربي من أوربا، على مثلَّث من الأرض، يضيق كلما اتجهنا نحو الشرق، ويتَّسع كلما اتجهنا إلى الغرب، وتتصل في الشمال بفرنسا (بلاد الفرنجة) بواسطة سلسلة جبلية تُعرف بجبال البرينيه (جبال البرتات)، وباستثناء تلك الناحية فإن المياه تُحيط بها من كل جانب؛ مما جعل العرب يُطلقون عليها «جزيرة الأندلس» على سبيل التجوُّز؛ فالبحر المتوسط يُحيط بها من الشرق والجنوب الشرقي، ويُحيط المحيط الأطلنطي بها من الجنوب الغربي والغرب والشمال.
فجبال البرينيه هي الفاصل البري الوحيد الذي يربط شبه الجزيرة مع أوربا، فتلتقي في الشمال مع المحيط الأطلنطي، وفي الجنوب مع البحر المتوسط.
وجبال البرينيه التي تمثِّل فاصلاً بين فرنسا وإسبانيا تجعل الجزيرة وكأنها تُوَلِّي وجهها عن أوربا، فيما تتجه به إلى المغرب، وهذا ما أجمع عليه الجغرافيون المسلمون الذين عدُّوها امتدادًا لإفريقيا، وليست رقعة من القارة الأوربية، والمعروف أن شبه الجزيرة تتشابه مع المغرب في كثير من المعالم النباتية والحيوانية؛ وبخاصة منطقتي سَبْتَة وطَنْجَة[1].
أمَّا داخل الجزيرة فسنرى أنفسنا أمام هضبة كبيرة تُعْرَف بالمسيتا، تقطعها الجبال بشكل أفقي، وتكثر فيها الأنهار فكأنها تعيش فوق شبكة من المياه.
لماذا سميت «الأندلس»؟
وعن سبب تسميتها بالأندلس فقد كانت هناك بعض القبائل الهمجية التي جاءت من شمال إسكندنافيا من بلاد السويد والدنمارك والنرويج وغيرها، وهجمت على منطقة الأندلس وعاشت فيها فترة من الزمن، ويُقال: إن هذه القبائل جاءت من ألمانيا، وما يهمنا هو أن هذه القبائل كانت تسمى قبائل الفندال أو الوندال باللغة العربية؛ فسُمِّيت هذه البلاد بفانداليسيا على اسم القبائل التي كانت تعيش فيها، ومع الأيام حُرِّف إلى أندوليسيا فأندلس.
وقد كانت هذه القبائل تتسم بالوحشية، و(Vandalism) في اللغة الإنجليزية تعني همجية ووحشية وتخريبًا، وتعني -أيضًا- أسلوبًا بدائيًّا أو غير حضاري، وهو المعنى والاعتقاد الذي رسخته قبائل الفندال، وقد خرجت هذه القبائل من الأندلس، وحكمتها طوائف أخرى من النصارى عُرِفت في التاريخ باسم قبائل القوط (GOTHS) أو القوط الغربيين، وظلُّوا يحكمون الأندلس حتى قدوم المسلمين إليها.
[1] محمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس، ص16 [b] يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع | |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 3:53 pm | |
| الجهل والتخلف في أوروبا
من المفيد جدًّا أن نتعرَّف على حالة أوربا والوضع الذي كانت عليه -وبخاصة بلاد الأندلس- عند الفتح الإسلامي، وكيف تغيَّر هذا الوضع وهذه الحال بعد دخول أهل هذه البلاد في الإسلام؟
كانت أوربا في ذلك الوقت تعيش فترة من فترات الجهل والتخلُّف البالغ، فكان الظلم هو القانون السائد؛ فالحكَّام يمتلكون الأموال وخيرات البلاد، والشعوبُ تعيش في بؤسٍ شديد، واتخذ الحكَّام القصور والقلاع والحصون؛ بينما عامة الشعب لا يجدون المأوى ولا السكن، وإنما هم في فقر شديد، بل وصل بهم الحال إلى أن يُباعُوا ويُشتَرَوا مع الأرض، وكانت الأخلاق متدنِّية، والحرمات منتهكة، وبَعُدَ حتى عن مقومات الحياة الطبيعية؛ فالنظافة الشخصية -على سبيل المثال- مختفية؛ حتى إنهم كانوا يتركون شعورهم تنسدل على وجوههم ولا يُهَذِّبونها، وكانوا -كما يذكر الرحَّالة المسلمون الذين جابوا هذه البلاد في ذلك الوقت- لا يستحمُّون في العام إلاَّ مرَّة أو مرَّتين، بل يظنُّون أن هذه الأوساخ التي تتراكم على أجسادهم هي صحَّة لهذا الجسد، وهي خير وبركة له[1]!
وكان بعض أهل هذه البلاد يتفاهمون بالإشارة، فليست لهم لغة منطوقة؛ فضلاً عن أن تكون مكتوبة، وكانوا يعتقدون بعض اعتقادات الهنود والمجوس من إحراق المتَوَفَّى عند موته، وحرق زوجته معه وهي حيَّة، أو حرق جاريته معه، أو مَنْ كان يُحِبُّه من الناس، والناس يعلمون ذلك ويُشاهدون هذا الأمر، فكانت أوربا بصفة عامَّة قبل الفتح الإسلامي يسودها التخلُّف والظلم والفقر الشديد، والبُعد التامُّ عن أي وجه من أوجه الحضارة أو المَدَنية[2]. ودامت همجية أوربا البالغة زمنًا طويلاً من غير أن تشعر بها، ولم يبدُ في أوربا بعض الميل إلى العلم إلاَّ في القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر الميلاديين[3].
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]القوط يحكمون الأندلس القوط الغربيونفي أواخر القرن الرابع الميلادي استطاع القوط الغربيون بقيادة ألاريك أن يُسيطروا على مصائر القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية؛ بما قَدَّمُوه من خدمات أوصلت الإمبراطور الروماني تيودوسيوس إلى العرش، فلما مات الإمبراطور عام (395م) أصبح ألاريك -زعيم القوط الغربيين- أقوى قائد في غرب أوربا ووسطها، فما لبث أن حاول السيطرة على روما نفسها (عاصمة الإمبراطورية الرومانية) ونجح في هذا فعلاً عام (410م) في مأساة لا يزال يتذكرها التاريخ الأوربي.
وفي هذه الفترة كانت الدولة الرومانية قد سمحت لقبائل الوندال الهمجية -التي تستوطن شبه الجزيرة الأيبيرية- بالاستقرار في منطقة الشمال الغربي من الجزيرة؛ بشرط ألا تُهَدِّد استقرار المناطق الأخرى، غير أن كثرة القبائل وهمجيتها وضعف الدولة الرومانية، جعل هذه القبائل تُسيطر على كل الجزيرة -تقريبًا- وتُهَدِّد بلاد الغال (فرنسا الآن) -أيضًا- وتمارس تخريبًا همجيًّا كبيرًا.
ثم انتهى غبار الصراع في روما بموت ألاريك فَخَلَفه أطاووف في زعامة القوط الغربيين، وتطوَّرت الأحوال إلى أن أقرَّت الإمبراطورية الرومانية أطاووف في جنوب بلاد الغال، ثم سَلَّطَتْه على قبائل الوندال، فاستمرَّ زحف القوط الغربيين الأقوياء يُنهي ويضغط ويطرد قبائل الوندال إلى الجنوب، وفي أثناء تراجع الوندال كانوا يُخَرِّبُون ما بقي من حضارة الرومان في شبه الجزيرة، إلى أن انتصر القوط الغربيون وأحكموا سلطانهم على الجزيرة؛ خاصة في عهد الزعيم القوي (واليا Valia).
لم يلبث الأمر كثيرًا حتى تضعضعت الإمبراطورية الرومانية؛ مما جعل القوط الغربيين يستقلُّون عن الإمبراطورية بحكم شبه الجزيرة، واتخذ (يوريك Euric) لقب الملك في عام (467م)، وهو يُعَدُّ المؤسس الحقيقي لدولة القوط الغربيين، الذين سيُعرفون باسم (القوط) في كل مراحل التاريخ اللاحقة[4].
لذريق زعيم القوط
قبل الفتح الإسلامي لإسبانيا بسنة أو تزيد قام أحد رجال الجيش واسمه لُذريق بالاستيلاء على السلطة وعزل الملك غِيطشَة[5]، وغداةَ الفتح الإسلامي كان لُذريق هو حاكم البلاد[6].
كانت إسبانيا قبل الفتح الإسلامي تشكو الاضطراب والفساد الاجتماعي، والتأخُّر الاقتصادي وعدم الاستقرار؛ نتيجة السياسة ونظام المجتمع السائد، والسلطة الفاسدة، لكن هذا لا يعني أن هذه السلطة لم تكن قادرة على الدفاع، كما لا يعني انعدام قوتها السياسية والعسكرية؛ بل كان بإمكانها أن تصدَّ جيشًا مهاجمًا وتُحاربه وتقف في وجهه؛ فقد أقام القوط في إسبانيا دولة اعْتُبِرَتْ أقوى الممالك الجرمانية حتى أوائل القرن السادس الجرماني، وبقيت بعد ذلك تتمتَّع بقوة عسكرية مُدَرَّبة وقوية، تقارع الأحداث وتقف للمواجهات[7].
[1] أبو عبيد البكري: جغرافية الأندلس وأوربا (من كتاب المسالك والممالك)، ص81.
[2] أبو عبيد البكري: جغرافية الأندلس وأوربا (من كتاب المسالك والممالك) ص186، 187.
[3] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص567.
[4] للمزيد؛ انظر: حسين مؤنس: فجر الأندلس؛ دراسة في تاريخ الأندلس من الفتح الإسلامي إلى قيام الدولة الأموية (711 -756م)، ص15 ومابعدها.
[5] غِيطشَة أو ويتزا. انظر: ستانلي لين بول: قصة العرب في إسبانيا، ص9.
[6] عبد الرحمن حجي: التاريخ الأندلسي ص30.
[7] عبد الرحمن حجي: التاريخ الأندلسي ص30، 31. [b] يتببـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع | |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 3:56 pm | |
| لماذا الأندلس؟
لماذا اتّجه المسلمون في فتوحاتهم إلى هذه البلاد خاصَّة؟ لماذا اتجهوا نحو الشمال ولم ينحدروا إلى الجنوب -مثلاً- في أعماق القارة الإفريقية؟ ولِمَ في هذا التوقيت تحديدًا؛ (أي: سنة 92هـ=711م)؟
كان المسلمون قد انتهَوْا -في هذا الوقت- من فتح بلاد الشمال الإفريقي كلّها؛ فتحوا مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، ووصلوا إلى حدود المغرب الأقصى والمحيط الأطلسي؛ ومن ثَمَّ لم يكن أمامهم في سير فتوحاتهم إلاَّ أحد سبيلين؛ إمَّا أن يتَّجهوا شمالاً، ويعبروا مضيق جبل طارق ويدخلوا بلاد إسبانيا والبرتغال -وهي بلاد الأندلس آنذاك- وإمَّا أن يتَّجهوا جنوبًا صوب الصحراء الكبرى ذات المساحات الشاسعة والأعداد القليلة من السكان.
لم يكن هدف المسلمين هو البحث عن الأراضي الواسعة أو جمع الثروات، إنما كانت الدعوة إلى الله وتعليم دينه للناس كافَّة هو الهدفَ الأساس للفتوحات الإسلامية، وكان الأمر قد استتبَّ لهم في بلاد شمال إفريقيا في أواخر الثمانينيات من الهجرة؛ لذا كان من الطبيعي أن تتجه الفتوح الإسلامية صوب بلاد الأندلس آنذاك؛ لتصل دعوة الله إلى الجميع.
وكان هذا هو النهج الذي سار عليه المسلمون في كل فتوحاتهم، ويُجَسِّد هذا النهج ذلك الحوار الذي دار بين ربعي بن عامر t وبين رستم قائد الفرس قبل معركة القادسية -وكان رسولاً إليه- فلقد سأل رستمُ رِبْعِيَّ بنَ عامر: ما جاء بكم؟ فأجابه الصحابي الجليل: إن الله ابتعثنا لنُخرج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلَنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمَنْ قَبِلَ ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومَنْ أبى قاتلناه أبدًا حتى نُفضي إلى موعود الله. قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال مَنْ أبى، والظفر لمن بقي[1].
الدولة الأموية[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]كان فتح الأندلس في سنة اثنتين وتسعين من الهجرة؛ أي في عصر الدولة الأموية، وتحديدًا في خلافة الوليد بن عبد الملك -رحمه الله- الخليفة الأموي الذي حكم من عام (86هـ=705م) إلى عام (96هـ=715م)؛ وهذا يعني أن فتح الأندلس كان في منتصف خلافة الوليد الأموي.
والحقُّ أن الدولة الأموية ظُلمت ظلمًا كثيرًا في التاريخ الإسلامي؛ وأُشيع عنها الكثير من الافتراءات والأكاذيب والأحداث المغلوطة التي تُشَوِّه صورتها، وبالتالي تنال من صورة التاريخ الإسلامي في أزهى عصوره -بعد عصر النبي والخلفاء الراشدين- وهو العصر الذي عاش في كنفه الصحابة والتابعون، ومن أثر ذلك أن زعم بعض الناس -لا سيما أعداء الحكم بالشريعة الإسلامية- أن التاريخ الإسلامي لم يكن إلاَّ في عهد أبي بكر وعمر، بل لقد وصل الأمر إلى الطعن في تاريخ أبي بكر وعمر مع علم الجميع بفضلهما.
ولا يخفى على أحد أن المراد من ذلك هو أن يترسَّخ في الأذهان استحالة قيام دولة إسلامية من جديد، فإذا كان هذا شأن السابقين القريبين من عهد الرسول وأصحابه رضوان الله عليهم؛ وإذا كان هذا شأن دولتي بني أمية وبني العباس القريبتين من عهد النبوة ومع ذلك لم تستطع إحداهما أن تُقيم حكمًا إسلاميًّا صالحًا -كما يزعمون- فكيف بالمتأخِّرين؟! وهي رسالة يُريدون أن يَصِلُوا بها إلى كل مسلم، وليس لهم من غرض وراء ذلك إلاَّ أنهم {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
وقفة إنصاف لبني أمية (40-132هـ=660-750م)
الدولة الأموية كغيرها من الدول الإسلامية لها الأيادي البيضاء والفضل الكبير على المسلمين في شتَّى بقاع الأرض، ونظرة واحدة على عدد المسلمين الذين دخلوا الإسلام في زمن حكمها تكفي للردِّ على الافتراءات والمزاعم التي حِيكت في حقِّها، فهذا إقليم شمال إفريقيا بكامله دخل الإسلام في عهد بني أمية؛ ابتداء من ليبيا وحتى المغرب، وإذا كانت الفتوح الإسلامية لهذه البلاد قد بدأت في عهد عثمان بن عفان t؛ فإن هذه البلاد قد ارتدَّت على عقبها ثم فُتحت من جديد في عهد بني أمية.[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]كانت الدولة الأموية تفتح البلاد بالإسلام في أربع جبهات في وقت واحد، منها جبهة الغرب التي وصلت إلى الأندلس -وهو ما نتحدث عنه في هذه المقالات- لكن ثمة ثلاث جبهات أخرى: كانت في بلاد السند على يد محمد بن القاسم الثقفي، وفي بلاد ما وراء النهر حتى الصين على يد قتيبة بن مسلم الباهلي، وفي بلاد القوقاز في الشمال على يد مسلمة بن عبد الملك المرواني.
فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وأشرقت شمس الإسلام على بلادٍ كانت تعبد الأصنام والأوثان والنار والملوك، وانزاحت من وجه العالم خرافاتٌ وأباطيل، وأبصر الناس –بفضل الله الذي جرى على يد بني أمية- نور الله المبين، فأقبلوا على الإسلام زرافات ووحدانًا، ثم ما لبثوا أن كانوا من جنوده وأبطاله وعلمائه ورُوَّاده، وقطفت الأُمَّة الإسلامية عبر كل تاريخها ثمار الزرع الذي غرسه بنو أمية، فكم من رءوس الأُمَّة ومُقَدِّميها -في العلم والفقه والتفسير والأدب والطب والجغرافيا والهندسة والكيمياء والفلسفة- كانوا من هذه البلاد التي فتحها بنو أمية! مثل:
البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، والطبري وابن خلدون والذهبي، وابن سينا والفارابي والكندي والبيروني، وسلسلة طويلة تستعصي على الحصر، فتح الإسلام بلادهم ثم قلوبهم، ثم فتح بهم بلادًا وقلوبًا أخرى كثيرة.
كان الجهاد في أيام الأمويين أمرًا طبيعيًّا؛ يخرج إليه الناس ابتغاء مرضاة ربهم، وتبليغًا لدعوة ربِّ العالمين، وإضافة إلى ذلك فقد دُوِّنَت السُّنَّة النبوية في خلافتهم، وحُكِّم شرع الله وطُبِّق في دولتهم.
ولقد قال فيهم الإمام الكبير العَلَم ابن حزم كلمة ما أصدقها، قال: «وكانت دولة عربية لم يتخذوا قاعدة[2]، إنما كان سكنى كل امرئ منهم في داره وضيعته التي كانت له قبل الخلافة، ولا أكثروا احتجانَ[3] الأموال ولا بناءَ القصور، ولا استعملوا مع المسلمين أن يخاطبوهم بالتمويل[4] ولا التسويد[5]، ويُكاتبوهم بالعبودية والمُلك[6]، ولا تقبيل الأرض ولا رِجْلٍ ولا يَدٍ[7]، وإنما كان غرضهم الطاعةَ الصحيحة من التولية والعزل في أقاصي البلاد، فكانوا يعزلون العمَّال، ويولُّون الآخرين في الأندلس، وفي السند، وفي خراسان، وفي أرمينية، وفي اليمن، فما بين هذه البلاد. وبعثوا إليها الجيوش، وولَّوْا عليها مَنِ ارتضوا من العمال... فلم يملك أحد من ملوك الدنيا ما ملكوه من الأرض، إلى أن تغلَّب عليهم بنو العباس بالمشرق، وانقطع بهم ملكهم، فسار منهم عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس، وملكها هو وبنوه، وقامت بها دولة بني أمية نحو الثلاثمائة سنة، فلم يكُ في دول الإسلام أنبل منها، ولا أكثر نصرًا على أهل الشرك، ولا أجمع لخلال الخير»[8].
ومع كل هذا فإنَّا لا نقول بتبرئتهم من كل خطأ أو عيب؛ فالنقص والخطأ شيمة البشر، ومن المؤكَّد أن هناك أخطاءً كثيرةً في تاريخ بني أمية، لكن -بلا شكٍّ- كل هذه الأخطاء تذوب في بحر حسناتهم وبحر أفضالهم على المسلمين، فقد امتدَّ حُكم بني أمية اثنين وتسعين عامًا، من عام (40هـ=660م) إلى (132هـ=750م)، وكان أول خلفاء بني أمية الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان t -ورضي الله عن أبيه أبي سفيان صاحب رسول الله - ذلك الخليفة الذي لم يَسْلَم من ألسنة كثير من الناس؛ فطعنوا في تاريخه وفي خلافته t، ولقد كذبوا، فليتنا نَصِلُ إلى معشار ما فعله معاوية بن أبي سفيان للإسلام والمسلمين.
وإن كان هذا ليس مجال الحديث عن بني أمية إلاَّ أنَّ هذه المقدمة البسيطة قد تُفيد -بمشيئة الله- في الحديث عن الأندلس، فبعد معاوية بن أبي سفيان t تتابع الخلفاء الأُميون، وكان أشهرهم عبد الملك بن مروان -رحمه الله، ومَنْ تَبِعَه من أولاده، وكان منهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام، وقد تخلَّلهم الخليفة الراشد المشهور عمر بن عبد العزيز t، وهو خليفة أموي من أبناء الدولة التي يطعنون فيها، وهو الذي ملأ الأرض عدلاً ورحمةً وأمنًا ورخاءً؛ حتى عدَّه المؤرخون خامس الخلفاء الراشدين.
أمَّا الجانب السيِّئ من تاريخ دولة بني أمية فإنه يكمن في السنين السبع الأخيرة من تاريخهم، تلك التي شهدت الكثير من المآسي، والكثير من الاختلاف عن المنهج الإسلامي، وكانت سُنَّة الله تعالى؛ فحين فسد الأمر في الدولة الأموية قامت دولة أخرى وهي الدولة العباسية، أمَّا الأندلس وفَتْحُها فيبقى حسنةً من أعظم حسنات بني أمية.
[1] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/401، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 2/311.
[2] أي لم يتخذوا مدينة ملكية.
[3] الاحتجان: جمعُ الشيء وضمُّه إليك. ابن منظور: لسان العرب، مادة حجن 13/108، والزبيدي: تاج العروس، باب النون فصل الحاء 34/399، والمعجم الوسيط 1/158.
[4] أي لم يلزم الخليفةُ الناسَ أن يقولوا عند مخاطبته: يا مولاي.
[5] أي أن يقولوا: يا سيدي.
[6] أي أن يكتبوا إلى الولاة والوزراء بقولهم: من الملك، أو من السيد إلى العبد أو المولى.
[7] كان من عادة خلفاء الدول من بعد بني أمية، ومما يُعَدُّ من الآداب السلطانية أو «البروتوكول الرسمي» –بمصطلح هذه الأيام- أن يُقَبِّل الناس يد الخليفة، وبعض الدول كان الناس يُقَبِّلون الأرض بين يدي الخليفة.
[8] ابن حزم: رسائل ابن حزم، 2/146. [b] يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع | |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 4:00 pm | |
| وضع المسلمين في الشمال الإفريقي
دخل الإسلام بلاد الشمال الإفريقي قبل فتح الأندلس بسبعين سنة؛ أي سنة (22هـ=644م)، وكانت تسكن هذا الإقليم قبائل ضخمة تُسَمَّى قبائل الأمازيغ (البربر[1]) وهذه القبائل قبائل قوية الشكيمة شديدة البأس، وقد ارتدَّت عن الإسلام أكثر من مرَّة؛ فدارت الحروب بينها وبين المسلمين، وانتهت باستقرار الإسلام في هذا الإقليم أواخر عام (85 أو 86هـ= 704 أو 705م) على يد موسى بن نصير -رحمه الله.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]موسى بن نصير القائد ابن القائد (19-97هـ=640-716م)كان موسى بن نصير قائدًا بارعًا، تقيًّا ورعًا، ثَبَّت الله به أقدام الإسلام في هذه المنطقة المترامية الأطراف، وهو من التابعين، وقد روى عن بعض الصحابة مثل تميم الداري t.
قال عنه ابن خلِّكان: كان عاقلاً كريمًا شجاعًا ورعًا تقيًّا لله تعالى، لم يُهزم له جيشٌ قطُّ[2]. أمَّا أبوه فهو نُصَير بن عبد الرحمن بن يزيد، وكان شجاعًا وممن شهد معركة اليرموك الخالدة، وكانت منزلته مكينة عند معاوية بن أبي سفيان t، وبلغ في الرتب أن كان رئيس الشرطة في عهد معاوية حين كان واليًا على الشام في خلافة عمر وعثمان [3]، وفي روايات أخرى أنه كان رئيس حرس معاوية نفسه[4].
ولمَّا خرج معاوية لصفين لم يخرج نُصير معه، فقال له: ما منعك من الخروج معي؛ ولي عندك يدٌ[5] لم تُكافئني عليها؟ فقال: لم يمكني أن أشكرك بكفري مَنْ هو أولى بشكري منك. فقال: مَنْ هو؟ فقال: الله . فأطرق مليًّا، ثم قال: أستغفر الله. ورضي عنه[6].
كذلك روى التاريخ لأمِّ موسى قصة بليغة في الشجاعة، فلقد شهدت هي -أيضًا- معركة اليرموك مع زوجها وأبيه، وفي جولة من جولات اليرموك التي تقهقر فيها المسلمون أبصرت أمُّ موسى رجلاً من كفار العجم يأسر رجلاً من المسلمين، تقول: "فأخذتُ عمود الفسطاط، ثم دنوت منه فشدخت به رأسه، وأقبلتُ أسلبه فأعانني الرجل على أخذه"[7].
فمِن هذين الأبوين خرج مُوسَى بن نصير، الذي تربَّى في كنف القادة وقريبًا من بيت الخلافة مع أولاد معاوية وأولاد الأمراء والخلفاء، فنشأَ على حُبِّ الجهاد في سبيل الله ونشر الدين؛ حتى أصبح شابًّا يافعًا يتقلَّد الرتب والمناصب فكان على الخراج بالبصرة[8]، ثم تولى قيادة جيش البحر وغزا قبرص في عهد معاوية t [9]، ثم تولَّى إفريقية والمغرب[10] في عهد الوليد بن عبد الملك في عام 89 هـ، وقيل في عام 77 هـ[11].
من هنا كانت الفرصة مواتية لموسى بن نصير ليُنْجِزَ ما عجز السابقون عن إنجازه، فيُعيد الاستقرار لهذا الإقليم؛ فتوَجَّه –رحمه الله- ناحية المغرب وأعاد تنظيم القوات الإسلامية، وكانت البلاد في ذلك الوقت في قحطٍ شديد، فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء. وأقام على ذلك إلى منتصف النهار، ثم صَلَّى وخطب في الناس ودعا، ولم يذكر الوليدَ بنَ عبد الملك، فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين؟!
فقال: هذا مقام لا يُدعى فيه لغير الله(جلاجلاله) ، فسُقُوا حتى رَوَوا[12].
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]موسى بن نصير يُثَبِّت دعائم الإسلام في إفريقياكان الهمُّ الأول لموسى بن نصير منذ أصبح واليًا على المغرب هو تثبيت دعائم الإسلام في هذا الإقليم، الذي ارتدَّ أهله عن الإسلام أكثر من مرَّة؛ ولكي يتمكَّن من ذلك كان عليه أن يعلم لماذا يرتدُّ الناس في هذا الإقليم عن الإسلام؟ وكيف يعودون لقتال المسلمين بعد أن كانوا مسلمين؟!
أسباب الردة
وفي بحثه عن أسباب هذه الردَّة المتكرِّرة وجد موسى بن نصير خطأين وقع فيهما مَنْ سبقوه:
الخطأ الأول: هو أن عقبة بن نافع ومَن معه كانوا يفتحون البلاد فتحًا سريعًا، ثم يتوغَّلُون داخلها طمعًا في فتح أماكن أخرى كثيرة، دون أن يُوَفِّرُوا الحماية لظهورهم في هذه المناطق التي فتحوها؛ ومن ثَمَّ كانت النتيجة أن الأمازيغ (البربر) انتبهوا لهذا الأمر واستغلُّوه جيدًا؛ فانقلبوا على عُقبة وأحاطوا به وقتلوه، وحتى يتغلَّب على هذا الأمر بدأ مُوسَى بن نُصَير بفتح البلاد في أناةٍ شديدة، وفي هدوء وحذرٍ كحذر خالد بن الوليد t، فبدأ يتقدَّم خطوة ثم يُؤَمِّن ظهره، ثم خطوة أخرى ويُؤَمِّن ظهره، حتى أتمَّ الله عليه فتح هذا الإقليم مرَّة أخرى في سبع أو ست سنوات، بينما استغرق عقبة بن نافع في فتحه شهورًا معدودات.
