منتديات سيفن ستارز
عزيزى الزائر نتمنى ان تكون فى تمام الصحة والعافية نتمنا ان تسجل معنا وانشاء الله تفيدنا وتستفيد منا المدير العام لمنتديات سيفن ستارز
تفسير سورة البقرة  >

منتديات سيفن ستارز
عزيزى الزائر نتمنى ان تكون فى تمام الصحة والعافية نتمنا ان تسجل معنا وانشاء الله تفيدنا وتستفيد منا المدير العام لمنتديات سيفن ستارز
تفسير سورة البقرة  >

منتديات سيفن ستارز
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
ارجو من الساده الاعضاء القدامى تعديل بيانتهم الشخصية
ياجماعة انصحكم بالدخول على المنتدى بالمتصفع العملاق Mozilla Firefox
مشاركتك بالموضوعات تعنى أنك قرأت قانون المنتدى ، وأنك تتحمل المسئولية الأدبية والقانونية عن نشر هذا الموضوع او الردود
تتقدم منتديات سيفن ستارز بأحر التهانى القلبية للأخت رونى المحامية المشرفة على المنتدى القانونى وذلك بمناسبة الزواج السعيد نسأل الله لها التوفيق فى حياتها وألف مليون مبروك لها ولزوجها الأستاذ /حسين إبراهيم حسين وعقبال البكارى وحياة سعيدة ملؤها التراحم والمحبة والقرب من الله
على السادة الأعضاء الإلتزام بالأقسام النوعية للمنتدى عند تقديم مساهماتهم حيث يكون كل موضوع داخل القسم الخاص به حتى يعطى الشكل المطلوب مع سهولة الوصول إليه لكل متصفح .فالموضوعات الخاصة بالمرأة داخل منتدى المرأة .والموضوعات التى تتحدث عن الإسلام توضع فى المنتدى الإسلامى   ...وهكذا ..ونشكر لكم حسن العمل .كما نشكركم على الأداء الممتاز داخل المنتديات..كما نحذر من الخوض أو التطرق لما يمس الغير أو التهجم أو إذدراء الأديان أو الخوض فى موضوعات سياسيه..المنتديات  أصلاً ..منشأة لتبنى وجهة النظر الأجتماعيه والإسلاميه لأهل السنة والجماعة دون التقليل من الغير بل الإحترام المتبادل..وللجميع ودون تميز بجنس أو نوع أو دين أو لون وشكراً لكم جميعاً...
إدارة المنتديات...سيفن ستارز.

 

 تفسير سورة البقرة

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 22, 2010 1:57 pm

الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

بيان

لما كانت السورة نازلة نجوما لم يجمعها غرض واحد إلا أن معظمها تنبىء عن غاية واحدة محصلة و هو بيان أن من حق عبادة الله سبحانه أن يؤمن عبده بكل ما أنزله بلسان رسله من غير تفرقة بين وحي و وحي، و لا بين رسول و رسول و لا غير ذلك ثم تقريع الكافرين و المنافقين و ملامة أهل الكتاب بما ابتدعوه من التفرقة في دين الله و التفريق بين رسله، ثم التخلص إلى بيان عدة من الأحكام كتحويل القبلة و أحكام الحج و الإرث و الصوم و غير ذلك.

قوله تعالى: الم، سيأتي بعض ما يتعلق من الكلام بالحروف المقطعة التي في أوائل السور، في أول سورة الشورى إن شاء الله، و كذلك الكلام في معنى هداية القرآن و معنى كونه كتابا.

و قوله تعالى: هدى للمتقين الذين يؤمنون إلخ، المتقون هم المؤمنون، و ليست التقوى من الأوصاف الخاصة لطبقة من طبقاتهم أعني: لمرتبة من مراتب الإيمان حتى تكون مقاما من مقاماته نظير الإحسان و الإخبات و الخلوص، بل هي صفة مجامعة لجميع مراتب الإيمان إذا تلبس الإيمان بلباس التحقق، و الدليل على ذلك أنه تعالى لا يخص بتوصيفه طائفة خاصة من طوائف المؤمنين على اختلاف طبقاتهم و درجاتهم و الذي أخذه تعالى من الأوصاف المعرفة للتقوى في هذه الآيات التسع عشرة التي يبين فيها حال المؤمنين و الكفار و المنافقين خمس صفات، و هي الإيمان بالغيب، و إقامة الصلاة، و الإنفاق مما رزق الله سبحانه، و الإيمان بما أنزله على أنبيائه، و الإيقان بالآخرة، و قد وصفهم بأنهم على هدى من ربهم فدل ذلك على أن تلبسهم بهذه الصفات الكريمة بسبب تلبسهم بلباس الهداية من الله سبحانه، فهم إنما صاروا متقين أولي هذه الصفات بهداية منه تعالى، ثم وصف الكتاب بأنه هدى لهؤلاء المتقين بقوله تعالى: «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين» فعلمنا بذلك: أن الهداية غير الهداية، و أن هؤلاء و هم متقون محفوفون بهدايتين، هداية أولى بها صاروا متقين، و هداية ثانية أكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى و بذلك صحت المقابلة بين المتقين و بين الكفار و المنافقين، فإنه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين و عمائين، ضلال أول هو الموجب لأوصافهم الخبيثة من الكفر و النفاق، و ضلال ثان يتأكد به ضلالهم الأول، و يتصفون به بعد تحقق الكفر و النفاق كما يقوله تعالى في حق الكفار: «ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة»: البقرة - 7، فنسب الختم إلى نفسه تعالى و الغشاوة إلى أنفسهم، و كما يقوله في حق المنافقين: «في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا»: البقرة - 10 فنسب المرض الأول إليهم و المرض الثاني إلى نفسه على حد ما يستفاد من قوله تعالى: «يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة - 26، و قوله تعالى: «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم»: الصف - 5.

و بالجملة المتقون واقعون بين هدايتين، كما أن الكفار و المنافقين واقعون بين ضلالين.

ثم إن الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الأولى قبل القرآن و بسبب سلامة الفطرة، فإن الفطرة إذا سلمت لم تنفك من أن تتنبه شاهده لفقرها و حاجتها إلى أمر خارج عنها، و كذا احتياج كل ما سواها مما يقع عليه حس أو وهم أو عقل إلى أمر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحس منه يبدأ الجميع و إليه ينتهي و يعود، و إنه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الأعمال و الأخلاق، و هذا هو الإذعان بالتوحيد و النبوة و المعاد و هي أصول الدين، و يلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيته، و استعمال ما في وسع الإنسان من مال و جاه و علم و فضيلة لإحياء هذا الأمر و نشره، و هذان هما الصلاة و الإنفاق.

و من هنا يعلم: أن الذي أخذه سبحانه من أوصافهم هو الذي يقضي به الفطرة إذا سلمت و أنه سبحانه وعدهم أنه سيفيض عليهم أمرا سماه هداية، فهذه الأعمال الزاكية منهم متوسطة بين هدايتين كما عرفت، هداية سابقة و هداية لاحقة، و بين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد و صلاح العمل، و من الدليل على أن هذه الهداية الثانية من الله سبحانه فرع الأولى، آيات كثيرة كقوله تعالى: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا و في الآخرة»: إبراهيم - 27.

و قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به»: الحديد - 28.

و قوله تعالى: «إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم»: محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - 7.

و قوله تعالى: و الله لا يهدي القوم الظالمين»: الصف - 7.

و قوله تعالى: «و الله لا يهدي القوم الفاسقين»: الصف - 5.

إلى غير ذلك من الآيات.

و الأمر في ضلال الكفار و المنافقين كما في المتقين على ما سيأتي إن شاء الله.

و في الآيات إشارة إلى حياة أخرى للإنسان كامنة مستبطنة تحت هذه الحياة الدنيوية، و هي الحياة التي بها يعيش الإنسان في هذه الدار و بعد الموت و حين البعث، قال تعالى: «أو من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها»: الأنعام - 123.

و سيأتي الكلام فيه إن شاء الله.

و قوله سبحانه: يؤمنون، الإيمان تمكن الاعتقاد في القلب مأخوذ من الأمن كأن المؤمن يعطي لما أمن به الأمن من الريب و الشك و هو آفة الاعتقاد، و الإيمان كما مر معنى ذو مراتب، إذ الإذعان ربما يتعلق بالشيء نفسه فيترتب عليه أثره فقط، و ربما يشتد بعض الاشتداد فيتعلق ببعض لوازمه، و ربما يتعلق بجميع لوازمه فيستنتج منه أن للمؤمنين طبقات على حسب طبقات الإيمان.

و قوله سبحانه: بالغيب، الغيب خلاف الشهادة و ينطبق على ما لا يقع عليه الحس، و هو الله سبحانه و آياته الكبرى الغائبة عن حواسنا، و منها الوحي، و هو الذي أشير إليه بقوله: «و الذين يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك» فالمراد بالإيمان بالغيب في مقابل الإيمان بالوحي و الإيقان بالآخرة، هو الإيمان بالله تعالى ليتم بذلك الإيمان بالأصول الثلاثة للدين، و القرآن يؤكد القول على عدم القصر على الحس فقط و يحرص على اتباع سليم العقل و خالص اللب.

و قوله سبحانه: و بالآخرة هم يوقنون، العدول في خصوص الإذعان بالآخرة عن الإيمان إلى الإيقان، كأنه للإشارة إلى أن التقوى لا تتم إلا مع اليقين بالآخرة الذي لا يجامع نسيانها، دون الإيمان المجرد، فإن الإنسان ربما يؤمن بشيء و يذهل عن بعض لوازمه فيأتي بما ينافيه، لكنه إذا كان على علم و ذكر من يوم يحاسب فيه على الخطير و اليسير من أعماله لا يقتحم معه الموبقات و لا يحوم حوم محارم الله سبحانه البتة قال تعالى: «و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب»: ص - 26، فبين تعالى: أن الضلال عن سبيل الله إنما هو بنسيان يوم الحساب فذكره و اليقين به ينتج التقوى.

و قوله تعالى: أولئك على هدى من ربهم، الهداية كلها من الله سبحانه، لا ينسب إلى غيره البتة إلا على نحو من المجاز كما سيأتي إن شاء الله، و لما وصفهم الله سبحانه بالهداية و قد قال في نعتها: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره»: الأنعام - 125، و شرح الصدر سعته و هذا الشرح يدفع عنه كل ضيق و شح، و قد قال تعالى: «و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون»: الحشر - 9، عقب سبحانه هاهنا أيضا قوله: أولئك على هدى من ربهم بقوله: و أولئك هم المفلحون الآية.

بحث روائي

في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: الذين يؤمنون بالغيب، قال: من آمن بقيام القائم (عليه السلام) أنه حق.

أقول: و هذا المعنى مروي في غير هذه الرواية و هو من الجري.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: «و مما رزقناهم ينفقون» قال: و مما علمناهم يبثون.

و في المعاني، عنه (عليه السلام): في الآية: و مما علمناهم يبثون، و ما علمناهم من القرآن يتلون.

أقول: و الروايتان مبنيتان على حمل الإنفاق على الأعم من إنفاق المال كما ذكرناه.

بحث فلسفي

هل يجوز التعويل على غير الإدراكات الحسية من المعاني العقلية؟ هذه المسألة من معارك الآراء بين المتأخرين من الغربيين و إن كان المعظم من القدماء و حكماء الإسلام على جواز التعويل على الحس و العقل معا بل ذكروا أن البرهان العلمي لا يشمل المحسوس من حيث إنه محسوس، لكن الغربيين مع ذلك اختلفوا في ذلك، و المعظم منهم و خاصة من علماء الطبيعة على عدم الاعتماد على غير الحس، و قد احتجوا على ذلك بأن العقليات المحضة يكثر وقوع الخطإ و الغلط فيها مع عدم وجود ما يميز به الصواب من الخطإ و هو الحس و التجربة المماسان للجزئيات بخلاف الإدراكات الحسية فإنا إذا أدركنا شيئا بواحد من الحواس أتبعنا ذلك بالتجربة بتكرار الأمثال، و لا نزال نكرر حتى نستثبت الخاصة المطلوبة في الخارج ثم لا يقع فيه شك بعد ذلك، و الحجة باطلة مدخولة.

أولا: بأن جميع المقدمات المأخوذة فيها عقلية غير حسية فهي حجة على بطلان الاعتماد على المقدمات العقلية بمقدمات عقلية فيلزم من صحة الحجة فسادها.

و ثانيا: بأن الغلط في الحواس لا يقصر عددا من الخطإ و الغلط في العقليات، كما يرشد إليه الأبحاث التي أوردوها في المبصرات و سائر المحسوسات، فلو كان مجرد وقوع الخطإ في باب موجبا لسده و سقوط الاعتماد عليه لكان سد باب الحس أوجب و ألزم.

و ثالثا: أن التميز بين الخطإ و الصواب مما لا بد منه في جميع المدركات غير أن التجربة و هو تكرر الحس ليست آلة لذلك التميز بل القضية التجربية تصير إحدى المقدمات من قياس يحتج به على المطلوب، فإنا إذا أدركنا بالحس خاصة من الخواص ثم أتبعناه بالتجربة بتكرار الأمثال تحصل لنا في الحقيقة قياس على هذا الشكل: إن هذه الخاصة دائمي الوجود أو أكثري الوجود لهذا الموضوع، و لو كانت خاصة لغير هذا الموضوع لم يكن بدائمي أو أكثري، لكنه دائمي أو أكثري و هذا القياس كما ترى يشتمل على مقدمات عقلية غير حسية و لا تجريبية.

و رابعا: هب أن جميع العلوم الحسية مؤيدة بالتجربة في باب العمل لكن من الواضح أن نفس التجربة ليس ثبوتها بتجربة أخرى و هكذا إلى غير النهاية بل العلم بصحته من طريق غير طريق الحس، فالاعتماد على الحس و التجربة اعتماد على العلم العقلي اضطرارا.

