الجولة الحادية عشر : مع الداعي المتضرع
ثم نمضي مع دعوات الإمام
أحمد وقد كانت له دعوات جليلة عظيمة، حتى أن ابن الجوزي أفرد فصلاً لدعوات
الإمام أحمد لنرى كيف كان أولئك الصالحين، من دعائه رحمة الله عليه أنه كان
يقول دبر كل صلاة مكتوبة : " اللهم كما صنت وجهي من السجود لغيرك فصن وجهي
عن المسألة لغيرك " .
وكم من الناس يقعون في
المسألة لغير الله من غير أن يشعروا ، ويقعون في شيء من الخوف أو الرجاء
لغير الله - سبحانه وتعالى - دونما ينبغي أن يكون لمقامات المؤمنين
الصادقين .
ويقول في دعوة عظيمة تبين لنا
صفاء نفسه ونقاء سريرته وحبه الخير للناس : " ينبغي أن يكون المسلم محباً
للخير عند الآخرين ؛ لأن هذا من علائم كمال الإيمان كما أخبر الرسول صلى
الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) " أ.هـ
كلام الإمام .
فلذلك هذه النفسية - إن وجدت في
قلب المؤمن - نظر إلى الطائع فإذا به ينظر نظرة محبة وإجلال واقتداء ، إذا
نظر إلى العاصي لم ينظر إليه نظرة إزدراء وإحتقار بل نظرة شفقة ورحمة ورغبة
في الإصلاح والإرشاد مع النصح واللطف .
هذا هو الذي يفارق فيه
المسلم الفطن المؤمن الحكيم في دعوته وبين من ينظر إلى الناس ولا يرى فيهم
إلا شراً ، ولا يتوقع منهم إلا منكراً ، فكأنه يفرح بخطيئة الرجل ويفرح
بزلة القول ، وإذا به يريد أن يجرم الناس أو يفسقهم أو يبدعهم أو يكفرهم،
هذه نفس مريضة مظلمة ليست نفس مشرقة بالإيمان من محبة للخير وكان من دعاء
الإمام أحمد يقول وقد كثرت الأهواء والفتن والبلايا وانحرافات العقيدة في
عهده : " اللهم من كان على هوى أو على رأي هو يظن أنه على حق وليس هو على
حق فرده الى الحق حتى لا يضل من هذه الأمة أحد " .
انظروا إلى القلب الشفيق
الرحيم وقد رأى الفتن تغتال العقول وتفسد القلوب، وأشفق على هذه الأمة مما
جاءها من البلاء ومن هذه الفتنة العمياء ومن هذه المقالات الفلسفية
والإنحرافات العقلية : " اللهم لا تشغل قلوبنا بما تكفلت لنا به ولا تجعلنا
في رزقك خولاً لغيرك ، ولا تمنعنا خيراً من عندك بشرِّ ما عندنا وترانا
حيث نهيتنا ولا تفقدنا حيث أمرتنا أعزنا بالطاعة ولا تذلنا بالمعصية " .
هكذا كان دعاءه .
ومن ذلك أنه كان يقول : " اللهم
وفقنا لمرضاتك ، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ،ومن الذل إلا لك ،
اللهم لا تكثر علينا فنطغى ولا تقلل علينا فننسى ،فهب لنا من رحمتك وسعة
رزقك ما يكون بلاغاً لنا وأغثنا بفضلك يا رب العالمين " .
فهذه الدعوات تبين لنا ما كان من فقه الإمام أحمد وبصره بهذا الأمر .
الإمام والفتنة
والحق أن المحنة التي وقعت
له هي أبرز مفصل ومرحلة من مراحل حياته ، بدأت في عام ثمانية وعشر ومائتين ،
واستمرت حتى عام أربع وثلاثين ومائتين ، وابتلي فيها الإمام أحمد بصور شتى
.. كان منها السجن والضرب ، وكان منها أن يعلق من رجليه فيدلى رحمة
الله عليه، وكان منها أن يلف في بسط ويداس وهو في داخل البساط حتى يدمى
رحمة الله عليه، وكان كالطود الشامخ ، لكن كانت عنده حجة مفحمة وبرهان قاطع
أعيا به العقول ، وأخرس به الألسنة ، ووقف الجميع أمامه لا يملكون منه إلا
حجة الضعيف - وحجة الضعيف هي القوة والطبش - تلك الحجة التي أجراها فرعون
مع موسى لما انقطعت حجته وحيلته قال : { لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين سورة الشعراء 29
وهي الحجة التي قال بها النمرود لما أعيته الحجة ، وكذلك ما كان من قوم إبراهيم مع إبراهيم الخليل عليه السلام .