أمَّا الخطأ الثاني: فقد وجد أن سكان هذا الإقليم لم يتعلَّموا الإسلام جيدًا، ولم يعرفوه حقَّ المعرفة، فبدأ بتعليمهم الإسلام؛ فكان يأتي بعلماء التابعين من الشام والحجاز ليُعَلِّمُوهم الإسلام ويُعَرِّفُوهم به، فأقبلوا على الإسلام وأحبُّوه، ودخلوا فيه أفواجًا، حتى أصبحوا جند الإسلام وأهله بعد أن كانوا يُحاربون المسلمين[13]، وهكذا عمل مُوسَى بن نُصَير على تثبيت دعائم الإسلام وتوطيدها في الشمال الإفريقي، وأتمَّ الله عليه فتح الإقليم بكامله عدا مدينة واحدة وهي مدينة سَبْتَة[14]، فقد فتح ميناء طَنْجَة، ولم يفتح ميناء سبتة المماثل له في الأهمية؛ ولذلك ولَّى موسى بن نصير على ميناء طَنْجَة (القريب جدًّا من سَبْتَة والقريب في الوقت ذاته من الأندلس) أمهر قُوَّاده طارق بن زياد -رحمه الله.
طارق بن زياد
لم يكن طارق بن زياد عربيًّا، بل كان من قبائل الأمازيغ (البربر) التي استوطنت الشمال الإفريقي، والتي كان يُمَيِّزُها اللون الأبيض والعيون الزرقاء والشعر الأشقر[15]، بعكس ما يُتخَيَّل من كونهم يُشبهون الزنوج؛ حتى إن البعض ينسبونهم إلى أصول أوربية، وقد حمل طارقُ بن زياد القائدُ الفذُّ هذه الصفات الشكلية، إضافة إلى ضخامته الجسمية ووسامته الشديدة، التي لم تمنعه من الانشغال بحُبِّ الجهاد في سبيل الله، ونشر هذا الدين بالتقوى والعمل الصالح.
موسى بن نصير في التاريخ
من هنا نرى أن موسى بن نصير -رحمه الله- قد تولَّى أمر بلاد المغرب وهي تضطرم نارًا، فكان أوَّل عمل له هو تأمين قواعد انطلاقه، ثم انصرف لإخماد الفتن، والقضاء على الثورات، وتصفية قواعد العدوان، وبناء المجتمع الإسلامي الجديد، ثم وجد بعد ذلك في إفريقية طاقاتٍ ضخمةً، وإمكاناتٍ جبَّارة؛ فأفاد من حرية العمل المتوفرة له، وانصرف إلى متابعة حشد القوات وتعبئتها وقيادتها من نصر إلى نصر، وإشراكها في شرف الفتوح وتحميلها أعباء نشر الإسلام.
تبيَّن لنا بعد تلك الحوادث والفتن التي قضى عليها موسى بن نصير أنه كان من أعظم رجال الحرب والإدارة المسلمين في القرن الأول الهجري، وقد ظهرت براعته الإدارية في جميع المناصب التي تقلَّدَها، كما ظهرت براعته الحربية في جميع الحملات البرية والبحرية التي قادها، وقد ظهرت هذه المواهب واضحة جليَّة في حُكمِه لإفريقية؛ حيث كانت الحكومة الإسلامية تُواجه شعبًا شديد المراس، يضطرم بعوامل الانتفاض والفتنة، وإذا كان موسى قد أبدى في معالجة المواقف وإخماد الفتنة كثيرًا من الحزم والشدَّة، فقد أبدى في الوقت نفسه خبرة فائقة بنفسية الشعوب، وبراعة في سياستها وقيادتها[16].
[1] كلمة البربر أُطلِقت بأربعة إطلاقات في أربعة عهود مختلفة، فأُطلقت في عهد (هومير) على القبائل المعقدة اللغة واللهجة حيثما وُجِدَتْ، وأُطلِقَت في عهد (هيرودوت) على الأمم الغريبة عن لغة اليونان وحضارتهم، وأُطلقت في عهد (بلتوس) على الروم ما عدا سكان روما، وأطلقها العرب في عهدهم على الأُمَّة التي تسكن الساحل الإفريقي -وهم المقصودون هنا- لأنهم يتكلمون بلغة ليست مفهومة للعرب، والعرب يُطلقون كلمة البربر على الأصوات المتجمعة غير المفهومة». انظر: الطاهر أحمد الزاوي: تاريخ الفتح العربي في ليبيا، ص20.
[2] ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/318 وما بعدها.
[3] ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 5/110، 6/496.
[4] ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/319.
[5] اليَدُ: النعمة السابغة، والفضل، والإحسان، والمِنَّة. الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء، فصل الياء 6/2540، وابن منظور: لسان العرب، مادة يدي 15/419، والمعجم الوسيط 2/1063.
[6] ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/319، والمقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب 1/240.
[7] ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 8/314.
[8] الزركلي: الأعلام 7/330.
([9]) الذهبي: سير أعلام النبلاء 4/496.
([10]) إفريقية هي تونس الآن، والمغرب هي بلاد المغرب العربي الآن، الجزائر والمغرب. وكلمتي «إفريقية» والمغرب تعني بلاد الشمال الإفريقي ما عدا مصر، والجانب الشرقي من ليبيا.
([11]) ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/319.
([12]) وابن خلكان: وفيات الأعيان 5/319، وابن كثير: البداية والنهاية 9/196، والمقري: نفح الطيب 1/239.
([13]) ابن عذاري: البيان المغرب 1/43، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/110، والمقري: نفح الطيب 1/239، والناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 1/152.
[14] وهي الآن من مدن المغرب العربي التي تحتلها إسبانيا، وتقع على مضيق جبل طارق.
[15] شوقي أبو خليل: فتح الأندلس ص20.
[16] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/59. [b] يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع | |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 4:03 pm | |
| فتح الأندلس .. تفكير قديم[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]لم يكن موسى بن نصير -رحمه الله- هو أول مَنْ فَكَّر في فتح الأندلس، وإنما كانت فكرة فتح الأندلس فكرة قديمة؛ فلقد استطاعت الجيوش الإسلامية أيام عثمان بن عفانt الوصول إلى القسطنطينية ومحاصرتها، إلاَّ أنها لم تستطع أن تفتحها، فقال عثمان بن عفان t: "إن القسطنطينية إنما تُفتح من قِبَل البحر، وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر آخر الزمان[1]".
أي: إنه على المسلمين لكي يتمكَّنُوا من فتح القسطنطينية أن يفتحوا الأندلس أولاً، ثم يتَّجهون منها بعد ذلك إلى القسطنطينية -في شرق أوربا- ويقصد عثمان t بالبحر ما كان يُعرف بالبحر الأسود في ذلك الوقت، لكن المسلمين لم يستطيعوا أن يصلوا إلى الأندلس إلاَّ أيام بني أمية، وفي ولاية موسى بن نصير على الشمال الإفريقي.
موسى بن نصير وعقبات فتح الأندلس
استتبَّ الأمر لموسى بن نصير في شمال إفريقيا، وانتشر الإسلام وبدأ الناس يُقبلون على تعلُّم دينهم، فلمَّا رأى موسى بن نصير ثمار عمله، بدأ يُفَكِّر في نشر الإسلام في البلاد التي لم يصلها بعدُ، فبدأ يُفَكِّر في فتح بلاد الأندلس، والتي لا يفصلها عن شمال إفريقيا سوى المضيق الذي صار يُعْرف بعد الفتح الإسلامي بـ(مضيق جبل طارق)، ولكن كانت هناك عدَّة عقباتٍ؛ كان أهمها ما يلي:
العقبة الأولى: قلَّة السفن
وجد موسى بن نصير أن المسافة التي سيقطعها في البحر بين المغرب والأندلس لا تقلُّ عن 13 كم، ولم يكن لديه سفنٌ كافيةٌ ليعبر بجيشه هذه العقبة المائية؛ فمعظم معارك المسلمين -باستثناء بعض المواقع مثل: ذات الصواري وفتح قبرص- كانت برِّيَّة؛ ومن ثَمَّ لم تكن هناك حاجة كبيرة إلى سفن ضخمة، ولكن الآن الأمر مختلف، وهم في حاجة للسفن الضخمة لتنقل الجنود وَتَعْبر بهم المضيق ليصلوا إلى الأندلس.
العقبة الثانية: وجود جزر البليار النصرانية في ظهره
كان موسى بن نصير قد تعلَّم من أخطاء سابقيه؛ فلم يكن يخطو خطوةً حتى يُؤَمِّن ظهره أولاً، وفي شرق الأندلس كانت تقع جزرٌ تُسَمَّى جزر البليار -وهي عدَّة جزر تقع أمام الساحل الشرقي لإسبانيا، وأهمها ثلاثة جزر هي: مَيُورْقَة ومَنُورقَة ويَابِسَة، وتُسَمَّى في المصادر العربية بالجزر الشرقية- وهي قريبة جدًّا من الأندلس؛ ومن هنا فإن ظهره لن يكون آمنًا إن دخل الأندلس، وكان عليه أولاً أن يحمي ظهره.
العقبة الثالثة: وجود ميناء سبتة المطل على مضيق جبل طارق في أيدي نصارى على علاقة بملوك الأندلس
لم يكن المسلمون حينئذٍ قد فتحوا مدينة سَبْتَة، وهي مدينة ذات موقع استراتيجي مهم، ولها ميناء يطلُّ على مضيق جبل طارق، فكانت آنئذٍ تحت حكم رجل نصراني يُدْعَى (يُليان)، الذي كانت تربطه علاقات طيبة بملك الأندلس السابق غِيطشَة، وغِيطشَة هذا كان قد تعرَّض لانقلاب قادَه قائد له يُدعى لُذريق، وتولى لُذريق حُكم الأندلس نتيجة هذا الانقلاب، فخشي موسى بن نصير إن هو هاجم الأندلس أن يتحالف يُليان مع لُذريق ضدَّه نظير مقابل مادي أو تحت أي بند آخر، فيُحاصروه ويقضوا عليه هو وجنوده.
العقبة الرابعة: قلة عدد المسلمين
كانت العقبة الرابعة التي واجهت موسى بن نصير هي أن قوات المسلمين الفاتحين التي جاءت من جزيرة العرب ومن الشام واليمن محدودة جدًّا، وكانت في الوقت نفسه منتشرة في بلاد الشمال الإفريقي؛ ومن ثَمَّ قد لا يستطيع أن يُتِمَّ فتح الأندلس بهذا العدد القليل من المسلمين، هذا مع خوفه أن تنقلب عليه بلاد الشمال الإفريقي إذا هو خرج منها بقواته.
العقبة الخامسة: كثرة عدد النصارى
في مقابل قوَّة المسلمين المحدودة كانت قوات النصارى تقف بعُدَّتها وضخامتها عقبةً في طريق موسى بن نصير لفتح الأندلس، وكان للنصارى في الأندلس أعدادٌ ضخمةٌ، هذا بجانب قوَّة عُدَّتهم وكثرة قلاعهم وحصونهم، وإضافة إلى ذلك فهم تحت قيادة لُذريق القائد القوي.
العقبة السادسة: طبيعة جغرافية الأندلس، وكونها أرضًا مجهولةً بالنسبة للمسلمين[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]كان البحر حاجزًا بين المسلمين وبلاد الأندلس، فلم يكونوا على علمٍ بطبيعتها وجغرافيتها؛ وهذا ما يجعل الإقدام على غزو أو فتح هذه البلاد أمرًا صعبًا، فضلاً عن هذا فقد كانت بلاد الأندلس تتميَّز بكثرة الجبال والأنهار، تلك التي ستقف عقبةً كئودًا أمام حركة أيِّ جيش قادم، خاصةً إذا كانت الخيول والبغال والحمير هي أهمُّ وسائل ذلك الجيش في نقل العُدَّة والعَتَاد.
موسى بن نصير ومواجهة العقبات
لم يستسلم موسى بن نصير رغم هذه العقبات التي كانت موجودة في طريق فتح الأندلس، بل زادته هذه العقبات إصرارًا على فتحها، ومن هنا بدأ -وفي أناةٍ شديدة- يُرَتِّب أموره ويُحَدِّد أولوياته، فعمل على مواجهة هذه العقبات على النحو التالي: أولاً: بناء المواني وإنشاء السفن
بدأ موسى بن نصير في عام (87 أو 88هـ=706 أو 707م) ببناء المواني التي تُشَيَّد فيها السفن، وإن كان هذا الأمر ربما يطول أمده، إلاَّ أنه بدأه بهمة عالية وإرادة صلبة؛ فبنى أكثر من ميناء في الشمال الإفريقي[2].
ثانيًا: تعليم الأمازيغ (البربر) الإسلام
وفي أثناء ذلك بدأ موسى بن نصير -أيضًا- يبذل جهودًا أكبر لتعليم الأمازيغ (البربر) الإسلامَ في مجالس خاصة لهم، أشبه بما نُسَمِّيه الآن الدورات المكثَّفة، فلمَّا اطمأنَّ إلى فهمهم للإسلام بدأ يعتمد عليهم ويستعملهم في جيشه، وهذا الصنيع من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- أن نجده عند غير المسلمين؛ فلم تستطع دولةٌ محارِبَةٌ أو فاتحة غير الدول الإسلامية أن تُغَيِّر من طبائع الناس وحُبِّهم وولائهم الذي كانوا عليه؛ حتى يُصبحوا هم المدافعين عن هذه الدولة والناشرين لدينها؛ خاصَّة إذا كانوا حديثي عهدٍ بهذا الفتح أو بهذا الدين الجديد، فهذا أمر عجيب حقًّا، ولا يتكرَّر إلاَّ مع المسلمين وحدهم؛ فقد ظلَّت فرنسا -على سبيل المثال- في الجزائر مائة وثلاثين عامًا، ثم خرجت جيوشها، بينما ظلَّ الجزائريون كما كانوا على الإسلام لم يتغيَّرُوا، بل زاد حماسهم له وزادت صحوتهم الإسلامية.
علَّم موسى بن نصير الأمازيغ (البربر) الإسلام عقيدةً وعملاً، وغرس فيهم حُبَّ الجهاد وبَذْل النفس والنفيس لله ؛ فكان أن صار جُلُّ الجيش الإسلامي وعمادُه من الأمازيغ (البربر) الذين كانوا منذ ما لا يزيد على خمس سنوات من المحاربين له.
ثالثًا: تولية طارق بن زياد على الجيش
القائد هو قِبلة الجيش وعموده، بهذا الفَهْم ولَّى موسى بن نصير قيادةَ جيشه - المتَّجه إلى فتح بلاد الأندلس - القائدَ الأمازيغي (البربري) المحنَّك طارق بن زياد (50-102هـ=670-720م) ذلك القائد الذي جمع بين التقوى والورع، والكفاءة الحربية، وحُبِّ الجهاد، والرغبة في الاستشهاد في سبيل الله، ورغم أنه كان من الأمازيغ (البربر) وليس من العرب إلاَّ أن موسى بن نصير قدَّمه على غيره من العرب، وكان ذلك لعدة أسباب؛ منها:
1- الكفاءة: لم يمنع كون طارق بن زياد غير عربي أن يُوَلِّيَه موسى بن نصير قيادةَ الجيش؛ فهو يعلم أنه ليس لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي فضلٌ إلاَّ بالتقوى؛ فقد وجد فيه الفضل على غيره، والكفاءة في القيام بهذه المهمة على أكمل وجه، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن دعوة الإسلام ليست دعوة قَبَلِية أو عنصرية تدعو إلى التعصب، وتُفَضِّل عنصرًا أو طائفةً على طائفة؛ إنما هي دعوة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
2- قدرته على فَهم وقيادة قومه: إضافة إلى الكفاءة التي تميَّز بها طارق بن زياد كان لأصله الأمازيغي (البربري) الفضلُ في القضاء على أيٍّ من العوامل النفسية التي قد تختلج في نفوس الأمازيغ (البربر) الذين دخلوا الإسلام حديثًا؛ ومِن ثَمَّ استطاع قيادتهم وتطويعهم للهدف الذي يصبو إليه، ثُمَّ لكونه أمازيغيًّا (بربريًّا) فهو قادر على فهم لغة قومه؛ إذ ليس كل الأمازيغ (البربر) يُتقنون الحديث بالعربية، وكان طارق بن زياد يُجيد اللغتين العربية والأمازيغية (البربرية)[3]؛ ولهذه الأسباب وغيرها رأى موسى بن نصير أنه يصلح لقيادة الجيش فولاَّه إيَّاها.
رابعًا: فتح جزر البليار وضمها إلى أملاك المسلمين
من أهمِّ الوسائل التي قام بها موسى بن نصير تمهيدًا لفتح الأندلس، وتأمينًا لظهره -كما عهدناه- قام بفتح جزر البليار -التي ذكرناها سابقًا- وضمَّها إلى أملاك المسلمين، وبهذا يكون قد أمَّن ظهره من جهة الشرق، وهذا العمل يدلُّ على حُنكته وبراعته في التخطيط والقيادة، ومع هذا كلِّه فقد أُغفِل دورُه في التاريخ الإسلامي كثيرًا.
[1] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/598، وابن كثير: البداية والنهاية 7/171، والحِميري: الروض المعطار في خبر الأقطار ص33.
[2] المقري: نفح الطيب 1/257.
[3] نستنتج هذا من أن طارقًا منحدر من عائلة كانت -فيما يظهر- سابقة إلى الإسلام، فهو طارق بن زياد بن عبد الله، ثم يبدأ في نسبه ظهور الأسماء البربرية من بعد عبد الله كما في النسب الذي أورده ابن عذاري في البيان المغرب: «طارق بن زياد بن عبد الله بن ولغو بن ورنجوم بن نبرغاسن بن ....». فمنه نتوقع أن يكون جده عبد الله هو أول من أسلم من عائلته فتسمى بعبد الله، أو أن يكون أبو جده «ولغو» هو أول مَنْ أسلم، ولكنه احتفظ باسمه كما هو ثم سمَّى ولده عبد الله؛ لذا فمن الطبيعي أن يكتسب الحفيد لغة العرب ويتقنها، كما ستأتي فيما بعد خطبته الشهيرة لدى فتحه الأندلس، وفيها يظهر تمكُّنه في العربية ولسانها إن نحن أخذنا بقول الذين يرجِّحُون ثبوتها. [b] يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع | |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| |
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 4:12 pm | |
| تحرك طارق بن زياد[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]بعد عام من الحملة الاستطلاعية الناجحة التي قادها طريف بن مالك -رحمه الله، وبعد أن انتهى موسى بن نصير من وضع خطة الفتح، وفي شعبان[1] من سنة 92هـ= يونيه 711م تحرَّك هذا الجيش المكون من سبعة آلاف فقط من جنود الإسلام، وعلى رأسه القائد طارق بن زياد يقول ابن الكردبوس: «وكان موسى بن نصير حين أنفذ طارقًا مُكِبًّا على الدعاء والبكاء والتضرُّع لله تعالى، والابتهال إليه في أن ينصر جيش المسلمين...»[2]. حملة طارق وسفن العبور
كثيرًا ما يتردَّد في تاريخ الفتح الإسلامي للأندلس الحديث عن السفن التي استعملها الجيش الإسلامي في عبوره إلى الأندلس، وفي هذه السطور نُوَضِّح بعض الأمور المهمة عن حقيقة تلك السفن، ومدى نسبتها إلى يُليان حاكم سَبْتَة من خلال النقاط التالية[3]:
- أتم المسلمون فتح بلاد شمال أفريقيا قبل فتح الأندلس بعقود طويلة، ومعلوم أن الشمال الإفريقي تطلُّ شواطئه على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، وهذا يجعلهم يُفَكِّرُون في توفير السفن اللازمة لحمايتها من أي اعتداء بيزنطي؛ وهو متوقَّع لِمَا كان بين الدولة الإسلامية والبيزنطيين من عداء مستحكم؛ وهذا لا يجعلهم يتوجَّهُون إلى استعارة السفن، بل يجب أن تكون مملوكة لهم.
- سبق للمسلمين نشاط بحري حربي في الشمال الإفريقي؛ ففي عام 46هـ وجَّه معاويةُ بن حُدَيْج عبدَ الله بنَ قيس لغزو صقلية، فكان أول مَنْ غزاها، وذلك في عهد معاوية بن أبي سفيان[4].
- كان اهتمام المسلمين واضحًا بصناعة السفن منذ وقت مبكِّر بعد فتح إفريقية، فأقاموا دارًا لصناعة السفن في تونس في عهد الحسان بن النعمان والي الشمال الإفريقي 76-86هـ.
- فُتِحَتْ طَنْجَة في ولاية عقبة بن نافع سنة 63هـ، وهي ميناء صالح لصناعة السفن.
- استعمل طريف بن مالك أربعة سفن للعبور بسريته الخمسمائة[5]، وهذه السفن هي التي استعملها طارق بن زياد لعبور سبعة آلاف مسلم من المضيق إلى الأندلس[6]، ولم يُذكر اسم يُليان في هذا السياق، بل وتُصَرِّح بعض الروايات بأن موسى بن نصير قد عمل من السفن عِدَّة؛ يقول المقري: «وكان موسى منذ وَجَّه طارقًا لوجهه قد أخذ في عمل السفن؛ حتى صار عنده منها عدة كثيرة، فحمل إلى طارق فيها خمسة آلاف من المسلمين مددًا كملت بهم عدة مَنْ معه اثني عشر ألفًا؛ أقوياء على المغانم، حِرَاصًا على اللقاء، ومعهم يُليان المستأمن إليهم في رجاله وأهل عمله؛ يدلُّهم على العورات، ويتجسَّس لهم الأخبار»[7]. وتَذْكُر بعض الروايات أن السفن التي حملت الجيش الإسلامي إلى الأندلس هيَّأها له يُليان حاكم سَبْتَة[8]، ويقول ابن عذاري في البيان المغرب: «فكان يُليان يحتمل أصحاب طارق في مراكب التجار التي تختلف إلى الأندلس، ولا يشعر أهل الأندلس بذلك، ويظنُّون أن المراكب تختلف بالتجار، فحمل الناسَ فوجًا بعد فوج إلى الأندلس»[9]. فبناءً على هذه الروايات فالسفن ليست يُليان وإنما عاون في تأجيرها لمعرفته بها.
- القيام بعملية فتح بلادٍ مثل بلاد الأندلس لا يمكن أن يفي بحاجتها استعارة سفن؛ لا سيما وأن النشاط البحري مألوف عند المسلمين، وسبق التهيُّؤ لفتح الأندلس قبله بعدَّة سنوات، وامتلاك السفن وصناعتها أحد هذه الأسباب.
كل هذا يُؤَكِّد أن أكثر السفن التي استعملها المسلمون في فتح الأندلس كانت إسلامية الصنع، أنتجتها دار قريبة، أو جُلِبَتْ من دور أخرى بعيدة.
طارق بن زياد على أرض الأندلس[i] [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]تحرَّك الجيش الإسلامي وعبر المضيق -الذي عُرف فيما بعد باسم قائد هذا الجيش مضيق جبل طارق- من خلال السفن؛ وذلك لأن طارق بن زياد حين عبر المضيق نزل عند هذا الجبل، وقد ظلَّ إلى الآن -حتى في اللغة الإسبانية- يُسَمَّى جبل طارق ومضيق جبل طارق، ومن جبل طارق انتقل طارق بن زياد إلى منطقة واسعة تُسَمَّى الجزيرة الخضراء، وهناك قابل الجيش الجنوبي للأندلس، وهو حامية جيش النصارى في هذه المنطقة؛ فلم تكن قوَّة كبيرة.
وكعادة الفاتحين المسلمين فقد عرض طارق بن زياد عليهم الدخول في الإسلام، ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويتركهم وأملاكهم، أو يدفعون الجزية ويترك لهم -أيضًا- ما في أيديهم، أو القتال، ولا يُؤَخِّرهم إلاَّ ثلاثًا، لكن تلك الحامية أخذتها العزَّة وأبت إلاَّ القتال؛ فكانت الحرب سجالاً بين الفريقين؛ حتى انتصر عليهم طارق بن زياد، فأرسل زعيمُ تلك الحامية وكان اسمه تُدْمير رسالة عاجلة إلى لُذريق -وكان في طُلَيْطِلَة عاصمة الأندلس آنذاك- يقول له فيها: أَدْرِكْنا يا لُذريق؛ فإنه قد نزل علينا قوم لا ندري أَهُمْ من أهل الأرض أم من أهل السماء؟! قد وطئوا إلى بلادنا وقد لقيتُهم فلتنهض إليَّ بنفسك[10].
لقد كان المسلمون فعلاً أناسًا غرباء -بالنسبة لهم- فالذي عندهم أن الفاتح أو المحتلَّ لبلد آخر إنما تقتصر مهمته على السلب والنهب لخيرات البلد، والذبحِ والقتلِ في كثير من الأحيان؛ أمَّا أن يجدوا أناسًا يعرضون عليهم الدخول في دينهم ويتركون لهم كل شيء، أو أن يدفعوا لهم الجزية ويتركون لهم -أيضًا- كل شيء؛ بل ويحمونهم من الأعداء، فهذا ما لم يعهدوه من قبلُ في حياتهم؛ بل ولا في تاريخهم كله، وفضلاً عن هذا فقد كانوا في قتالهم من المهرة الأَكْفَاء، وفي ليلهم من الرهبان المُصَلِّين، وقد أبدى قائد تلك الحامية دهشته وعجبه الشديد من أمر هؤلاء المسلمين؛ وتساءل في رسالته إلى لُذريق عن شأنهم: أهُم من أهل الأرض، أم من أهل السماء؟! وصدق؛ فهم من جند الله ومن حزبه:{أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
[1] اختلفت روايات المؤرخين في الشهر الذي عبر فيه طارق بن زياد الجبل المنسوب إليه؛ منهم من قال: في الخامس من رجب. كابن الأثير في الكامل 4/268، وابن عذاري في البيان المغرب 2/6، والذهبي في تاريخ الإسلام 6/393، والمقري في نفح الطيب 1/254، ومن المؤرخين من ذكر الشهرين دون ترجيح؛ منهم: الحميري في الروض المعطار ص35، وابن الخطيب في الإحاطة 1/100.
[2] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص67، 68.