و خامسا: أن الحس لا ينال غير الجزئي المتغير و العلوم لا تستنتج و لا تستعمل غير القضايا الكلية و هي غير محسوسة و لا مجربة، فإن التشريح مثلا إنما ينال من الإنسان مثلا أفرادا معدودين قليلين أو كثيرين، يعطي للحس فيها مشاهدة أن لهذا الإنسان قلبا و كبدا مثلا، و يحصل من تكرارها عدد من المشاهدة يقل أو يكثر و ذلك غير الحكم الكلي في قولنا: كل إنسان فله قلب أو كبد، فلو اقتصرنا في الاعتماد و التعويل على ما يستفاد من الحس و التجربة فحسب من غير ركون على العقليات من رأس لم يتم لنا إدراك كلي و لا فكر نظري و لا بحث علمي، فكما يمكن التعويل أو يلزم على الحس في مورد يخص به كذلك التعويل فيما يخص بالقوة العقلية، و مرادنا بالعقل هو المبدأ لهذه التصديقات الكلية و المدرك لهذه الأحكام العامة، و لا ريب أن الإنسان معه شيء شأنه هذا الشأن، و كيف يتصور أن يوجد و يحصل بالصنع و التكوين شيء شأنه الخطأ في فعله رأسا؟ أو يمكن أن يخطىء في فعله الذي خصه به التكوين؟ و التكوين إنما يخص موجودا من الموجودات بفعل من الأفعال بعد تثبت الرابطة الخارجية بينهما، و كيف يثبت رابطة بين موجود و ما ليس بموجود أي خطأ و غلط؟ و أما وقوع الخطإ في العلوم أو الحواس فلبيان حقيقة الأمر فيه محل آخر ينبغي الرجوع إليه و الله الهادي.

بحث آخر فلسفي

الإنسان البسيط في أوائل نشأته حين ما يطأ موطأ الحياة لا يرى من نفسه إلا أنه ينال من الأشياء أعيانها الخارجية من غير أن يتنبه أنه يوسط بينه و بينها وصف العلم، و لا يزال على هذا الحال حتى يصادف في بعض مواقفه الشك أو الظن، و عند ذلك يتنبه: أنه لا ينفك في سيره الحيوي و معاشه الدنيوي عن استعمال العلم لا سيما و هو ربما يخطىء و يغلط في تميزاته، و لا سبيل للخطإ و الغلط إلى خارج الأعيان، فيتيقن عند ذلك بوجود صفة العلم و هو الإدراك المانع من النقيض فيه.

ثم البحث البالغ يوصلنا أيضا إلى هذه النتيجة، فإن إدراكاتنا التصديقية تحلل إلى قضية أول الأوائل و هي أن الإيجاب و السلب لا يجتمعان معا و لا يرتفعان معا فما من قضية بديهية أو نظرية إلا و هي محتاجة في تمام تصديقها إلى هذه القضية البديهية الأولية، حتى إنا لو فرضنا من أنفسنا الشك فيها وجدنا الشك المفروض لا يجامع بطلان نفسه و هو مفروض، و إذا ثبتت هذه القضية على بداهتها ثبت جم غفير من التصديقات العلمية على حسب مساس الحاجة إلى إثباتها، و عليها معول الإنسان في أنظاره و أعماله.

فما من موقف علمي و لا واقعة عملية إلا و معول الإنسان فيه على العلم، حتى أنه إنما يشخص شكه بعلمه أنه شك، و كذا ظنه أو وهمه أو جهله بما يعلم أنه ظن أو وهم أو جهل هذا.

و لقد نشأ في عصر اليونانيين جماعة كانوا يسمون بالسوفسطائيين نفوا وجود العلم، و كانوا يبدون في كل شيء الشك حتى في أنفسهم و في شكهم، و تبعهم آخرون يسمون بالشكاكين قريبو المسلك منهم نفوا وجود العلم عن الخارج عن أنفسهم و أفكارهم إدراكاتهم و ربما لفقوا لذلك وجوها من الاستدلال.

منها: أن أقوى العلوم و الإدراكات و هي الحاصلة لنا من طرق الحواس مملوءة خطأ و غلطا فكيف بغيرها؟ و مع هذا الوصف كيف يمكن الاعتماد على شيء من العلوم و التصديقات المتعلقة بالخارج منا؟ و منها: أنا كلما قصدنا نيل شيء من الأشياء الخارجية لم ننل عند ذلك إلا العلم به دون نفسه فكيف يمكن النيل لشيء من الأشياء؟ إلى غير ذلك من الوجوه.

و الجواب عن الأول: أن هذا الاستدلال يبطل نفسه، فلو لم يجز الاعتماد على شيء من التصديقات لم يجز الاعتماد على المقدمات المأخوذة في نفس الاستدلال، مضافا إلى أن الاعتراف بوجود الخطإ و كثرته اعتراف بوجود الصواب بما يعادل الخطأ أو يزيد عليه، مضافا إلى أن القائل بوجود العلم لا يدعي صحة كل تصديق بل إنما يدعيه في الجملة، و بعبارة أخرى يدعي الإيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي و الحجة لا تفي بنفي ذلك.

و الجواب عن الثاني: أن محل النزاع و هو العلم حقيقته الكشف عن ما وراءه فإذا فرضنا أنا كلما قصدنا شيئا من الأشياء الخارجية وجدنا العلم بذلك اعترفنا بأنا كشفنا عنه حينئذ، و نحن إنما ندعي وجود هذا الكشف في الجملة، و لم يدع أحد في باب وجود العلم: أنا نجد نفس الواقع و ننال عين الخارج دون كشفه، و هؤلاء محجوجون بما تعترف به نفوسهم اعترافا اضطراريا في أفعال الحياة الاختيارية و غيرها، فإنهم يتحركون إلى الغذاء و الماء عند إحساس ألم الجوع و العطش، و كذا إلى كل مطلوب عند طلبه لا عند تصوره الخالي، و يهربون عن كل محذور مهروب عنه عند العلم بوجوده لا عند مجرد تصوره، و بالجملة كل حاجة نفسانية ألهمتها إليهم إحساساتهم أوجدوا حركة خارجية لرفعها و لكنهم عند تصور تلك الحاجة من غير حاجة الطبيعة إليها لا يتحركون نحو رفعها، و بين التصورين فرق لا محالة، و هو أن أحد العلمين يوجده الإنسان باختياره و من عند نفسه و الآخر إنما يوجد في الإنسان بإيجاد أمر خارج عنه مؤثر فيه، و هو الذي يكشف عنه العلم، فإذن العلم موجود و ذلك ما أردناه.

و اعلم: أن في وجود العلم شكا قويا من وجه آخر و هو الذي وضع عليه أساس العلوم المادية اليوم من نفي العلم الثابت و كل علم ثابت، بيانه: أن البحث العلمي يثبت في عالم الطبيعة نظام التحول و التكامل، فكل جزء من أجزاء عالم الطبيعة واقع في مسير الحركة و متوجه إلى الكمال، فما من شيء إلا و هو في الآن الثاني من وجوده غيره و هو في الآن الأول من وجوده، و لا شك أن الفكر و الإدراك من خواص الدماغ فهي خاصة مادية لمركب مادي، فهي لا محالة واقعة تحت قانون التحول و التكامل، فهذه الإدراكات و منها الإدراك المسمى بالعلم واقعة في التغير و التحول فلا معنى لوجود علم ثابت باق و إنما هو نسبي، فبعض التصديقات أدوم بقاء و أطول عمرا أو أخفى نقيضا و نقضا من بعض آخر و هو المسمى بالعلم فيما وجد.

و الجواب عنه: أن الحجة مبنية على كون العلم ماديا غير مجرد في وجوده و ليس ذلك بينا و لا مبينا بل الحق أن العلم ليس بمادي البتة، و ذلك لعدم انطباق صفات المادة و خواصها عليه.

1 فإن الماديات مشتركة في قبول الانقسام و ليس يقبل العلم بما أنه علم الانقسام البتة.

2 و الماديات مكانية زمانية و العلم بما أنه علم لا يقبل مكانا و لا زمانا، و الدليل عليه إمكان تعقل الحادثة الجزئية الواقعة في مكان معين و زمان معين في كل مكان و كل زمان مع حفظ العينية.

3 و الماديات بأجمعها واقعة تحت سيطرة الحركة العمومية فالتغير خاصة عمومية فيها مع أن العلم بما أنه علم لا يتغير، فإن حيثية العلم بالذات تنافي حيثية التغير و التبدل و هو ظاهر عند المتأمل.

4 و لو كان العلم مما يتغير بحسب ذاته كالماديات لم يمكن تعقل شيء واحد و لا حادثة واحدة في وقتين مختلفين معا و لا تذكر شيء أو حادثة سابقة في زمان لاحق، فإن الشيء المتغير و هو في الآن الثاني غيره في الآن الأول، فهذه الوجوه و نظائرها دالة على أن العلم بما أنه علم ليس بمادي البتة، و أما ما يحصل في العضو الحساس أو الدماغ من تحقق عمل طبيعي فليس بحثنا فيه أصلا و لا دليل على أنه هو العلم، و مجرد تحقق عمل عند تحقق أمر من الأمور لا يدل على كونهما أمرا واحدا، و الزائد على هذا المقدار من البحث ينبغي أن يطلب من محل آخر.


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

بيان

قوله تعالى: إن الذين كفروا، هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر و تمكن الجحود من قلوبهم، و يدل عليه وصف حالهم بمساواة الإنذار و عدمه فيهم، و لا يبعد أن يكون المراد من هؤلاء الذين كفروا هم الكفار من صناديد قريش و كبراء مكة الذين عاندوا و لجوا في أمر الدين و لم يألوا جهدا في ذلك و لم يؤمنوا حتى أفناهم الله عن آخرهم في بدر و غيره، و يؤيده أن هذا التعبير و هو قوله: سواء عليهم، أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، لا يمكن استطراده في حق جميع الكفار و إلا انسد باب الهداية و القرآن ينادي على خلافه، و أيضا هذا التعبير إنما وقع في سورة يس و هي مكية و في هذه السورة و هي سورة البقرة أول سورة نزلت في المدينة نزلت و لم تقع غزوة بدر بعد، فالأشبه أن يكون المراد من الذين كفروا، هاهنا و في سائر الموارد من كلامه تعالى: كفار مكة في أول البعثة إلا أن تقوم قرينة على خلافه، نظير ما سيأتي أن المراد من قوله تعالى: الذين آمنوا، فيما أطلق في القرآن من غير قرينة هم السابقون الأولون من المسلمين، خصوا بهذا الخطاب تشريفا.

و قوله تعالى: ختم الله على قلوبهم و على سمعهم «إلخ» يشعر تغيير السياق: حيث نسب الختم إلى نفسه تعالى و الغشاوة إليهم أنفسهم بأن فيهم حجابا دون الحق في أنفسهم و حجابا من الله تعالى عقيب كفرهم و فسوقهم، فأعمالهم متوسطة بين حجابين: من ذاتهم و من الله تعالى، و سيأتي بعض ما يتعلق بالمقام في قوله تعالى: «إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا».

و اعلم أن الكفر كالإيمان وصف قابل للشدة و الضعف فله مراتب مختلفة الآثار كالإيمان.

بحث روائي

في الكافي، عن الزبيري عن الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عز و جل، قال: الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه، فمنها كفر الجحود، و الجحود على وجهين، و الكفر بترك ما أمر الله، و كفر البراءة، و كفر النعم. فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية و هو قول من يقول: لا رب و لا جنة و لا نار، و هو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهرية و هم الذين يقولون و ما يهلكنا إلا الدهر و هو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم و لا تحقيق لشيء مما يقولون: قال عز و جل: إن هم إلا يظنون، أن ذلك كما يقولون، و قال: إن الذين كفروا - سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، يعني بتوحيد الله، فهذا أحد وجوه الكفر. و أما الوجه الآخر فهو الجحود على معرفة، و هو أن يجحد الجاحد و هو يعلم أنه حق قد استقر عنده، و قد قال الله عز و جل: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا»، و قال الله عز و جل: و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به - فلعنة الله على الكافرين، فهذا تفسير وجهي الجحود، و الوجه الثالث من الكفر كفر النعم و ذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان: هذا من فضل ربي ليبلوني أ أشكر أم أكفر - و من شكر فإنما يشكر لنفسه - و من كفر فإن ربي غني كريم، و قال: لئن شكرتم لأزيدنكم - و لئن كفرتم إن عذابي لشديد، و قال: فاذكروني أذكركم و اشكروا لي و لا تكفرون. و الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عز و جل به، و هو قول عز و جل: «و إذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم - و لا تخرجون أنفسكم من دياركم - ثم أقررتم و أنتم تشهدون - ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم - و تخرجون فريقا منكم من ديارهم - تظاهرون عليهم بالإثم و العدوان - و إن يأتوكم أسارى تفادوهم - و هو محرم عليكم إخراجهم - أ فتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض»، فكفرهم بترك ما أمر الله عز و جل به و نسبهم إلى الإيمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم عنده فقال: فما جزاء من يفعل ذلك منكم - إلا خزي في الحيوة الدنيا و يوم القيمة يردون إلى أشد العذاب - و ما الله بغافل عما تعملون. و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة و ذلك قول الله عز و جل يحكي قول إبراهيم: كفرنا بكم و بدا بيننا و بينكم العداوة و البغضاء أبدا - حتى تؤمنوا بالله وحده، يعني تبرأنا منكم، و قال: يذكر إبليس و تبريه من أوليائه من الإنس يوم القيامة إني كفرت بما أشركتمون من قبل، و قال: إنما اتخذتم من دون الله أوثانا - مودة بينكم في الحيوة الدنيا - ثم يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض و يلعن بعضكم بعضا، يعني يتبرأ بعضكم من بعض.

أقول: و هي في بيان قبول الكفر الشدة و الضعف كما مر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 22, 2010 2:00 pm

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (Cool يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

بيان

قوله تعالى: و من الناس من يقول إلى آخر الآيات، الخدعة نوع من المكر، و الشيطان هو الشرير و لذلك سمي إبليس شيطانا.

و في الآيات بيان حال المنافقين، و سيجيء إن شاء الله تفصيل القول فيهم في سورة المنافقين و غيرها.

و قوله تعالى: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا «إلخ» مثل يمثل به حالهم، أنهم كالذي وقع في ظلمة عمياء لا يتميز فيها خير من شر و لا نافع من ضار فتسبب لرفعها بسبب من أسباب الاستضاءة كنار يوقدها فيبصر بها ما حولها فلما توقدت و أضاءت ما حولها أخمدها الله بسبب من الأسباب كريح أو مطر أو نحوهما فبقي فيما كان عليه من الظلمة و تورط بين ظلمتين: ظلمة كان فيها و ظلمة الحيرة و بطلان السبب.

و هذه حال المنافق، يظهر الإيمان فيستفيد بعض فوائد الدين باشتراكه مع المؤمنين في مواريثهم و مناكحهم و غيرهما حتى إذا حان حين الموت و هو الحين الذي فيه تمام الاستفادة من الإيمان ذهب الله بنوره و أبطل ما عمله و تركه في ظلمة لا يدرك فيها شيئا و يقع بين الظلمة الأصلية و ما أوجده من الظلمة بفعاله.

و قوله تعالى: أو كصيب من السماء إلخ، الصيب هو المطر الغزير، و البرق معروف، و الرعد هو الصوت الحادث من السحاب عند الإبراق، و الصاعقة هي النازلة من البروق.