ولذلك أذكر أولاً بعض
المواقف والرؤى التي كانت قبل المحنة، ذكر في كتاب كامل عن محنة الإمام
أحمد بن حنبل يقول أحد هم في بعض الروايات : أن أحد هم رأى الإمام أحمد في
المنام ، كان عليه بردٌ مخطط ، وكأنه يريد المسير إلى الجامع يوم الجمعة
،فاستعبر بعض أهل التعبير ، فقال : هذا يشتهر بالخير ، قال : فما أتي عليه
إلا قريب حتى ورد ما ورد من خبر المحنة .
ويروى عنه أن قال :" رأيت في المنام علي بن عاصم فأولته على هذا النحو، أولت علياً بالعلو ، وعاصم عصمة من الله عز وجل " .
وهذ ما حصل له ، فعلى بين الناس
ذكره وعصمه الله - عز وجل - من الفتنة والمحنة، ومن عجيب ما كان عنده من
الحجة مثل هذه المواقف كان إذا أرادوه على شيء قال :" ائتوني بشيء من كتاب
الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " .
أي أنا ليس عندي شيء أعطوني دليل من الكتاب والسنة وأنا أقبل معكم وليس بيني وبينكم شيء .
من حوارات الإمام في الفتنة
استشهد المناظرين للإمام ببعض الشبه والآراء نسوقها على ذكر الشبهة والرد :
الشبهة : استشهدوا بقوله سبحانه وتعالى :
( الله خالق كل شيء )
فيقولون له : أليس القرآن شيئاً إذاً فيكون مخلوقاً، هذه أصل الفتنة، فتنة خلق القرآن .
الرد : أليس يقول الله عز وجل يقول :
( تدمر كل شيء بأمر ربها )
فدمرت كل شيء الا ما أراد الله عز وجل، فلا يكون هذا عموماً مطلقاً بل فيه ما هو بأمر الله عز وجل .
الشبهة : احتجوا بقوله سبحانه وتعالى بآية فيها ذكر الجعل مما يشتمل على القرآن، فقالوا أليس القرآن مجعولاً فإذاً هو مخلوق .
الرد : فقال قال الله سبحانه وتعالى
( فجعلهم كعصف مأكول ) هل معناها خلقهم كعصف مأكول، إن الجعل هنا ما يصير إليه الشيء وينتهي إليه .
الشبهة : احتجوا بقوله تعالى :
( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث )
والمحدث مخلوق .
الرد : فقال الله جل وعلا في سورة
ص ( والقرآن ذي الذكر ) فقال هنا القرآن ذي الذكر فهو معرف بأل، وأما أي
ذكر فليس معرّف فليس المراد به القرآن .
فكلما جاءوه بحجة ألجمهم حجة أخرى فما استطاعوا أن يظهروا عليه بالحجة، فارادوا أن يكون ظهورهم عليه بالقوة والفتنة والمحنة .