[3] للمزيد انظر: عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص47-49.
[4] ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 1/253.
[5] مجهول: أخبار مجموعة ص16.
[6] السابق ص17.
[7] المقري: نفح الطيب 1/257.
[8] الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار ص35.
[9] ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 2/6.
[10] المقري: نفح الطيب 1/24. [b] يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع | |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 4:15 pm | |
| أُولَى الانتصارات في الأندلس[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]لما وصلت أنباء تَقَدُّمِ طارق بن زياد إلى لُذريق -وكان في الشمال- لم يتهيَّب الموقف للمرَّة الأولى؛ لاعتقاده أن المسألة لا تعدو أن تكون غزوة من غزوات النهب، لن تلبث أن تتلاشى، ولكن حين وصلته أنباءُ تَقَدُّمِ المسلمين ناحية قُرْطُبَة، أسرع إلى طُلَيْطلَة وحشد حشوده، وأرسل قوَّة عسكرية بقيادة ابن أخته بنشيو -وكان أكبر رجاله- للتصدِّي لهم، ووقع القتال بالقرب من الجزيرة الخضراء، فكانوا عند كل لقاء يُهْزَمون، وقُتِلَ قائدهم بنشيو، وفرَّ مَنْ نَجَا من جنوده في اتجاه الشمال؛ ليُخبروا لُذريق بما جرى، وبفداحة الخطر القادم من الجنوب[1].
معركة وادي بَرْبَاط 92هـ=711م وفتح الأندلس وتسمى كذلك معركة شذونة ووادي لكة
حين وصلت رسالة الفارِّين المنهزمين إلى لُذريق وقعت عليه وَقْعَ الصاعقة؛ فجُنَّ جنونُه، وفي غرورٍ وصلفٍ جمع جيشًا قِوَامه مائةُ ألف من الفرسان[2]، وجاء بهم من الشمال إلى الجنوب يقصد جيشَ المسلمين، وكان طارق بن زياد في سبعة آلاف فقط من المسلمين جُلُّهم من الرَّجَّالة، وعددٍ محدود جدًّا من الخيل، فلمَّا أبصر أمرَ لُذريق وجد صعوبة بالغة في المواجهة، سبعة آلاف أمام مائة ألف؛ فأرسل إلى موسى بن نصير يستنجده ويطلب منه المدد، فبعث إليه طريف بن مالك على رأس خمسة آلاف آخرين من الرجَّالة -أيضًا- تحملهم السفن[3].
وصل طريف بن مالك إلى طارق بن زياد وأصبح عدد الجيش الإسلامي اثني عشر ألف مقاتل، وبدأ طارق بن زياد يستعدُّ للمعركة؛ فكان أول ما صنع أن بحث عن أرض تصلح للقتال، حتى وجد منطقة تُسمَّى وادي بَرْبَاط، وتُسَمِّيها بعض المصادر أيضًا وادي لُكَّة[4] وكلك معركة شذونة، وكان لاختيار طارق بن زياد لهذا المكان أبعاد إستراتيجية وعسكرية مهمة؛ فقد كان مِن خلفه وعن يمينه جبل شاهق، وبه حَمَى ظهرَهُ وميمنته؛ فلا يستطيع أحدٌ أن يلتفَّ حوله، وكان في ميسرته -أيضًا- بحيرة فهي ناحية آمنة تمامًا، ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي أي في ظهره فرقة قوية بقيادة طريف بن مالك؛ حتى لا يُباغت أحدٌ ظهرَ المسلمين؛ ومن ثَمَّ يستطيع أن يستدرج قوات النصارى من الناحية الأمامية إلى هذه المنطقة، ولا يستطيع أحدٌ أن يلتفَّ من حوله.
ومن بعيد جاء لُذريق في أبهى زينة؛ يلبس التاج الذهبي والثياب الموشَّاة بالذهب، وقد جلس على سرير محلًّى بالذهب يجرُّه بغلان[5]، فهو لم يستطع أن يتخلَّى عن دنياه؛ حتى وهو في لحظات الحرب والقتال، وقَدِمَ على رأس مائة ألف من الفرسان، وجاء معه بحبالٍ محمَّلةٍ على بغالٍ! ولا تتعجَّب كثيرًا؛ إذا علمت أنه أتى بهذه الحبال ليُقَيِّد بها أيدي المسلمين وأرجلهم بعد هزيمتهم المحقَّقة -في زعمه- ثم يأخذهم عبيدًا، وهكذا في صلف وغرور ظنَّ أنه حسم المعركة لصالحه؛ ففي منطقه وبقياسه أنَّ اثني عشر ألفًا يحتاجون إلى الشفقة والرحمة؛ وهم أمام مائة ألف من أصحاب الأرض.
وفي 28 من شهر رمضان سنة 92هـ= 19 من يوليو سنة 711م بوادي بَرْبَاط دارت معركة هي من أشرس المعارك في تاريخ المسلمين، وإن الناظر العادي إلى طرفي المعركة ليدخُلُ في قلبه الشفقة -حقًّا- على المسلمين؛ الذين لا يتعدَّى عددهم الاثني عشر ألفًا، وهم يُواجهون مائة ألف كاملة، فبمنطق العقل: كيف يُقاتِلُون؟ هذا فضلاً عن أن ينتصروا. [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]بين الفريقينرغم المفارقة الواضحة بين الفريقين إلاَّ أنَّ الناظر المحلِّل يرى أن الشفقة كل الشفقة على المائة ألف، فالطرفان {خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]؛ وشتَّان بين الخصمين! شتان بين فريق خرج طائعًا مختارًا، راغبًا في الجهاد، وبين فريق خرج مُكرهًا مضطرًا مُجبرًا على القتال! شتان بين فريق خرج مستعدًا للاستشهاد، مسترخصًا الحياة من أجل عقيدته، متعاليًا على كل روابط الأرض ومنافع الدنيا، أسمى أمانيه الموتُ في سبيل الله، وبين فريق لا يعرف من هذه المعاني شيئًا، أسمى أمانيه العودة إلى الأهل والمال والولد! شتان بين فريق يقف فيه الجميع صفًّا واحدًا كصفوف الصلاة؛ الغنيُّ بجوار الفقير، والكبير بجوار الصغير، والحاكم بجوار المحكوم، وبين فريق يمتلك فيه الناس بعضهم بعضًا ويستعبد بعضهم بعضًا!
فهذا فريق يقوده رجل رباني -طارق بن زياد- يجمع بين التقوى والكفاءة، وبين الرحمة والقوَّة، وبين العزَّة والتواضع، وذاك فريق يقوده متسلِّط مغرور، يعيش مترفًا مُنعَّمًا، بينما شعبه يعيش في بؤس وشقاء، وقد ألهب ظهره بالسياط! هذا جيش تُوَزَّع عليه أربعةُ أخماس الغنائم بعد الانتصار، وذاك جيش لا ينال شيئًا، وإنما يذهب كله إلى الحاكم المتسلط المغرور؛ وكأنما حارب وحده! هذا فريق ينصره ويُؤَيِّده الله ربُّه؛ خالق الكون ومالك الملك ، وذاك فريق يُحارب الله ربَّه ويتطاول على قانونه وعلى شرعه! وبإيجاز فهذا فريق الآخرة وذاك فريق الدنيا، فعلى مَنْ تكون الشفقة إذًا؟! على مَنْ تكون الشفقة وقد قال : {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]؟! على مَنْ تكون الشفقة وقد قال : {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]؟! فالمعركة إذًا باتت وكأنها محسومة قبلاً.
وادي بَرْبَاط وشهر رمضان
هكذا وفي شهر رمضان بدأت معركة وادي بَرْبَاط -أو وادي لكة أو معركة شذونة- غير المتكافئة ظاهريًّا، والمحسومة بالمنطق الرباني، بدأت في شهر الصيام والقرآن، الشهر الذي ارتبط اسمه بالمعارك والفتوحات والانتصارات، وعلى مدى ثمانية أيام متصلة دارت رحى الحرب، وبدأ القتال الضاري الشرس بين المسلمين والنصارى، أمواج من النصارى تنهمر على المسلمين، والمسلمون صابرون صامدون؛ {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
وعلى هذه الحال ظلَّ الوضع طيلة ثمانية أيَّام متَّصلة انتهت بنصر مؤزَّر للمسلمين؛ بعد أن عَلِمَ اللهُ صبرهم وصِدْق إيمانهم، لقد سطر المسلمون بقيادة طارق بن زياد ملحمة من ملاحم الجهاد التي لم تشهدها بلاد المغرب والأندلس من قبلُ؛ ثمانية أيام تتلاطم فيها السيوف وتتساقط فيها أشلاء القتلى والشهداء، لقد قاتل الجيش القوطي قتالاً شديدًا يُعَبِّر عن شدَّة بأس وقوَّة شكيمة؛ ولكن هيهات أن تصمد تلك القوَّة أمام صلابة الإيمان وقوة العقيدة التي يتحلَّى بها الجيش المسلم؛ واثقًا بربه متيقِّنًا النصر! ويصف ابن عذاري جيش المسلمين وهم في هذا الجوِّ المتلاطم في المعركة فيقول: «فخرج إليهم طارق بجميع أصحابه رجَّالة، ليس فيهم راكب إلاَّ القليل؛ فاقتتلوا قتالاً شديدًا حتى ظنُّوا أنه الفناء»[6]. وفي نفح الطيب يقول المقري: «كانت الملاقاة يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فاتَّصلت الحرب بينهم إلى يوم الأحد لخمس خلون من شوال بعد تتمة ثمانية أيام، ثم هَزَمَ الله المشركين؛ فقُتِلَ منهم خلق عظيم، أقامت عظامهم -بعد ذلك بدهر طويل- ملبسة لتلك الأرض»[7]. وأمَّا لُذريق فقيل: إنه قُتِلَ. وفي رواية: إنه فرَّ إلى الشمال. لكنَّ ذِكْره اختفى إلى الأبد.
والحقيقة التي أثبتتها هذه المعركة -وغيرها من المعارك الحاسمة في التاريخ الإسلامي- أن المسلمين لا ينتصرون إلاَّ بقوتهم الإيمانية؛ إن هذا الفتح يعود إلى قوَّة المسلمين بتمكُّن العقيدة وتغلغل معانيها في نفوسهم، إن تفوُّق المسلمين مستمدٌّ دومًا من إيمانهم بعقيدتهم؛ وليس من سوء أحوال الآخرين، كما أن الإسلام ينبع تفوُّقه وسبقه من ذاتيَّته القوية وعقيدته النقية وتشريعه المكين؛ لأنه من وحي الله تعالى[8].
نتائج معركة وادي برباط
تمخَّضَت عن هذه المعركة عدَّة نتائج؛ كان أهمها:
1- طوت الأندلس صفحة من صفحات الظلم والجهل والاستبداد، وبدأت صفحة جديدة من صفحات الرقيِّ والتحضُّرِ.
2- غنم المسلمون غنائم عظيمة؛ كان أهمها الخيول، فأصبحوا خَيَّالة بعد أن كانوا رجَّالة.
3- بدأ المسلمون المعركة وعددهم اثنا عشر ألفًا، وانتهت المعركة وعددهم تسعةُ آلاف؛ فكانت الحصيلة ثلاثة آلاف من الشهداء رَوَوْا بدمائهم الغالية أرض الأندلس، فأوصلوا هذا الدين إلى الناس، فجزاهم الله عن الإسلام خيرًا.
[1] ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 2/8، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص37، 38.
[2] اختلفت تقديرات المؤرخين لعدد جيش لُذريق؛ فهي على أقل تقدير أربعون ألفًا؛ كما عند ابن خلدون في تاريخه 4/117، وعلى أعلى تقدير ستمائة ألف؛ كما هو عند الحِميري في الروض المعطار في خبر الأقطار ص35، وهي نحو مائة ألف كما عند المقري في نفح الطيب 1/257، وحسين مؤنس في فجر الأندلس ص70.
[3] مجهول: أخبار مجموعة ص17، والمقري: نفح الطيب 1/232.
[4] في بعض المصادر وادي لُقَّة أو لِقة بالكسر.
[5] ابن عذاري: البيان المغرب 2/7.
[6] ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 2/7.
[7] المقري: نفح الطيب 1/259.
[8] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص55. [b] يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع | |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 4:18 pm | |
| خطبة طارق بن زياد ومسألة حرق السفن[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]أورد ابن خلكان في وفيات الأعيان والمقري التلمساني في نفح الطيب أنه لما اقترب جيش لُذريق من الجيش الإسلامي، قام طارق بن زياد في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حثَّ المسلمين على الجهاد ورغَّبَهم فيه، ثم قال: «أيها الناس؛ أين المفرُّ؟! والبحر من ورائكم والعدوُّ أمامكم، فليس لكم والله! إلاَّ الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضْيَعُ من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلتُم عدوَّكم بجيشه وأسلحته، وأقواتُه موفورة، وأنتم لا وَزَرَ[2] لكم غير سيوفكم، ولا أقوات لكم إلاَّ ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم، وإن امتدَّت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تُنجزوا لكم أمرًا، ذهبت ريحكم، وتعوَّضت القلوبُ من رعبها منكم الجراءةَ عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقته إليكم مدينَتُه المحصَّنة، وإنَّ انتهاز الفرصة فيه لممكن لكم إن سمحتم بأنفسكم للموت. وإني لم أُحَذِّركم أمرًا أنا عنه بنَجْوَة[3]، ولا حملتُكم على خُطَّة أرخصُ متاعٍ فيها النفوسُ إلاَّ وأنا أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً؛ استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي[4]، فيما حَظُّكم فيه أوفر من حَظِّي، وقد بلغكم ما أنشأتْ هذه الجزيرةُ من الحورِ الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدُّرِّ والمَرْجَان، والحُلَل المنسوجة بالعِقْيَان[5]، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عُرْبانًا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا وأختانًا؛ ثقةً منه بارتياحِكم للطِّعَان، واستماحِكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حَظُّه معكم ثوابَ الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، ويكون مغنمها خالصًا لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى وليُّ إنجادكم على ما يكون لكم ذِكْرًا في الدارين. واعلموا أنِّي أول مجيب إلى ما دعوتُكم إليه، وأنِّي عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية قومه لُذَرِيق فقاتِلُه -إن شاء الله تعالى- فاحملوا معي، فإنْ هلكتُ بعده فقد كَفَيْتُكم أمره، ولن يُعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه، وإن هلكتُ قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمَّ من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يُخْذلون»[6]. ولنا وقفات مع هذه الخطبة
1- لم يتعرَّض المؤرخون لتاريخ الفتح الأندلسي -سواء من المتقدمين أو المتأخرين- إلى هذه الخطبة، وهذا يُشير إلى عدم شيوعها، وعدم معرفة المؤرِّخين لها؛ وهو أمر يُقَلِّل أو يمحو الثقة بواقعيتها.
2- لم تكن الخطبة وما فيها من السجع من أسلوب ذلك العصر القرن الأول الهجري، وغير متوقَّع لقائد جيش أن يعتني بهذا النوع من الصياغة.
3- ذكر في الخطبة: «وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عربانًا». والذي انتخبهم القائد موسى بن نصير والي إفريقية وليس الوليد.
4- كان المتوقَّع أن تحتوي الخطبة على آيات من القرآن وأحاديث الرسول الأمين ، أو وصايا وأحداثٍ ومعانٍ إسلامية تُناسب المقام كالمعهود.
5- إن طارقًا -وأكثر الجيش- من الأمازيغ البربر؛ مما يجعل من المناسب أن يخاطبهم بلغتهم؛ إذ ليس من المتوقَّع أن تكون لغتهم العربية قد وصلت إلى مستوًى عالٍ.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]مسألة حرق السفنقبل الانتقال إلى ما بعد وادي بَرْبَاط، لا بدَّ لنا من وقفةٍ أخرى؛ أمام قضية اشتهرت وذاع صيتها كثيرًا في التاريخ الإسلامي بصفةٍ عامَّةٍ، والتاريخ الأوربي بصفةٍ خاصةٍ، وهي قضية حرق طارق بن زياد للسفن التي عَبَر بها إلى بلاد الأندلس قبل موقعة وادي بَرْبَاط مباشرة.
فما حقيقة ما يُقال من أن طارق بن زياد أحرق كل السفن التي عبر عليها؟ وذلك حتى يُحَمِّس الجيش على القتال، وقد قال لهم: البحر من ورائكم والعدوُّ من أمامكم، فليس لكم نجاة إلاَّ في السيوف.
في حقيقة الأمر هناك من المؤرخين مَنْ يُؤَكِّد صحَّة هذه الرواية، ومنهم مَنْ يُؤَكِّد بطلانها، ونحن مع مَنْ يرى أنها من الروايات الباطلة؛ وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: أن هذه الرواية ليس لها سند صحيح في التاريخ الإسلامي؛ فعِلْمُ الرجال وعِلْمُ الجرح والتعديل الذي تميَّز بهما المسلمون عن غيرهم يُحيلانا إلى أن الرواية الصحيحة لا بُدَّ من أن تكون عن طريق أناس موثوق بهم، وهذه الرواية لم تَرِدْ قطُّ في روايات المسلمين الموثوق بتأريخهم، وإنما أتت إلينا من خلال المصادر والروايات الأوربية التي كتبت عن معركة وادي بَرْبَاط.
ثانيًا: أنه لو حدث وأحرق طارق هذه السفن بالفعل لتطلَّب ذلك ردَّ فعل من قِبَل موسى بن نصير أو الوليد بن عبد الملك استفسارًا عن هذه الواقعة، أو حوارًا بين موسى بن نصير وطارق بن زياد حول هذه القضية، أو تعليقًا من علماء المسلمين عن جواز هذا الفعل من عدمه، وكل المصادر التاريخية التي أوردت هذه الرواية وغيرها لم تذكر على الإطلاق أي ردِّ فعل من هذا القبيل؛ مما يُعطي شكًّا كبيرًا في حدوث مثل هذا الإحراق.
ثالثًا: أن المصادر الأوربية قد أشاعت هذا الأمر؛ لأن الأوربيين لم يستطيعوا أن يُفَسِّروا كيف انتصر اثنا عشر ألفًا من المسلمين الرجَّالة على مائة ألف فارس من القوط النصارى في بلادهم وفي عقر دارهم، وفي أرض عرفوها وألِفوها؟! ففي بحثهم عن تفسيرٍ مقنعٍ لهذا الانتصار الغريب قالوا: إن طارق بن زياد قام بإحراق السفن لكي يضع المسلمين أمام أحد أمرين: الغرق في البحر من ورائهم، أو الهلاك المحدق من قِبَل النصارى من أمامهم، وكلا الأمرين موت محقَّقٌ؛ ومن ثَمَّ فالحلُّ الوحيد لهذه المعادلة الصعبة هو الاستماتة في القتال؛ للهروب من الموت المحيط بهم من كل جانب؛ فكانت النتيجة الطبيعية الانتصار، ولو كانوا يملكون العودة لكانوا قد ركبوا سفنهم وانسحبوا عائدين إلى بلادهم.
وهكذا فسَّر الأوربيون النصارى السرَّ الأعظم -في زعمهم- في انتصار المسلمين في وادي بَرْبَاط، وهم معذورون في ذلك؛ إذ لم يفقهوا القاعدة الإسلامية المشهورة والمسجَّلة في كتاب الله U والتي تقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
فالناظر في صفحات التاريخ الإسلامي يجد أن الأصل هو أن ينتصر المسلمون وهم قلَّة على أعدائهم الكثيرين؛ بل ومن العجيب أنه إذا زاد المسلمون على أعدائهم في العدد، واغترُّوا بتلك الزيادة أن تكون النتيجة هي الهزيمة للمسلمين، وهذا هو ما حدث يوم حنين: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
ومن هنا فقد حاول الأوربيون -عن جهلٍ منهم وسوء طوية- أن يضعوا هذا التفسير وتلك الحُجَّة الواهية؛ حتى يُثبِتُوا أن النصارى لم يُهزَمُوا في ظروفٍ متكافئةٍ، وأن المسلمين لم ينتصروا إلاَّ لظروف خاصة جدًّا.
رابعًا: متى كان المسلمون يحتاجون إلى مثل تلك الحماسة التي تُحرق فيها سفنُهم؟! وماذا كانوا يفعلون في مثل هذه المواقف -وهي كثيرة- والتي لم يكن هناك سفن ولا بحر؟! فالمسلمون إنما جاءوا إلى هذه البلاد راغبين في الجهاد، طالبين الموت في سبيل الله؛ ومن ثَمَّ فلا حاجة لهم بقائد يُحَمِّسُهم بحرق سفنهم، وإنْ كان هذا يُعَدُّ جائزًا في حقِّ غيرهم.
خامسًا: ليس من المعقول أن قائدًا محنَّكًا مثل طارق بن زياد -رحمه الله- يُقدِمُ على إحراق سفنه، وقطع خطِّ الرجعة على جيشه، فماذا لو انهزم المسلمون في هذه المعركة، وهو أمر وارد وطبيعي جدًّا؟ ألم يكن من الممكن أن تحدث الكرَّة على المسلمين؛ خاصة وهم يعلمون قول الله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15- 16].
فهناك إذًا احتمال أن ينسحب المسلمون من ميدان المعركة؛ وذلك إمَّا متحرِّفين لقتال جديد، وإمَّا تحيُّزًا إلى فئة المسلمين، وقد كانت فئة المسلمين في المغرب في الشمال الإفريقي؛ فكيف إذًا يقطع طارق بن زياد على نفسه التحرُّف والاستعداد إلى قتال جديد، أو يقطع على نفسه طريق الانحياز إلى فئة المسلمين؟! ومن هنا فإنَّ مسألة حرق السفن هذه تُعَدُّ تجاوزًا شرعيًّا كبيرًا، لا يُقدِم عليه مثل طارق بن زياد –رحمه الله، وما كان علماء المسلمين وحُكَّامهم ليقفوا مكتوفي الأيدي حيال هذا الفعل إن كان قد حدث.
سادسًا: وهو الأخير في الردِّ على هذه الرواية أن طارق بن زياد كان لا يملك كل السفن التي كانت تحت يديه؛ فبعضها -كما ذكرتْ بعضُ الروايات[7]- أن يُليان صاحب سَبْتَة قد أعطاها له بأجرةٍ ليعبر عليها ثم يُعيدها إليه بعد ذلك؛ فيعبر بها يُليان إلى الأندلس -كما أوضحنا سابقًا- ومن ثَمَّ فلم يكن من حقِّ طارق بن زياد إحراق هذه السفن.
لكل هذه الأمور نقول: إن قصة حرق السفن هذه قصة مخْتَلَقة، وما أُشيعت إلاَّ لتُهَوِّن من فتح الأندلس وانتصار المسلمين.
طارق بن زياد يتوغل في بلاد الأندلس
بعد النصر الكبير الذي أحرزه المسلمون في وادي بَرْبَاط، تدفَّق الناس من المغرب والشمال الإفريقي إلى جيش طارق[8]، فتضخَّم جيش طارق إلى حدٍّ يصعب تقديره[9]، فوجد طارق بن زياد أن هذا الوقت هو أفضل الفرص لاستكمال الفتح وإمكان تحقيقه بأقل الخسائر؛ وذلك لِمَا كان يراه من الأسباب الآتية:
1- النتيجة الحتمية لانتصار اثني عشر ألفًا على مائة ألف؛ وهي الروح المعنوية العالية لدى جيش المسلمين.
2- ازدياد عدد الجيش المسلم بما انضمَّ إليه من المتطوعين في المغرب والشمال الإفريقي.
3- ما أصاب القوط النصارى من فقدان الثقة، التي تجسَّدت في انعدام الروح المعنوية.
4- وإضافة إلى انعدام الروح المعنوية فقد قُتِل من القوط النصارى وتفرَّق منهم الكثير؛ فأصبحت قوتهم من الضعف والهوان بمكانٍ.
5- وجد طارق بن زياد أن انتهاء لُذَرِيق المستبدِّ -قُتِلَ أو فرَّ هاربًا- عن الناس والتأثير فيهم فرصة كبيرة لأن يُعلِّم الناسَ دين الله ؛ ومن ثَمَّ فهم أقرب إلى قبوله والدخول فيه.
6- لم يضمن طارق بن زياد أن يظلَّ يُليان صاحب سَبْتَة على عهده معه مستقبلاً؛ ولذلك فعليه أن يستفيد من هذه الفرصة ويدخل بلاد الأندلس مستكملاً الفتح.
لهذه الأسباب أخذ طارق بن زياد جيشه بعد انتهاء المعركة مباشرة واتَّجه شمالاً؛ لفتح بقيَّة بلاد الأندلس، قاصدًا طُلَيْطلَة عاصمة القوط، التي كانت تُحضِّر لاختيار قائد جديد بعد اختفاء لُذريق، وفيها جرى التنافس بين أتباع لذريق وبين أتباع غِيطْشة.
[1] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص59، 61.
[2] الوَزَر: المَلْجَأ. الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الواو 2/845، وابن منظور: لسان العرب، مادة وزر 5/282، والمعجم الوسيط 2/1028.
[3] النَّجْوة: المكان المرتفع الذي تَظنُّ أنه نجاؤك. ويقال: هو بنجوة من هذا الأمر؛ بعيد عنه بريء سالم. 2/905.
[4] أي: لا تروا لأنفسكم فضلاً عليَّ، من رغب بنفسه عن فلان: رأى لنفسه عليه فضلاً. ابن منظور: لسان العرب، مادة رغب 1/422، والمعجم الوسيط 1/356.
[5] العِقْيان قيل: هو الذهب الخالص. وقيل: هو ما ينبُتُ منه نباتًا. ابن منظور: لسان العرب، مادة عقا 15/79.
[6] ابن خلكان: وفيات الأعيان 5/321، 322، والمقري: نفح الطيب 1/240، 241.
[7] ابن عذاري: البيان المغرب 2/6، والحميري: الروض المعطار ص35.
[8] المقري: نفح الطيب 1/259.
[9] حسين مؤنس: فجر الأندلس ص72.
[b] يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع | |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 4:27 pm | |
| الجزية في الإسلام[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]لا بُدَّ هنا -قبل استكمال مسيرة الفتح- من وقفة مع طبيعة الجزية في الإسلام؛ لبيان حقيقتها وما يُثار حولها من شبهات، فلم يكن المسلمون بدعًا بين الأمم حين أخذوا الجزية من البلاد التي فتحوها ودخلت تحت ولايتهم؛ فإنَّ أَخْذَ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أمرٌ حدث كثيرًا ويشهد به التاريخ، ورغم ذلك فقد كثر الكلام حول أمر الجزية في الإسلام، وحول دعوة القرآن لأخذها من أهل الكتاب؛ حتى رأى البعض أن الجزية هذه ما هي إلاَّ صورة من صور الظلم والقهر، والإذلال للشعوب التي دخلت تحت ولاية المسلمين، وفي هذا إجحاف كبير ومغايرة للحقيقة، نحن بصدد الكشف عنها وبيانها فيما يلي: أولاً: تعريف الجزية
الجزية في اللغة مشتقة من مادة ج ز ي بمعنى جَزاهُ بما صنع؛ تقول العرب: جزى يجزي، إذا كافأ عما أُسدي إليه، والجزية مشتقة من المجازاة على وزن فِعلة؛ بمعنى: أنهم أَعطَوْها جزاءَ ما مُنِحوا من الأمن[1].