و هذا مثل ثان يمثل به حال المنافقين في إظهارهم الإيمان، أنهم كالذي أخذه صيب السماء و معه ظلمة تسلب عنه الأبصار و التمييز، فالصيب يضطره إلى الفرار و التخلص، و الظلمة تمنعه ذلك، و المهولات من الرعد و الصاعقة محيطة به فلا يجد مناصا من أن يستفيد بالبرق و ضوئه و هو غير دائم و لا باق متصل كلما أضاء له مشى و إذا أظلم عليه قام.

و هذه حال المنافق فهو لا يحب الإيمان و لا يجد بدا من إظهاره، و لعدم المواطاة بين قلبه و لسانه لا يستضيء له طريقه تمام الاستضاءة، فلا يزال يخبط خبطا بعد خبط و يعثر عثرة بعد عثرة فيمشي قليلا و يقف قليلا و يفضحه الله بذلك و لو شاء الله لذهب بسمعه و بصره فيفتضح من أول يوم

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

بيان

قوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا «إلخ»، لما بين سبحانه: حال الفرق الثلاث: المتقين و الكافرين، و المنافقين، و أن المتقين على هدى من ربهم و القرآن هدى لهم، و أن الكافرين مختوم على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة، و أن المنافقين مرضى و زادهم الله مرضا و هم صم بكم عمي و ذلك في تمام تسع عشرة آية فرع تعالى على ذلك أن دعى الناس إلى عبادته و أن يلتحقوا بالمتقين دون الكافرين و المنافقين بهذه الآيات الخمس إلى قوله: خالدون.

و هذا السياق يعطي كون قوله: لعلكم تتقون متعلقا بقوله: اعبدوا، دون قوله خلقكم و إن كان المعنى صحيحا على كلا التقديرين.

و قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا و أنتم تعلمون، الأنداد جمع ند كمثل، وزنا و معنى و عدم تقييد قوله تعالى: و أنتم تعلمون بقيد خاص و جعله حالا من قوله تعالى فلا تجعلوا، يفيد التأكيد البالغ في النهي بأن الإنسان و له علم ما كيفما كان لا يجوز له أن يتخذ لله سبحانه أندادا و الحال أنه سبحانه هو الذي خلقهم و الذين من قبلهم ثم نظم النظام الكوني لرزقهم و بقائهم.

و قوله تعالى: فأتوا بسورة من مثله أمر تعجيزي لإبانة إعجاز القرآن، و أنه كتاب منزل من عند الله لا ريب فيه، إعجازا باقيا بمر الدهور و توالي القرون و قد تكرر في كلامه تعالى: «هذا التعجيز كقوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا»: الإسراء - 88، و قوله تعالى: «أم يقولون افتريه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات و ادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين»: هود - 13.

و على هذا فالضمير في مثله عائد إلى قوله تعالى: مما نزلنا، و يكون تعجيزا بالقرآن نفسه و بداعة أسلوبه و بيانه.

و يمكن أن يكون الضمير راجعا إلى قوله: عبدنا، فيكون تعجيزا بالقرآن من حيث إن الذي جاء به رجل أمي لم يتعلم من معلم و لم يتلق شيئا من هذه المعارف الغالية العالية و البيانات البديعة المتقنة من أحد من الناس فيكون الآية في مساق قوله تعالى: قل لو شاء الله ما تلوته عليكم و لا أدريكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أ فلا تعقلون»: يونس - 16، و قد ورد التفسيران معا في بعض الأخبار.

و اعلم: أن هذه الآية كنظائرها تعطي إعجاز أقصر سورة من القرآن كسورة الكوثر و سورة العصر مثلا، و ما ربما يحتمل من رجوع ضمير مثله إلى نفس السورة كسورة البقرة أو سورة يونس مثلا يأباه الفهم المستأنس بأساليب الكلام إذ من يرمي القرآن بأنه افتراء على الله تعالى إنما يرميه جميعا و لا يخصص قوله ذاك بسورة دون سورة، فلا معنى لرده بالتحدي بسورة البقرة أو بسورة يونس لرجوع المعنى حينئذ إلى مثل قولنا: و إن كنتم في ريب من سورة الكوثر أو الإخلاص مثلا فأتوا بسورة مثل سورة يونس و هو بين الاستهجان هذا.

الإعجاز و ماهيته

اعلم: أن دعوى القرآن أنها آية معجزة بهذا التحدي الذي أبدتها هذه الآية تنحل بحسب الحقيقة إلى دعويين، و هما دعوى ثبوت أصل الإعجاز و خرق العادة الجارية و دعوى أن القرآن مصداق من مصاديق الإعجاز و معلوم أن الدعوى الثانية تثبت بثبوتها الدعوى الأولى، و القرآن أيضا يكتفي بهذا النمط من البيان و يتحدى بنفسه فيستنتج به كلتا النتيجتين غير أنه يبقى الكلام على كيفية تحقق الإعجاز مع اشتماله على ما لا تصدقه العادة الجارية في الطبيعة من استناد المسببات إلى أسبابها المعهودة المشخصة من غير استثناء في حكم السببية أو تخلف و اختلاف في قانون العلية، و القرآن يبين حقيقة الأمر و يزيل الشبهة فيه.

فالقرآن يشدق في بيان الأمر من جهتين.

الأولى: أن الإعجاز ثابت و من مصاديقه القرآن المثبت لأصل الإعجاز و لكونه منه بالتحدي.

الثانية: أنه ما هو حقيقة الإعجاز و كيف يقع في الطبيعة أمر يخرق عادتها و ينقض كليتها.

إعجاز القرآن

لا ريب في أن القرآن يتحدى بالإعجاز في آيات كثيرة مختلفة مكية و مدنية تدل جميعها على أن القرآن آية معجزة خارقة حتى أن الآية السابقة أعني قوله تعالى: «و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله» الآية، أي من مثل النبي « (صلى الله عليه وآله وسلم)» استدلال على كون القرآن معجزة بالتحدي على إتيان سورة نظيرة سورة من مثل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا أنه استدلال على النبوة مستقيما و بلا واسطة، و الدليل عليه قوله تعالى في أولها: «و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا» و لم يقل و إن كنتم في ريب من رسالة عبدنا، فجميع التحديات الواقعة في القرآن نحو استدلال على كون القرآن معجزة خارقة من عند الله، و الآيات المشتملة على التحدي مختلفة في العموم و الخصوص و من أعمها تحديا قوله تعالى: «قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا»: الإسراء - 88، و الآية مكية و فيها من عموم التحدي ما لا يرتاب فيه ذو مسكة.

فلو كان التحدي ببلاغة بيان القرآن و جزالة أسلوبه فقط لم يتعد التحدي قوما خاصا و هم العرب العرباء من الجاهليين و المخضرمين قبل اختلاط اللسان و فساده، و قد قرع بالآية أسماع الإنس و الجن.

و كذا غير البلاغة و الجزالة من كل صفة خاصة اشتمل عليها القرآن كالمعارف الحقيقية و الأخلاق الفاضلة و الأحكام التشريعية و الأخبار المغيبة و معارف أخرى لم يكشف البشر حين النزول عن وجهها النقاب إلى غير ذلك، كل واحد منها مما يعرفه بعض الثقلين دون جميعهم، فإطلاق التحدي على الثقلين ليس إلا في جميع ما يمكن فيه التفاضل في الصفات.

فالقرآن آية للبليغ في بلاغته و فصاحته، و للحكيم في حكمته، و للعالم في علمه و للاجتماعي في اجتماعه، و للمقننين في تقنينهم و للسياسيين في سياستهم، و للحكام في حكومتهم، و لجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعا كالغيب و الاختلاف في الحكم و العلم، و البيان.

و من هنا يظهر أن القرآن يدعي عموم إعجازه من جميع الجهات من حيث كونه إعجازا لكل فرد من الإنس و الجن من عامة أو خاصة أو عالم أو جاهل أو رجل أو امرأة أو فاضل بارع في فضله أو مفضول إذا كان ذا لب يشعر بالقول، فإن الإنسان مفطور على الشعور بالفضيلة و إدراك الزيادة و النقيصة فيها، فلكل إنسان أن يتأمل ما يعرفه من الفضيلة في نفسه أو في غيره من أهله ثم يقيس ما أدركه منها إلى ما يشتمل عليه القرآن فيقضي بالحق و النصفة، فهل يتأتى القوة البشرية أن يختلق معارف إلهية مبرهنة تقابل ما أتى به القرآن و تماثله في الحقيقة؟ و هل يمكنها أن تأتي بأخلاق مبنية على أساس الحقائق تعادل ما أتى به القرآن في الصفاء و الفضيلة؟ و هل يمكنها أن يشرع أحكاما تامة فقهية تحصي جميع أعمال البشر من غير اختلاف يؤدي إلى التناقض مع حفظ روح التوحيد و كلمة التقوى في كل حكم و نتيجته، و سريان الطهارة في أصله و فرعه؟ و هل يمكن أن يصدر هذا الإحصاء العجيب و الإتقان الغريب من رجل أمي لم يترب إلا في حجر قوم حظهم من الإنسانية على مزاياها التي لا تحصى و كمالاتها التي لا تغيا أن يرتزقوا بالغارات و الغزوات و نهب الأموال و أن يئدوا البنات و يقتلوا الأولاد خشية إملاق و يفتخروا بالآباء و ينكحوا الأمهات و يتباهوا بالفجور و يذموا العلم و يتظاهروا بالجهل و هم على أنفتهم و حميتهم الكاذبة أذلاء لكل مستذل و خطفة لكل خاطف فيوما لليمن و يوما للحبشة و يوما للروم و يوما للفرس؟ فهذا حال عرب الحجاز في الجاهلية.

و هل يجتري عاقل على أن يأتي بكتاب يدعيه هدى للعالمين ثم يودعه أخبارا في الغيب مما مضى و يستقبل و فيمن خلت من الأمم و فيمن سيقدم منهم لا بالواحد و الاثنين في أبواب مختلفة من القصص و الملاحم و المغيبات المستقبلة ثم لا يتخلف شيء منها عن صراط الصدق؟.

و هل يتمكن إنسان و هو أحد أجزاء نشأة الطبيعة المادية و الدار دار التحول و التكامل أن يداخل في كل شأن من شئون العالم الإنساني و يلقي إلى الدنيا معارف و علوما و قوانين و حكما و مواعظ و أمثالا و قصصا في كل ما دق و جل ثم لا يختلف حاله في شيء منها في الكمال و النقص و هي متدرجة الوجود متفرقة الإلقاء و فيها ما ظهر ثم تكرر و فيها فروع متفرعة على أصولها؟ هذا مع ما نراه أن كل إنسان لا يبقى من حيث كمال العمل و نقصه على حال واحدة.

فالإنسان اللبيب القادر على تعقل هذه المعاني لا يشك في أن هذه المزايا الكلية و غيرها مما يشتمل عليه القرآن الشريف كلها فوق القوة البشرية و وراء الوسائل الطبيعية المادية و إن لم يقدر على ذلك فلم يضل في إنسانيته و لم ينس ما يحكم به وجدانه الفطري أن يراجع فيما لا يحسن اختباره و يجهل مأخذه إلى أهل الخبرة به.

فإن قلت: ما الفائدة في توسعة التحدي إلى العامة و التعدي عن حومة الخاصة فإن العامة سريعة الانفعال للدعوة و الإجابة لكل صنيعة و قد خضعوا لأمثال الباب و البهاء و القادياني و المسيلمة على أن ما أتوا به و استدلوا عليه أشبه بالهجر و الهذيان منه بالكلام.

قلت: هذا هو السبيل في عموم الإعجاز و الطريق الممكن في تمييز الكمال و التقدم في أمر يقع فيه التفاضل و السباق، فإن أفهام الناس مختلفة اختلافا ضروريا و الكمالات كذلك، و النتيجة الضرورية لهاتين المقدمتين أن يدرك صاحب الفهم العالي و النظر الصائب و يرجع من هو دون ذلك فهما و نظرا إلى صاحبه، و الفطرة حاكمة و الغريزة قاضية.

و لا يقبل شيء مما يناله الإنسان بقواه المدركة و يبلغه فهمه العموم و الشمول لكل فرد في كل زمان و مكان بالوصول و البلوغ و البقاء إلا ما هو من سنخ العلم و المعرفة على الطريقة المذكورة، فإن كل ما فرض آية معجزة غير العلم و المعرفة فإنما هو موجود طبيعي أو حادث حسي محكوم بقوانين المادة محدود بالزمان و المكان فليس بمشهود إلا لبعض أفراد الإنسان دون بعض و لو فرض محالا أو كالمحال عمومه لكل فرد منه فإنما يمكن في مكان دون جميع الأمكنة، و لو فرض اتساعه لكل مكان لم يمكن اتساعه لجميع الأزمنة و الأوقات.

فهذا ما تحدى به القرآن تحديا عاما لكل فرد في كل مكان في كل زمان.

تحديه بالعلم

و قد تحدى بالعلم و المعرفة خاصة بقوله تعالى: «و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء»: النحل - 89، و قوله: «و لا رطب و لا يابس إلا في كتاب مبين»: الأنعام - 59، إلى غير ذلك من الآيات، فإن الإسلام كما يعلمه و يعرفه كل من سار في متن تعليماته من كلياته التي أعطاها القرآن و جزئياته التي أرجعها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنحو قوله: «ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا»: الحشر - 7، و قوله تعالى: «لتحكم بين الناس بما أريك الله»: النساء - 104، و غير ذلك متعرض للجليل و الدقيق من المعارف الإلهية «الفلسفية» و الأخلاق الفاضلة و القوانين الدينية الفرعية من عبادات و معاملات و سياسات و اجتماعيات و كل ما يمسه فعل الإنسان و عمله، كل ذلك على أساس الفطرة و أصل التوحيد بحيث ترجع التفاصيل إلى أصل التوحيد بالتحليل، و يرجع الأصل إلى التفاصيل بالتركيب.

و قد بين بقاؤها جميعا و انطباقها على صلاح الإنسان بمرور الدهور و كرورها بقوله تعالى: «و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد»: حم سجدة - 42.

و قوله تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون»: الحجر - 9، فهو كتاب لا يحكم عليه حاكم النسخ و لا يقضي عليه قانون التحول و التكامل.

فإن قلت: قد استقرت أنظار الباحثين عن الاجتماع و علماء التقنين اليوم على وجوب تحول القوانين الوضعية الاجتماعية بتحول الاجتماع و اختلافها باختلاف الأزمنة و الأوقات و تقدم المدنية و الحضارة.

قلت: سيجيء البحث عن هذا الشأن و الجواب عن الشبهة في تفسير قوله تعالى «كان الناس أمة واحدة.» الآية: البقرة - 213.