دروس وعبر من المحنة
أولاً : منشأ هذه الفتنة كيف وقعت ؟
مما ينبغي لنا أن ننتبه له
كيف وقع من المأمون ما وقع من هذه الفتنة العظيمة ؟ كان في آخر عهد الرشيد
بداية انتشار المقالات الفلسفية التي وردت للمسلمين من أولئك الفرس وغيرهم
ممن فُتحت بلادهم، وكان المأمون ممن تتلمذ على العلاف وهو شيخ من شيوخ
المعتزلة، ثم قرّب إليه هؤلاء الناس، فألقوا في عقله ونفسه الشبه فامتنع
بها، ولذلك من أهم الأمور من يحيطون بالإمام أو الحاكم والخليفة أن يكونوا
صالحين من أهل الخير والصلاح فيحسن حينئذ حاله وتحسن حال الأمة من ورائه
ولذلك لماكانت بطانة المأمون من هؤلاء وقعت عنده هذه الشبهة وهذه المحن
التي اُبتلي بها الناس وخلاصة هذه الفتنة خلق القرآن، إن القرآن مخلوق
قالها المعتزله لأنهم أنكروا بعض الصفات ومنها صفة الكلام قالوا ننكرها
لئلا نقع في التشبيه ووصف الله عز وجل بما لا يليق من الأوصاف، فجعلوا
القرآن مخلوقاً وكونه مخلوقا يقتضي أموركثيرة من الفساد منها إن المخلوق
يخطئ ويصيب وبالتالي تزول حرمه القرآن وقدسيته التي يتلقى بموجبها المسلمون
كل شيء وارد في القرآن على أنه حكم مقطوع مجزوم به .
فلما أراد أن يقول بهذه
الفتنة أو هذه القولة خشي بعض العلماء من أهل السنة ثم تروّى فزيّن له أهل
الباطل أن يعلن بهذه الفتنة زينوا له ذلك، فهذا يدلنا على أثر أولئك القوم
وأثر البطانة فلما قال أخشى يزيد بن هارون قالوا ومن يزيد بن هارون هذا،
فلما أحجوه أعلن بهذه الفتنة في سنه 212 هـ ولكنه لم يدعو الناس إليها
حتىجاء 218 هـ فأعلن فيها هذه المقالة وحمل علماء الأمة وبدأ يمتحن الناس
عليها فأخذ عشرين من كبار العلماء والأئمة في بغداد منهم الإمام أحمد يريد
أن يمتحنهم وأن يقولوا بهذا القول .
وبعد ذلك حمل الى الخليفه
أربعة من هؤلاء الكبار ومنهم محمد بن نوح والقواريري وسجادة وفي أثناء
الطريق جاءت مقالة تروي من أبي جعفر الأنباري ويرويها بعضهم من أحد الأعراب
أنه سلم على الإمام أحمد وهم خارجون في الطريق و قيل أنه أبو جعفر
الأنباري، وقد عبر النهر ليلقى الإمام أحمد فقال :
"يا هذا إنك وافد الناس فلا
تكن شؤماً عليهم وإنك رأس الناس اليوم فإياك ان تجيبهم الى ما يدعونك إليه
فيجيبوا فتحمل أوزارهم الى يوم القيامة وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت
فيه فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل وانك إن لم تقتل تموت وإن عشت عشت
حميداً، قال أحمد : فكان كلامه مما قوّى عزمي وثبتني "
وفي بعض الروايات التي هي عن أبي جعفر انه قال :
"ما شاء الله ماشاء الله "
فرح لأنه كان هذا عزمه فرأى
من شدة عزمه ما قواه، وهذا مما يدلنا على أن المرء بإخوانه يعان بإذن الله
عز وجل، وأن التثبيت من الله لكن من أسبابه ان يثبت الإخوان أخاهم عندما
تمر به محنة أو فتنة وهذا الذي وقع للإمام أحمد رحمة الله عليه .
مواقف عابرة
لا أراه ولا يراني
أنه لما قدموا على المامون
كان محمد بن نوح قد مات في الطريق فجاء الى الإمام أحمد خادم الخليفه وهو
يمسح دموعه يقول : يعز علي يا أبا عبد الله ان المامون قد سل سيفا لم يسله
قبل ذلك وإنه يقسم إن لم تجبه بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف فجيء الإمام
أحمد على ركبته ورمى بطرفه الى السماء وقال :
"سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أولئك بالضرب والقتل اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤمنته "
فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل وفي بعض الروايات ان الإمام أحمد قال :
( اللهم اني أسالك ان لا أراه ولا يراني )
فكان الأمر كما كان رجع الإمام أحمد مع محمد بن نوح في مقابلته المعتصم وكان مرض بن نوح وموته في هذا الطريق .