وهي في الاصطلاح تعني: ضريبة يدفعها أهلُ الكتاب بصفة عامة -ويدفعها المجوس في آراء أغلب الفقهاء، والمشركون في رأي بعضهم- نظير أن يُدافع عنهم المسلمون، وإن فشل المسلمون في الدفاع عنهم تُرَدُّ إليهم جزيتُهم، وقد تكرَّر هذا في التاريخ الإسلامي كثيرًا.
ثانيًا: على مَنْ تُفرَضُ الجزية؟
من رحمة الإسلام وعدله أن خصَّ بالجزية طائفةً ومنع أخذها من آخرين؛ فهي:
- تؤخذ من الرجال ولا تؤخذ من النساء.
- تؤخذ من الكبار البالغين ولا تؤخذ من الأطفال.
- تؤخذ من الأصحاء ولا تؤخذ من المرضى وأصحاب العاهات غير القادرين على القتال.
- تؤخذ من الغني ولا تؤخذ من الفقير؛ بل إن الفقراء من أهل الكتاب النصارى واليهود والمجوس والمشركين قد يأخذون من بيت مال المسلمين؛ إن كانوا في بلد يُحكَم فيها بالإسلام.
أي أنها تُؤْخَذ من القادرين الذين يستطيعون القتال فقط، ولا تؤخذ حتى من القادرين الذين تفرَّغوا للعبادة.
ثالثًا: قيمة الجزية
فليُلاحِظ كلُّ مَنْ يطعن في أمر الجزية ويقول: إنها صورة من صور الظلم والقهر والإذلال للشعوب. خاصَّة حين يعلم أنها تُدفَع في مقابل الزكاة التي يدفعها المسلمون؛ وله أن يعلم -أيضًا- أن قيمة الجزية هذه أقلُّ بكثير من قيمة ما يدفعه المسلمون في الزكاة؟!
في هذا الوقت الذي دخل فيه المسلمون الأندلس كانت قيمة ما يدفعه الفرد ممن تنطبق عليه الشروط السابقة من الجزية للمسلمين دينارًا واحدًا في السنة؛ بينما كان المسلم يدفع 2.5٪ من إجمالي ماله إن كان قد بلغ النصاب وحال عليه الحول، وفي حالة إسلام الذمِّيِّ تسقط عنه الجزية، وإذا شارك مع المسلمين في القتال دفعوا له أجره، فالمبالغ التي كان يدفعها المسلمون في الزكاة كانت أضعاف ما كان يدفعه أهل الكتاب وغيرهم في الجزية -تلك الزكاة التي هي نفسها أقل من أي ضريبة في العالم- فهناك مَنْ يدفع 10 و20٪ ضرائب، بل هناك مَنْ يدفع 50 وأحيانًا 70٪ ضرائب على ماله؛ بينما في الإسلام لا تتعدَّى الزكاة 2.5٪؛ فالجزية كانت أقلَّ من الزكاة المفروضة على المسلمين؛ وهي بهذا تُعَدُّ أقلَّ ضريبةٍ في العالم، بل كانت أقلَّ بكثير مما كان يفرضه أصحاب الحُكْم أنفسُهم على شعوبهم وأبناء جِلْدَتهم.
وفوق ذلك فقد أمر الرسول(صلى الله عليه وسلم) ألاَّ يُكَلَّف أهلُ الكتاب فوق طاقاتهم، بل تَوَعَّد مَنْ يظلمهم أو يُؤذيهم؛ فقال: «أَلاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا[2]، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[3]. أي: أنا الذي أخاصمه وأحاجُّه يوم القيامة.
[1] الجوهري: الصحاح، باب الواو والياء فصل الجيم 6/2302، 2303، وابن منظور: لسان العرب، مادة جزي 14/145، والمعجم الوسيط 1/121، 122.
[2] المعاهد: أكثر ما يطلق على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب. انظر: المناوي: فيض القدير 6/153.
[3] أبو داود: كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات ( 3052)، والبيهقي (18511)، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (445).
| |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 4:31 pm | |
| فتوحات طارق بن ذياد فى الأندلس[color=darkblueطارق بن ذياد يتوغل فى الشمال فاتحاًcolor][b]
[color=darkredخط سير طارق بن ذياد إضغط على الرابط التالىcolor] [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] [b]انطلق طارق بن زياد بجيشه الرئيسي نحو طُلَيْطلَة، ووزع باقي الجيش -الذي كثر عدده- في سرايا إلى أنحاء الجزيرة المختلفة؛ توجَّه طارق بن زياد إلى مدينة إِسْتِجَة Ecija وهي -أيضًا- من مدن الجنوب، وكانت فلول القوط قد تجمَّعت بها واستعدَّت لمعركة أخرى مع المسلمين، ففتح في الطريق شَذُونَة ثم مورور، ثم في إِسْتِجَة قاتل المسلمون قتالاً عنيفًا، لكنه -بلا شَكٍّ- أقلُّ مما كان في وادي بَرْبَاط؛ فقد فَقَدَ النصارى معظم قوتهم في موقعة وادي بَرْبَاط، وقبل أن ينتصر المسلمون في أواخر المعركة فتح النصارى أبوابهم وصالحهم طارق على الجزية[1].
وثمة فارق كبير جدًّا بين أن يُصالح النصارى على الجزية، وبين أن يفتح المسلمون المدينة فتحًا؛ لأنه لو فتح المسلمون هذه المدينة فتحًا أي: بالقتال لكان لهم أن يأخذوا كل ما فيها، أمَّا إنْ صالح النصارى على الجزية؛ فإنهم يظلُّون يملكون ما يملكون ولا يدفعون إلاَّ الجزية، التي كانت تُقَدَّر آنذاك بدينارٍ واحد في العام.ومن إِسْتِجَة وبجيش لا يتعدَّى تسعة آلاف رجل بدأ طارق بن زياد بإرسال السرايا لفتح المدن الجنوبية الأخرى[2]، وانطلق هو بقوَّة الجيش الرئيسة في اتجاه الشمال؛ حتى يصل إلى طُلَيْطلَة عاصمة الأندلس آنذاك، فقد بعث بسرية إلى قُرْطُبَة، وسرية إلى غَرْنَاطَة، وسرية إلى مَالَقَة، وسرية إلى مُرْسِيَة، وهذه كلها من مدن الجنوب المنتشرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والمطلَّة على مضيق جبل طارق، وكان عدد الرجال في هذه السرايا لا يزيد على سبعمائة رجل، ومع ذلك فقد فُتحت قُرْطُبَة على قوتها وعظمتها بسرية من تلك التي لا تتعدَّى سبعمائة رجل؛ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، كذلك كانت الحملات الأخرى التي أرسلها إلى غَرْنَاطَة وإِلْبِيرة ومَالَقَة تفتح البلاد والمدن، وفتحت مُرْسِيَة وقاعدتها أوريولة صلحًا[3]. طارق بن زياد على أعتاب طُلَيْطلَة
وطُلَيْطِلَة مدينة قديمة من مدن إسبانيا تقع في وسط شبه جزيرة أيبريا على مسافة 91 كيلو مترًا جنوب غرب مدريد -العاصمة الإسبانية الحالية- ويُحيط بها نهر التاجو من جهات ثلاث في وادٍ عميق يسقي مساحات شاسعة من أراضيها.
وكان موسى بن نصير -رحمه الله- الذي اتَّسم بالحكمة والأناة- قد أوصى طارق بن زياد ألاَّ يتجاوز مدينة جَيَّان أو لا يتجاوز مدينة قُرْطُبَة، وأمره ألاَّ يُسرع في الفتح في طريقه إلى العاصمة طُلَيْطِلَة حتى لا يحوطه جيش النصارى[4].
لكن طارق بن زياد وجد أن الطريق إلى طُلَيْطِلَة مفتوحٌ أمامه، وليس فيه صعوبات تُذْكَر؛ فاجتهد رأيه، وعلى خلاف رأي الأمير موسى بن نصير وجد أن هذا هو الوقت المناسب لفتح طُلَيْطِلَة العاصمة، التي تُعدُّ أحصن مدن النصارى على الإطلاق؛ فهي محاطة بجبال من جهة الشمال والشرق والغرب، أمَّا الجهة الجنوبية -وهي الجهة المفتوحة- فقد كان عليها حصن كبير جدًّا، فرأى أنه إن هاجمها في هذه الفترة التي يُصيب النصارى فيها الضعف الشديد، فلن يستطيعوا معه مقاومة جيش المسلمين ويتمكَّن من فتحها، وهذا ما قد يتعذَّر بعد ذلك فلا يستطيع فتحها، وثبتت براعة طارق فقد فتحت المدينةُ أبوابها له، ودخلها دون قتال على قلَّة ما معه، وانعدام المدد من خلفه[5].
ثم لم يكتفِ طارق بفتح العاصمة، بل واصل الزحف شمالاً، فاخترق قشتالة وليون وطارد فلول القوط حتى أسترقة، فلجئوا إلى آخر الشمال الغربي عند جبال جيليقية الشامخة، وعبر طارق جبال أشتوريش استورياس حتى وصل إلى خليج غسقونية بسكونية على المحيط الأطلسي، فكانت هذه نهاية فتوحاته[6].
موسى بن نصير يأتي بالمدد
تَقَدُّمُ طارق بن زياد بهذه السرعة في بلاد الأندلس لم يَنَلْ قَبُولاً لدى موسى بن نصير؛ إذ وجد فيه تهوُّرًا كبيرًا لا يُؤْمَن عواقبه، وكان قد عُرِفَ عن موسى بن نصير الأناةُ والحكمةُ والصبرُ في كل فتوحاته في شمال إفريقيا حتى وصوله إلى المغرب؛ ومن ثَمَّ فقد بعث برسالة شديدة اللهجة إلى طارق بن زياد يأمره فيها بالكفِّ عن الفتح، والانتظار حتى يصل إليه؛ وذلك خشية أن تلتفَّ حوله الجيوش النصرانية.
وفي أثناء ذلك بدأ موسى بن نصير يُعِدُّ العُدَّة لإمداد طارق بن زياد بعد أن انطلق إلى هذه الأماكن البعيدة الغائرة في وسط الأندلس، فجَهَّز من المسلمين ثمانية عشر ألفًا[7]. من أين جاءوا؟
إن المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها قد انهمروا على أرض الأندلس حين علموا أن فيها جهادًا، فقد كان جُلُّ الاثني عشر ألف مسلم الذين فتحوا الأندلس مع طارق بن زياد من الأمازيغ البربر، أمَّا هؤلاء الثمانية عشر ألفًا فهم من العرب الذين جاءوا من اليمن والشام والعراق، اجتازوا كل هذه المسافة البعيدة حتى وصلوا إلى بلاد المغرب، ثم عبروا مع موسى بن نصير إلى بلاد الأندلس نصرةً ومددًا لطارق بن زياد.
[1] مجهول: أخبار مجموعة ص19، وابن عذاري: البيان المغرب 2/8، والمقري: نفح الطيب 1/260.
[2] مجهول: أخبار مجموعة ص19، والمقري: نفح الطيب 1/260، 261، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص72 وما بعدها، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص41 وما بعدها.
[3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/50.
[4] ابن كثير: البداية والنهاية 9/99، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 4/117، والمقري: نفح الطيب 1/223.
[5] مجهول: أخبار مجموعة ص23، 24، والمقري: نفح الطيب 1/264، 265.
[6] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/51.
[7] مجهول: أخبار مجموعة ص24. | |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| |
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| |
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| |
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| |
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| |
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 5:27 pm | |
| وقفات بعد معركة بلاط الشهداء[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]بعد استشهاد عبد الرحمن الغَافِقِيّ -رحمه الله- في موقعة بلاط الشهداء في منطقة بواتيه، وبعد هزيمة المسلمين فيها انسحب المسلمون، وتوقَّفت الفتوحات الإسلامية في هذه المنطقة، وقبل استكمال الطريق والخوض في تفاصيل ما حدث بعد بلاط الشهداء، هناك بعض النقاط المهمَّة، والتي نَوَدُّ الوقوف أمامها قليلاً.
أولها: لماذا لم يقمْ أهل الأندلس بالثورات رغم ضآلة الحاميات الإسلامية في الأندلس؟
كان قِوَامُ الجيش الإسلامي في بلاد الأندلس ثلاثين ألفَ مقاتلٍ، كان مع طارق بن زياد منهم اثنا عشر ألفًا[1]، وقد استُشهِد منهم في وادي بَرْبَاط ثلاثةُ آلافٍ، واستشهد مثلُهم في الطريق من وادي بَرْبَاط إلى طُلَيْطِلَة، فوصل طارق بن زياد إلى طُلَيْطِلَة بستة آلاف فقط من الرجال، ثم عبر موسى بن نصير بثمانية عشر ألفًا[2]، فأصبح قِوَام الجيش الإسلامي أربعة وعشرين ألف مقاتل، تمَّ توزيعهم على كل مناطق الأندلس الواسعة وبعض مناطق جنوب فرنسا، كحاميات إسلامية وفاتحين لمناطق أخرى لم تُفْتَح.
فلماذا لم يقم أهل هذه البلاد -على سَعَتِها- بالثورة على المسلمين، أو على الحاميات الإسلامية الموجودة فيها؛ رغم قِلَّتها الملحوظة التي لا تُقارَن بعدد السكان على الإطلاق؟!
ومثل هذا السؤال هو العجب كل العجب! فالسؤال الذي كان متوقعًا هو: لماذا يثور أهل الأندلس؟ وليس لماذا لم يثوروا؟ كان أهل الأندلس قبل دخول الإسلام يعيشون ظلمًا مريرًا وضنكًا شديدًا؛ تُنهب أموالهم وتُنتهك أعراضهم فلا يعترضون؛ حُكَّامهم في الثروات والقصور يتنعَّمُون، وهم لا يجدون ما يسدُّ الرمق، يزرعون الأرض وغيرُهم يأكل ثمارها، بل إنهم يُباعون ويُشترَوْن مع تلك الأرض التي يزرعونها.
فلماذا إذًا يثور أهل الأندلس؟! أيثورون من أجل هذا الذي أذاقهم العذاب ألوانًا؟! أم يثورون من أجل ظهور لُذريق جديد؟! أم يثورون من أجل ذكريات أليمة مليئة بالجوع والعطش، والنهب والسرقة، والظلم والتعذيب والتنكيل، والفساد والرشوة والجبروت؟!
ثم ماذا كان البديل المطروح؟ إنه الإسلام الذي حملته أرواح المسلمين الفاتحين، إنه الإسلام الذي حرَّم كل ما سبق، وجاء ليقول لهم: تعالَوْا أُعْطِكم بدلاً من الظلم عدلاً؛ ليس هبةً مني، لكنه حقٌّ لكم ولقومكم وأولادكم وذريتكم من بعدكم. إنه الإسلام الذي لم يُفَرِّق بين حاكم ومحكوم، فإن حدث لأيٍّ منكم مظلمة قام القاضي لا يُفَرِّق بين المسلم واليهودي والنصراني، أيًّا كان شكله أو لونه أو جنسه.
إنه الإسلام الذي لا يرفع من قيمة الأشخاص بقدر أموالهم أو صورهم أو أجسامهم؛ إنما بقدر أعمالهم، والأعمال متاحة للجميع الغني والفقير، الحاكم والمحكوم، إنه الإسلام الذي يقول فيه الحاكم لك: إِنْ كنتَ من المسلمين وكنت غنيًّا فلن تدفع إلاَّ 2.5٪ زكاةً لأموالك، إذا بلغت النِّصابَ، وحال عليها الحَوْلُ، وإن كنت فقيرًا فلن تدفع شيئًا، بل ستأخذ من بيت مال المسلمين إلى أن تغتني.
وإن كنت من غير المسلمين وكنت غنيًّا وقادرًا على القتال -وليس غيرَ ذلك- فستدفع جزيةً؛ هي أقل بكثير من زكاة المسلمين، نظير أن يُدَافعوا عنك، وإن هم فشلوا في الدفاع عنك فستُرَدُّ إليك أموالك.
إنه الإسلام خلاص الشعوب؛ وحين عرفه أهل الأندلس تمسَّكوا به، واعتنقوه اعتناقًا، ولم يرضَوْا عنه بديلاً؛ فكيف يحاربونه ويُضَحُّون بهذا النعيم المقيم في الدنيا والآخرة من أجل حياة المرارة والعذاب والذلِّ والحرمان؟!
ثانيًا: ولكن البعض سيقول: هل من المعقول أن كل أهل الأندلس أُعجبوا بهذا الدين؟! ألم يكن هناك ولو رجل واحد يُريد أن يثور ويعترض حبًّا في سلطان أو مصلحة كانت قد ضُيِّعَتْ عليه؟!
نقول: بلى؛ كان هناك كثير من الناس من أصحاب المصالح، الذين كان لهم أعوان كثيرون أرادوا أن يثوروا على حكم الإسلام؛ ليسترجعوا مجدهم، ويُحَقِّقوا مصالح كانت لهم، أمَّا لماذا لم يثوروا؟ فالجواب عنده في قوله: {لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13].
فلقد كانت للمؤمن زمنَ الفتوحات رهبة في قلوب النصارى واليهود، وفي قلوب المشركين بصفة عامَّة، فالله يُلقي على المؤمن جلالاً ومهابةً؛ فيخافه القريب والبعيد، يقول : «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ»[3]. ويقول : {فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: 2].
ولم يكن هذا الرعب بسبب بشاعة في الحرب، أو إجرام منقطع النظير، إنما كان هبة ربانية لجند الله ولأوليائه، فلم تكن حرب الإسلام إلاَّ رحمةً للناس كل الناس؛ فها هو ذا كما جاء في الحديث الشريف عن بُريدة t حين كان يُوَدِّع الجيوش فكان يخاطبهم؛ قائلاً: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا»[4].
وفي رواية: «وَلاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلاَ طِفْلاً صَغِيرًا وَلاَ امْرَأَةً»[5].
فأين هذا من حروب غير المسلمين مع المسلمين؟! أين هذا مِن قَتْلِ مائتي ألف مسلمٍ من المدنيين في البوسنة والهرسك وكوسوفا؟! أين هذا من فِعْل الروس في الشيشان، وفِعْل الهنود في كشمير، وفِعْل اليهود في فلسطين، وفِعْل أميركا في أفغانستان والعراق؟!
فرغم أن الرهبة والرعب أُلقِيَ في قلوب الأعداء، إلاَّ أن حروب المسلمين كانت رحمة للعالمين؛ حتى لقد سَعِدَ الذين لم يدخلوا في الإسلام من اليهود والنصارى في ظلِّ حكم الإسلام أيما سعادة؛ عملاً بقوله : {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
فقد تُركَتْ لهم كنائسُهم، وكان لهم قضاءٌ خاصٌّ بهم، ولم يُفَرَّق بين مسلم ونصراني ويهودي في مظلمة؛ فكان العجب حقًّا أن يثوروا، العجب كل العجب أن ينقلبوا على الإسلام، والعجب كل العجب أن يرفضوا حكم الإسلام وقد جاء من عند حكيم خبير، يَعْلَمُ ما يُصلِحُ كونَه وأرضه وعبيده؛ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].
ثالثًا: تساؤل البعض عن عوامل الهزيمة في بلاط الشهداء؛ إذ كيف تتعلق قلوب هذا الجيل القريب من عهد رسول الله r وصحابته -وهو جيل التابعين أو تابعي التابعين- بالغنائم وحب الدنيا؟! وكيف تظهر فيهم هذه العنصرية القبلية؟!
وللإجابة على الشقِّ الأول من هذا السؤال، نقول: إذا كانت هذه العوامل قد حدثت في سنة 114هـ=732م فإنها قد حدثت مع الصحابة y في عهد الرسول(صلى الله عليه وسلم) سنة 3هـ=625م وذلك في غزوة أُحُد، والتي نزل فيها قوله مخاطبًا الصحابة: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ} [آل عمران: 152]، وكأنَّ غزوة أُحُدٍ تُعيد نفسَها من جديد في بلاط الشهداء.
فقد نزلت هذه الآية في الصحابة y حين خالفوا أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ونزل الرماة وتركوا مواقعهم طلبًا للغنيمة، بعد أن تيقَّنوا من النصر، فكانت الهزيمة بعد النصر؛ حتى إن عبد الله بن مسعود t قال: ما كنتُ أحسب أنَّ مِنَّا مَنْ يُريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ} [آل عمران: 152][6].
وهكذا في بلاط الشهداء كانت الغَلَبَةُ للمسلمين في أول المعركة في أول يومين أو أول ثلاثة أيام، ثم لما التفَّ النصارى حول الغنائم يأخذونها -وكان قد وقع حبُّها في قلوب المسلمين- حدث الانكسار في الجيش ثم هُزِمُوا.
يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله : {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152]، يقول: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}؛ أي: لم يستأصلكم في هذه الموقعة، وأعطاكم الفرصة للقيام من جديد[7]. وهكذا في بلاط الشهداء، لم يُستَأْصَلِ الجيش الإسلامي، لكنه عاد وانسحب ليقوم من جديد.
وإذا جئنا إلى ما قبل أُحُد، وإلى الرَّعيل الأول من الصحابة y في غزوة بدر وجدنا -أيضًا- صورةً من صور بلاط الشهداء، وذلك حين انتصر المسلمون ثم اختلفوا على الغنائم؛ حتى إن سورة الأنفال التي نزلت بعد ذلك تُعَظِّم من هذا النصر المجيد قد بدأت بقوله : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]. وهو كلام له وَقْعُ السِّهَام على الصحابة، لكنه أمر قد حدث وهو أصيل في النفس البشرية.
ومن هنا فما حدث في بلاط الشهداء ليس بجديد؛ لأنه من عيوب النفس البشرية، وقد حدث مثله في بدر وفي أُحُد، لكن كان هناك اختلافٌ؛ فالرسول(صلى الله عليه وسلم) بعد غزوة أُحُد تدارك الأمر بسرعة؛ فحمَّس المسلمين على الجهاد، وذكَّرهم بالآخرة حتى قاموا في حمراء الأسد[8]، فكانت الغلبة وردُّ الاعتبار، أمَّا بعد بلاط الشهداء فلقد قام بالفعل رجل من المسلمين هو عقبة بن الحجاج -رحمه الله-، يُحَمِّسهم ويُشَجِّعهم، إلاَّ أنه لم تحدث موقعة بعد بلاط الشهداء كموقعة حمراء الأسد بعد أُحُد -يسترد فيها المسلمون اعتبارهم وثقتهم بأنفسهم.
كذلك اختلف الفريقان في أن معظم جيش المسلمين في بلاط الشهداء لم يرجع عن حبِّه للدنيا وتعلُّقه بها، أمَّا في أُحُد فقد قال عنهم : {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ} [آل عمران: 152]؛ ولذلك لم يَعُدِ المسلمون بعد بلاط الشهداء كما عادوا بعد أُحُد مباشرة.
ومن أَوْجُهِ الشبه الكبيرة -أيضًا- بين أُحُد وبلاط الشهداء أنه عندما أُشيع خبر وفاة الرسول(صلى الله عليه وسلم) في أُحُد حدث الانكسار[9]، وانهزم المسلمون وفرُّوا، وكذلك بالنسبة لبلاط الشهداء، فحينما قُتِلَ عبدُ الرحمن الغافقي -رحمه الله- انسحب المسلمون، وانكمشوا على أنفسهم إلى الداخل، وهنا تكمن العبرة والعِظَة من أحداث المسلمين المتكرِّرة وشديدة التشابه.
مشكلات القومية والعنصرية
وهي الشق الثاني من السؤال، وكسابقتها فإن مسألة القومية والعنصرية كانت قد ظهرت -أيضًا- في عهد الرسول ، وهذا لا يُعَدُّ قَدْحًا في هذا العهد أو في هؤلاء الصحابة، بقدر ما هو بيانٌ لأمور فُطِرَت وجُبِلَت عليها النفسُ الآدمية، لكن فرقٌ بين أن تعود هذه النفس إلى طريق بارئها وبين أن تتمادى في غيِّها.
ولعلَّنَا نذكر هنا تلك الحادثة المشهورة التي حدثت بين أبي ذرٍّ t وبين بلال بن رباح t؛ حين عيَّره أبو ذرٍّ بأُمِّه في خلاف بينهما؛ قائلاً لبلال: يابن السوداء.
فذهب بلال إلى رسول الله مغاضبًا يحكى له ما حدث، فما كان من الرسول(صلى الله عليه وسلم) إلاَّ أن غضب غضبًا شديدًا، وقال لأبي ذرٍّ: «طَفُّ الصَّاعِ[10]، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ[11]، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلْ وَلْيُلْبِسهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»[12].
والعبرة هنا بردِّ فعل أبي ذرٍّ t حيال هذا الغضب من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وحيال هذا الذنب الذي اقترفه، فما كان من أبي ذرٍّ إلاَّ أن وضع رأسه على التراب مُصرًّا على أن يطأ وجهَه بلالٌ t بقدمه؛ حتى يُكَفِّر عن خطيئته تلك، وكان رَدُّ فعل بلال tأن غفر لأبي ذرٍّ، ورفض أن يطأ وجهه، وقد حدث مثل هذا -أيضًا- بين الأوس والخزرج، حين فَتَنَ بينهم شاسُ بن قيس، فقالت الأوس: يا لَلأَوس. وقالت الخزرج: يا لَلْخَزرج. وحينها قال الرسول : «اللهَ اللهَ! أَبْدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرْكُمْ، دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»[13].
وليس أدل على تلك القَبَلِيَّة مما حدث بمجرَّد وفاة الرسول(صلى الله عليه وسلم) من فتنة بني حنيفة، واجتماع الناس حول مُسَيْلِمَة الكَذَّاب، حتى سُئِلَ رجلٌ من أتباع مُسَيْلِمَة: أتعلم أن محمدًا صادق ومسيلمة كاذب؟ فأجاب قائلاً: والله أعلمُ أنَّ محمدًا صادق، وأن مسيلمةَ كاذب، ولكنَّ كاذب بني ربيعة، أحبُّ إليَّ من صادق مضر[14]. هكذا كانت النظرة قَبَلِيَّة تمامًا في نظر هذا الرجل، ولو لَمَسَ الإيمانُ قلبَه ما قال مثل قولته هذه.