و جملة القول و ملخصه أن القرآن يبني أساس التشريع على التوحيد الفطري و الأخلاق الفاضلة الغريزية و يدعي أن التشريع يجب أن ينمو من بذر التكوين و الوجود.

و هؤلاء الباحثون يبنون نظرهم على تحول الاجتماع مع إلغاء المعنويات من معارف التوحيد و فضائل الأخلاق، فكلمتهم جامدة على سير التكامل الاجتماعي المادي العادم لفضيلة الروح، و كلمة الله هي العليا.

التحدي بمن أنزل عليه القرآن

و قد تحدى بالنبي الأمي الذي جاء بالقرآن المعجز في لفظه و معناه، و لم يتعلم عند معلم و لم يترب عند مرب بقوله تعالى: «قل لو شاء الله ما تلوته عليكم و لا أدريكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أ فلا تعقلون»: يونس - 16، فقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم و هو أحدهم لا يتسامى في فضل و لا ينطق بعلم حتى لم يأت بشيء من شعر أو نثر نحوا من أربعين سنة و هو ثلثا عمره لا يحوز تقدما و لا يرد عظيمة من عظائم المعالي ثم أتى بما أتى به دفعة فأتى بما عجزت عنه فحولهم و كلت دونه ألسنة بلغائهم، ثم بثه في أقطار الأرض فلم يجترىء على معارضته معارض من عالم أو فاضل أو ذي لب و فطانة.

و غاية ما أخذوه عليه: أنه سافر إلى الشام للتجارة فتعلم هذه القصص ممن هناك من الرهبان و لم يكن أسفاره إلى الشام إلا مع عمه أبي طالب قبل بلوغه و إلا مع ميسرة مولى خديجة و سنه يومئذ خمسة و عشرون و هو مع من يلازمه في ليله و نهاره، و لو فرض محالا ذلك فما هذه المعارف و العلوم؟ و من أين هذه الحكم و الحقائق؟ و ممن هذه البلاغة في البيان الذي خضعت له الرقاب و كلت دونه الألسن الفصاح؟.

و ما أخذوه عليه أنه كان يقف على قين بمكة من أهل الروم كان يعمل السيوف و يبيعها فأنزل الله سبحانه: «و لقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي و هذا لسان عربي مبين»: النحل - 103.

و ما قالوا عليه أنه يتعلم بعض ما يتعلم من سلمان الفارسي و هو من علماء الفرس عالم بالمذاهب و الأديان مع أن سلمان إنما آمن به في المدينة، و قد نزل أكثر القرآن بمكة و فيها من جميع المعارف الكلية و القصص ما نزلت منها بمدينة بل أزيد، فما الذي زاده إيمان سلمان و صحابته؟.

على أن من قرأ العهدين و تأمل ما فيهما ثم رجع إلى ما قصه القرآن من تواريخ الأنبياء السالفين و أممهم رأى أن التاريخ غير التاريخ و القصة غير القصة، ففيهما عثرات و خطايا لأنبياء الله الصالحين تنبو الفطرة و تتنفر من أن تنسبها إلى المتعارف من صلحاء الناس و عقلائهم، و القرآن يبرئهم منها، و فيها أمور أخرى لا يتعلق بها معرفة حقيقية و لا فضيلة خلقية و لم يذكر القرآن منها إلا ما ينفع الناس في معارفهم و أخلاقهم و ترك الباقي و هو الأكثر.

تحدي القرآن بالإخبار عن الغيب

و قد تحدى بالإخبار عن الغيب بآيات كثيرة، منها إخباره بقصص الأنبياء السالفين و أممهم كقوله تعالى: «تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا» الآية: هود - 49، و قوله تعالى بعد قصة يوسف: «ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم و هم يمكرون»: يوسف - 102 و قوله تعالى في قصة مريم: «ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم و ما كنت لديهم إذ يختصمون»: آل عمران - 44 و قوله تعالى: «ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون»: مريم - 34 إلى غير ذلك من الآيات.

و منها الإخبار عن الحوادث المستقبلة كقوله تعالى: «غلبت الروم في أدنى الأرض و هم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين»: الروم - 2، 3، و قوله تعالى في رجوع النبي إلى مكة بعد الهجرة: «إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد»: القصص - 85، و قوله تعالى «لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم و مقصرين لا تخافون» الآية: الفتح - 27، و قوله تعالى: «سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم»: الفتح - 15، و قوله تعالى: «و الله يعصمك من الناس»: المائدة - 70، و قوله تعالى «إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون»: الحجر - 9، و آيات أخر كثيرة في وعد المؤمنين و وعيد كفار مكة و مشركيها.

و من هذا الباب آيات أخر في الملاحم نظير قوله تعالى: «و حرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت يأجوج و مأجوج و هم من كل حدب ينسلون و اقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين»: الأنبياء - 95، 97، و قوله تعالى: «وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض»: النور - 55، و قوله تعالى: «قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم»: الأنعام - 65، و من هذا الباب قوله تعالى: «و أرسلنا الرياح لواقح»: الحجر - 22، و قوله تعالى «و أنبتنا فيها من كل شيء موزون»: الحجر - 19، و قوله تعالى: «و الجبال أوتادا»: النبأ - 7، مما يبتني حقيقة القول فيها على حقائق علمية مجهولة عند النزول حتى اكتشف الغطاء عن وجهها بالأبحاث العلمية التي وفق الإنسان لها في هذه الأعصار.

و من هذا الباب و هو من مختصات هذا التفسير الباحث عن آيات القرآن باستنطاق بعضها ببعض و استشهاد بعضها على بعض ما في سورة المائدة من قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه،» الآية: المائدة - 54 و ما في سورة يونس من قوله تعالى: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط إلى آخر الآيات»: يونس - 47، و ما في سورة الروم من قوله تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها» الآية: الروم - 30، إلى غير ذلك من الآيات التي تنبىء عن الحوادث العظيمة التي تستقبل الأمة الإسلامية أو الدنيا عامة بعد عهد نزول القرآن، و سنورد إن شاء الله تعالى طرفا منها في البحث عن سورة الإسراء.

تحدى القرآن بعدم الاختلاف فيه

و قد تحدى أيضا بعدم وجود الاختلاف فيه، قال تعالى: «أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»: النساء - 82، فإن من الضروري أن النشأة نشأة المادة و القانون الحاكم فيها قانون التحول و التكامل فما من موجود من الموجودات التي هي أجزاء هذا العالم إلا و هو متدرج الوجود متوجه من الضعف إلى القوة و من النقص إلى الكمال في ذاته و جميع توابع ذاته و لواحقه من الأفعال و الآثار و من جملتها الإنسان الذي لا يزال يتحول و يتكامل في وجوده و أفعاله و آثاره التي منها آثاره التي يتوسل إليها بالفكر و الإدراك، فما من واحد منا إلا و هو يرى نفسه كل يوم أكمل من أمس و لا يزال يعثر في الحين الثاني على سقطات في أفعاله و عثرات في أقواله الصادرة منه في الحين الأول، هذا أمر لا ينكره من نفسه إنسان ذو شعور.

و هذا الكتاب جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نجوما و قرأه على الناس قطعا قطعا في مدة ثلاث و عشرين سنة في أحوال مختلفة و شرائط متفاوتة في مكة و المدينة في الليل و النهار و الحضر و السفر و الحرب و السلم في يوم العسرة و في يوم الغلبة و يوم الأمن و يوم الخوف، و لإلقاء المعارف الإلهية و تعليم الأخلاق الفاضلة و تقنين الأحكام الدينية في جميع أبواب الحاجة، و لا يوجد فيه أدنى اختلاف في النظم المتشابه كتابا متشابها مثاني، و لم يقع في المعارف التي ألقاها و الأصول التي أعطاها اختلاف يتناقض بعضها مع بعض و تنافي شيء منها مع آخر، فالآية تفسر الآية و البعض يبين البعض و الجملة تصدق الجملة كما قال علي (عليه السلام): ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض: «نهج البلاغة».

و لو كان من عند غير الله لاختلف النظم في الحسن و البهاء و القول في الشداقة و البلاغة و المعنى من حيث الفساد و الصحة و من حيث الإتقان و المتانة.

فإن قلت: هذه مجرد دعوى لا تتكي على دليل و قد أخذ على القرآن مناقضات و إشكالات جمة ربما ألف فيه التأليفات، و هي إشكالات لفظية ترجع إلى قصوره في جهات البلاغة و مناقضات معنوية تعود إلى خطئه في آرائه و أنظاره و تعليماته، و قد أجاب عنها المسلمون بما لا يرجع في الحقيقة إلا إلى التأويلات التي يحترزها الكلام الجاري على سنن الاستقامة و ارتضاء الفطرة السليمة.

قلت: ما أشير إليه من المناقضات و الإشكالات موجودة في كتب التفسير و غيرها مع أجوبتها و منها هذا الكتاب، فالإشكال أقرب إلى الدعوى الخالية عن البيان.

و لا تكاد تجد في هذه المؤلفات التي ذكرها المستشكل شبهة أوردوها أو مناقضة أخذوها إلا و هي مذكورة في مسفورات المفسرين مع أجوبتها فأخذوا الإشكالات و جمعوها و رتبوها و تركوا الأجوبة و أهملوها، و نعم ما قيل: لو كانت عين الحب متهمة فعين البغض أولى بالتهمة.

فإن قلت: فما تقول: في النسخ الواقع في القرآن و قد نص عليه القرآن نفسه في قوله: «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها»: البقرة - 106 و قوله: «و إذا بدلنا آية مكان آية و الله أعلم بما ينزل»: النحل - 101، و هل النسخ إلا اختلاف في النظر لو سلمنا أنه ليس من قبيل المناقضة في القول؟.

قلت: النسخ كما أنه ليس من المناقضة في القول و هو ظاهر كذلك ليس من قبيل الاختلاف في النظر و الحكم و إنما هو ناش من الاختلاف في المصداق من حيث قبوله انطباق الحكم يوما لوجود مصلحته فيه و عدم قبوله الانطباق يوما آخر لتبدل المصلحة من مصلحة أخرى توجب حكما آخر، و من أوضع الشهود على هذا أن الآيات المنسوخة الأحكام في القرآن مقترنة بقرائن لفظية تومىء إلى أن الحكم المذكور في الآية سينسخ كقوله تعالى: «و اللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفيهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا»: النساء - 14، انظر إلى التلويح الذي تعطيه الجملة الأخيرة، و كقوله تعالى: «ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا» إلى أن قال «فاعفوا و اصفحوا حتى يأتي الله بأمره»: البقرة - 109 حيث تمم الكلام بما يشعر بأن الحكم مؤجل.

التحدي بالبلاغة

و قد تحدى القرآن بالبلاغة كقوله تعالى: «أم يقولون افتريه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات و ادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله و أن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون»: هود، 13، 14.

و الآية مكية، و قوله تعالى: «أم يقولون افتريه قل فأتوا بسورة مثله و ادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله»: يونس - 38، 39.

و الآية أيضا مكية و فيها التحدي بالنظم و البلاغة فإن ذلك هو الشأن الظاهر من شئون العرب المخاطبين بالآيات يومئذ، فالتاريخ لا يرتاب أن العرب العرباء بلغت من البلاغة في الكلام مبلغا لم يذكره التاريخ لواحدة من الأمم المتقدمة عليهم و المتأخرة عنهم و وطئوا موطئا لم تطأه أقدام غيرهم في كمال البيان و جزالة النظم و وفاء اللفظ و رعاية المقام و سهولة المنطق.

و قد تحدى عليهم القرآن بكل تحد ممكن مما يثير الحمية و يوقد نار الأنفة و العصبية.

و حالهم في الغرور ببضاعتهم و الاستكبار عن الخضوع للغير في صناعتهم مما لا يرتاب فيه، و قد طالت مدة التحدي و تمادى زمان الاستنهاض فلم يجيبوه إلا بالتجافي و لم يزدهم إلا العجز و لم يكن منهم إلا الاستخفاء و الفرار، كما قال تعالى: «ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون و ما يعلنون»: هود - 5.

و قد مضى من القرون و الأحقاب ما يبلغ أربعة عشر قرنا و لم يأت بما يناظره آت و لم يعارضه أحد بشيء إلا أخزى نفسه و افتضح في أمره.

و قد ضبط النقل بعض هذه المعارضات و المناقشات، فهذا مسيلمة عارض سورة الفيل بقوله: «الفيل ما الفيل و ما أدريك ما الفيل له ذنب وبيل و خرطوم طويل» و في كلام له في الوحي يخاطب السجاح النبية «فنولجه فيكن إيلاجا، و نخرجه منكن إخراجا» فانظر إلى هذه الهذيانات و اعتبر، و هذه سورة عارض بها الفاتحة بعض النصارى «الحمد للرحمن.

رب الأكوان الملك الديان.

لك العبادة و بك المستعان اهدنا صراط الإيمان» إلى غير ذلك من التقولات.

فإن قلت: ما معنى كون التأليف الكلامي بالغا إلى مرتبة معجزة للإنسان و وضع الكلام مما سمحت به قريحة الإنسان؟ فكيف يمكن أن يترشح من القريحة ما لا تحيط به و الفاعل أقوى من فعله و منشأ الأثر محيط بأثره؟ و بتقريب آخر الإنسان هو الذي جعل اللفظ علامة دالة على المعنى لضرورة الحاجة الاجتماعية إلى تفهيم الإنسان ما في ضميره لغيره فخاصة الكشف عن المعنى في اللفظ خاصة وضعية اعتبارية مجعولة للإنسان، و من المحال أن يتجاوز هذه الخاصة المترشحة عن قريحة الإنسان حد قريحته فتبلغ مبلغا لا تسعه طاقة القريحة، فمن المحال حينئذ أن يتحقق في اللفظ نوع من الكشف لا تحيط به القريحة و إلا كانت غير الدلالة الوضعية الاعتبارية، مضافا إلى أن التراكيب الكلامية لو فرض أن بينها تركيبا بالغا حد الإعجاز كان معناه أن كل معنى من المعاني المقصودة ذو تراكيب كلامية مختلفة في النقص و الكمال و البلاغة و غيرها، و بين تلك التراكيب تركيب هو أرقاها و أبلغها لا تسعها طاقة البشر، و هو التركيب المعجز، و لازمه أن يكون في كل معنى مطلوب تركيب واحد إعجازي، مع أن القرآن كثيرا ما يورد في المعنى الواحد بيانات مختلفة و تراكيب متفرقة، و هو في القصص واضح لا ينكر، و لو كانت تراكيبه معجزة لم يوجد منها في كل معنى مقصود إلا واحد لا غير.