سبعة عشر فقط
ومن الصور التي مرت به في هذه المحنة انه قال رحمة الله عليه :
" ضربت بالأسواط أول يوم فطفقت أعد سبعة عشر سوطاً ثم أغمي عليّ ولم أدر ما كان "
ويقول الذين غسلوا الإمام أحمد وكانت وفاته سنه واحد واربعين ومائتين يقولوا :
" رأينا أثر السياط في ظهره ما زال ظاهرا "
ويقول أيضاً عن نفسه :
" عُلِّقت من رجلي وبيني
وبين الأرض مسافه ذراع فكانوا يضربونني بالسياط حتى انقطع الحبل بي ودقت
عنقي في الأرض وأغمي علي ولم أدر ما وراء ذلك "
وكما يقال ما أشبه الليلة
بالبارحة نسمع عن مثل هذا في مثل هذه الأيام بل نسمع ما هو أفظع وأشد، لأن
القوم من مضوا كانوا على اجتهاد وان انحرفوا، أما من هم اليوم يعذبون دعاة
الإسلام وأولياء الله عز وجل فإنهم قد نقموا على الإسلام كله ونعتمد؟ على
أهله وأبوا أن يكون لهذا الإسلام دولة يطبق فيها شرعه ويحكم فيها بحكمه
سبحانه وتعالى .
الدوس حتى الإغماء
ويقول أيضاً فيما وقع له من البلاء أنه :
" جيء بحصيرة ولفوه فيها دخلوا يدوسونه بأرجلهم حتى أغمي عليه "
وفي كل ذلك يقولون قل كما نقول بخلق القرآن فيأبى .
إن كان هذا عقلك
وفي فترة سجنه جاء بعض
تلامذته يترخصون وكان معهم ابن أبي زهير فقال له : أيها الإمام ما عليك ان
تجيب لك عيال لك كذا وكذا، يعني قل ببعض القول والمسألة سهلة قال ولو
أجبتهم فإنه عند الله سبحانه وتعالى يعلم ما في قلبك فنظر إليه الإمام
أحمد، وقال كلمة كأنها صفعة قال :
" إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد فقد استرحت "
إن كنت تفكر بنفسك وبهذه
النظرة الضعيفة والمصلحة الشخصية والعيال فقد استرحت لإنك لا تحمل هم الأمة
ولا هم أبناء الأمة ولا هم الدعوة والحماية لهذا الدين والذود عن العقيدة
فإذاً فأنت كما قال القائل توبيخاً وهِجاءً
دع المكارم لا ترحل لبغيتها فاقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
هل يفكر مثل الإمام أحمد في
طعامه وشرابه وأهله وعياله ودوره وما فيها وما كان فيها أصلاه؟ لكن لذلك
قال له يا أبا سعيد "إن كان هذا عقلك فقد استرحت" ولا يستريح صاحب الهمة
العالية وصاحب العقل الذي يفكر في هموم المسلمين وفي مصالح الأمة فإنه يبقى
منشغلاً ويبقى حاملاً لهم، ولذلك قال الله عز وجل في وصف رسوله صلى
الله عليه وسلم
( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لميؤمنوا بهذا الحديث أسفا )
كان يحمل هماً ويديم التفكير
ويواصل العمل والتدبير لا لشيء يعود عليه بالنفع وإنما ليستنقذ الضُلاّل
من الكفر الى الإيمان ومن الظلمة الى النور وليخرج الناس من هذا الموات
الى حياة يحيون بها بالإيمان وتكون نجاتهم في الآخرة بإذن الله عز وجل .
لحم ميِّت
ثم أُخرج من السجن ورجع
الى منزله ولما جاءه الطبيب جعل يقطع من جسمه لحماً ميتاً مما ابتله؟
السياط أي لم يكن؟ يحسن به مثل الأماكن التي تصبح كانها ليست من الجسم،
وكان قد مكث في السجن ثمانية وعشرين شهراً .