إذًا فقد ظهرت العنصرية والقبلية منذ عهد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، إلاَّ أن الرسول(صلى الله عليه وسلم) كان يتدارك هذا الأمر بسرعة، ويُحَفِّز الناس بالإيمان ويُقَرِّبهم إلى ربهم، ويُذَكِّرهم بالآخرة: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]. فسرعان ما يتجاوزون ما حدث ولا يعودون، متذكِّرين قوله في كتابه الكريم: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 101- 103]. ولاية عبد الملك بن قطن الفهري 114-116هـ
وصلت أنباء فاجعة بلاط الشهداء واستشهاد عبد الرحمن الغَافِقِيّ -رحمه الله- إلى عبيدة بن عبد الرحمن القيسي والي إفريقية، فبعث إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك -رحمه الله- يُخبره بولاية عبد الملك بن قَطَن على الأندلس فأقَرَّه الخليفة عليها، وكان ذلك في رمضان وقيل: شوال عام 114هـ=732م [1].
ظلم وجهاد
كان همُّ عبد الملك بن قطن تثبيت أمر المسلمين في المناطق الفرنسية، التي بدأت تتهاوى بعد بلاط الشهداء، وقد نجح في ذلك بعزمه، وبانفضاض سكان الجنوب عن الولاء لشارل مارتل -الذي كان يُعاملهم بظلم وعسف ويطلق فيهم يد جنوده- وبغزوات قائده في أرْبُونَة يوسف الفهري[2]، ومع جهاده هذا إلاَّ أنه كان ظلومًا جائرًا عنيفًا سيِّئ السياسة، فلم يجد والي إفريقية عبيد الله بن الحبحاب بُدًّا من عزله؛ بعد أن كثرت شكاوى الأندلسيين منه، فكان عزله في رمضان 116هـ=734م، بعد سنتين من ولايته الأولى[3].[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]عقبة بن الحجاج 116-123هـ:اختار عبيد الله بن الحبحاب لولاية الأندلس مجاهدًا فذًّا يُسَمَّى عقبة بن الحجَّاج السلولي -رحمه الله، الذي تولَّى من سنة 116هـ=734م إلى سنة 123هـ=741م [4].
وقد خُيِّر عقبة بين إمارة إفريقية بكاملها كل الشمال الإفريقي وبين إمارة الأندلس، ففَضَّلَ إمارة الأندلس؛ لأنَّها أرض جهاد؛ لملاصقتها لبلاد النصارى[5]. قال ابن عذاري: «أقام عقبة بالأندلس بأحسن سيرة وأجملها، وأعظم طريقة وأعدلها»[6]. وقال المقَّرِي: «وَوَليَ عقبة بن الحجاج السَّلُولي من قِبَل عبيد الله بن الحبحاب، فأقام خمس سنين محمودَ السيرة، مجاهدًا مظفَّرًا»[7].
فتوحاته
وقد قام عقبة بن الحجاج -رحمه الله- خلال سنوات إمارته السبع بأكثر من سبع حملات داخل فرنسا، وكان ينزل إلى الأسرى بنفسه يُعَلِّمهم الإسلام؛ حتى إنه أسلم على يديه ألف من الأسرى[8]، وقد قال رسول الله : «لأَنْ يَهْدِي اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»[9]. فكيف بألفٍ؟!بدأ عقبة بن الحجاج -رحمه الله- يُعيد أمجاد الجهاد الإسلامي في بلاد فرنسا، فثبَّت أقدام المسلمين في بروفانس -جنوب شرقي فرنسا، وأقام فيها الرباطات[10]، واستولى عقبة على بلاد الدوفينيه -شرقي ليون، وفتح مدينة سان بول[11]، وفتح –رحمه الله- مدينة أرْبُونَة عاصمة مقاطعة سبتمانيا، وقرقشونة إحدى مدنها[12]، واتسعت فتوحات المسلمين حتى وصلت إلى مقاطعة بيدمونت بشمال إيطاليا[13].
وواصل عقبة جهاده لإقرار الفتح في المدن الأندلسية لا سيما في الشمال الغربي في أرض جيليقية، التي لم تكن فُتحت حتى الآن، وبلغ في ذلك غاية ما يستطيع، إلاَّ أنه واجه -والحق يقال- بسالة نادرة، حتى ليروي صاحب «أخبار مجموعة» أنه «لم تبقَ في جيليقية قرية لم تُفتح غير الصخرة، فإنه لاذ بها ملك يقال له: بِلاي، فدخلها في ثلاثمائة رجل، فلم يزل يقاتلونه ويغاورونه حتى مات أصحابه جوعًا، وترامت طائفة منهم إلى الطاعة، فلم يزالوا ينقصون حتى بقي في ثلاثين رجلاً ليست معهم عُشْر نَسوة[14] فيما يقال، إنما كان عيشهم بالعسل، ولاذوا بالصخرة فلم يزالوا يتقوتون بالعسل معهم جِبَاح النحل[15] عندهم في خروق الصخرة. وأعيا المسلمين أمرُهم، فتركوهم وقالوا: ثلاثون عِلْجًا ما عسى أن يكون أمرهم، واحتقروهم، ثم بلغ أمرهم إلى أمر عظيم»[16].
ولقد ظلَّ عقبة بن الحجاج -رحمه الله- مجاهدًا حسن السيرة بين جنده إلى أن استشهد سنة 123هـ=741م [17]، وباستشهاده تكون قد انتهت الفترة الأولى من عهد الولاة. | |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 5:30 pm | |
| ثورات الخوارج في المغرب والأندلس الفترة الثانية من عهد الولاة
ثورات الخوارج في المغرب والأندلستبدأ هذه الفترة سنة 123هـ=741م وحتى سنة 138هـ=755م [1]، وقد شهدت هذه الفترة حروبًا كثيرة ونزاعات متجدِّدة تحكَّمت فيها العصبيات القبلية والعنصرية البغيضة، التي اتخذها ولاة الأندلس في ذلك الحين دَيْنًا لهم في تعاملهم؛ سواء مع العرب أو الأمازيغ (البربر)؛ مما أدَّى إلى ظهور ثورات متعدِّدة، ودخول أفكار جديدة لم تعهدها الأندلس من قبلُ.
ثورات الخوارج بالمغرب
بوفاة عقبة بن الحجاج -رحمه الله- آلت ولاية الأندلس إلى عبد الملك بن قَطَن الفِهْرِيّ مرَّة ثانية 123هـ=742م [2]، وقد حفلت ولايته الثانية هذه بأحداث جسام، كادت أن تعصف بالإسلام في الأندلس كلية، كان أخطرها تجدُّد الصراع العنصري البغيض بين العرب والأمازيغ البربر، وظهور طائفة الخوارج، الذين أشعلوا أُوَار[3] الحرب وقادوا الثورة على عمال بني أمية، الذين أساءوا استعمال السلطة والمعاملة مع الأمازيغ (البربر)؛ مما أتاح للأمازيغ (البربر) اعتناق تلك الأفكار الخارجة عن الدين؛ فقد وجدوا فيها مناصًا لنيل حقوقهم المغتصبة من جَوْر الولاة[4].
بدأت الفتنة الأمازيغية (البربرية) الكبرى في المغرب العربي على يد الخوارج، الذين تغلغلوا في صفوف الأمازيغ البربر ونشروا تعاليمهم، التي لاقت قبولاً واسعًا في المجتمع الأمازيغي البربري، الذي يُعاني من ظلم الولاة، فخرجوا بقيادة زعيمهم ميسرة المطغري –أو المدغري- على حاكم طَنْجَة عمر بن عبد الله المُرَادِيّ وقتلوه، وزحفوا إلى بلاد السوس في الغرب وقتلوا عاملها إسماعيل بن عبيد الله[5]، كان لكل هذا وقع الصدمة على عبيد الله بن الحبحاب والي إفريقية، فجمع جموعه وجيَّش جيوشه؛ ليتدارك الأمر قبل فواته وتعاظم قوَّة الخارجين عليه، فالتقى الفريقان من العرب والأمازيغ البربر عند وادي شليف، وكانت الهزيمة المنكرة للعرب؛ فقد قُتِلَ فيها أشرافهم وفرسانهم وأبطالهم؛ لذلك سميت بمعركة الأشراف وذلك سنة 123هـ=742م [6].
وبلغت أخبار الهزيمة الخليفة هشام بن عبد الملك، فغضب غضبته الشهيرة؛ وقال: «والله! لأغضبنَّ لهم غضبة عربية، ولأبعثنَّ لهم جيشًا أوله عندهم وآخره عندي»[7]. فعزل هشامُ بن عبد الملك عبيدَ الله بن الحبحاب، واستقدمه في جمادى الآخرة سنة 123هـ، وبعث كلثوم بن عياض القُشَيْرِيّ على رأس جيش بلغ ثلاثين ألفًا، وعَهِد له بولاية إفريقية وضَبْط أمورها، وجعل معه ابن أخيه بَلْج بن بشر القُشَيْرِيّ، وثعلبة بن سلامة العَامِلِيّ[8]، واستعدَّ الجيشان العربي بقيادة كلثوم بن عياض والأمازيغي البربري بقيادة خالد بن حميد الزَّنَاتِيّ، واقتتلوا قتالاً شديدًا، لكن دارت الدائرة على العرب، وقُتِلَ قائدهم كلثوم بن عياض، واستطاع بَلْج بن بشر أن ينجو بنفسه وبعضًا من جنده، وتحصَّنوا بمدينة سَبْتَة، وفرض الأمازيغ البربر الحصار على بَلْج ومَنْ معه لمدَّة سنة كاملة 123، 124هـ، وكانوا طوال هذا العام يستغيثون بعبد الملك بن قَطَن والي الأندلس، ولكن بلا مجيب[9]! ثورات الخوارج في الأندلس
ويبدو أن عَدْوَى الخروج على الحكَّام انتقلت إلى الأندلس، فلم تلبث الثورة أن انتقلت إلى أمازيغ بربر الأندلس، الذين أعلنوا العصيان، وبدءوا بجِلِّيقِيَّة وأستورقة في الشمال الغربي للأندلس حيث الكثافة الأمازيغية البربرية، فقتلوا العرب وطردوهم من البلاد، إلاَّ ما كان من سَرَقُسْطَة فقد كانت الغلبة فيها للعرب[10].
وبعد أن ثَبَّت الأمازيغ البربر أقدامهم في تلك المناطق، زحفوا باتجاه المدن الكبرى للسيطرة عليها من خلال ثلاثة جيوش، وَفْقَ خُطَّة ذكية أدركت مواطن الضعف في الولاية الأندلسية، وعملت على استغلالها:
الأول: إلى طُلَيْطِلَة عاصمة الثغر الأدنى.
الثاني: إلى قُرْطُبَة عاصمة الأندلس.
الثالث: إلى الجزيرة الخضراء في أقصى الجنوب للبلاد.
وأمام هذا الزحف الأمازيغي البربري لم يجد عبد الملك بن قَطَن بُدًّا من الاستعانة ببَلْج وأصحابه المحاصرين في سَبْتَة، وقد كان لا يرضى أن يُغيثهم، ولا يرضى أن يُنزلهم الأندلس حتى أكلتهم المجاعة، فبعث إليهم بالسفن والمئونة، وسمح لهم بالعبور إلى الأندلس؛ لإخماد الثورة الأمازيغية البربرية، التي كادت أن تعصف به[11]، وكانت المواجهة الأولى بين بَلْج بن بشر والجيش الأمازيغي البربري الثالث المتجه ناحية الجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس، وقد وقعت المعركة في ذي القعدة من عام 113هـ على مقربة من شَذُونَة، وأثبت فيها الجنود الشاميون بقيادة بَلْج بن بشر شجاعة وإقدامًا، رجَّحت كِفَّة النصر فيها للعرب، وفي التوقيت نفسه كانت قُرْطُبَة تصدُّ هجمات الجيش الأمازيغي البربري الثاني، وبمجرَّد أن انتصر بَلْج بن بشر على الجيش الثالث لحق بقُرْطُبَة فقاتل مع عبد الملك بن قَطَن الجيشَ البربري الثاني، فهزماه هزيمة ساحقة، حتى لم يبقَ من الأمازيغ البربر إلاَّ الشريد، الذي لحق بالجيش الأول المحاصر لطُلَيْطِلَة، وهناك عند وادي سليط جرت معركة طاحنة سُحق فيها الجيش الأمازيغي البربري الأول، وسُحقت ثورتهم، وتشتَّت جمعهم، وتفرَّقوا في البلاد، ولم تقم لهم بعدها قائمة[12].
[1] بيان ذلك في ثبت الولاة كما هو عند المقري: نفح الطيب 1/298-300، وذكر الولاة كما هو ترتيب ابن عذاري في البيان المغرب 2/22-38.
[2] ابن عذاري: البيان المغرب 2/30، والمقري: نفح الطيب 1/236، وانظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص35، وفيه يقول: إن ولايته سنة 21هـ، وكذلك في البيان المغرب 1/53.
[3] الأوار: حر الشمس والنار والدخان واللهب. ابن منظور: لسان العرب، مادة أور 4/35، والمعجم الوسيط 1/32.
[4] انظر في تفاصيل ذلك حسين مؤنس: فجر الأندلس ص170-173، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص79، 80.
[5] مجهول: أخبار مجموعة ص34، 35، وابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها 1/237، وابن عذاري: البيان المغرب 1/52.
[6] ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها 1/237، وابن عذاري: البيان المغرب 1/53.
[7] ابن عذاري: البيان المغرب 1/54.
[8] مجهول: أخبار مجموعة ص36، وابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها 1/239، وابن عذاري: البيان المغرب 1/54، 55، 2/30، والمقري: نفح الطيب 3/20.
[9] مجهول: أخبار مجموعة 37-42، وابن عذاري: البيان المغرب 1/55، 56، 2/30، والمقري: نفح الطيب 3/20، 21.
[10] مجهول: أخبار مجموعة ص42.
[11] مجهول: أخبار مجموعة ص42، 43، وابن عذاري: البيان المغرب 2/30، 31.
[12] انظر تفصيل ذلك عند مجهول: أخبار مجموعة ص43، 44، وابن عذاري: البيان المغرب 2/31، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص174، 176، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص86، 87.
مقتل عبد الملك بن قطن
خرج عبد الملك بن قَطَن مظفَّرًا بعد أن أنهى ثورة الأمازيغ (البربر) في الأندلس، ولكنه لم يطمئن على سلطانه ما دام بَلْج بن بشر وجنوده الشاميون في الأندلس، وكانت هواجس ابن قَطَن في محلِّها، فعندما عرض على بَلْج الجلاء من الأندلس، طبقًا لما اتفقا عليه قبل دخول بَلْج الأندلس، رفض بَلْج بن بشر وجنوده الشاميون أن يعودوا مرَّة أخرى إلى المغرب بعدما أنقذوا الأندلس وابن قَطَن، وقال بَلْج بأنه ولي الأندلس بعهد من عمِّه كلثوم بن عياض، الذي ولاَّه الخليفة أمر المغرب، وأيَّده في هذا ثعلبة بن سلامة، وتنادوا بخلع ابن قطن وتولية بلج، فانحازت إليهم العرب اليمانية في الأندلس، وهجموا على ابن قَطَن -الذي كان قد قارب التسعين من العمر- في قصره بقُرْطُبَة، واعتقلوه ثم صلبوه، وذلك في ذي القعدة 123هـ= سبتمبر 741م[1].
العصبية القبلية بين القيسية واليمنية
العصبية القبليةكان لمقتل عبد الملك بن قَطَن ردُّ فعل مؤلم ومؤثِّر، ألهب مشاعر الحقد والضغينة، وجدَّد الصراع بين القيسية واليمنية؛ فقد توجَّهت جموع المتحالفين مع قَطَن وأمية ابنا عبد الملك بن قَطَن نحو قُرْطُبَة، ودارت بينهم وبين الشاميين معركة ضارية عند أقوة برطورة في شوال (124هـ=742م)، قاتل فيها الشاميون قتالَ مَنْ يطلب الموت دون الحياة؛ فهي معركة مصيرية بالنسبة لهم، فهم إمَّا أن يكونوا بعدها أو ألاَّ يكونوا؛ لذلك كان النصر حليفهم، وفيها أُصيب بَلْج بن بشر بسهم، تسبَّب في موته بعدئذٍ، واختار الشاميون بعده ثعلبة بن سلامة العَامِلِيّ أميرًا عليهم[2].
في هذه الأثناء تجمَّعت جموع المتحالفين مرَّة أخرى ناحية قُرْطُبَة للقضاء على الشاميين، فخرج لهم ثعلبة بن سلامة وجنده إلاَّ أنه هُزم هزيمة منكرة، وانسحب إلى مَارِدَة وتحصن بها، وصادف ذلك عيد الأضحى (10 ذي الحجة 124هـ)، فأحكموا الحصار على الشاميين، واطمأنُّوا إلى النصر وغرَّهم ما هم فيه من القوة، وشعر ثعلبة بذلك؛ فأرسل إلى عامله على قُرْطُبَة يستنجده ويطلب منه المساعدة العسكرية، فوصلت المساعدة من قُرْطُبَة في صبيحة عيد الأضحى، واستغلَّ ثعلبة انشغال المحاصرين عنه باحتفالاتهم، فباغتهم بالهجوم، وكانت مقتلة عظيمة، دفع فيها المتحالفون عليه الثمن باهظًا، ولم يتورَّع الشاميون عن القتل، ولا عن استرقاق أسراهم من الرجال والنساء والأطفال، البالغ عددهم عشرة آلاف أو يزيد، وقد حملهم ثعلبة إلى قُرْطُبَة، وهو يُريد أن يقتلهم جميعًا[3]، إلاَّ أن حنظلة بن صفوان -والي إفريقية للخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك- بعث أبا الخطَّار حسام بن ضرار الكلبي لإنقاذ الموقف في الأندلس، بعد أن كادت العصبية القبلية تعصف به، وذلك في رجب سنة (125هـ=743م)، وقد رضي البلديون والشاميون به[4].
أبو الخطار حسام بن ضرار
وصل أبو الخطَّار على رأس الطالعة الثانية من الشاميين للأندلس بعد طالعة بَلْج بن بشر الأولى، فأظهر العدل والإنصاف، وأطلق سراح الأسرى والسبي، وتوحَّدت كلمة المسلمين في الأندلس، وأنزل أهل الشام في الكُوَرِ، ومن هنا عاد الاستقرار والهدوء النسبي إلى الأندلس حينًا[5].
ولكن يبدو أن داء العصبية والقبلية كان متجذِّرًا في النفوس آنذاك، فما هي إلاَّ أيام حتى غلبت النزعة القبلية على أبي الخطَّار وهو يمني متعصب، ووصلت به عصبيته إلى أن تحاكم إليه يمني وقيسي، وكان القيسي أبلغ حُجة من اليمني، ولكن غلبت عليه عصبيته فحكم لليمني، فما كان للقيسي إلاَّ أنه ذهب إلى زعيم قومه القيسية وهو الصَّمِيل بن حاتم؛ ليطلب حقَّه المسلوب، فذهب الصَّمِيل إلى أبي الخطَّار، فأهان أبو الخطَّار الصَّمِيلَ، وضربه حتى اعوجَّت عمامته، فقال له بعض الحجَّاب وهو خارج من القصر: أقم عمامتك يا أبا الجَوْشَن. فقال: إن كان لي قوم فسيُقِيمُونها[6]. وكان ذلك إيذانًا باشتعال أُوَار الحرب مرَّة أخرى بين القيسية واليمنية.
الصميل بن حاتم
استطاع الصَّمِيل بن حاتم أن يجمع قومه، وأن يستقطب بعض الشخصيات اليمنية الساخطة على أبي الخطَّار من اللخميين والجُذَاميين، كان منهم ثَوَابَة بن سلامة العَامِلِيّ الجُذَامي، الذي وعده الصَّمِيل بالولاية إن هو انتصر على أبي الخطَّار[7].
وعجل أبو الخطَّار إلى لقاء الصَّمِيل وقومه القيسية، وكان اللقاء عند وادي لكة في رجب 127هـ= إبريل 745م[8]، وقد تفرَّق جمع أبي الخطَّار بعد أن تقاعس الكلبيون عن قتال بني عمومتهم من اللخميين والجُذَاميين، ووجد أبو الخطَّار نفسه وحيدًا، فعزم على الفرار إلى قُرْطُبَة، ولكن الصَّمِيل قبض عليه وسجنه وخلعه، وولَّى مكانه ثَوَابَة بن سلامة الجُذَامي عام (128هـ=745م)[9]، فاجتمع رجال اليمنية من أنصار أبي الخطَّار لنصرته، واستطاعوا التغلُّب على حُرَّاسه، وأخرجوه من سجنه بقُرْطُبَة، فأقام بين قبائل كلب وحمص، واعترفوا به واليًا شرعيًّا على الأندلس، وبدأ أبو الخطَّار يأخذ خطوات عملية نحو استعادة مُلكه الضائع، الذي سلبه منه القيسية بزعامة الصَّمِيل، وتوجَّه بجموعه إلى قُرْطُبَة ليأخذها، فخرج إليه ثَوَابَة بن سلامة، فتفرَّق الناس عن أبي الخطَّار، وانسحب بجيشه، ليُعِيدَ الكرة مرَّة أخرى[10].
ولم ينعم ثَوَابَة بن سلامة بمُلك الأندلس طويلاً؛ فقد وافاه الأجل بعد عام من ولايته في المحرم (129هـ=746م)، وبقيَت الأندلس أربعة أشهر بعده دون والٍ، مع أن الصَّمِيل يستطيع أن يُنَادي بنفسه واليًا، إلاَّ أنه لم يفعل، واكتفى برصد اللعبة السياسية وإدارتها من وراء الستار[11].
وقد تميزت هذه الفترة من عهد الولاة بكثرة المرشَّحين للولاية، ولكلٍّ منهم أتباعه، فهذا أبو الخطَّار الكلبي، وهذا يحيى بن حريث الجُذَامي، وهذا عمرو بن ثَوَابَة مدعيًا أنه أحق بالولاية بعد أبيه، وفوق ذلك كله كان عقل الصَّمِيل بن حاتم وتدبيره، وليس أدلَّ على ذلك قوله: «نُقَدِّم رجلاً يكون له الاسم ويكون لنا الحظُّ»[12]. الصميل بن حاتم ويوسف الفهري
اشتد النزاع بين الأطراف المتنازعة على الولاية، وبدا كل منهم متمسكًا برأيه وأحقيته، محتميًا بقومه وعشيرته، وفي هذا الجوِّ المشحون بالعصبية، التي تُفضي إلى التقاتل والتناحر، توصَّل الصَّمِيل إلى حلٍّ يقضي بتقاسم السلطة بين القيسيين واليمنيين على شكل تعاقب سنوي في الحكم[13]، واقتنع الطرفان، وبقيت المشكلة في أول والٍ للأندلس، وقد بادر القيسية بقيادة الصَّمِيل إلى تقديم شخصيتهم الأولى؛ فاقترح الصَّمِيل أن يكون يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِيّ هو أول الولاة، واستطاع الصَّمِيل أن يُرْضِيَ يحيى بن حريث؛ فأعطاه كورة ريَّة فرضي بها وقنع، ووقع الاتفاق بين القيسية واليمنية على يوسف الفِهْرِيّ في جمادى الأولى (229هـ=747م)، على أن يجتمع القوم بعد عام ليختاروا الشخصية اليمنية التي ستلي الأمر بعد يوسف الفِهْرِيّ[14].
معركة شقندة
وما أن استقرَّ الأمر في الأندلس، حتى عزل الصَّمِيل يحيى بن حريث الجُذَامي عن كورة ريَّة، حتى لا تقوى شوكته مرَّة أخرى ويكثر أنصاره من اليمنية؛ فاشتدَّ غضب يحيى بن حريث لهذا القرار، وسارت رُوح العصبية مرَّة أخرى، ووضع يحيى بن حريث يده في يد أبي الخطَّار، فاجتمعت كلمة الجُذَامِيين والكلبيين وباقي اليمنية في الأندلس لمناصرة يحيى بن حريث، واجتمعت كلمة مضر وربيعة لمناصرة يوسف الفِهْرِيّ والصَّمِيل بن حاتم[15].
وزحف أبو الخطَّار ويحيى بن حريث ناحية قُرْطُبَة، وعسكر الجيش عند نهر قُرْطُبَة (الوادي الكبير) عند قرية شقندة، وعبر الصَّمِيل والفِهْرِيّ وجنودهما إليهما، ودارت معركة شقندة (130هـ=747م)[16]، وقد استمرَّ القتال سجالاً بين الفريقين، حتى استعان الصَّمِيل بعَوَامِّ السُّوقِ وغوغائها، فاشترك أربعمائة منهم في القتال، ليس لهم همٌّ إلاَّ القتل، فلمَّا رأى اليمنيون ذلك دبَّ الرعب في قلوبهم، وخارت عزائمهم، وأثخن القيسية فيهم القتل، وكان منهم عمرو بن حريث وأبو الخطَّار الكلبي الذي قُتِلَ بعد أن وقع في الأسر، وأراد الصَّمِيل أن يشفي غليله وأحقاده من اليمنية، فأمر بالأسرى أن يُقتلوا صبرًا، فقُتِلَ منهم سبعون، ثم تَدَخَّل حليفه أبو العطاء الجُذَامي فأمره أن يكُفَّ عن المذبحة فكَفَّ[17]، وهكذا كُسرت شوكة اليمنية في الأندلس ودانت البلاد لأمر الفِهْرِيّ والصَّمِيل، لا ينازعهما فيها أحد.
ولاية يوسف الفهري الفعلية على الأندلس
يبدو أن يوسف الفِهْرِيّ أردا الخلاص من تلك الوصاية الفعلية عليه من قِبَل الصَّمِيل، فأمر بتعيين الصَّمِيل عاملاً له على إقليم سَرَقُسْطَة في عام (132هـ=750م)، وقبِلَ الصَّمِيل.
ولكن لماذا وافق الصَّمِيل على عرض الفِهْرِيّ وقَبِلَ هذا الإبعاد المتعمَّد؟!
كانت بلاد الأندلس تمرُّ بفترة قحط ومجاعة عظيمة؛ نتيجة للحروب المتزايدة بين العرب اليمنية والقيسية، وبين العرب والبربر، ودامت هذه المجاعة خمس سنوات (131-136هـ=749-755م)، وقد سلم من هذه المجاعة إقليم سَرَقُسْطَة، فكان في حالٍ من الرغد والخير؛ لذلك قَبِل الصَّمِيل العرض، كما أن الصَّمِيل فطن إلى أن يوسف الفِهْرِيّ ما بعثه إلى سَرَقُسْطَة إلاَّ ليذل به اليمنية وهم أكثر أهلها، إلاَّ أن الصَّمِيل فتح خزائنه ولم يأتهِ صديق ولا عدوٌّ إلاَّ أعطاه[18].