قلت: هاتان الشبهتان و ما شاكلهما هي الموجبة لجمع من الباحثين في إعجاز القرآن في بلاغته أن يقولوا بالصرف، و معنى الصرف أن الإتيان بمثل القرآن أو سور أو سورة واحدة منه محال على البشر لمكان آيات التحدي و ظهور العجز من أعداء القرآن منذ قرون، و لكن لا لكون التأليفات الكلامية التي فيها في نفسها خارجة عن طاقة الإنسان و فائقة على القوة البشرية، مع كون التأليفات جميعا أمثالا لنوع النظم الممكن للإنسان، بل لأن الله سبحانه يصرف الإنسان عن معارضتها و الإتيان بمثلها بالإرادة الإلهية الحاكمة على إرادة الإنسان حفظا لآية النبوة و وقاية لحمى الرسالة.

و هذا قول فاسد لا ينطبق على ما يدل عليه آيات التحدي بظاهرها كقوله «قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات و ادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله» الآية: هود - 13 14، فإن الجملة الأخيرة ظاهرة في أن الاستدلال بالتحدي إنما هو على كون القرآن نازلا لا كلاما تقوله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أن نزوله إنما هو بعلم الله لا بإنزال الشياطين كما قال تعالى «أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين»: الطور - 34، و قوله تعالى: «و ما تنزلت به الشياطين و ما ينبغي لهم و ما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون»: الشعراء - 212، و الصرف الذي يقولون به إنما يدل على صدق الرسالة بوجود آية هي الصرف، لا على كون القرآن كلاما لله نازلا من عنده، و نظير هذه الآية الآية الأخرى، و هي قوله: «قل فأتوا بسورة مثله و ادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله» الآية: يونس - 39، فإنها ظاهرة في أن الذي يوجب استحالة إتيان البشر بمثل القرآن و ضعف قواهم و قوى كل من يعينهم على ذلك من تحمل هذا الشأن هو أن للقرآن تأويلا لم يحيطوا بعلمه فكذبوه، و لا يحيط به علما إلا الله فهو الذي يمنع المعارض عن أن يعارضه، لا أن الله سبحانه يصرفهم عن ذلك مع تمكنهم منه لو لا الصرف بإرادة من الله تعالى.

و كذا قوله تعالى: «أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا» الآية: النساء - 82، فإنه ظاهر في أن الذي يعجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن إنما هو كونه في نفسه على صفة عدم الاختلاف لفظا و معنى و لا يسع لمخلوق أن يأتي بكلام غير مشتمل على الاختلاف، لا أن الله صرفهم عن مناقضته بإظهار الاختلاف الذي فيه هذا، فما ذكروه من أن إعجاز القرآن بالصرف كلام لا ينبغي الركون إليه.

و أما الإشكال باستلزام الإعجاز من حيث البلاغة المحال، بتقريب أن البلاغة من صفات الكلام الموضوع و وضع الكلام من آثار القريحة الإنسانية فلا يمكن أن يبلغ من الكمال حدا لا تسعه طاقة القريحة و هو مع ذلك معلول لها لا لغيرها، فالجواب عنه أن الذي يستند من الكلام إلى قريحة الإنسان إنما هو كشف اللفظ المفرد عن معناه، و أما سرد الكلام و نضد الجمل بحيث يحاكي جمال المعنى المؤلف و هيئته على ما هو عليه في الذهن بطبعه حكاية تامة أو ناقصة و إراءة واضحة أو خفية، و كذا تنظيم الصورة العلمية في الذهن بحيث يوافق الواقع في جميع روابطه و مقدماته و مقارناته و لواحقه أو في كثير منها أو في بعضها دون بعض فإنما هو أمر لا يرجع إلى وضع الألفاظ بل إلى نوع مهارة في صناعة البيان و فن البلاغة تسمح به القريحة في سرد الألفاظ و نظم الأدوات اللفظية و نوع لطف في الذهن يحيط به القوة الذاهنة على الواقعة المحكية بأطرافها و لوازمها و متعلقاتها.

فهاهنا جهات ثلاث يمكن أن تجتمع في الوجود أو تفترق فربما أحاط إنسان بلغة من اللغات فلا يشذ عن علمه لفظ لكنه لا يقدر على التهجي و التكلم، و ربما تمهر الإنسان في البيان و سرد الكلام لكن لا علم له بالمعارف و المطالب فيعجز عن التكلم فيها بكلام حافظ لجهات المعنى حاك لجمال صورته التي هو عليها في نفسه، و ربما تبحر الإنسان في سلسلة من المعارف و المعلومات و لطفت قريحته و رقت فطرته لكن لا يقدر على الإفصاح عن ما في ضميره، و عي عن حكاية ما يشاهده من جمال المعنى و منظره البهيج.

فهذه أمور ثلاثة: أولها راجع إلى وضع الإنسان بقريحته الاجتماعية، و الثاني و الثالث راجعان إلى نوع من لطف القوة المدركة، و من البين أن إدراك القوى المدركة منا محدودة مقدرة لا نقدر على الإحاطة بتفاصيل الحوادث الخارجية و الأمور الواقعية بجميع روابطها، فلسنا على أمن من الخطإ قط في وقت من الأوقات، و مع ذلك فالاستكمال التدريجي الذي في وجودنا أيضا يوجب الاختلاف التدريجي في معلوماتنا أخذا من النقص إلى الكمال، فأي خطيب أشدق و أي شاعر مفلق فرضته لم يكن ما يأتيه في أول أمره موازنا لما تسمح به قريحته في أواخر أمره؟ فلو فرضنا كلاما إنسانيا أي كلام فرضناه لم يكن في مأمن من الخطإ لفرض عدم اطلاع متكلمه بجميع أجزاء الواقع و شرائطه أولا و لم يكن على حد كلامه السابق و لا على زنة كلامه اللاحق بل و لا أوله يساوي آخره و إن لم نشعر بذلك لدقة الأمر، لكن حكم التحول و التكامل عام ثانيا، و على هذا فلو عثرنا على كلام فصل لا هزل فيه و جد الهزل هو القول بغير علم محيط و لا اختلاف يعتريه لم يكن كلاما بشريا، و هو الذي يفيده القرآن بقوله: «أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا» الآية: النساء - 82، و قوله تعالى: «و السماء ذات الرجع و الأرض ذات الصدع إنه لقول فصل و ما هو بالهزل:» الطارق - 14. انظر إلى موضع القسم بالسماء و الأرض المتغيرتين و المعنى المقسم به في عدم تغيره و اتكائه على حقيقة ثابتة هي تأويله و سيأتي ما يراد في القرآن من لفظ التأويل، و قوله تعالى: «بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ»: البروج - 22، و قوله تعالى: «و الكتاب المبين، إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم»: الزخرف - 4.

و قوله تعالى: «فلا أقسم بمواقع النجوم و إنه لقسم لو تعلمون عظيم. إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون»: الواقعة - 79، فهذه الآيات و نظائرها تحكي عن اتكاء القرآن في معانيه على حقائق ثابتة غير متغيرة و لا متغير ما يتكي عليها.

إذا عرفت ما مر علمت أن استناد وضع اللغة إلى الإنسان لا يقتضي أن لا يوجد تأليف كلامي فوق ما يقدر عليه الإنسان الواضع به، و ليس ذلك إلا كالقول بأن القين الصانع للسيوف يجب أن يكون أشجع من يستعملها و واضع النرد و الشطرنج يجب أن يكون أمهر من يلعب بهما و مخترع العود يجب أن يكون أقوى من يضرب بها.

فقد تبين من ذلك كله أن البلاغة التامة معتمدة على نوع من العلم المطابق للواقع من جهة مطابقة اللفظ للمعنى و من جهة مطابقة المعنى المعقول للخارج الذي يحكيه الصورة الذهنية.

أما اللفظ فأن يكون الترتيب الذي بين أجزاء اللفظ بحسب الوضع مطابقا للترتيب الذي بين أجزاء المعنى المعبر عنه باللفظ بحسب الطبع فيطابق الوضع الطبع كما قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز.

و أما المعنى فأن يكون في صحته و صدقه معتمدا على الخارج الواقع بحيث لا يزول عما هو عليه من الحقيقة، و هذه المرتبة هي التي يتكي عليها المرتبة السابقة، فكم من هزل بليغ في هزليته لكنه لا يقاوم الجد، و كم من كلام بليغ مبني على الجهالة لكنه لا يعارض و لا يسعه أن يعارض الحكمة، و الكلام الجامع بين عذوبة اللفظ و جزالة الأسلوب و بلاغة المعنى و حقيقة الواقع هو أرقى الكلام.

و إذا كان الكلام قائما على أساس الحقيقة و منطبق المعنى عليها تمام الانطباق لم يكذب الحقائق الآخر و لم تكذبه فإن الحق مؤتلف الأجزاء و متحد الأركان، لا يبطل حق حقا، و لا يكذب صدق صدقا، و الباطل هو الذي ينافي الباطل و ينافي الحق، انظر إلى مغزى قوله سبحانه و تعالى: «فما ذا بعد الحق إلا الضلال»: يونس - 32، فقد جعل الحق واحدا لا تفرق فيه و لا تشتت.

و انظر إلى قوله تعالى: «و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم»: الأنعام - 153.

فقد جعل الباطل متشتتا و مشتتا و متفرقا و مفرقا.

و إذا كان الأمر كذلك فلا يقع بين أجزاء الحق اختلاف بل نهاية الايتلاف، يجر بعضه إلى بعض، و ينتج بعضه البعض كما يشهد بعضه على بعض و يحكي بعضه البعض.

و هذا من عجيب أمر القرآن فإن الآية من آياته لا تكاد تصمت عن الدلالة و لا تعقم عن الإنتاج، كلما ضمت آية إلى آية مناسبة أنتجت حقيقة من أبكار الحقائق ثم الآية الثالثة تصدقها و تشهد بها، هذا شأنه و خاصته، و سترى في خلال البيانات في هذا الكتاب نبذا من ذلك، على أن الطريق متروك غير مسلوك و لو أن المفسرين ساروا هذا المسير لظهر لنا إلى اليوم ينابيع من بحاره العذبة و خزائن من أثقاله النفيسة.

فقد اتضح بطلان الإشكال من الجهتين جميعا فإن أمر البلاغة المعجزة لا يدور مدار اللفظ حتى يقال إن الإنسان هو الواضع للكلام فكيف لا يقدر على أبلغ الكلام و أفصحه و هو واضح أو يقال إن أبلغ التركيبات المتصورة تركيب واحد من بينها فكيف يمكن التعبير عن معنى واحد بتركيبات متعددة مختلفة السياق و الجميع فائقة قدرة البشر بالغة حد الإعجاز بل المدار هو المعنى المحافظ لجميع جهات الذهن و الخارج.

معنى الآية المعجزة في القرآن و ما يفسر به حقيقتها

و لا شبهة في دلالة القرآن على ثبوت الآية المعجزة و تحققها بمعنى الأمر الخارق للعادة الدال على تصرف ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة و نشأة المادة لا بمعنى الأمر المبطل لضرورة العقل.

و ما تمحله بعض المنتسبين إلى العلم من تأويل الآيات الدالة على ذلك توفيقا بينها و بين ما يتراءى من ظواهر الأبحاث الطبيعية «العلمية» اليوم تكلف مردود إليه.

و الذي يفيده القرآن الشريف في معنى خارق العادة و إعطاء حقيقته نذكره في فصول من الكلام.

1 - تصديق القرآن لقانون العلية العامة

إن القرآن يثبت للحوادث الطبيعية أسبابا و يصدق قانون العلية العامة كما يثبته ضرورة العقل و تعتمد عليه الأبحاث العلمية و الأنظار الاستدلالية، فإن الإنسان مفطور على أن يعتقد لكل حادث مادي علة موجبة من غير تردد و ارتياب.

و كذلك العلوم الطبيعية و سائر الأبحاث العلمية تعلل الحوادث و الأمور المربوطة بما تجده من أمور أخرى صالحة للتعليل، و لا نعني بالعلة إلا أن يكون هناك أمر واحد أو مجموع أمور إذا تحققت في الطبيعة مثلا تحقق عندها أمر آخر نسميه المعلول بحكم التجارب كدلالة التجربة على أنه كلما تحقق احتراق لزم أن يتحقق هناك قبله علة موجبة له من نار أو حركة أو اصطكاك أو نحو ذلك، و من هنا كانت الكلية و عدم التخلف من أحكام العلية و المعلولية و لوازمهما.

و تصديق هذا المعنى ظاهر من القرآن فيما جرى عليه و تكلم فيه من موت و حياة و رزق و حوادث أخرى علوية سماوية أو سفلية أرضية على أظهر وجه، و إن كان يسندها جميعا بالآخرة إلى الله سبحانه لفرض التوحيد.

فالقرآن يحكم بصحة قانون العلية العامة بمعنى أن سببا من الأسباب إذا تحقق مع ما يلزمه و يكتنف به من شرائط التأثير من غير مانع لزمه وجود مسببه مترتبا عليه بإذن الله سبحانه و إذا وجد المسبب كشف ذلك عن تحقق سببه لا محالة.

2 - إثبات القرآن ما يخرق العادة

ثم إن القرآن يقتص و يخبر عن جملة من الحوادث و الوقائع لا يساعد عليه جريان العادة المشهودة في عالم الطبيعة على نظام العلة و المعلول الموجود، و هذه الحوادث الخارقة للعادة هي الآيات المعجزة التي ينسبها إلى عدة من الأنبياء الكرام كمعجزات نوح و هود و صالح و إبراهيم و لوط و داود و سليمان و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنها أمور خارقة للعادة المستمرة في نظام الطبيعة.

لكن يجب أن يعلم أن هذه الأمور و الحوادث و إن أنكرتها العادة و استبعدتها إلا أنها ليست أمورا مستحيلة بالذات بحيث يبطلها العقل الضروري كما يبطل قولنا الإيجاب و السلب يجتمعان معا و يرتفعان معا من كل جهة و قولنا الشيء يمكن أن يسلب عن نفسه و قولنا: الواحد ليس نصف الاثنين و أمثال ذلك من الأمور الممتنعة بالذات كيف؟ و عقول جم غفير من المليين منذ أعصار قديمة تقبل ذلك و ترتضيه من غير إنكار و رد و لو كانت المعجزات ممتنعة بالذات لم يقبلها عقل عاقل و لم يستدل بها على شيء و لم ينسبها أحد إلى أحد.