التجاوز إلا للبدعة
ومن عظمة نفسه رحمة
الله عليه انه كان قد أحل من آذان الا من كان صاحب بدعه حتى يدع عليه بدعته
أما المساكين الذين كانوا يَجلِدون وهم مُستخدمين فقد عفا عنهم ولم يحمل
في قلبه حقداً ولا غلاً لأنه لم يحتمل ذل لأجلهم ولم يحتمل ذلك منهم وإنما
كان يرى في ذلك ثباتاً على أمر الله عز وجل والتماساً لثواب الله سبحانه
وتعالى وكان يقول :
" ماذا ينفعك ان يعذب أخوك المسلم بسببك "
تريد أن تقتص منه مرة أخرى
أو تقول هذا الذي فعل هذا وكذا وان تغري به حتى يقع به الضر ما هذه نفوس
المؤمنين ولا النفوس الكبيرة التي تثقب؟ الأجساد بها وهي أعظم من هذه
الأجساد ما تستطيعه، ثم أيضاً قيل له مرة ادع على ظالمك فقال :
" ليس بصابر من دعا على ظالمه "
هذه مراتب عالية في حياة
الأنبياء إن سؤالهم الله عز وجل لم يكن سؤالاً مباشراً لأنهم كانوا
يستعظمون بعد نعمة الله عز وجل ان يسرعوا في الجزع وان يلحوا في الدعاء كما
في قصه أيوب عليه السلام وفي قصه الخليل إبراهيم عليه السلام ولذلك كان
يتلو الإمام أحمد عند ما يذكر له هذا القول :
( فمن عفا وأصلح فأجره على الله )
ومن قصص ذلك أنه كان يذكر ما
يضرب به من السياط وكان الخليفة بنفسه يشهد هذا الضرب ويقول للضارب
"شد عليه قطع الله يدك" ثم تأتي القالة السيئة عندما بالغوا في ضربه فقال
أحدهم : يا أمير المؤمنين دمه في عنقي أقتله وانا أتحمل دمه، هؤلاء الذين
لم يكونوا يرعون حرمة المسلم ولا كرامة العالم ولا منزلة الإمام من الأئمة
وجعلوا يقولون :
" يا أمير المؤمنين أنت صائم
وفي الشمس قائم فقال الخليفه ويحك يا أحمد ما تقول قال أعطوني شيئاً من
كتاب الله وسنه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أقول به "
فرجع وجلس وقال للجلاد :
تقدم وأوجع قطع الله يدك، فجعلوا يضربونه أيضاً ثم جاء دور بعض الأشرار
قالوا لا تقتله فيقولون مات في مجلسك صبراً فيعظم عند الناس ويكون إماماً
ولكن أرسله حتى إذا مات في بيته لم يكن له مثل ذلك، فكانوا يعرفون إرتباط
الناس وأثرهم في مثل هذه الأمور، وبعد المعتصم جاء الواثق واستمرت المحنة
أيضاً، ولكنه في فترة من الفترات منعه من مجالسة الناس وشهود الجماعات
الى غير ذلك من الأمور .
وذكر بعضهم مناظره وقعت لأحد
الأشياخ قيل انه من أهل الشام جاء مناظراً أحمد بن أبي دوءد الذي هو كان
قاضي القضاة وشيخ المعتزلة، وهو صاحب هذه الفتنة فجاء هذا الشيخ في مناظرة
كما ذكر الذهبي وغيره في سندها لكن فيها حكمه وحجة، جاء الشيخ وأُدخل
ليناظره ابن أبي دوءاد وقال له ناظر ابن أبي دوءاد قال الشيخ : يا بن أبي
دوءاد أخبرني عن مقالتك هذه أهي داخلة في عقد الدين فلا يكون الدين كاملا
حتى يقال ما قلت، قال نعم قال فأخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم هل ستر شيئاً مما أمر به ؟ قال لا قال فدعا لمقالتك هذه، فسكت فقال :
الشيخ يا أمير المؤمنين واحدة يعني هذه الجولة الأولى فقال واحدة .