خلا الجوُّ للفِهْرِيِّ في قُرْطُبَة، فلم يَعُدِ الصَّمِيل وصيًّا عليه، ولكن يوسف الفِهْرِيّ كان ضعيف الشخصية ولم يكن له في أمور السياسة، فثار الناس عليه، وخرج عليه عامر بن عمرو العَبْدَرِيُّ، وهو يمني[19] خاف أن يفعل الصَّمِيل باليمنية في سَرَقُسْطَة ما فعله بهم في شقندة وما بعدها، وكان باستطاعة يوسف الفِهْرِيِّ أن يقضي عليه في قُرْطُبَة إلاَّ أن جبنه وتردُّده حال دون ذلك؛ إذ رأى أن يأخذ برأي الصَّمِيل أولاً، فنصحه الصَّمِيل بقتله، وفطن عامر العَبْدَرِيُّ لمحاولة يوسف الفِهْرِيِّ قتله، فصرف عامر العَبْدَرِيُّ نظره عن قُرْطُبَة، وأراد أن يقوم بعمل يقضي به على شوكة الصَّمِيل ويوسف الفِهْرِيِّ، وبما أن الرجل كان يمنيًّا متعصبًا، فقد فكَّر في الالتجاء إلى اليمنية في سَرَقُسْطَة، والتحالف معهم على القضاء على القيسية، فكاتب زعيمًا من زعمائهم وهو الحباب الزهري، فاجتمعت كلمة اليمنية، وعزموا على حصار الصَّمِيل في سَرَقُسْطَة، وذلك في عام (136هـ=753م) [20].
فلما اشتدَّ الحصار على الصَّمِيل بعث إلى يوسف الفِهْرِيِّ يطلب نجدته وعونه، ولكن يوسف الفِهْرِيّ تباطأ في الردِّ عليه، ويبدو أن الفِهْرِيَّ كان سعيدًا مسرورًا؛ لأنه سيتخلَّص من وصاية الصَّمِيل الثقيلة عليه، إلاَّ أن أتباع الصَّمِيل من القيسيين جمعوا جموعهم لنصرة زعيمهم الصَّمِيل، وانضمَّ إليهم نفر من بني أمية ومواليهم –لغرض غامض سنكشفه بعد قليل- وكان على رأسهم أبو عثمان عبيد الله بن عثمان، وعبد الله بن خالد[21].
وانطلقت جموع القيسية ومعهم بنو أمية ومواليهم لنجدة الصَّمِيل، وما كادت تصل طلائعها حتى جزع المحاصِرون ورفعوا الحصار عن الصَّمِيل، وعلى الفور انطلق الصَّمِيل ناحية قُرْطُبَة، ثم هاجم عامر العَبْدَرِيُّ والزهري سَرَقُسْطَة فاستوليا عليها، ثم أن الصَّمِيل ويوسف الفِهْرِيّ هاجما المدينة، ووقع العَبْدَرِيُّ والزهري في قبضة الصَّمِيل الذي أمر بقتلهما[22].
[1] مجهول: أخبار مجموعة ص 45، وابن عذاري: البيان المغرب 31، 32، والمقري: نفح الطيب 3/19.
[2] مجهول: أخبار مجموعة ص45-47، وابن عذاري: البيان المغرب 1/56، 2/32، والمقري: نفح الطيب 3/22.
[3] مجهول: أخبار مجموعة ص47، وابن عذاري: البيان المغرب 2/32، والمقري: نفح الطيب 1/237، 3/22.
[4] مجهول: أخبار مجموعة ص48، وابن عذاري: البيان المغرب 2/33، 34، والمقري: نفح الطيب 1/237، 3/22.
[5] مجهول: أخبار مجموعة ص48، 49، والمقري: نفح الطيب 3/22، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص91، 92، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص189، 190.
[6] مجهول: أخبار مجموعة ص57، وابن عذاري: البيان المغرب 2/34، والمقري: نفح الطيب 3/23.
[7] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35.
[8] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35، والمقري: نفح الطيب 3/24.
[9] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35، والمقري: نفح الطيب 3/24، 95، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص194، 195.
[10] مجهول: أخبار مجموعة ص58، 59، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35، والمقري: نفح الطيب 3/24.
[11] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35، والمقري: نفح الطيب 3/25، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص97.
[12] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35، والمقري: نفح الطيب 3/25.
[13] محمد سهيل طقوش تاريخ المسلمين في الأندلس ص98.
[14] مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35.
[15] مجهول: أخبار مجموعة ص59، وابن عذاري: البيان المغرب 2/36.
[16] مجهول: أخبار مجموعة ص60، وابن عذاري: البيان المغرب 2/36، والمقري: نفح الطيب 1/238، 3/25، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص99، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص197، 198.
[17] مجهول: أخبار مجموعة ص60، 61، وابن عذاري: البيان المغرب 2/36، 37، والمقري: نفح الطيب 3/25، 26.
[18] مجهول: أخبار مجموعة ص62، وابن عذاري: البيان المغرب 2/37.
[19] مجهول: أخبار مجموعة ص63.
[20] مجهول: أخبار مجموعة ص63، 64، وابن عذاري: البيان المغرب 2/37، والمقري: نفح الطيب 1/238، وطقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص102، 103، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص201.
[21] مجهول: أخبار مجموعة ص65.
[22] مجهول: أخبار مجموعة ص65-67، وابن عذاري: البيان المغرب 2/37، والمقري: نفح الطيب 1/238، وطقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص102، 103، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص202، 203.
| |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 5:32 pm | |
| الخلافة الأموية في الشرق الوليد بن يزيد بن عبد الملك[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]بعد وفاة الخليفة هشام بن عبد الملك عام (125هـ) بدأت عوامل الضعف تسري في جسد الدولة الأموية، وبدت الخلافة وكأنها تسير نحو الهاوية؛ فبوفاة الخليفة هشام بدأت الاضطرابات والفتن والقلاقل تظهر على مسرح الأحداث، واستمرَّ الأمر كذلك نحوًا من سبع سنوات داخل البيت الأموي نفسه، فبعد وفاة هشام بُويع للخلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك (الوليد الثاني)، وقد استهلَّ الوليد خلافته بالاهتمام بأحوال رعيته اهتمامًا شاملاً، ثم ما لبث أن ارتكب جنايات كثيرة؛ كان أعظمها تنكيله ببني عمه سليمان وهشام، وتنكيله بكبار رجال دولته، ثم إظهاره للمجون والخلاعة والعبث؛ مما عجَّل بسقوط مُلْكه وخلافته، ثم قتله.
يزيد بن الوليد بن عبد الملك
قُتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك إثْرَ ثورة قام بها يزيد بن الوليد بن عبد الملك اشترك معه فيها أمراء البيت الأموي واليمنية، وما أن تمَّت البيعة ليزيد بن الوليد (يزيد الثالث) حتى قامت المعارضة العنيفة في وجهه، وتزعَّمها أبناء عمومته، كما ثارت عليه الأقاليم الشامية، فلم يهنأ بخلافته طويلاً، ولم تَدُمْ خلافته سوى ستة أشهر (جمادى الآخرة - ذو الحجة سنة 126هـ)؛ حيث توفي في ذي الحجة، ليترك الشام -وهي الحصن الحصين للدولة الأموية- تشتعل نارًا، كما ترك أبناء أسرته منقسمين على أنفسهم، منشغلين بصراعاتهم عن الأخطار المحدقة بهم، وبصفة خاصة الخطر العباسي. إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك
ثم بُويع إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك عام (127هـ)، ولكن لم يتم له الأمر؛ إذ انقلب عليه مَرْوَان بن محمد وانتصر عليه في عين الجر، وبويع له بالخلافة في ربيع الآخر (127هـ)، فكانت مدَّة خلافة إبراهيم بن الوليد ما يقرب من أربعة أشهر.
مروان بن محمد (الحمار)
تسلَّم مَرْوَان بن محمد الخلافة الأموية ليُصَارع أحداثًا أقوى منه، ويُواجه دنيا مُدبِرَة ودولة ممزقة، قُدِّرَ له أن يكتب الفصل الأخير من حياتها، فبعد حالة من السكون والاستقرار إِثْر بيعة مَرْوَان بن محمد بالخلافة، اندلعت الثورات في كل مكان في الدولة؛ فهناك ثورة في حمص، وأخرى في الغوطة، وثالثة في فلسطين، واضطرابات في العراق قام بها الخوارج والشيعة، وأخطر من ذلك كله كان انقلاب أمراء البيت الأموي عليه؛ كسليمان بن هشام بن عبد الملك، وعبد الله بن عمر بن العزيز، وقد كان انهماك مَرْوَان الثاني في إخماد الثورات والفتن؛ سببًا في انشغاله عن الاهتمام بما كان يجري في المشرق، خاصَّة في خراسان التي كانت مركزًا للدعوة العباسية، وقد انتشرت في المنطقة انتشارًا واسعًا، واستقامت الأمور فيها لبني العباس؛ مما أدَّى إلى اقتناع الدعاة العباسيين بأن الوقت قد حان للجهر بها، وبدأت رايات العباسيين تنساح في البلاد انسياحًا سريعًا.
معركة الزاب
التقت سيوف الأمويين والعباسيين، ودارت بين الجيشين رحى معركة عنيفة عند نهر الزاب في شهر جمُادَى الآخرة عام (132هـ)، استمرَّت أحدَ عشرَ يومًا انتهت بهزيمة مَرْوَان بن محمد ثم قَتْلِه، لتبدأ حِقبة جديدة في التاريخ الإسلامي، هي الخلافة العباسية.
أهم أحداث الفترة الثانية من عهد الولاة في الأندلس
نظرًا لتفاعل الأمور السابقة بعضها مع بعض، نستطيع بإيجاز شديد أن نُلَخِّص أهمَّ الأحداث التي تمخَّضت عنها الفترة الثانية والأخيرة من عهد الولاة فيما يلي:
أولاً: فُقِدَت كثير من الأراضي الإسلامية في فرنسا[1].
ثانيًا: ظهرت مملكة نصرانية في الشمال الغربي عند منطقة الصخرة، تُسَمَّى مملكة (ليون)([2].
ثالثًا: انفصل إقليم الأندلس عن الخلافة الإسلامية -الأموية في ذلك الوقت- وذلك على يد يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِيّ[3].
رابعًا: انقسمت الأندلس إلى فرقٍ عديدةٍ متناحرة، وثورات لا نهاية لها، فكلٌّ يُريد التملك والتقسيم وفق عنصره وقبيلته.
خامسًا: أمر خطير جدًّا وهو ظهور فكر الخوارج، الذين جاءوا من الشام، واعتناق الأمازيغ (البربر) له؛ وذلك أن الأمازيغ (البربر) كانوا يُعانون ظلمًا شديدًا وعنصرية بغيضة من قِبَل يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِيِّ؛ مما مهَّد عقولهم لقبول هذا الفكر الخارج عن المنهج الإسلامي الصحيح واعتناقه؛ خَلاصًا مما يحدث لهم ممَنْ ليسوا على فكر الخوارج[4].
سادسًا: زاد من خطورة هذا الموقف ذلك الحدث الجسيم الذي صدع الأمة الإسلامية في سنة (132هـ=750م)، وهو سقوط الخلافة الأموية وقيام الخلافة العباسية، الذي كان قيامًا دمويًّا رهيبًا، انشغل فيه العباسيون بالقضاء على الأمويين؛ ومن ثَمَّ فقد ضاعت قضية الأندلس وغابت تمامًا عن الأذهان.
ونتيجة لهذه العوامل جميعًا فقد أجمع المؤرخون على أن الإسلام كاد أن ينتهي من بلاد الأندلس، وذلك في عام (138هـ=755م)، وأصبح أمر الأندلس يحتاج في إصلاحه إلى معجزة إلهية، وبالفعل حدثت المعجزة بفضلٍ من الله ومَنٍّ وكرمٍ منه على المسلمين؛ وذلك بدخول رجل يُدعَى عبدَ الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي إلى أرض الأندلس، وذلك في شهر ذي الحجة عام (138هـ= مايو 756م).
ملامح عهد الولاة الثاني حُبُّ الدنيا
في أول هذا العهد كانت الأموال كثيرة والغنائم ضخمة، وفُتِحَت الدُّنيا عليهم، في حين يقول رسول الله : «إِنَّ مِمَّا أَخَاُف عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا»[5]. وهكذا فُتِحَت الدنيا على المسلمين وانخرطوا فيها؛ فتأثَّر بذلك إيمانُهم.
ظهور العنصرية والقبلية
وتبعًا لتأثُّر الإيمان ظهرت العنصرية بصورة كبيرة، وحدثت انقسامات كثيرة في صفوف المسلمين داخل الأندلس؛ حدثت انقسامات بين العرب والأمازيغ (البربر)، وكانت جذور هذه الانقسامات منذ بلاط الشهداء، ثم حدثت انقسامات بين العرب أنفسِهم، بين المضريين والحجازيين، وبين العدنانيين (أهل الحجاز) والقحطانيين (أهل اليمن)؛ حتى إنه كانت هناك خلافات وحروب كثيرة بين أهل اليمن وأهل الحجاز، ولقد وصل الأمر إلى أن حدثت انقسامات بين أهل الحجاز أنفسِهم؛ بين الفِهْرِيين وبين الأمويين، بين بني قيس وبني ساعدة، وهكذا انقسم أهل الحجاز بعضهم على بعض[6].
ظلم الولاة
وإضافة إلى حبِّ الغنائم وتفاقم ظاهرة القبلية والنزعة العنصرية، وكخطوة لاحقة لهذا ظهر ما يمكن أن نُسمِّيه ظلم الولاة، فقد تولَّى أمر المسلمين في الأندلس ولاة ظلموا الناس وألهبوا ظهورهم بالسياط؛ كان منهم -على سبيل المثال- عبد الملك بن قَطَن، فقد كان ظالمًا جائرًا[7].
وعلى دربه سار يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِيّ الذي تولَّى عام (130هـ=748م) وحتى آخر هذه الفترة، وآخر عهد الولاة كلية سنة (138هـ= 755م)[8]، فحدثت انكسارات جديدة وثورات عديدة داخل بلاد الأندلس [9].
تَرْك الجهاد
كنَّا نتحدَّث منذ قليل عن الانتصارات الإسلامية والتاريخ المجيد، وفتح الأندلس وفتح فرنسا، ثم ها هي ذي الدنيا قد تمكَّنت من القلوب، وها هي ذي العنصرية قد ظهرت، وها هو ذا ظلم الولاة يُسْلِمُ الناس إلى هذه الثورات، وكردِّ فعل طبيعي جدًّا لكلِّ هذا ترك الناسُ الجهاد، وتوقَّفت الفتوحات في فرنسا، وتوقَّفت الحروب ضد النصارى في الشمال الغربي في منطقة الصخرة، التي كان يتمركز بها مجموعة من النصارى منذ الفتح الأول لبلاد الأندلس، وكقاعدة ربانية وسُنَّة إلهية فما تَرَكَ قومٌ الجهاد في سبيل الله إلاَّ ضرب الله عليهم الذلَّ، يروي أبو داود عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن الرسول قال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ[10]، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ[11]، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ، لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»[12]. وهكذا كان الحال حين ترك المسلمون الجهاد في فرنسا وأرض الأندلس، فسَلَّط الله عليهم الذلَّ، وانقسموا على أنفسهم، وانشغلوا بدنياهم.
([1]) انظر تفاصيل ذلك عند حسين مؤنس: فجر الأندلس ص239-251.
([2]) انظر تفصيل ذلك في فجر الأندلس، ص255-286.
([3]) ابن عذاري: البيان المغرب 1/62.
([4]) مجهول: أخبار مجموعة ص42، وابن عذاري: البيان المغرب 1/54.
([5]) البخاري: كتاب الزكاة، باب الصدقة على اليتامى (1396) عن أبي سعيد الخدري، ومسلم: كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، رقم (1052).
([6]) انظر تفاصيل ذلك عند حسين مؤنس: فجر الأندلس، ص129-79، ص183-203.
([7]) المقري: نفح الطيب 1/236، 3/19.
([8]) مجهول: أخبار مجموعة ص58، وابن عذاري: البيان المغرب 2/35-38، والمقري: نفح الطيب 1/238، 3/25.
([9]) انظر التفصيل عند ابن عذاري: البيان المغرب 2/38.
([10]) بيع العينة: هو أن يبيع الرجل شيئًا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر. العظيم آبادي: عون المعبود 9/242، والمناوي: فيض القدير 1/403.
([11]) وأخذتم أذناب البقر: كناية عن الاشتغال عن الجهاد بالحرث. المناوي: فيض القدير 1/403.
([12]) أبو داود: كتاب الإجارة، باب النهي عن العينة (3462)، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (11).
| |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 5:34 pm | |
| صقر قريش .. عبد الرحمن الداخل[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]نشأة عبد الرحمن الداخللكي نفهم قصة دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى أرض الأندلس، يجب أن نعود إلى الوراء قليلاً حتى سنة (132هـ=750م)، وهو زمن سقوط الدولة الأموية في المشرق، فقد قتل العباسيون كلَّ مَن كان مُؤَهَّلاً من الأُمَوِيِّين لتولِّي الخلافة؛ فقتلوا الأمراء وأبناء الأمراء وأبناء أبناء الأمراء (الأحفاد)، إلا قلَّة ممَّن لم تصل إليهم سيوفُهم[1].
وكان من هؤلاء الذين لم تصل إليهم سيوف بني العباس- عبدُ الرحمن بن معاوية حفيدُ هشام بن عبد الملك الذي حكم من سنة (105هـ=723م) إلى سنة (125هـ=743م).
وقد نشأ عبد الرحمن في بيت الخلافة الأموي، وكان الفاتح الكبير مسلمة بن عبد الملك عَمَّ أبيه يراه أهلاً للولاية والحكم، وموضعًا للنجابة والذكاء، وسمع عبد الرحمن ذلك منه مشافهة، فترك ذلك في نفسه أثرًا إيجابيًّا، ظهرت ثماره فيما بعدُ[2]، ولما بلغ رَيْعَانَ شبابه انقلب العباسيون على الأمويين، وأعملوا فيهم السيف -كما ذكرنا- حتى لا يُفَكِّر في الخلافة أحدٌ منهم؛ فكانوا يقتلون كلَّ مَنْ بلغ من البيت الأموي، ولا يقتلون النساء والأطفال، وكان هذا في سنة (132هـ).
هروب عبد الرحمن الداخل
هرب عبد الرحمن بن معاوية من مكانه ومستقره في قرية دير خنان من أعمال قنسرين بالشام إلى بعض القرى في العراق ناحية الفرات، ولكن المطاردة العباسية المحمومة –بما جنَّدته من مكافآت وعيون تبلغها الأنباء- بلغته في مكانه، وبينما كان يجلس في بيته؛ إذ دخل عليه ابنه ذو الأربع سنوات يبكي فزعًا، وكان عبد الرحمن بن معاوية مريضًا معتزلاً في الظلام في ركن من البيت؛ لأنه كان يُعاني من رمد في عينه، فأخذ يُسَكِّن الطفل بما يُسكَّن به الأطفال، إلاَّ أن الطفل ظلَّ فزعًا مرعوبًا لم يهدأ، فقام معه عبد الرحمن بن معاوية فوجد الرايات السود (رايات الدولة العباسية) خارج البيت، وكانت تعمُّ القرية جميعها، فعلم أنَّه مطلوب، فرجع عبد الرحمن بن معاوية وأخذ أخاه هشام بن معاوية وما معه من نقود، وترك النساء والأطفال وكل شيء؛ لأنه يعلم أنهم لن يمسوهم بسوء.
وانطلق عبد الرحمن هاربًا –ومعه أخوه هشام- نحو الفرات، وعند الفرات أدركتهما خيول العباسيين، فألقيا بأنفسهما فيه وأخذا يسبحان، ومن بعيد ناداهما العباسيون: أن ارجعا ولكما الأمان. وأقسموا لهما على هذا، كانت الغاية أن يقطعا النهر سباحة حتى الضفة الأخرى، إلاَّ أن هشامًا لم يقوَ على السباحة لكل هذه المسافة، ثم أثَّر فيه نداء العباسيين وأمانهم، فأراد أن يعود، فناداه عبد الرحمن يستحثُّه ويُشَجِّعه: أن لا تَعُدْ يا أخي، وإلاَّ فإنهم سوف يقتلونك. فردَّ عليه: إنهم قد أَعْطَوْنَا الأمان. ثم عاد راجعًا إليهم، فما أن أمسك به العباسيون حتى قتلوه أمام عيني أخيه، وعَبَر عبد الرحمن بن معاوية النهر وهو لا يستطيع أن يتكلَّم، أو يُفَكِّر من شدَّة الحزن على أخيه ابن ثلاث عشرة سنة، ثم اتجه إلى بلاد المغرب؛ لأن أمَّه كانت من إحدى قبائل الأمازيغ (البربر)، فهرب إلى أخواله هناك، في قصة هروبٍ طويلة جدًّا وعجيبة -أيضًا- عبر فيها الشام ومصر وليبيا والقيروان[3].
وصل عبد الرحمن بن معاوية إلى بَرْقَة (في ليبيا)، وظلَّ مختبئًا فيها خمس سنين إلى أن يهدأ الطلب والمطاردات، ثم خرج إلى القيروان، وكانت القيروان حينئذٍ في حكم عبد الرحمن بن حبيب الفهري([4]، وكان قد استقلَّ -فعليًّا- بالشمال الإفريقي عن الدولة العباسية.
كان عبد الرحمن بن حبيب من نسل عقبة بن نافع فاتح المغرب الأول، وكان ابن عم يوسف الفهري الذي كان يحكم الأندلس، وكان يرغب في أن يحكم الأندلس -أيضًا- إذ الأندلس تَبَعٌ للمغرب، وكان ظهور عبد الرحمن بن معاوية مما يُعَطِّل هذه الأماني.
لماذا يعطل ظهور عبد الرحمن بن معاوية آمال عبد الرحمن بن حبيب الفهري؟
إجابة هذا السؤال فيها جانب واقعي تقريري، وجانب آخر طريف يتمثَّل في النبوءة!
عبد الرحمن بن حبيب صاحب القيروان، والحاكم الفعلي لمنطقة الشمال الإفريقي، وابن عم صاحب الأندلس يوسف الفهري، يعلم أن عبد الرحمن بن معاوية -وهو الأموي سليل بيت الخلافة الأموية التي فتحت هذه البلاد، ونصبت هؤلاء الولاة على مقاليدها، وكانت تملك عزلهم وتوليتهم- لا يسعه أن يجلس في بيته قانعًا من الحياة بالعيش الطيب فحسب، بل لا بُدَّ له أن يطلب حقه في مُلك آبائه وأجداده الخلفاء، فما هذه إلاَّ بلاد هم الذين افتتحوها وملكوها وحكموها بالإسلام.
وهذا في الواقع صحيح جدًّا، وهو -بالمناسبة- التفسير الذي يُفَسِّر تلك الدموية البالغة التي استعملتها الدولة العباسية في القضاء على الأمويين؛ إذ ما دام وُجد أمويٌّ أو عصبة أموية فإنها لن تفتأ تُفَكِّر في استعادة مُلكها المغصوب؛ ومن هنا كان لا بُدَّ من اجتثاث الأمويين تمامًا لإنهاء هذه المعضلة الخطيرة، والتي أخطر ما فيها مسألة «الشرعية»؛ إذ حُكْم بني أمية لهذه البلاد بعد أن فتحوها بجهادهم لا يُشَكُّ في شرعيته، بينما انقلاب العباسيين على الأمويين موضع أخذ وردٍّ وقيل وقال.
فظهور أموي في بلاد المغرب كعبد الرحمن بن معاوية يفتح في ذهن صاحب المغرب –كما سيفتح في ذهن صاحب الأندلس فيما بعدُ- بابًا من الخوف والتوجُّس والانزعاج؛ إذ الأموي أحق بحكم تلك البلاد، وهي من ميراث أجداده الخلفاء العظام.
دار هذا في ذهن عبد الرحمن بن حبيب، ولا شَكَّ أنه دار -أيضًا- في ذهن كلِّ صاحب رأي، وكل مَنْ كان من أهل الحلِّ والعقد والرئاسة والزعامة. هذا هو الجانب الواقعي.
نبوءة مسلمة بن عبد الملك
أمَّا الجانب الطريف فهو مسألة النبوءة!
أجمعت كتب التاريخ على أن مسلمة بن عبد الملك -الفاتح العظيم وفارس بني أمية الذي تولَّى فتح بلاد الشمال والقوقاز كما ذكرنا- كان يتنبَّأ بزوال مُلك بني أمية في المشرق، ثم هروب فتى منهم لإحيائه في بلاد المغرب مرَّة أخرى! وتزيد بعض الكتب فتقول بأنه كان يتوقَّع أن يكون عبد الرحمن بن معاوية هو هذا الفتي الذي سيُقيم مُلك الأمويين في المغرب بعد زواله في المشرق.
وبهذه النبوءة يُفَسِّر كثير من المؤرخين أحداث هذه الفترة، فيُفَسِّرون بها إصرار العباسيين على مطاردة عبد الرحمن بن معاوية خاصة، ويُفَسِّرون بها اتجاه عبد الرحمن بن معاوية إلى بلاد المغرب، ويفسرون بها حُبَّ هشام بن عبد الملك ورعايته لحفيده عبد الرحمن هذا دون غيره من أبنائه وأحفاده، ويفسرون بها -أيضًا- سعي عبد الرحمن بن حبيب لقتل عبد الرحمن بن معاوية في القيروان.
وما يزيد في الطرافة أن النبوءة تقول بأن صاحب الأندلس يُرسل شَعْرَه ويجعل فيه ضفيرتين، فكان عبد الرحمن بن معاوية بهذا الوصف، وكذا كان عبد الرحمن بن حبيب أيضًا[5].
ما حقيقة هذه النبوءة في الواقع التاريخي؟
الحقيقة أن النبوءات دخلت في العديد من أحداث التاريخ، ولكن -على حدِّ علمي- في كل هذه الأحداث ليس من دليل يقول بأن هذه النبوءة وُجدت أو قيلت قبل وقوع الأحداث نفسها، ثم جاءت الأحداث تصدق النبوءة.
وهذه النبوءة التي نحن بصددها لا تختلف عن هذا، فليس في كتب التاريخ التي وصلت إلينا ما يُؤَيِّد أنها نبوءة ظهرت قبل وقوع الأحداث، لا سيما وأننا نتحدَّث عن تاريخ مبكِّر جدًّا، في بداية القرن الثاني الهجري، قبل أن تُكتب المصادر التاريخية التي بين أيدينا.