على أن أصل هذه الأمور أعني المعجزات ليس مما تنكره عادة الطبيعة بل هي مما يتعاوره نظام المادة كل حين بتبديل الحي إلى ميت و الميت إلى الحي و تحويل صورة إلى صورة و حادثة إلى حادثة و رخاء إلى بلاء و بلاء إلى رخاء، و إنما الفرق بين صنع العادة و بين المعجزة الخارقة هو أن الأسباب المادية المشهودة التي بين أيدينا إنما تؤثر أثرها مع روابط مخصوصة و شرائط زمانية و مكانية خاصة تقضي بالتدريج في التأثير، مثلا العصا و إن أمكن أن تصير حية تسعى و الجسد البالي و إن أمكن أن يصير إنسانا حيا لكن ذلك إنما يتحقق في العادة بعلل خاصة و شرائط زمانية و مكانية مخصوصة تنتقل بها المادة من حال إلى حال و تكتسي صورة بعد صورة حتى تستقر و تحل بها الصورة الأخيرة المفروضة على ما تصدقه المشاهدة و التجربة لا مع أي شرط اتفق أو من غير علة أو بإرادة مريد كما هو الظاهر من حال المعجزات و الخوارق التي يقصها القرآن.

يتبع...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 22, 2010 2:04 pm

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
و كما أن الحس و التجربة الساذجين لا يساعدان على تصديق هذه الخوارق للعادة كذلك النظر العلمي الطبيعي، لكونه معتمدا على السطح المشهود من نظام العلة و المعلول الطبيعيين، أعني به السطح الذي يستقر عليه التجارب العلمي اليوم و الفرضيات المعللة للحوادث المادية.

إلا أن حدوث الحوادث الخارقة للعادة إجمالا ليس في وسع العلم إنكاره و الستر عليه، فكم من أمر عجيب خارق للعادة يأتي به أرباب المجاهدة و أهل الارتياض كل يوم تمتلىء به العيون و تنشره النشريات و يضبطه الصحف و المسفورات بحيث لا يبقى لذي لب في وقوعها شك و لا في تحققها ريب.

و هذا هو الذي ألجأ الباحثين في الآثار الروحية من علماء العصر أن يعللوه بجريان أمواج مجهولة إلكتريسية مغناطيسية فافترضوا أن الارتياضات الشاقة تعطي للإنسان سلطة على تصريف أمواج مرموزة قوية تملكه أو تصاحبه إرادة و شعور و بذلك يقدر على ما يأتي به من حركات و تحريكات و تصرفات عجيبة في المادة خارقة للعادة بطريق القبض و البسط و نحو ذلك.

و هذه الفرضية لو تمت و اطردت من غير انتقاض لأدت إلى تحقق فرضية جديدة وسيعة تعلل جميع الحوادث المتفرقة التي كانت تعللها جميعا أو تعلل بعضها الفرضيات القديمة على محور الحركة و القوة و لساقت جميع الحوادث المادية إلى التعلل و الارتباط بعلة واحدة طبيعية.

فهذا قولهم و الحق معهم في الجملة إذ لا معنى لمعلول طبيعي لا علة طبيعية له مع فرض كون الرابطة طبيعية محفوظة، و بعبارة أخرى إنا لا نعني بالعلة الطبيعية إلا أن تجتمع عدة موجودات طبيعية مع نسب و روابط خاصة فيتكون منها عند ذلك موجود طبيعي جديد حادث متأخر عنها مربوط بها بحيث لو انتقض النظام السابق عليه لم يحدث و لم يتحقق وجوده.

و أما القرآن الكريم فإنه و إن لم يشخص هذه العلة الطبيعية الأخيرة التي تعلل جميع الحوادث المادية العادية و الخارقة للعادة على ما نحسبه بتشخيص اسمه و كيفية تأثيره لخروجه عن غرضه العام إلا أنه مع ذلك يثبت لكل حادث مادي سببا ماديا بإذن الله تعالى، و بعبارة أخرى يثبت لكل حادث مادي مستند في وجوده إلى الله سبحانه و الكل مستند مجرى ماديا و طريقا طبيعيا به يجري فيض الوجود منه تعالى إليه.

قال تعالى: «و من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب، و من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا»: الطلاق - 3، فإن صدر الآية يحكم بالإطلاق من غير تقييد أن كل من اتقى الله و توكل عليه و إن كانت الأسباب العادية المحسوبة عندنا أسبابا تقضي بخلافه و تحكم بعدمه فإن الله سبحانه حسبه فيه و هو كائن لا محالة، كما يدل عليه أيضا إطلاق قوله تعالى: «و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان»: البقرة - 186، و قوله تعالى: «ادعوني أستجب لكم»: المؤمن - 60، و قوله تعالى: «أ ليس الله بكاف عبده»: الزمر - 36.

ثم الجملة التالية و هي قوله تعالى: «إن الله بالغ أمره»: الطلاق - 3، يعلل إطلاق الصدر، و في هذا المعنى قوله: «و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون»: يوسف - 21، و هذه جملة مطلقة غير مقيدة بشيء البتة فلله سبحانه سبيل إلى كل حادث تعلقت به مشيته و إرادته و إن كانت السبل العادية و الطرق المألوفة مقطوعة منتفية هناك.

و هذا يحتمل وجهين: أحدهما أن يتوسل تعالى إليه من غير سبب مادي و علة طبيعية بل بمجرد الإرادة وحدها، و ثانيهما أن يكون هناك سبب طبيعي مستور عن علمنا يحيط به الله سبحانه و يبلغ ما يريده من طريقه إلا أن الجملة التالية من الآية المعللة لما قبلها أعني قوله تعالى، قد جعل الله لكل شيء قدرا تدل على ثاني الوجهين فإنها تدل على أن كل شيء من المسببات أعم مما تقتضيه الأسباب العادية أو لا تقتضيه فإن له قدرا قدره الله سبحانه عليه، و ارتباطات مع غيره من الموجودات، و اتصالات وجودية مع ما سواه، لله سبحانه أن يتوسل منها إليه و إن كانت الأسباب العادية مقطوعة عنه غير مرتبطة به إلا أن هذه الاتصالات و الارتباطات ليست مملوكة للأشياء أنفسها حتى تطيع في حال و تعصي في أخرى بل مجعولة بجعله تعالى مطيعة منقادة له.

فالآية تدل على أنه تعالى جعل بين الأشياء جميعها ارتباطات و اتصالات له أن يبلغ إلى كل ما يريد من أي وجه شاء و ليس هذا نفيا للعلية و السببية بين الأشياء بل إثبات أنها بيد الله سبحانه يحولها كيف شاء و أراد، ففي الوجود عليه و ارتباط حقيقي بين كل موجود و ما تقدمه من الموجودات المنتظمة غير أنها ليست على ما نجده بين ظواهر الموجودات بحسب العادة و لذلك نجد الفرضيات العلمية الموجودة قاصرة عن تعليل جميع الحوادث الوجودية بل على ما يعلمه الله تعالى و ينظمه.

و هذه الحقيقة هي التي تدل عليها آيات القدر كقوله تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر - 21، و قوله تعالى: «إنا كل شيء خلقناه بقدر»: القمر - 49، و قوله تعالى: «و خلق كل شيء فقدره تقديرا»: الفرقان - 2، و قوله تعالى: «الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى»: الأعلى - 3.

و كذا قوله تعالى: «ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها»: الحديد - 22، و قوله تعالى: «ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله و من يؤمن بالله يهد قلبه و الله بكل شيء عليم»: التغابن - 11.

فإن الآية الأولى و كذا بقية الآيات تدل على أن الأشياء تنزل من ساحة الإطلاق إلى مرحلة التعين و التشخص بتقدير منه تعالى و تحديد يتقدم على الشيء و يصاحبه، و لا معنى لكون الشيء محدودا مقدرا في وجوده إلا أن يتحدد و يتعين بجميع روابطه التي مع سائر الموجودات و الموجود المادي مرتبط بمجموعة من الموجودات المادية الأخرى التي هي كالقالب الذي يقلب به الشيء و يعين وجوده و يحدده و يقدره فما من موجود مادي إلا و هو متقدر مرتبط بجميع الموجودات المادية التي تتقدمه و تصاحبه فهو معلول لآخر مثله لا محالة.

و يمكن أن يستدل أيضا على ما مر بقوله تعالى: «ذلكم الله ربكم خالق كل شيء»: المؤمن - 62، و قوله تعالى: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم»: هود - 56.

فإن الآيتين بانضمام ما مرت الإشارة إليه من أن الآيات القرآنية تصدق قانون العلية العام تنتج المطلوب.

و ذلك أن الآية الأولى تعمم الخلقة لكل شيء فما من شيء إلا و هو مخلوق لله عز شأنه، و الآية الثانية تنطق بكون الخلقة و الإيجاد على وتيرة واحدة و نسق منتظم من غير اختلاف يؤدي إلى الهرج و الجزاف.

و القرآن كما عرفت يصدق قانون العلية العام في ما بين الموجودات المادية، ينتج أن نظام الوجود في الموجودات المادية سواء كانت على جري العادة أو خارقة لها على صراط مستقيم غير متخلف و وتيرة واحدة في إستناد كل حادث فيه إلى العلة المتقدمة عليه الموجبة له.

و من هنا يستنتج أن الأسباب العادية التي ربما يقع التخلف بينها و بين مسبباتها ليست بأسباب حقيقية بل هناك أسباب حقيقية مطردة غير متخلفة الأحكام و الخواص كما ربما يؤيده التجارب العلمي في جراثيم الحياة و في خوارق العادة كما مر.

3 - القرآن يسند ما أسند إلى العلة المادية إلى الله تعالى

ثم إن القرآن كما يثبت بين الأشياء العلية و المعلولية و يصدق سببية البعض للبعض كذلك يسند الأمر في الكل إلى الله سبحانه فيستنتج منه أن الأسباب الوجودية غير مستقلة في التأثير و المؤثر الحقيقي بتمام معنى الكلمة ليس إلا الله عز سلطانه.

قال تعالى: «ألا له الخلق و الأمر»: الأعراف - 53، و قال تعالى «لله ما في السموات و ما في الأرض»: البقرة - 284، و قال تعالى: «له ملك السموات و الأرض»: الحديد - 5، و قال تعالى: «قل كل من عند الله»: النساء - 77.

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على أن كل شيء مملوك محض لله لا يشاركه فيه أحد، و له أن يتصرف فيها كيف شاء و أراد و ليس لأحد أن يتصرف في شيء منها إلا من بعد أن يأذن الله لمن شاء و يملكه التصرف من غير استقلال في هذا التمليك أيضا، بل مجرد إذن لا يستقل به المأذون له دون أن يعتمد على إذن الإذن، قال تعالى: «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء»: آل عمران - 26، و قال تعالى: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»: طه - 50، إلى غير ذلك من الآيات، و قال تعالى أيضا: «له ما في السموات و ما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه»: البقرة - 255، و قال تعالى: «ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه»: يونس - 3.

فالأسباب تملكت السببية بتمليكه تعالى، و هي غير مستقلة في عين أنها مالكة.

و هذا المعنى هو الذي يعبر سبحانه عنه بالشفاعة و الإذن، فمن المعلوم أن الإذن إنما يستقيم معناه إذا كان هناك مانع من تصرف المأذون فيه، و المانع أيضا إنما يتصور فيما كان هناك مقتض موجود يمنع المانع عن تأثيره و يحول بينه و بين تصرفه.

فقد بان أن في كل السبب مبدأ مؤثرا مقتضيا للتأثير به يؤثر في مسببه، و الأمر مع ذلك لله سبحانه.

4 - القرآن يثبت تأثيرا في نفوس الأنبياء في الخوارق

ثم إنه تعالى قال: «و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق و خسر هنالك المبطلون»: المؤمن - 78.

فأفاد إناطة إتيان أية آية من أي رسول بإذن الله سبحانه فبين أن إتيان الآيات المعجزة من الأنبياء و صدورها عنهم إنما هو لمبدإ مؤثر موجود في نفوسهم الشريفة متوقف في تأثيره على الإذن كما مر في الفصل السابق.

و قال تعالى: «و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان و ما كفر سليمان و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر و ما أنزل على الملكين ببابل هاروت و ماروت و ما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء و زوجه و ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله»: البقرة - 102.

و الآية كما أنها تصدق صحة السحر في الجملة كذلك تدل على أن السحر أيضا كالمعجزة في كونه عن مبدإ نفساني في الساحر لمكان الإذن.

و بالجملة جميع الأمور الخارقة للعادة سواء سميت معجزة أو سحرا أو غير ذلك ككرامات الأولياء و سائر الخصال المكتسبة بالارتياضات و المجاهدات جميعها مستندة إلى مباد نفسانية و مقتضيات إرادية على ما يشير إليه كلامه سبحانه إلا أن كلامه ينص على أن المبدأ الموجود عند الأنبياء و الرسل و المؤمنين هو الفائق الغالب على كل سبب و في كل حال، قال تعالى: «و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم الغالبون»: الصافات - 173، و قال تعالى: «كتب الله لأغلبن أنا و رسلي»: المجادلة - 21، و قال تعالى: «إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحيوة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد»: المؤمن - 51.

و الآيات مطلقة غير مقيدة.

و من هنا يمكن أن يستنتج أن هذا المبدأ الموجود المنصور أمر وراء الطبيعة و فوق المادة.

فإن الأمور المادية مقدرة محدودة مغلوبة لما هو فوقها قدرا و حدا عند التزاحم و المغالبة، و الأمور المجردة أيضا و إن كانت كذلك إلا أنها لا تزاحم بينها و لا تمانع إلا أن تتعلق بالمادة.

بعض التعلق و هذا المبدأ النفساني المجرد المنصور بإرادة الله سبحانه إذا قابل مانعا ماديا أفاض إمدادا على السبب بما لا يقاومه سبب مادي يمنعه فافهم.

0115 1

5 - القرآن كما يسند الخوارق إلى تأثير النفوس يسندها إلى أمر الله تعالى

ثم إن الجملة الأخيرة من الآية السابقة في الفصل السابق أعني قوله تعالى: «فإذا جاء أمر الله قضي بالحق الآية، تدل على أن تأثير هذا المقتضي يتوقف على أمر من الله تعالى يصاحب الإذن الذي كان يتوقف عليه أيضا فتأثير هذا المقتضي يتوقف على مصادفته الأمر أو اتحاده معه.

و قد فسر الأمر في قوله تعالى «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون»: يس - 82، بكلمة الإيجاد و قول: كن و قال تعالى: «إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا و ما تشاءون إلا أن يشاء الله»: الدهر - 29، 30 و قال: «إن هو إلا ذكر للعالمين. لمن شاء منكم أن يستقيم. و ما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين»: التكوير - 27، 28، 29، دلت الآيات على أن الأمر الذي للإنسان إن يريده و بيده زمام اختياره لا يتحقق موجودا إلا أن يشاء الله ذلك بأن يشاء أن يشاء الإنسان و يريد إرادة الإنسان فإن الآيات الشريفة في مقام أن أفعال الإنسان الإرادية و إن كانت بيد الإنسان بإرادته لكن الإرادة و المشية ليست بيد الإنسان بل هي مستندة إلى مشية الله سبحانه، و ليست في مقام بيان أن كل ما يريده الإنسان فقد أراده الله فإنه خطأ فاحش و لازمه أن يتخلف الفعل عن إرادة الله سبحانه عند تخلفه عن إرادة الإنسان، تعالى الله عن ذلك.