ثم مضى مرة أخرى الشيخ يقول أخبرني عن الله حين قال :
( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي )
فكان هو صادق في إكمال دينه أم أنت الصادق في نقصانه حتى قلت هذا القول فسكت ابن أبي دوءاد، فقال الثانية .
فقال : أعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
هذه المقالة أم جهلها، فقال : علمها فقال : شيء لم يعلمه رسول الله صلى
الله عليه وسلم وعلمته أنت فسكت ثم قال : لم يعلمها ثم بعد ذلك قال : هل
دعا إليها فقال : لا، فقال : أمر إتسع له علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبلغه ولم يطالب أمته به، قال : نعم، بعد ذلك حاجه مرة أخرى، فقال : يا أمير المؤمنين أمر وسع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يسكت عنه ووسع الخلفاء من بعده ان يسكتوا عنه ما يسعك ان تسكت عنه فاطرق الواثق يفكر فقال بل يسعني فكوا قيود هذا الشيخ .
فلذلك لما طال الأمر واستمر
وقويت حجه الإمام أحمد مع صبره وثباته العجيب الذي جعله إماماً للممتحنين
حينئذ قضى الله عز وجل بعد وفاة الواثق أن جاء المتوكل بعده فهداه الله
الى السنة فرفع المحنة عن الإمام أحمد وعظمه ووقره وجعل له أمر تولية
القضاء وأمر تغيير أحوال الدول هو كما قلنا مما روي عنه انه ابتلي بالضراء
فصبر وابتلي بالسراء فشكر وجاءته الدنيا الى قدميه فلم يخفض رأسه لينظر
إليها بل ظل شامخ الرأس ووطئها بأقدامه مضيقاً على طريق الله سبحانه وتعالى
.
وكانت وفاته درساً وعبرة
فإنه رحمة الله عليه مرض تسعة أيام وجعل يطلب أبناءه وأحفاده وجعل يشمهم
ويودعهم وكان في وقت مرضه إذا اشتد عليه يقول : لا بعد لا بعد، فسأله إبنه
فقال : إن الشيطان يقول فتني يا أحمد يعني انتهى أمرك ولم أستطع ان أبلغ
منك مبلغاً يقول : فكنت أقول لا بعد لا بعد حتى أموت كان يخشى على نفسه
الفتنة حتى في مثل هذه اللحظات .
ولذلك ظل الإمام أحمد حتى
قيل انه روي له أو سمع حديثا عن ترك الأنين فلم يكن يئن حتى لا يدخل في
الجزع من قضاء الله عز وجل، ولما مات الإمام أحمد بن حنبل خرجت بغداد كلها
في جنازته حتى قالوا لم يصلوا العصر ذلك اليوم لأن وفاته كانت صبيحة الجمعة
الثاني عشر من ربيع الأول وكانت ولادته أيضاً في الثاني عشر من ربيع الأول
عام 164 هـ ووفاته في الثاني عشر من ربيع الأول عام 214 هـ .
يقول الذهبي في رواية :
" فحُصِيَ من حضر جنازته ألف ألف نفس ـ يعني مليون ـ وظل الناس يصلون على قبره وقتاً طويلاً "
وكانت جنازته فرح الناس بها
لما أظهرت من نصرة السنة وإن كانوا قد حزنوا لما كان من موت الإمام أحمد
رحمة الله عليه، فهذه وقفات سريعة أمضيناها مع الإمام أحمد وإن كانت حقيقة
كل واحدة منها جدية بأن تكون وضعاً للإقتداء ورؤية الواقع الذي نحن فيه لما
بيننا وبين الإمام وغيره من الأئمة من بون شاسع خاصة فيما يتعلق بالصلة
بالله عز وجل وقد جمع التقوى والورع مع العلم والفقه في الدين وخاصة أيضاً
فيما يتعلق بالنفوس وتهذيبها والإخلاص وتحريره لله سبحانه وتعالى ورعايه
مصلحة الأمة والجهاد في سبيل نشر دعوة الله عز وجل والثبات على ذلك، نسأل
الله ان يرزقنا حسن الإقتداء والتأسي بأمثال هؤلاء الأئمة رحمة الله عليهم .
المصدر : موقع إسلاميات
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]