والشاهد في موضوعنا أن عبد الرحمن بن حبيب كان يرجو هو -أيضًا- أن يكون صاحب الأندلس، فهو من أبناء الملوك، وهو صاحب جديلتين؛ ومن ثَمَّ فظهور مَنْ يُنافسه في النبوءة -أيضًا- كان من الخطر الذي لا بُدَّ من التخلُّص منه.
وكان عبد الرحمن بن حبيب قد عرف بخبر النبوءة من خادم يهودي له كان قد خدم مسلمة بن عبد الملك، فأوصل ذلك الخادم لعبد الرحمن بن حبيب نبوءة مسلمة من أن قرشيًّا أمويًّا يملك بلاد المغرب بعد زوال الأمر من المشرق[6].
ولما كثر الهاربون الأمويون الواصلون إلى أرض المغرب، ازدادت خشية عبد الرحمن بن حبيب من تَكَوُّن عصبة أموية في بلاده، فأخذ في طرد الكثير منهم، وقتل اثنين من أبناء الوليد بن يزيد، وتزوَّج غصبًا بأخت إسماعيل بن أبان بن عبد العزيز بن مروان، وأخذ مالاً له، ثم جدَّ في طلب عبد الرحمن بن معاوية[7].
إلى بلاد الأندلس
بلغ ذلك عبد الرحمن الداخل الذي ما كان له أن تفوته مثل هذه الأمور، فلما أن طلبه عبد الرحمن بن حبيب كان قد خرج من القيروان إلى تادلا، ومنها إلى مضارب قبيلة نفزة بالمغرب الأقصى، وهم أخواله؛ إذ إن أمَّ عبد الرحمن كانت جارية من نفزة، ولم يكن الوضع هناك بالآمن؛ إذ إن وجود الخوارج في هذه المنطقة -وهم الذين يكرهون الأمويين- كان يجعل مقامه هذا -أيضًا- مقامًا على شفا جرف هارٍ[8].
في الواقع لم يَعُدْ أمام عبد الرحمن بن معاوية إلاَّ بلاد الأندلس، وإذا جرينا وراء النبوءة فيمكننا أن نقول بأن بلاد الأندلس لم تكن فقط وجهته الوحيدة، بل كانت -أيضًا- مطلبه وغايته وهدفه القديم منذ أن سمعه صبيًّا من عم أبيه مسلمة بن عبد الملك.
فعبد الرحمن مطلوب الرأس في أيِّ قُطْرٍ من بلاد المسلمين؛ ففي أقصى الشرق من فارس وما يليها تكمن شوكة العباسيين ومعقلهم الرهيب، وقد كانت فارس في هذه الأثناء تحت حكم الرجل القوي الجبار أبو مسلم الخراساني، الذي لُقِّبَ بحجاج بني العباس، وفي العراق عاصمة العباسيين، وفي الشام ومصر سلطة العباسيين مكينة كذلك، وفي الشمال الإفريقي وبلاد المغرب الإسلامي مطلوب من عبد الرحمن بن حبيب والخوارج.
هذا من ناحية الأخطار التي يمكن أن تحيط بالفرد العادي إن كان مطلوبًا، فكيف وهو من بني أمية الذين لا يأمن أحد الملوك على ملكه وتحت سلطانه واحد منهم؟! لم يكن يسعه في الحقيقة إلاَّ أن يعيش أميرًا أو ملكًا، وإلاَّ فلن يعيش. بذا قضى قانون الواقع على عبد الرحمن بن معاوية.
كانت الأندلس أصلح البلدان لاستقباله؛ وذلك لأنها:
أولاً: أبعد الأماكن عن العباسيين والخوارج.
وثانيًا: لأن الوضع في الأندلس ملتهب جدًّا؛ وذلك على نحو ما ذكرنا في عهد يوسف بن عبد الرحمن الفهري في نهاية الفترة الثانية من عهد الولاة؛ ففي هذا الجوُّ يستطيع عبد الرحمن بن معاوية أن يدخل هذه البلاد؛ ولو كانت تابعة للخلافة العباسية ما استطاع أن يدخلها، كما أنها لو كانت على فكر الخوارج ما استطاع -أيضًا- أن يدخلها؛ فكانت الأندلس أنسب البلاد له على وُعُورَتها واحتدام الثورات فيها.
[1] انظر تفصيل ذلك عند ابن كثير: البداية والنهاية 10/48، وتاريخ ابن خلدون، 3/132.
[2] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/41، والمقري: نفح الطيب 1/328، 3/53.
[3] المقري: نفح الطيب، 3/28، وما بعدها.
[4] الذهبي: تاريخ الإسلام، 8/25.
[5] انظر في أخبار النبوءة: مجهول: أخبار مجموعة ص53، 54، والمقري: نفح الطيب 1/238، 3/53، والناصري: الاستقصا 1/175.
[6] ابن عذاري: البيان المغرب 1/156.
[7] المقري: نفح الطيب 3/29، والناصري: الاستقصا 1/175.
[8] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/41، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 8/244.
| |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 5:36 pm | |
| عبد الرحمن الداخل في الأندلسخطة دخول الأندلس[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]في سنة (136هـ=753م) بدأ عبد الرحمن بن معاوية (عبد الرحمن الداخل) يُعِدُّ العُدَّةَ لدخول الأندلس، فعمل على الآتي:
أولاً: أرسل مولاه بدرًا إلى الأندلس لدراسة الموقف، ومعرفة القوى المؤثِّرة في الحُكم فيها، فلقد كانت الأندلس في تنازع بين اليمنية –وزعيمهم أبو الصباح اليحصبي- والقيسية -وزعيمهم أبو جوشن الصميل بن حاتم- وهم الذين كانوا عمادًا لدولة عبد الرحمن بن يوسف الفهري[1].
ثانيًا: راسل كلَّ محبِّي الدولة الأموية في أرض الأندلس بعد أن علِمَهم من مولاه بدر[2]، والحقُّ أن كثيرًا من الناس في عهد الدولة الأموية وفي غيرها كانوا يُحِبُّون الأمويين كثيرًا، فمنذ ولاية معاوية بن أبي سفيان t على الشام في خلافة عمر بن الخطاب t، وفي خلافة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب-رضي الله عنهم جميعا، والمسلمون في أقطار الدولة الإسلامية يحبُّون بني أمية حبًّا شديدًا، فقد اشتهر بنو أمية على مَرِّ العصور بالسخاء والسياسة والحكمة، واكتساب ثقة الناس وحُسن معاملتهم، والجهاد في سبيل الله، ونشر الدين، وفتح البلاد، فكان لبني أمية داخل بلاد الأندلس الكثير من المؤيدين، والكثير من المحبين حتى من غير بني أمية من القبائل المختلفة.
ثالثًا: راسل كلَّ الأمويين في الأندلس يعرض عليهم فكرته، وأنه يعزم على دخول الأندلس ويطلب معونتهم ومددهم[3].
كانت الخطوة المؤثِّرة التي نجح فيها بدر[4] –مولى عبد الرحمن الداخل- هو وصوله إلى موالي بني أمية في الأندلس، وشيخهم أبو عثمان، ومن خلالهم حاول التحالف مع القيسية، إلاَّ أن الصميل بن حاتم -وقد كان زعيم القيسية الذين كانوا عماد الفهري- عَبَّر بوضوح عن مخاوفه من وجود أمير أموي في البلاد، فوَضْع القيسية حينئذٍ لن يكون كما هو في ظلِّ الفهري الذي يستطيعون أن يأخذوا منه ويَرُدُّوا عليه[5]. فذهبوا إلى اليمنية فرضوا وتمَّ لهم الأمر.
وإذًا، فقد نجح بدر في مهمته، فأرسل رسولاً إلى عبد الرحمن يقول له: إن الوضع أصبح جاهزًا لاستقبالك هناك. وحينما سأله عن اسمه، قال: تمام. قال: وما كنيتك؟ قال: أبو غالب. فقال: الله أكبر! الآن تمَّ أمرنا، وغَلَبْنَا بحول الله تعالى وقوته[6]. وبدأ يُعِدُّ العُدَّةَ، ويجهِّز السفينة التي أخذته منفردًا إلى بلاد الأندلس.
عبد الرحمن الداخل في الأندلس
نزل عبد الرحمن الداخل –رحمه الله- على ساحل الأندلس بمفرده، واستقبله هناك مولاه بدر، وكان يحكم الأندلس في ذلك الوقت يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وكالعادة كان في الشمال يقمع ثورةً من الثورات[7].
وبمجرَّد أن دخل عبد الرحمن بن معاوية الأندلس بدأ يُجَمِّع الناس من حوله؛ محبِّي الدولة الأموية، والأمازيغ (البربر)، وبعض القبائل المعارضة ليوسف بن عبد الرحمن الفهري، كما كان قد وصلت إلى الأندلس فلول من الأمويين الهاربين، إلى جانب التحالف المأخوذ مع اليمنية.
كان على رأس اليمنيين في ذلك الوقت أبو الصباح اليحصبي، وكان المقرُّ الرئيس لهم في إِشْبِيلِيَة، وهي المدينة الكبيرة التي كانت تُعَدُّ حاضرة من حواضر الإسلام في ذلك الوقت، فذهب عبد الرحمن بن معاوية بنفسه إلى إِشْبِيلِيَة، واجتمع طويلاً مع أبي الصباح اليحصبي، فبايعه أبو الصباح[8].
وقبل القتال أرسل عبد الرحمن بن معاوية عدَّة رسائل إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري يطلب وُدَّه، وأن يُسَلِّم له الإمارة، ويكون الفهري رجلاً من رجاله في بلاد الأندلس، بحُكْمِ أنه حفيد هشام بن عبد الملك[9]، لكن يوسف الفهري رفض ذلك، وجهَّز جيشًا وجاء ليحارب عبد الرحمن بن معاوية ومَنْ معه.
موقعة المصارة
من المؤسف حقًّا أن يلتقي المسلمون بسيوفهم، لكن كثرة الثورات وكثرة الفتن والانقلابات جعلت الحلَّ العسكري هو الحلَّ الحتمي في ذلك الوقت؛ ففي (ذي الحجة 138هـ=مايو 756م) وفي موقعة كبيرة عُرِفت في التاريخ باسم موقعة المصارة، دار قتال شرس بين يوسف بن عبد الرحمن الفهري من جهة ومعه القيسية، وعبد الرحمن بن معاوية الذي يعتمد في الأساس على اليمنيين من جهة أخرى[10].
وقبل القتال كان أبو الصباح اليحصبي (رئيس اليمنيين) قد سمع بعض المقولات من اليمنيين تقول: إن عبد الرحمن بن معاوية غريب عن البلاد، ثم إن معه فرسًا عظيمًا أشهب، فإن حدثت هزيمة فسيهرب من ساحة القتال، ويتركنا وحدنا للفهريين.
وقد وصلت عبدَ الرحمن بن معاوية تلك المقولة، فقام وفي ذكاءٍ شديد يفوق سنَّ الخامسة والعشرين، وذهب بنفسه إلى أبي الصباح اليحصبي، وقال له: إن جوادي هذا سريع الحركة ولا يمكِّنُنِي من الرمي، فإن أردت أن تأخذه وتعطيَني بغلتك فعلت. فأعطاه الجواد السريع وأخذ منه البغلة يُقاتل عليها، وحينئذٍ قال اليمنيون: إن هذا ليس بمسلك رجل يُريد الهرب، إنما هو مسلك مَنْ يُريد الموت في ساحة المعركة[11].
ودارت معركة قوية، انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية، وفَرَّ يوسف الفهري[12].
عبد الرحمن الداخل وأمارات نجابة وعلم وذكاء
كانت عادة المحاربين أن يَتَّبع الجيشُ المنتصرُ فلول المنهزمين والفارِّين؛ ليقتلهم ويقضي عليهم؛ ومن ثَمَّ يقضي على ثورتهم، وحين بدأ اليمنيون يُجَهِّزون أنفسَهم ليَتَتَبَّعوا جيش يوسف الفهري منعهم عبد الرحمن بن معاوية، وقال لهم قولةً ظلَّت تتردَّدُ في أصداء التاريخ، أمارةً على علمه ونبوغه، وفهمٍ صحيح، وفكرٍ صائب في تقدير الأمور؛ قال لهم: «لا تستأصلوا شأفةَ أعداءٍ ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشدّ عداوة منهم»[13].
يُريد –رحمه الله- أن هؤلاء الذين يقاتلوننا اليوم سيُصبحون غدًا من جنودنا؛ ومن ثَمَّ عونًا على أعدائنا من النصارى وغيرهم في ليون وفرنسا وغيرها، فهكذا –رحمه الله- كان ذا نظرة واسعة جدًّا تشمل كل بلاد الأندلس، بل تشمل كل أوربا، بل إني أراه بذلك التفكير يستطيع أن يُعِيد مُلك الشام بعد ذلك -أيضًا- إلى أملاك الأمويين؛ وذلك لما يلي:
أولاً: ليس في قلبه غلٌّ ولا حقدٌ على مَنْ كان حريصًا على قتله منذ سويعاتٍ قلائل.
ثانيًا: الفهم العميق للعدوِّ الحقيقي وهو النصارى في الشمال.
ثالثًا: رغم كونه لم يتجاوز الخامسة والعشرين إلاَّ أنه كان يمتلك فهمًا واعيًا، وإدراكًا صحيحًا، وفقهًا وعلمًا وسعة اطلاع، عَلِمَ به أنه إن جاز له أن يُقَاتِلهم لتوحيد البلاد تحت راية واحدة، فهو في الوقت ذاته لا يجوز له شرعًا أن يتتبعهم، أو أن يقتل الفارِّين منهم، ولا أن يُجْهِزَ على جريحهم، ولا أن يقتل أسيرهم؛ لأن حكمهم حكم الباغين في الإسلام وليس حكمَ المشركين، وحكم الباغي في الإسلام أنه لا يُتَتَبَّع الفارُّ منهم، ولا يُقتَلُ أسيرُه، ولا يُجهَزُ على جريحه، بل ولا تُؤخَذ منه الغنائم[14].
وكانت الهزيمة بالغة، حتى إن عبد الرحمن الداخل لم يجد أحدًا في طريقه إلى قصر الحكم في قُرْطُبَة، وسيطر جنوده على ما في يد جنود يوسف من الأسلحة والمتاع وما إلى ذلك، إلاَّ أن بعض الناس حاول انتهاب قصر يوسف الفهري نفسه وسبي أولاده وحريمه، فسارع وطرد الناس، وكسا من عَرِي من أولاد يوسف، وردَّ ما قدر على ردِّه، وهنا غضبت اليمنية وساءهم ذلك حين لم يستطيعوا أن ينتقموا من يوسف في أولاده ونسائه، وداخلهم أن عبد الرحمن الداخل تعصب لنسبه المضري[15].
وأقام عبد الرحمن بن معاوية الداخل بظاهر قُرْطُبَة ثلاثة أيام، حتى يترك الفرصة لأهل يوسف الفهري أن يجمعوا أمرهم وأن يخرحوا بأمان، فكان هذا بداية عفافه وحسن سيرته في الأندلس[16].
بين عبد الرحمن الداخل وأبي الصباح اليحصبي
ومن المفارقات أنه بعد انتهاء موقعة المصارة وحين لم يرضَ عبد الرحمن بانتهاب قصر يوسف الفهري ولا سبي أولاده، غضب أبو الصباح اليحصبي زعيم اليمنية، وفكر في أن ينقلب على عبد الرحمن بن معاوية نفسه، وكان مما قال: «يا معشر يمن؛ هل لكم إلى فتحين في يوم، قد فرغنا من يوسف وصميل، فلنقتل هذا الفتى المقدام ابن معاوية؛ فيصير الأمر لنا، نقدِّم عليه رجلاً منا، ونحل عنه هذه المضرية». فلم يجبه أحد لذلك[17].
ووصلت هذه الأنباء إلى عبد الرحمن بن معاوية، فما كان منه إلاَّ أن أسرَّها في نفسه، ولم يُبْدِها لهم، ولم يُعلِمْهم أنه يعلم ما يُضْمِرُونه له؛ لكنه أصبح على حذرٍ شديدٍ من أبي الصباح اليحصبي[18].
لم يُرِدْ عبد الرحمن بن معاوية أن يُحدث خللاً في الصفِّ المسلم في هذه الأوقات، ولم يُرِدْ أن يُحْدِثَ خللاً بين الأمويين ومحبِّي الدولة الأموية وبين اليمنيين، في ذلك الوقت المليء بالثورات والمعارك الداخلية؛ إنما كان كلُّ هَمِّه هو تجميع الناس ثم حرب النصارى بعد ذلك، وبالفعل وبعد إحدى عشرة سنة من هذه الأحداث عزل عبدُ الرحمنِ أبا الصباح اليحصبي عن مكانه، واستطاع أن يمتلك زمام الأمور كلها في الأندلس [19].
[1] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/ 239، وسير أعلام النبلاء، 8/244، والصفدي: الوافي بالوفيات، 18/167.
[2] انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، 11/239، وابن كثير: البداية والنهاية، 10/80.
[3] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/ 123.
[4] الحقيقة أن بدرًا مولى عبد الرحمن الداخل من أكثر الشخصيات تأثيرًا في قصة الداخل هذه، وله دور كبير منذ لحظة الهروب من الشام ثم قيامه بالسفارة لعبد الرحمن في أمر من أخطر الأمور؛ مثل: توليه الأندلس وتوثيقه للتحالف، ثم سيصير قائد جيوش عبد الرحمن، ثم سينتهي نهاية مأساوية وغامضة، دون أن يعرف أحد الأسباب الحقيقية مما يثير حيرة المؤرخين، إلى جانب أن المعلومات المعروفة عنه قليلة جدًّا.
[5] هذا نص كلامه: «إني رويت في الأمر الذي أدرته معكما، فوجدت الفتى الذي دعوتماني إليه من قوم لو بال أحدهم بهذه الجزيرة غرقنا نحن وأنتم في بوله، وهذا رجل نتحكم عليه ونميل على جوانبه ولا يسعنا بدل منه». المقري: نفح الطيب 3/30.
[6] انظر: المقري: نفح الطيب، 3/31.
[7] انظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص73، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/42، والمقري: نفح الطيب، 3/33.
[8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 5/123.
[9] المصدر السابق، 5/123، والمقري: نفح الطيب، 3/33.
[10] مجهول: أخبار مجموعة، ص80، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/47.
[11] مجهول: أخبار مجموعة، ص82.
[12] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، وابن عذاري: البيان المغرب، 2/47.
[13] المقري: نفح الطيب، 3/42.
[14] انظر: القاضي أبو يعلى الفراء: الأحكام السلطانية، ص55، ويوسف القرضاوي: فقه الجهاد، ص1011، وسعود بن عبد العالي البارودي العتيبي: الموسوعة الجنائية الإسلامية ص183.
[15] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، 84.
[16] المقري: نفح الطيب 3/34.
[17] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، 84، والمقري: نفح الطيب 3/34.
[18] مجهول: أخبار مجموعة، ص83، 84، والمقري: نفح الطيب 3/34.
[19] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/53.
| |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 5:45 pm | |
| بعد انتصار عبد الرحمن بن معاوية في موقعة المصارة ودخوله قُرْطُبَة عاصمة الأندلس في ذلك الوقت، لُقِّب عبدُ الرحمن بن معاوية بعبد الرحمن الداخل؛ لأنه أول من دخل من بني أمية قرطبة حاكمًا[1]، فكان له الكثير من الأيادي البيضاء على الإسلام في بلاد الأندلس، وعُرِفت الفترة التي تلت دخوله قُرْطُبَة بفترة الإمارة الأموية، وتبدأ من سنة 138هـ=755م وتنتهي سنة 316هـ=928م، وسُمِّيت إمارة لأنها أصبحت منفصلة عن الخلافة الإسلامية؛ سواء كانت في عصر الدولة العباسية أو ما تلاها بعد ذلك من العصور إلى آخر عهود الأندلس.
وبدأ عبد الرحمن الداخل بعد ذلك يُنَظِّم أمور الأندلس، وكانت هناك ثورات في كل مكان من أرض الأندلس، ورث بعضها وبعضها الآخر ثار عليه، وبصبر شديد وأناة عجيبة، أخذ عبد الرحمن الداخل يُرَوِّض هذه الثورات الواحدة تلو الأخرى، وتعامل مع كلٍّ منها بما يتوافق معها؛ فاستمال مَنِ استطاع من الثائرين، وحارب الباقين.
ففي فترة حُكمه -التي امتدَّت أربعة وثلاثين عامًا متصلة من سنة 138هـ=755م وحتى سنة 172هـ=788م [2]- قامت عليه أكثر من خمس وعشرين ثورة، وهو يقمعها بنجاح عجيبٍ الواحدة تلو الأخرى، ثم ترك البلاد وهي في فترة من أقوى فترات الأندلس في التاريخ بصفة عامة.
الثورات التي قامت ضد عبد الرحمن الداخل
تَعَرَّضَتِ الدولة الأموية في الأندلس في عهد عبد الرحمن الداخل لعدد كبير من الثورات، تزيد على خمس وعشرين ثورة تغلَّب عليها جميعًا؛ ومن هذه الثورات:
ثورة القاسم بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري ورزق بن النعمان الغساني، وثورة يوسف بن عبد الرحمن الفهري سنة 143هـ=760م [3]، وثورة هشام بن عروة الفهري سنة 144هـ=761م [4]، وثورات أخرى تتابعت عليه من سنة 144هـ إلى سنة 146هـ، وثورة العلاء بن مغيث اليحصبي سنة 146هـ=763م [5]، وثورة سعيد اليحصبي اليماني سنة 149هـ=766م [6]، وثورة أبي الصباح حيِّ بن يحيى اليحصبي سنة 149هـ=766م [7]، وثورة البربر في الأندلس بزعامة شقيا بن عبد الواحد المكناسي سنة 151هـ=768م [8]، وثورة اليمانية في إِشْبِيلِيَة بزعامة عبد الغافر اليحصبي وحيوة بن ملامس الحضرمي سنة 156هـ=773م [9]، وثورة سليمان بن يقظان في بَرْشُلُونَة سنة 157هـ=774م [10]، وثورة عبد الرحمن بن حبيب الفهري سنة 161هـ=777م [11]، وثورة الحسين بن يحيى الأنصاري سنة 166هـ=782م [12]، وثورة محمد بن يوسف الفهري سنة 168هـ=784م [13]، وثورات أخرى كثيرة قامت ضده، ولكنه ما لبث أن أخمدها كلها وقضى عليها.
صقر قريش وثورة العباسيين
ولن نقف إلاَّ أمام ثورة واحدة فقط من هذه الثورات الخمس والعشرين؛ وذلك لأهميتها الشديدة في فهم هذا الانفصال الذي حدث للأندلس عن الخلافة العباسية، وهذه الثورة حدثت في سنة 146هـ=763م؛ أي: بعد حوالي ثمان سنوات من تولِّي عبد الرحمن الداخل حكم الأندلس، وقام بها رجل يُدعى العلاء بن مغيث الحضرمي[14].
وكان أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني، والمؤسس الحقيقي للخلافة العباسية بعد أبي العباس السفاح، قد رَاسَلَ العلاء بن مغيث الحضرمي ليقتل عبد الرحمن بن معاوية؛ ومن ثَمَّ يضمُّ الأندلس إلى أملاك الخلافة العباسية[15].
وهذا يُعَدُّ أمرًا طبيعيًّا بالنسبة لأبي جعفر المنصور؛ إذ يُريد ضمَّ بلاد الأندلس -وهو البلد الوحيد المنشقُّ من بلاد المسلمين- إلى حظيرة الخلافة العباسية الكبيرة، فجاء العلاء بن مغيث الحضرمي من بلاد المغرب العربي وعبر إلى بلاد الأندلس، ثم قام بثورة يدعو فيها للعباسيين، ويرفع الراية السوداء التي أرسلها له الخليفة أبو جعفر المنصور[16].
ولم يتوانَ عبد الرحمن الداخل عن محاربته، فقامت لذلك حرب كبيرة بين العلاء بن مغيث الحضرمي وعبد الرحمن الداخل، وانتصر عبد الرحمن الداخل كعادته في قمع الثورات، ووصلت الأنباء إلى أبي جعفر المنصور -وكان في الحجِّ- بأن عبد الرحمن الداخل قد هزم جيش العلاء الحضرمي هزيمة منكرة، وأن العلاء بن مغيث الحضرمي قد قُتِل.
وهنا قال أبو جعفر المنصور: قَتَلْنَا هذا البائس. يعني العلاء بن مغيث الحضرمي؛ يُريد أنه قتله بتكليفه إيَّاه بحرب عبد الرحمن الداخل، ثم قال: ما لنا في هذا الفتى من مطمع، يعني: عبد الرحمن الداخل، الحمدُ لله الذي جعل بيننا وبينه البحر[17].
وكفَّ أبو جعفر من ساعتها عن التفكير في استعادة بلاد الأندلس.
صقر قريش
يعد أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي هو الذي سمَّى عبد الرحمن الداخل بصقر قريش، وهو اللقب الذي اشتُهِرَ به بعد ذلك.
فقد ذُكِرَ أن أبا جعفر المنصور قال يومًا لبعض جلسائه: أخبروني: مَنْ صقر قريش من الملوك؟ قالوا: ذاك أمير المؤمنين الذي راضَ الملوك، وسكَّن الزلازل، وأباد الأعداء، وحسم الأدواء.
قال: ما قلتم شيئًا!
قالوا: فمعاوية (معاوية بن أبي سفيان)؟ قال: لا.
قالوا: فعبد الملك بن مروان؟ قال: ما قلتم شيئًا.
قالوا: يا أمير المؤمنين؛ فمَنْ هو؟
قال: صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميًّا، منفردًا بنفسه؛ فمصَّر الأمصار، وجنَّد الأجناد، ودوَّن الدواوين، وأقام ملكًا عظيمًا بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدَّة شكيمته، إنَّ معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذلَّلا له صعبه؛ وعبدُ الملك ببيعة أُبْرِمَ عقدها؛ وأمير المؤمنين بطلب عِتْرَته، واجتماع شيعته، وعبد الرحمن منفردٌ بنفسه، مؤيَّدٌ برأيه، مستصحبٌ لعزمه، وطَّد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور، وقتل المارقين، وأذلَّ الجبابرة الثائرين.
فقال الجميع: صدقتَ والله! يا أمير المؤمنين[18].
وهكذا كان أبو جعفر المنصور العباسي معجبًا جدًّا بعبد الرحمن الداخل، وهو ما يمكن أن نُسَمِّيَه إعجاب اضطرار، أو هو إعجاب فرض نفسه عليه.