مع أنه خلاف ظواهر الآيات الكثيرة الواردة في هذا المورد كقوله تعالى: «و لو شئنا لآتينا كل نفس هديها»: السجدة - 13.

و قوله تعالى: «و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا»: يونس - 99، إلى غير ذلك فإرادتنا و مشيئتنا إذا تحققت فينا فهي مرادة بإرادة الله و مشيته لها و كذا أفعالنا مرادة له تعالى من طريق إرادتنا و مشيتنا بالواسطة.

و هما أعني الإرادة و الفعل جميعا متوقفان على أمر الله سبحانه و كلمة كن.

فالأمور جميعا سواء كانت عادية أو خارقة للعادة و سواء كان خارق العادة في جانب الخير و السعادة كالمعجزة و الكرامة، أو في جانب الشر كالسحر و الكهانة مستندة في تحققها إلى أسباب طبيعية، و هي مع ذلك متوقفة على إرادة الله، لا توجد إلا بأمر الله سبحانه أي بأن يصادف السبب أو يتحد مع أمر الله سبحانه.

و جميع الأشياء و إن كانت من حيث استناد وجودها إلى الأمر الإلهي على حد سواء بحيث إذا تحقق الإذن و الأمر تحققت عن أسبابها، و إذا لم يتحقق الإذن و الأمر لم تتحقق، أي لم تتم السببية إلا أن قسما منها و هو المعجزة من الأنبياء أو ما سأله عبد ربه بالدعاء لا يخلو عن إرادة موجبة منه تعالى و أمر عزيمة كما يدل عليه قوله: «كتب الله لأغلبن أنا و رسلي» الآية: المجادلة - 21.

و قوله تعالى: «أجيب دعوة الداع إذا دعان» الآية: البقرة - 186، و غير ذلك من الآيات المذكورة في الفصل السابق.

6 - القرآن يسند المعجزة إلى سبب غير مغلوب

فقد تبين من الفصول السابقة من البحث أن المعجزة كسائر الأمور الخارقة للعادة لا تفارق الأسباب العادية في الاحتياج إلى سبب طبيعي و أن مع الجميع أسبابا باطنية و أن الفرق بينها أن الأمور العادية ملازمة لأسباب ظاهرية تصاحبها الأسباب الحقيقية الطبيعية غالبا أو مع الأغلب و مع تلك الأسباب الحقيقية إرادة الله و أمره، و الأمور الخارقة للعادة من الشرور كالسحر و الكهانة مستندة إلى أسباب طبيعية مفارقة للعادة مقارنة للسبب الحقيقي بالإذن و الإرادة كاستجابة الدعاء و نحو ذلك من غير تحد يبتني عليه ظهور حق الدعوة و أن المعجزة مستندة إلى سبب طبيعي حقيقي بإذن الله و أمره إذا كان هناك تحد يبتني عليه صحة النبوة و الرسالة و الدعوة إلى الله تعالى و أن القسمين الآخرين يفارقان سائر الأقسام في أن سببهما لا يصير مغلوبا مقهورا قط بخلاف سائر المسببات.

فإن قلت: فعلى هذا لو فرضنا الإحاطة و البلوغ إلى السبب الطبيعي الذي للمعجزة كانت المعجزة ميسورة ممكنة الإتيان لغير النبي أيضا و لم يبق فرق بين المعجزة و غيرها إلا بحسب النسبة و الإضافة فقط فيكون حينئذ أمر ما معجزة بالنسبة إلى قوم غير معجزة بالنسبة إلى آخرين، و هم المطلعون على سببها الطبيعي الحقيقي، و في عصر دون عصر، و هو عصر العلم، فلو ظفر البحث العلمي على الأسباب الحقيقية الطبيعية القصوى لم يبق مورد للمعجزة و لم تكشف المعجزة عن الحق.

و نتيجة هذا البحث أن المعجزة لا حجية فيها إلا على الجاهل بالسبب فليست حجة في نفسها.

قلت: كلا فليست المعجزة معجزة من حيث إنها مستندة إلى سبب طبيعي مجهول حتى تنسلخ عن اسمها عند ارتفاع الجهل و تسقط عن الحجية، و لا أنها معجزة من حيث استنادها إلى سبب مفارق للعادة، بل هي معجزة من حيث إنها مستندة إلى أمر مفارق للعادة غير مغلوب السبب قاهرة العلة البتة، و ذلك كما أن الأمر الحادث من جهة استجابة الدعاء كرامة من حيث استنادها إلى سبب غير مغلوب كشفاء المريض مع أنه يمكن أن يحدث من غير جهته كجهة العلاج بالدواء غير أنه حينئذ أمر عادي يمكن أن يصير سببه مغلوبا مقهورا بسبب آخر أقوى منه.

7 - القرآن يعد المعجزة برهانا على صحة الرسالة لا دليلا عاميا

و هاهنا سؤال و هو أنه ما هي الرابطة بين المعجزة و بين حقية دعوى الرسالة مع أن العقل لا يرى تلازما بين صدق الرسول في دعوته إلى الله سبحانه و بين صدور أمر خارق للعادة عن الرسول على أن الظاهر من القرآن الشريف، تقرير ذلك فيما يحكيه من قصص عدة من الأنبياء كهود و صالح و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنهم على ما يقصه القرآن حينما بثوا دعوتهم سئلوا عن آية تدل على حقية دعوتهم فأجابوهم فيما سئلوا و جاءوا بالآيات.

و ربما أعطوا المعجزة في أول البعثة قبل أن يسألهم أممهم شيئا من ذلك كما قال تعالى في موسى (عليه السلام) و هارون: «اذهب أنت و أخوك بآياتي و لا تنيا في ذكري»: طه - 42، و قال تعالى في عيسى (عليه السلام): «و رسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله و أبرىء الأكمه و الأبرص و أحيي الموتى بإذن الله و أنبئكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين»: آل عمران - 49، و كذا إعطاء القرآن معجزة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و بالجملة فالعقل الصريح لا يرى تلازما بين حقية ما أتى به الأنبياء و الرسل من معارف المبدإ و المعاد و بين صدور أمر يخرق العادة عنهم.

مضافا إلى أن قيام البراهين الساطعة على هذه الأصول الحقة يغني العالم البصير بها عن النظر في أمر الإعجاز، و لذا قيل إن المعجزات لإقناع نفوس العامة لقصور عقولهم عن إدراك الحقائق العقلية و أما الخاصة فإنهم في غنى عن ذلك.

و الجواب عن هذا السؤال أن الأنبياء و الرسل (عليهم السلام) لم يأتوا بالآيات المعجزة لإثبات شيء من معارف المبدإ و المعاد مما يناله العقل كالتوحيد و البعث و أمثالها و إنما اكتفوا في ذلك بحجة للعقل و المخاطبة من طريق النظر و الاستدلال كقوله تعالى: «قالت رسلهم أ في الله شك فاطر السموات و الأرض»: إبراهيم - 10 في الإحتجاج على التوحيد قوله تعالى: «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار»: ص - 28 في الإحتجاج على البعث.

و إنما سئل الرسل المعجزة و أتوا بها لإثبات رسالتهم و تحقيق دعويها.

و ذلك أنهم ادعوا الرسالة من الله بالوحي و أنه بتكليم إلهي أو نزول ملك و نحو ذلك و هذا شيء خارق للعادة في نفسه من غير سنخ الإدراكات الظاهرة و الباطنة التي يعرفها عامة الناس و يجدونها من أنفسهم، بل إدراك مستور عن عامة النفوس لو صح وجوده لكان تصرفا خاصا من ما وراء الطبيعة في نفوس الأنبياء فقط، مع أن الأنبياء كغيرهم من أفراد الناس في البشرية و قواها، و لذلك صادفوا إنكارا شديدا من الناس و مقاومة عنيفة في رده على أحد وجهين: فتارة حاول الناس إبطال دعويهم بالحجة كقوله تعالى: «قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آبائنا»: إبراهيم - 10، استدلوا فيها على بطلان دعويهم الرسالة بأنهم مثل سائر الناس و الناس لا يجدون شيئا مما يدعونه من أنفسهم مع وجود المماثلة، و لو كان لكان في الجميع أو جاز للجميع هذا، و لهذا أجاب الرسل عن حجتهم بما حكاه الله تعالى عنهم بقوله: «قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم و لكن الله يمن على من يشاء من عباده»: إبراهيم - 13، فردوا عليهم بتسليم المماثلة و أن الرسالة من منن الله الخاصة، و الاختصاص ببعض النعم الخاصة لا ينافي المماثلة، فللناس اختصاصات، نعم لو شاء أن يمتن على من يشاء منهم فعل ذلك من غير مانع فالنبوة مختصة بالبعض و إن جاز على الكل.

و نظير هذا الاحتجاج قولهم في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما حكاه الله تعالى: «أ أنزل عليه الذكر من بيننا»: ص - 8، و قولهم كما حكاه الله: «لو لا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم»: الزخرف - 31.

و نظير هذا الاحتجاج أو قريب منه ما في قوله تعالى: «و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لو لا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها»: الفرقان - 8، و وجه الاستدلال أن دعوى الرسالة توجب أن لا يكون بشرا مثلنا لكونه ذا أحوال من الوحي و غيره ليس فينا فلم يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لاكتساب المعيشة؟ بل يجب أن ينزل معه ملك يشاركه في الإنذار أو يلقى إليه كنز فلا يحتاج إلى مشي الأسواق للكسب أو تكون له جنة فيأكل منها لا مما نأكل منه من طعام، فرد الله تعالى عليهم بقوله: «انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا» إلى أن قال «و ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام و يمشون في الأسواق و جعلنا بعضكم لبعض فتنة أ تصبرون و كان ربك بصيرا»: الفرقان - 20، و رد تعالى في موضع آخر مطالبتهم مباشرة الملك للإنذار بقوله: «و لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا و للبسنا عليهم ما يلبسون»: الأنعام - 9.

و قريب من ذلك الاحتجاج أيضا ما في قوله تعالى: «و قال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم و عتوا عتوا كبيرا»: الفرقان - 21، فأبطلوا بزعمهم دعوى الرسالة بالوحي بمطالبة أن يشهدوا نزول الملك أو رؤية الرب سبحانه لمكان المماثلة مع النبي، فرد الله تعالى عليهم ذلك بقوله: «يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين و يقولون حجرا محجورا»: الفرقان - 22، فذكر أنهم و الحال حالهم لا يرون الملائكة إلا مع حال الموت كما ذكره في موضع آخر بقوله تعالى: «و قالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين»: الحجر - 8، و يشتمل هذه الآيات الأخيرة على زيادة في وجه الاستدلال، و هو تسليم صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعواه إلا أنه مجنون و ما يحكيه و يخبر به أمر يسوله له الجنون غير مطابق للواقع كما في موضع آخر من قوله: «و قالوا مجنون و ازدجر»: القمر - 9.

و بالجملة فأمثال هذه الآيات مسوقة لبيان إقامتهم الحجة على إبطال دعوى النبوة من طريق المماثلة.

و تارة أخرى أقاموا أنفسهم مقام الإنكار و سؤال الحجة و البينة على صدق الدعوة لاشتمالها على ما تنكره النفوس و لا تعرفه العقول على طريقة المنع مع السند باصطلاح فن المناظرة و هذه البينة هي المعجزة، بيان ذلك أن دعوى النبوة و الرسالة من كل نبي و رسول على ما يقصه القرآن إنما كانت بدعوى الوحي و التكليم الإلهي بلا واسطة أو بواسطة نزول الملك، و هذا أمر لا يساعد عليه الحس و لا تؤيده التجربة فيتوجه عليه الإشكال من جهتين: إحداهما من جهة عدم الدليل عليه، و الثانية من جهة الدليل على عدمه، فإن الوحي و التكليم الإلهي و ما يتلوه من التشريع و التربية الدينية مما لا يشاهده البشر من أنفسهم، و العادة الجارية في الأسباب و المسببات تنكره فهو أمر خارق للعادة، و قانون العلية العامة لا يجوزه، فلو كان النبي صادقا في دعواه النبوة و الوحي كان لازمه أنه متصل بما وراء الطبيعة، مؤيد بقوة إلهية تقدر على خرق العادة و أن الله سبحانه يريد بنبوته و الوحي إليه خرق العادة، فلو كان هذا حقا و لا فرق بين خارق و خارق كان من الممكن أن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع و أن يخرق الله العادة بأمر آخر يصدق النبوة و الوحي من غير مانع عنه فإن حكم الأمثال واحد فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة و هو طريق النبوة و الوحي فليؤيدها و ليصدقها بخارق آخر و هو المعجزة.

و هذا هو الذي بعث الأمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوة كلما جاءهم رسول من أنفسهم بعثا بالفطرة و الغريزة و كان سؤال المعجزة لتأييد الرسالة و تصديقها لا للدلالة على صدق المعارف الحقة التي كان الأنبياء يدعون إليها مما يمكن أن يناله البرهان كالتوحيد و المعاد، و نظير هذا ما لو جاء رجل بالرسالة إلى قوم من قبل سيدهم الحاكم عليهم و معه أوامر و نواه يدعيها للسيد فإن بيانه لهذه الأحكام و إقامته البرهان على أن هذه الأحكام مشتملة على مصلحة القوم و هم يعلمون أن سيدهم لا يريد إلا صلاح شأنهم، إنما يكفي في كون الأحكام التي جاء بها حقة صالحة للعمل، و لا تكفي البراهين و الأدلة المذكورة في صدق رسالته و أن سيدهم أراد منهم بإرساله إليهم ما جاء به من الأحكام بل يطالبونه ببينة أو علامة تدل على صدقه في دعواه ككتاب بخطه و خاتمه يقرءونه، أو علامة يعرفونها، كما قال المشركون للنبي: «حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه»: إسراء - 93.

فقد تبين بما ذكرناه أولا: التلازم بين صدق دعوى الرسالة و بين المعجزة و أنها الدليل على صدق دعواها لا يتفاوت في ذلك حال الخاصة و العامة في دلالتها و إثباتها، و ثانيا أن ما يجده الرسول و النبي من الوحي و يدركه منه من غير سنخ ما نجده بحواسنا و عقولنا النظرية الفكرية، فالوحي غير الفكر الصائب و هذا المعنى في كتاب الله تعالى من الوضوح و السطوع بحيث لا يرتاب فيه من له أدنى فهم و أقل إنصاف.