عبد الرحمن الداخل والخلافة العباسية:
تُثير قضية هذا الانفصال الطويل الذي دام بين الأندلس وبين الخلافة العباسية على مرِّ العصور عدَّة تساؤلات في نفوس جميع المسلمين؛ فلماذا ينفصل عبد الرحمن الداخل -الرجل الورع التقيُّ الذي أقام دولة قوية في بلاد الأندلس- بالكلية عن الخلافة العباسية؟!
ووقفة عادلة مع هذا الحدث وتحليله واستجلاء غوامضه نستطيع القول بأن الدولة العباسية قد أخطأت خطأ فاحشًا بحقِّ الأمويين؛ وذلك بقتلهم وتَتَبُّعهم في البلاد بهذه الصورة الوحشية، فإذا كان الأمويون في آخر عهدهم قد فسدوا واستحقُّوا الاستبدال فليكن تغييرُهم، وَلْيَكُن هذا الاستبدال، ولكن على نهج رسول الله ، بلا قتل وسفك للدماء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
كان من المفترض على الدولة العباسية القائمة على أنقاض الأمويين أن تحتوي هذه الطاقات الأموية، وتعمل على توظيفها لخدمة الإسلام والمسلمين، بدلاً من إجبارهم على خلق جيب من الجيوب في صُقْع بعيد من أصقاع البلاد الإسلامية في الأندلس أو في غيرها من بلاد المسلمين.
فهذا عبد الرحمن الداخل الذي نتحدَّث عنه يصيح في اليمنيين بعد موقعة المصارة، ويقول لهم حين أرادوا أن يَتَتَبَّعُوا الفارِّين من جيش يوسف بن عبد الرحمن الفهري: لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم[19]. ليضمَّهم إلى جيشه بعد ذلك، فهكذا كان يجب على العباسيين أن يفعلوا، ويتركوا الأمويين يدخلون تحت عباءتهم؛ حتى يستطيعوا أن يكونوا لهم جندًا وعونًا لا نِدًّا ومنافسًا، كما رأينا النتيجة بأعيننا.
عفو الرسول مع كفار مكة
وهذا -أيضًا- المثلُ الأعلى والقدوةُ الحسنة رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم)، ماذا فعل بعد أن دخل مكة، وكان أهلها قد آذوه هو وأصحابه وطردوهم منها؟! وماذا قال عن أبي سفيان وهو مَنْ هو قبل ذلك؟! ما كان منه إلاَّ أن دخل متواضعًا، وقال: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ»[20]. أليس أبو سفيان هذا هو زعيم الكفر وزعيم المشركين في أُحُدٍ والأحزاب؟! فلماذا إذًا يقول عنه مثل هذا؟! إنما كان يُريد أن يخطب وُدَّه، ويضمَّه إلى صفِّه، وبالمثل فعل الرسول(صلى الله عليه وسلم) مع رءوس الكفر في مكة حين قال لهم: «مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟» فقالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم. فرَدَّ عليهم بمقولته التي وعاها التاريخ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[21].
وليس هذا من كرم الأخلاق فحسب، لكنه -أيضًا- من فنِّ معاملة الأعداء، وحُسْنِ السياسة والإدارة، فَلْنتخيَّلْ ماذا سيكون الموقف لو أن الرسول(صلى الله عليه وسلم) أقام الحَدَّ وقطع رءوس هؤلاء الذين حاربوا دين الله سنواتٍ وسنواتٍ؟! بلا شكٍّ كان سيُحدِث جيبًا من الجيوب داخل مكة، وكان أهل مكة سينتهزون الفرصة تلو الأخرى للانقلاب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وللانفصال عن الدولة الإسلامية.
لكن العجب العُجَاب كان في نتيجة ذلك بعد وفاته r ، فقد ارتدَّت جزيرة العرب جميعها، ولم يبقَ على الإسلام منها إلاَّ المدينة ومكة والطائف، وقرية صغيرة تُسَمَّى هجر، ثلاث مدن وقرية واحدة فقط؛ أي أن مكة التي لم تدخل في الإسلام إلاَّ قبل وفاة الرسول(صلى الله عليه وسلم) بثلاث سنوات فقط كانت في تعداد هذه المدن القليلة التي ثبتت على الإسلام ولم ترتدّ، وبلا شكٍّ فهو أثر فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)الذي لم يَنْسَوْه، فكان أن استُوعِبوا في داخل الدولة الإسلامية، وثبتوا وقت الزَّيْغِ.
وكان هذا ما سيتكرَّر لو فعل العباسيون مثله واستوعبوا الأُمَوِيين في داخل الدولة العباسية؛ ولأنهم لم يفعلوا ذلك فكان أن اضْطُرَّ مَنْ نجا من الأمويين للذهاب إلى هذه البلاد والانشقاق بها عن دولة المسلمين.
وواقع الأمر يقول: إنه لو كان عبد الرحمن الداخل يضمن أن العلاء بن مغيث الحضرمي سوف يَعفو عنه ويُعطيه إمارة الأندلس، أو أي إمارة أخرى من إمارات الدولة العباسية إذا سَلَّم الأمرَ إليه فلربما كان يفعل، لكنه كان يعلم أنه لو قبض عليه لقتله في الحال هو ومَنْ معه من الأمويين إن كانوا مرشَّحين للخلافة، وهذا بالطبع ما دفعه لأن يبقى على عهده من الجهاد ضد الدولة العباسية، وهو أمر مؤلم جدًّا، وحلقة مفرغة دخل فيها المسلمون نتيجة العنف الشديد من قِبَلِ الدولة العباسية في بدء عهدها، ولا شكَّ أن الدولة العباسية قد غيَّرت كثيرًا من نهجها الذي اتَّبَعَتْهُ أولاً، وتولَّى بعد ذلك رجالٌ كثيرون حافظوا على النهج الإسلامي، بل إن أبا جعفر المنصور نفسه في آخر عهده كان قد غيَّر ما بدأه تمامًا، لكن كانت هناك قسوة شديدة في البَدْء؛ بهدف أن يستتبَّ لهم الأمر في البلاد، فمَنْ يحاول الالتفاف على منهج رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فستكون العاقبة دائمًا هي الخسران، وهكذا كان فقْدُ المسلمين لأرواحٍ طاهرةٍ ودماءٍ كثيرةٍ غزيرة وطاقاتٍ متعددةٍ، بل فقدوا الأندلس فلم تَعُدْ مددًا للمسلمين طيلة عهدها؛ فالعنف في غير محلِّه لا يُورِثُ إلاَّ عنفًا، وطريق الدماء لا يُورث إلاَّ الدماء، والسبل كثيرة، ولكن ليس إلاَّ من سبيل واحد فقط؛ إنه الطريق المستقيم طريق الله : {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
وقفة مع عبد الرحمن الداخل في قضائه على الثائرين
ذكرنا -فيما سبق- أنه في خلال الأربع والثلاثين سنةً الممتدَّة من بداية حكم عبد الرحمن الداخل وحتى نهايته كان هناك أكثر من خمس وعشرين ثورةً في كل أنحاء الأندلس، وذكرنا -أيضًا- كيف روَّض بعضها وقمع غيرها بنجاح الواحدة تلو الأخرى، والتي كان من أهمِّها ثورة العباسيين التي قام بها العلاء بن مغيث الحضرمي، وكيف تَمَّ القضاء عليها.
وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل يجوز لعبد الرحمن الداخل أن يُقاتِل الثائرين وإن كانوا من المسلمين؟!
وحقيقة الأمر أن موقفه هذا في قتال الثائرين داخل أرض الأندلس لا غبار عليه؛ لأن الجميع كانوا قد اتفقوا عليه أميرًا للبلاد، وقد جاء عن رسول الله أنه قال: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ أي: مجتمع عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَرَادَ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ»[22].
ومن هنا فقد كان موقف عبد الرحمن الداخل صارمًا مع الثوار؛ وذلك لقمع الانقلابات المتكرِّرَة، والتي تُضعِف من جانب الأمن والاستقرار في البلاد، إلاَّ أنه من الإنصاف أن نذكر أنه –رحمه الله-كان دائمًا ما يبدأ بالاستمالة والسلم وعرض المصالحة، ويكره الحرب إلاَّ إذا كان مضطرًا.
وبلا شكٍّ فإن ثمن هذه الثورات كان غاليًا جدًّا؛ ففي السنوات الأربع من بداية دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس 138-142هـ=755-759م سقطت كل مدن المسلمين التي كانت في فرنسا، وذلك بعد أن حكمها الإسلام طيلة سبعٍ وأربعين سنةً متصلة، منذ أيام موسى بن نصير / وحتى زمن سقوطها هذا، وهكذا سُنن الله الثوابت، فما أن شُغِل المسلمون بأنفسهم إلاَّ وكان التقلُّص والهزيمة أمرًا حتميًّا. [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]عبد الرحمن الداخل وبناء دولة الأندلسحين استتبَّ الأمر لعبد الرحمن الداخل في أرض الأندلس، وبعد أن انتهى نسبيًّا من أمر الثورات بدأ يُفَكِّر فيما بعد ذلك، فكان أن اهتمَّ بالأمور الداخلية للبلاد اهتمامًا كبيرًا؛ فقام بما يأتي:
أولاً: إنشاء جيش قوي
وفي بنائه لجيشه الجديد عمل على ما يلي: 1- اعتمد في تكوين جيشه على العناصر التالية
أ - اعتمد في الأساس على عنصر المولَّدين، وهم الذين نَشَئُوا نتيجة انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين من أهل الأندلس.
ب - اعتمد كذلك على كل الفصائل والقبائل الموجودة في بلاد الأندلس، فضمَّ إليه كل الفصائل المُضَرِيَّة؛ سواء كانت من بني أمية أو من غير بني أمية، إلاَّ أنه بعد ثورة اليمانية لمقتل أبي الصباح اليحصبي[1] صار لا يطمئن إلى العرب، فأكثر مِنَ اتخاذ المماليك من غير العرب لا سيما البربر، حتى صار له منهم أربعون ألفًا، وبهم استقرَّ ملكه[2].
ج - كذلك اعتمد على عنصر الصقالبة[3]؛ وهم أطفالٌ نصارى كان قد اشتراهم عبد الرحمن الداخل من أوربا، ثم قام بتربيتهم وتنشئتهم تنشئةً إسلامية عسكرية صحيحة.
وبرغم قدوم عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وحيدًا، فقد وصل تعداد الجيش الإسلامي في عهده إلى مائة ألف فارسٍ[4] غير الرجَّالة، مشكَّلاً من كل هذه العناصر السابقة، والتي ظلَّت عمادَ الجيش الإسلامي في الأندلس لدى أتباع وخلفاء وأمراء بني أمية من بعده.
2- إنشاء المصانع ودور الأسلحة
أنشأ عبد الرحمن الداخل -صقر قريش- دُورًا للأسلحة؛ فأنشأ مصانع السيوف ومصانع المنجنيق، وكان من أشهر هذه المصانع مصانع طُلَيْطلَة ومصانع برديل.
3- إنشاء أسطول بحري قوي
أنشأ -أيضًا- أسطولاً بحريًّا قويًّا، بالإضافة إلى إنشاء أكثر من ميناء؛ كان منها ميناء طُرْطُوشة وألمَرِيَّة وإِشْبِيلِيَة وبَرْشُلُونَة وغيرها من المواني.
4- تقسيم ميزانية الدولة
كان عبد الرحمن الداخل يُقَسِّم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم يُنفقه بكامله على الجيش، والقسم الثاني لأمور الدولة العامَّة من مؤنٍ ومعمارٍ ومرتباتٍ ومشاريعَ وغير ذلك، والقسم الأخير كان يدَّخره لنوائب الزمان غير المتوقَّعة.
ثانيًا:الاهتمام بالعلمَ والجانبَ الدينيَّ
أعطى عبد الرحمن الداخل العلم والجانب الديني المكانة اللائقة بهما؛ فعمل على الآتي:
- نَشْر العلم وتوقير العلماء.
- اهتمَّ بالقضاء والحسبة.
- اهتمَّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- كان من أعظم أعماله في الناحية الدينية بناء مسجد قُرْطُبَة الكبير، والذي أنفق على بنائه ثمانين ألفًا من الدنانير الذهبية، وقد تنافس الخلفاء من بعده على زيادة حجمه؛ حتى تعاقب على اكتماله في شكله الأخير ثمانية من خلفاء بني أميَّة[5].
وكان من العلماء في أيامه معاوية بن صالح بن حدير بن سعيد الحضرمي، وكان من جِلَّة أهل العلم ومن كبار المحدِّثين، وقد أخذ عنه جملة من الأئمة؛ منهم: سفيان الثوري، وابن عيينة، والليث بن سعد، ويُذْكَر أن مالك بن أنس قد روى عنه حديثًا، وكان عبد الرحمن الداخل قد ولاَّه القضاء[6].
وكان من علماء الأندلس في عهده -أيضًا- سعيد بن أبي هند، والذي لَقَّبه الإمام مالك بن أنس / بالحكيم؛ لِمَا عُرِفَ عنه من رجاحة عقله، وقد توفي أيام الداخل[7].
ثالثًا: العناية الكبيرة بالجانب الحضاري المادي
ويبرز ذلك في الجوانب التالية:
- اهتمامه الكبير بالإنشاء والتعمير، وتشييد الحصون والقلاع والقناطر، وربطه أول الأندلس بآخرها.
- إنشاؤه الرُّصَافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وقد أنشأها على غِرار الرصافة التي كانت بالشام، والتي أسَّسها جدُّه هشام بن عبد الملك -رحمه الله، وقد أتى لها عبد الرحمن بالنباتات العجيبة من كل بلاد العالم، فإذا نجحت زراعتها في الرصافة فإنها تنتشر في الأندلس كلها[8].
رابعًا: حماية حدود دولته من أطماع الأعداء
بالإضافة إلى إعداده جيشًا قويًّا -كما أوضحنا سابقًا- وتأمينًا لحدود دولته الجديدة قام عبد الرحمن الداخل بخوض مرحلتين مهمتين:
المرحلة الأولى: كان عبد الرحمن الداخل يعلم أن الخطر الحقيقي إنما يكمن في دولتي ليون في الشمال الغربي، وفرنسا في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فقام بتنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشًا ثابتةً على هذه الثغور المقابلة لهذه البلاد النصرانية، وهي:
- الثغر الأعلى؛ وهو ثغر سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي في مواجهة فرنسا.
- الثغر الأوسط؛ ويبدأ من مدينة سالم ويمتدُّ حتى طُليْطلَة.
- الثغر الأدنى؛ وهو في الشمال الغربي في مواجهة مملكة ليون النصرانية.
المرحلة الثانية: كان عبد الرحمن الداخل –رحمه الله- قد تعلَّم من آبائه وأجداده عادة عظيمة، وهي عادة الجهاد المستمرِّ وبصورة منتظمة كل عام، فقد اشتُهِرَت الصوائفُ في عهده؛ حيث كان المسلمون يخرجون للجهاد في الصيف وبصورة منتظمة؛ وذلك حين يذوب الجليد، وكان يتناوب عليهم فيها كبار قوَّاد الجيش، بهدف الإرباك الدائم للعدوِّ، وهو ما يُسمُّونه الآن في العلوم العسكرية بالهجوم الإجهاضي المسبق. | |
|
| |
حسن المرجاوى المدير العام
الجنس : عدد المساهمات : 4067 تاريخ الميلاد : 03/06/1963 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 العمر : 60 مصر العربيه
| موضوع: رد: التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. الثلاثاء أبريل 26, 2011 5:48 pm | |
| عبد الرحمن الداخل .. القائد والإنسان[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]عبد الرحمن الداخل.. الأمير الفذُّ
لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية، هكذا قال المؤرِّخون عن عبد الرحمن الداخل، وإنَّا لتعلونا الدهشة ويتملَّكنا العجب حين نعلم أن عمره حينذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين عامًا، أي في سنِّ خريج الجامعة في عصرنا.
مَلَكٌ من السماء، أم ماذا هو؟! لن نذهب بعيدًا، وسنترك الحديث عنه إلى ابن حيَّان الأندلسي، الذي يقول مُستَعرِضًا بعضًا من صفات عبد الرحمن الداخل:
«كان عبد الرحمن راجح الحلم، راسخ العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دَعَة، ولا يَكِلُ الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه، شجاعًا مقدامًا، بعيد الْغَوْرِ، شديد الحدَّة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوَّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتمُّ به ويُؤْثِره، وكان قد أُعْطِيَ هيبة من وَلِيِّه وعدوِّه، وكان يحضر الجنائز، ويُصَلِّي عليها، ويُصَلِّي بالناس إذا كان حاضرًا الجُمَع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى»[1].
شخصية تُشخِص الأبصار وتَبْهَر العقول، فمع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه –رحمه الله، ومع شدَّته وحزمه وجهاده وقوَّته كان –رحمه الله- شاعرًا محسنًا رقيقًا مُرهَف المشاعر.
ومع هيبته عند أعدائه وأوليائه إلاَّ أنه كان يتبسَّط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويُصَلِّي بهم ومعهم، ومع كونه شديد الحذر قليل الطمأنينة، لم يمنعه ذلك من معاملة الناس والاختلاط بهم دون حرَّاس، حتى خاطبه المقرَّبُون في ذلك وأشاروا عليه ألاَّ يخرج في أوساط الناس حتى لا يتبسَّطوا معه[2].
ونستطيع أن نفهم شخصيته بصورة أوضح حين نعلم كيف كان في معاملته للناس، فقد جاء أن أحد الناس طلب منه حاجةً أمام أعين الحاضرين، فقضاها له، ثم قال له: «إذا أَلَمَّ بك خطب أو حزبك أمرٌ فارفعه إلينا في رقعة، لا تعدوك كيما نستر عليك خلتك، ونكف شمات العدوِّ عنك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا -عزَّ وجهه- بإخلاص الدعاء وصدق النية»[3].
إنها لَتربية ربَّانية لشعبه؛ فهو يُريد –رحمه الله- أن يربط الناس بخالقهم، يُريد أن يُعَلِّمهم أن يرفعوا حاجتهم إليه أولاً، يُريد أن يُعَلِّمهم أنه يملكه ويملكهم جميعًا، ثم مراعاةً لعواطف النفس الداخلية، وحفظًا لماء وجه الرعية عند السؤال قال له: فارفع إلينا حاجتك في رقعة كي نستر عليك ولا يشمت أحدٌ فيك.
وها هو ذا –رحمه الله- لما انتصر على ثائر سرقسطة الحسين الأنصاري، «أقبل خواصُّه يُهَنِّئُونه، فجرى بينهم أحدُ مَنْ لا يُؤْبَهُ به من الجند، فهنَّأه بصوت عال. فقال: والله! لولا أن هذا اليوم يوم أسبغ عليَّ فيه النعمة مَنْ هو فوقي فأوجب عليَّ ذلك أن أُنْعِمَ فيه على مَنْ هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من سوء النكال، مَنْ تكون حتى تُقبل مهنِّئًا رافعًا صوتك غير متلجلج ولا متهيب لمكان الإمارة، ولا عارف بقيمتها، حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك؟! وإن جهلك ليحملك على العود لمثلها، فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة. فقال: ولعلَّ فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتصال جهلي وذنوبي، فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة؛ لا أعدمنيه الله تعالى. فتهلَّل وجه الأمير وقال: ليس هذا باعتذار جاهل. ثم قال: نَبِّهونا على أنفسكم، إذا لم تجدوا مَنْ يُنَبِّهنا عليها. ورفع مرتبته وزاد في عطائه»[4]. فهو هنا على رغم غضبه لمقام الإمارة إلاَّ أنه حلم عليه ولم يُعاقبه بل زاد في مكافأته؛ لَمَّا تكشَّفت له حكمة الجندي وفصاحته.
عبد الرحمن الداخل.. الإنسان
مع المدَّة الكبيرة التي حكمها القائد عبد الرحمن الداخل، ومع امتداد عمره، وموقعه القيادي في أي مكان ينزل فيه، مع هذا كله؛ لم يُؤْثَر عنه أيُّ خلق ذميم أو فاحش، بل مدحه العلماء بالعلم والفضل وحُسن الخلق؛ مما يدلُّ على إنسانيته السامية، ومعدنه النفيس، وأخلاقُ الإنسان الحقيقية لا تظهر بوضوح إلاَّ في وقت الشدَّة، وحياة عبد الرحمن كلها شدائد وحروب؛ مما يُظْهِر أخلاقه بوضوح أمام أيِّ باحث في التاريخ، ويُحَدِّد ما إذا كانت حسنة أو سيئة.
وكان عبد الرحمن الداخل خطيبًا مفوَّهًا يرتقي المنابر ويعظ الناس، فهو كما نعرف نشأ في بيت الإمارة، وهكذا الأمراء في ذلك العصر، كما كان -أيضًا- شاعرًا مرهف الحسِّ، قال سعيد بن عثمان اللغوي الذي توفي سنة أربعمائة: كان بقُرْطُبَة جَنَّة حديقة اتخذها عبد الرحمن بن معاوية، وكان فيها نخلة أدركتُها، ومنها تولَّدت كل نخلة بالأندلس.
قال: وفي ذلك يقول عبد الرحمن الداخل: [الكامل]
يَا نَخْلُ أَنْتِ غَرِيبَةٌ مِثْلِي
فِي الْغَرْبِ نَائِيَةٌ عَنِ الأَصْلِ
فَابْكِي وَهَلْ تَبْكِي مُكَيَّسَةٌ
عَجْمَاءُ لَمْ تُطْبَعْ عَلَى خَيْلِ؟
لَوْ أَنَّها تَبْكِي إذًا لَبَكَتْ
مَاءَ الْفُرَاتِ وَمَنْبِتَ النَّخْلِ
لَكِنَّهَا ذَهِلَتْ وَأَذْهَلَنِي
بُغْضِي بَنِي الْعَبَّاسِ عَنْ أَهْلِي[5]
ومن شعره أيضًا: [الخفيف]
أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُيَمِّمُ أَرْضِي
أَقْرِ مِنْ بَعْضِي السَّلامَ لِبَعْضِي
إِنَّ جِسْمِي كَمَا عَلِمْتَ بِأَرْضٍ
وَفُؤَادِي وَمَالِكِيهِ بِأَرْضِ
قُدِّرَ البَيْنُ بَيْنَنَا فَافْتَرَقْنَا
فَعَسَى بِاجْتِمَاعِنَا اللهُ يَقْضِي[6]
عبد الرحمن الداخل وفكره العسكري
تمتَّع عبد الرحمن الداخل بفكر عسكري في غاية الدقَّة والعجب؛ فحياته كُلُّها -تقريبًا- حروب ومناوشات منذ سقوط خلافة بني أمية وحتى وفاته، مرورًا بفراره عبر البلاد والصحارى والقفار والبحار، وانتهاءً بالثورات الكثيرة التي تغلَّب عليها بلا استثناء؛ ليُوَطِّد مُلكه في بلاد الأندلس دون منازع.
ولولا ذكاؤه العسكري ما تغلَّب على كل هذه الثورات، التي يحار العقل في كثرتها، وكيف قضى عليها جميعًا، ونعرض هنا لبعض ملامح فكره العسكري من خلال مواقفه في معاركه وبطولاته، التي شغلت طول حياته وعرضها؛ ومن هذه الملامح: أولاً: مبدأ المباغتة والحرص على المبادأة
فهو يُخَطِّط بدقَّة من أجل الوصول إلى أهدافه، ثم هو لا يترك لخصومه الفرصة، بل يُسرع ليُباغتهم وهم في بداية أعمالهم القتالية المضادَّة له، والتاريخ يُؤَكِّد أن أفضل وسيلة للقضاء على أعمال التمرُّد هو تطويقها منذ بداياتها الأولى، وعدم السماح لها بالتطوُّر، والعمل على خنقها وهي لا تزال في مهدها، ويظهر هذا المبدأ واضحًا في معركة المصارة، فقد بات ليلته يستعدُّ للحرب بينما كان خصمه يحاول خداعه، بحُجَّة تأجيل القتال، وكانت المباغتة كاملة؛ بحيث لم تتمكَّن القوات المضادَّة من الصمود، على الرغم مما أظهرته في البداية من ضروب الشجاعة[7]، والأمر مماثل بالنسبة لبقية حروب الأمير عبد الرحمن ومعاركه؛ حيث كان للمباغتة دور كبير وحاسم في تقرير نتائج القتال من قبل أن تبدأ المعركة.
ولم يكن حرص عبد الرحمن الداخل على الاحتفاظ بالمبادأة أقل من حرصه على المباغتة، فهو يحاول باستمرار وضع خصومه أمام مواقف تحرمهم من حرية العمل، ويفرض عليهم زمن المعركة، وكان في معاركه كلها يُجَابه قادة على درجة عالية من الكفاءة، فكان لا بُدَّ له من البحث عن الوسيلة التي تحرمهم من استخدام قدراتهم وإمكاناتهم.
ثانيًا: الاقتصاد في القوى والمحافظة على الهدف
وتظهر أهمية هذين المبدأين عند مطالعة سيرته، فقد كانت حياته سلسلة متصلة الحلقات من الوقائع والمعارك، وكان لا بُدَّ من الموازنة المستمرَّة بين الأهداف المتتالية للحرب، وبين القوى والوسائط اللازمة للتعامل معها، مع إعطاء الأولوية للأهداف الأكثر أهمية وخطورة عندما يظهر أن هناك أكثر من هدف يجب التعامل معه في وقت واحد، وهذا ما كان يحدث في معظم الأحيان، وأمام هذه المواقف بمجموعها كان لا بُدَّ من إجراء حسابٍ دقيقٍ لموازين القوى؛ بحيث يمكن استخدامها على أفضل صورة وفي أحسن وجه، وهذا ما أَكَّدته مجموعة الأعمال القتالية للأمير عبد الرحمن.
حياة صقر قريش في سطور
لقد كانت حياة القائد العظيم عبد الرحمن الداخل وقفًا على الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية، وتثبيت بُنيانها، وإرساء دعائمها، ورَدِّ الطامعين فيها، فكانت الأيام التي عاشها الأمير عبد الرحمن في طمأنينة وراحة لا تزيد على أيام قليلة، وكانت حياته حركة مستمرَّة في تنظيم الجيوش، وعقد الرايات، وتوجيه القوَّات، وتحصين الثغور، والقضاء على الفتن والثورات، ووضع أُسس البنيان الحضاري.
وفاته
عاش عبد الرحمن الداخل تسعًا وخمسين سنة؛ منها تسع عشرة سنة في دمشق والعراق قبل سقوط دولة الأمويين، وستُّ سنوات فرارًا من بني العباس وتخطيطًا لدخول الأندلس، وأربع وثلاثون سنة في المُلك ببلاد الأندلس، وتُوُفِّي بقُرْطُبَة ودُفِنَ بها في جُمادى الأولى 172هـ= أكتوبر 788م[8]. | |
|
| |
| التاريخ الأندلسي .. زهرة التاريخ الإسلامي. | |
|