و قد انحرف في ذلك جمع من الباحثين من أهل العصر فراموا بناء المعارف الإلهية و الحقائق الدينية على ما وصفه العلوم الطبيعية من أصالة المادة المتحولة المتكاملة فقد رأوا أن الإدراكات الإنسانية خواص مادية مترشحة من الدماغ و أن الغايات الوجودية و جميع الكمالات الحقيقية استكمالات فردية أو اجتماعية مادية.

فذكروا أن النبوة نوع نبوغ فكري و صفاء ذهني يستحضر به الإنسان المسمى نبيا كمال قومه الاجتماعي و يريد به أن يخلصهم من ورطة الوحشية و البربرية إلى ساحة الحضارة و المدنية فيستحضر ما ورثه من العقائد و الآراء و يطبقها على مقتضيات عصره و محيط حياته، فيقنن لهم أصولا اجتماعية و كليات عملية يستصلح بها أفعالهم الحيوية ثم يتمم ذلك بأحكام و أمور عبادية ليستحفظ بها خواصهم الروحية لافتقار الجامعة الصالحة و المدنية الفاضلة إلى ذلك و يتفرع على هذا الافتراض: أولا: أن النبي إنسان متفكر نابغ يدعو قومه إلى صلاح محيطهم الاجتماعي.

و ثانيا: أن الوحي هو انتقاش الأفكار الفاضلة في ذهنه.

و ثالثا: أن الكتاب السماوي مجموع هذه الأفكار الفاضلة المنزهة عن التهوسات النفسانية و الأغراض النفسانية الشخصية.

و رابعا: أن الملائكة التي أخبر بها النبي قوى طبيعية تدبر أمور الطبيعة أو قوى نفسانية تفيض كمالات النفوس عليها، و أن روح القدس مرتبة من الروح الطبيعية المادية تترشح منها هذه الأفكار المقدسة، و أن الشيطان مرتبة من الروح تترشح منها الأفكار الردية و تدعو إلى الأعمال الخبيثة المفسدة للاجتماع، و على هذا الأسلوب فسروا الحقائق التي أخبر بها الأنبياء كاللوح و القلم و العرش و الكرسي و الكتاب و الحساب و الجنة و النار بما يلائم الأصول المذكورة.

و خامسا: أن الأديان تابعة لمقتضيات أعصارها تتحول بتحولها.

و سادسا: أن المعجزات المنقولة عن الأنبياء المنسوبة إليهم خرافات مجعولة أو حوادث محرفة لنفع الدين و حفظ عقائد العامة عن التبدل بتحول الأعصار أو لحفظ مواقع أئمة الدين و رؤساء المذهب عن السقوط و الاضمحلال إلى غير ذلك مما أبدعه قوم و تبعهم آخرون.

هذه جمل ما ذكروه و النبوة بهذا المعنى لأن تسمى لعبة سياسية أولى بها من أن تسمى نبوة إلهية، و الكلام التفصيلي في أطراف ما ذكروه خارج عن البحث المقصود في هذا المقام.

و الذي يمكن أن يقال فيه هاهنا أن الكتب السماوية و البيانات النبوية المأثورة على ما بأيدينا لا توافق هذا التفسير و لا تناسبه أدنى مناسبة، و إنما دعاهم إلى هذا النوع من التفسير إخلادهم إلى الأرض و ركونهم إلى مباحث المادة فاستلزموا إنكار ما وراء الطبيعة و تفسير الحقائق المتعالية عن المادة بما يسلخها عن شأنها و تعيدها إلى المادة الجامدة.

و ما ذكره هؤلاء هو في الحقيقة تطور جديد فيما كان يذكره آخرون فقد كانوا يفسرون جميع الحقائق المأثورة في الدين بالمادة غير أنهم كانوا يثبتون لها وجودات غائبة عن الحس كالعرش و الكرسي و اللوح و القلم و الملائكة و نحوها من غير مساعدة الحس و التجربة على شيء من ذلك، ثم لما اتسع نطاق العلوم الطبيعية و جرى البحث على أساس الحس و التجربة لزم الباحثين على ذلك الأسلوب أن ينكروا لهذه الحقائق وجوداتها المادية الخارجة عن الحس أو البعيدة عنه و أن يفسروها بما تعيدها إلى الوجود المادي المحسوس ليوافق الدين ما قطع به العلم و يستحفظ بذلك عن السقوط.

فهاتان الطائفتان بين باغ و عاد، أما القدماء من المتكلمين فقد فهموا من البيانات الدينية مقاصدها حق الفهم من غير مجاز غير أنهم رأوا أن مصاديقها جميعا أمور مادية محضة لكنها غائبة عن الحس غير محكومة بحكم المادة أصلا و الواقع خلافه، و أما المتأخرون من باحثي هذا العصر ففسروا البيانات الدينية بما أخرجوها به عن مقاصدها البينة الواضحة، و طبقوها على حقائق مادية ينالها الحس و تصدقها التجربة مع أنها ليست بمقصوده، و لا البيانات اللفظية تنطبق على شيء منها.

و البحث الصحيح يوجب أن تفسر هذه البيانات اللفظية على ما يعطيها اللفظ في العرف و اللغة ثم يعتمد في أمر المصداق على ما يفسر به بعض الكلام بعضا ثم ينظر، هل الأنظار العلمية تنافيها أو تبطلها؟ فلو ثبت فيها في خلال ذلك شيء خارج عن المادة و حكمها فإنما الطريق إليه إثباتا أو نفيا طور آخر من البحث غير البحث الطبيعي الذي تتكفله العلوم الطبيعية، فما للعلم الباحث عن الطبيعة و للأمر الخارج عنها؟ فإن العلم الباحث عن المادة و خواصها ليس من وظيفته أن يتعرض لغير المادة و خواصها لا إثباتا و لا نفيا.

و لو فعل شيئا منه باحث من بحاثه كان ذلك منه شططا من القول، نظير ما لو أراد الباحث في علم اللغة أن يستظهر من علمه حكم الفلك نفيا أو إثباتا، و لنرجع إلى بقية الآيات.

و قوله تعالى: فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة.

سوق الآيات من أول السورة و إن كانت لبيان حال المتقين و الكافرين و المنافقين الطوائف الثلاث جميعا لكنه سبحانه حيث جمعهم طرا في قوله: يا أيها الناس اعبدوا ربكم، و دعاهم إلى عبادته تقسموا لا محالة إلى مؤمن و غيره فإن هذه الدعوة لا تحتمل من حيث إجابتها و عدمها غير القسمين: المؤمن و الكافر و أما المنافق فإنما يتحقق بضم الظاهر إلى الباطن، و اللسان إلى القلب فكان هناك من جمع بين اللسان و القلب إيمانا أو كفرا و من اختلف لسانه و قلبه و هو المنافق، فلما ذكرنا لعله أسقط المنافقون من الذكر، و خص بالمؤمنين و الكافرين و وضع الإيمان مكان التقوى.

ثم إن الوقود ما توقد به النار و قد نصت الآية على أنه نفس الإنسان، فالإنسان وقود و موقود عليه، كما في قوله تعالى أيضا: «ثم في النار يسجرون»: المؤمن - 72 و قوله تعالى: «نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة»: اللمزة - 7، فالإنسان معذب بنار توقده نفسه، و هذه الجملة نظيره قوله تعالى: «كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل و أتوا به متشابها»: البقرة - 25، ظاهرة في أنه ليس للإنسان هناك إلا ما هيأه من هاهنا، كما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «كما تعيشون تموتون و كما تموتون تبعثون» الحديث.

و إن كان بين الفريقين فرق من حيث إن لأهل الجنة مزيدا عند ربهم.

قال تعالى: «لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد»: ق - 35.

و المراد بالحجارة في قوله: وقودها الناس و الحجارة، الأصنام التي كانوا يعبدونها، و يشهد به قوله تعالى: «إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم» الآية: الأنبياء - 98، و الحصب هو الوقود.

و قوله تعالى: لهم فيها أزواج مطهرة، قرينة الأزواج تدل على أن المراد بالطهارة هي الطهارة من أنواع الأقذار و المكاره التي تمنع من تمام الالتيام و الألفة و الأنس من الأقذار و المكاره الخلقية و الخلقية.

بحث روائي

روى الصدوق، قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن الآية فقال: الأزواج المطهرة اللاتي لا يحضن و لا يحدثن.

أقول: و في بعض الروايات تعميم الطهارة للبراءة عن جميع العيوب و المكاره.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 22, 2010 2:08 pm

إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
بيان

قوله تعالى: إن الله لا يستحيي أن يضرب، البعوضة الحيوان المعروف و هو من أصغر الحيوانات المحسوسة و هذه الآية و التي بعدها نظيرة ما في سورة الرعد «أ فمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب. الذين يوفون بعهد الله و لا ينقضون الميثاق. و الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل»: الرعد - 19، 20، 21.

و كيف كان فالآية تشهد على أن من الضلال و العمى ما يلحق الإنسان عقيب أعماله السيئة غير الضلال و العمى الذي له في نفسه و من نفسه حيث يقول تعالى: و ما يضل به إلا الفاسقين، فقد جعل إضلاله في تلو الفسق لا متقدما عليه هذا.

ثم إن الهداية و الإضلال كلمتان جامعتان لجميع أنواع الكرامة و الخذلان التي ترد منه تعالى على عباده السعداء و الأشقياء، فإن الله تعالى وصف في كلامه حال السعداء من عباده بأنه يحييهم حياة طيبة، و يؤيدهم بروح الإيمان، و يخرجهم من الظلمات إلى النور و يجعل لهم نورا يمشون به، و هو وليهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، و هو معهم يستجيب لهم إذا دعوه و يذكرهم إذا ذكروه، و الملائكة تنزل عليهم بالبشرى و السلام إلى غير ذلك.

و وصف حال الأشقياء من عباده بأنه يضلهم و يخرجهم من النور إلى الظلمات و يختم على قلوبهم، و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة، و يطمس وجوههم على أدبارهم و يجعل في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، و يجعل من بين أيديهم سدا و من خلفهم سدا فيغشيهم فهم لا يبصرون، و يقيض لهم شياطين قرناء يضلونهم عن السبيل و يحسبون أنهم مهتدون، و يزينون لهم أعمالهم، و هم أولياؤهم، و يستدرجهم الله من حيث لا يشعرون، و يملي لهم إن كيده متين، و يمكر بهم و يمدهم في طغيانهم يعمهون.

فهذه نبذة مما ذكره سبحانه من حال الفريقين و ظاهرها أن للإنسان في الدنيا وراء الحياة التي يعيش بها فيها حياة أخرى سعيدة أو شقية ذات أصول و أعراق يعيش بها فيها، و سيطلع و يقف عليها عند انقطاع الأسباب و ارتفاع الحجاب، و يظهر من كلامه تعالى أيضا أن للإنسان حياة أخرى سابقة على حياته الدنيا يحذوها فيها كما يحذو حذو حياته الدنيا فيما يتلوها.

و بعبارة أخرى إن للإنسان حياة قبل هذه الحياة الدنيا و حياة بعدها، و الحياة الثالثة تتبع حكم الثانية و الثانية حكم الأولى، فالإنسان و هو في الدنيا واقع بين حياتين: سابقة و لاحقة، فهذا هو الذي يقضي به ظاهر القرآن.

لكن الجمهور من المفسرين حملوا القسم الأول من الآيات و هي الواصفة للحياة السابقة على ضرب من لسان الحال و اقتضاء الاستعداد، و القسم الثاني منها و هي الواصفة للحياة اللاحقة على ضروب المجاز و الاستعارة هذا، إلا أن ظواهر كثير من الآيات يدفع ذلك.

أما القسم الأول و هي آيات الذر و الميثاق فستأتي في مواردها، و أما القسم الثاني فكثير من الآيات دالة على أن الجزاء يوم الجزاء بنفس الأعمال و عينها كقوله تعالى: «لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون»: التحريم - 7، و قوله تعالى: «ثم توفى كل نفس ما كسبت» الآية: البقرة - 281، و قوله تعالى: «فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة»: البقرة - 24، و قوله تعالى: «فليدع نادية سندع الزبانية»: العلق - 18، و قوله تعالى: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء»: آل عمران - 30، و قوله تعالى: «ما يأكلون في بطونهم إلا النار»: البقرة - 174، و قوله: «إنما يأكلون في بطونهم نارا»: النساء - 10، إلى غير ذلك من الآيات.

و لعمري لو لم يكن في كتاب الله تعالى إلا قوله: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد»: ق - 22، لكان فيه كفاية إذ الغفلة لا تكون إلا عن معلوم حاضر، و كشف الغطاء لا يستقيم إلا عن مغطى موجود فلو لم يكن ما يشاهده الإنسان يوم القيامة موجودا حاضرا من قبل لما كان يصح أن يقال للإنسان إن هذه أمور كانت مغفولة لك، مستورة عنك فهي اليوم مكشوف عنها الغطاء، مزالة منها الغفلة.

و لعمري إنك لو سألت نفسك أن تهديك إلى بيان يفي بهذه المعاني حقيقة من غير مجاز لما أجابتك إلا بنفس هذه البيانات و الأوصاف التي نزل بها القرآن الكريم.

و محصل الكلام أن كلامه تعالى موضوع على وجهين: أحدهما: وجه المجازاة بالثواب و العقاب، و عليه عدد جم من الآيات، تفيد: أن ما سيستقبل الإنسان من خير أو شر كجنة أو نار إنما هو جزاء لما عمله في الدنيا من العمل.

و ثانيهما: وجه تجسم الأعمال و عليه عدة أخرى من الآيات، و هي تدل على أن الأعمال تهيىء بأنفسها أو باستلزامها و تأثيرها أمورا مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيرا أو شرا هي التي سيطلع عليه الإنسان يوم يكشف عن ساق.

و إياك أن تتوهم أن الوجهين متنافيان فإن الحقائق إنما تقرب إلى الأفهام بالأمثال المضروبة، كما ينص على ذلك القرآن.

و قوله تعالى: إلا الفاسقين، الفسق كما قيل من الألفاظ التي أبدع القرآن استعمالها في معناها المعروف، مأخوذ من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها و جلدها و لذلك فسر بعده بقوله تعالى: «الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه» الآية، و النقض إنما يكون عن إبرام، و لذلك أيضا وصف الفاسقين في آخر الآية بالخاسرين و الإنسان إنما يخسر فيما ملكه بوجه، قال تعالى: «إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم و أهليهم يوم القيامة»: الشورى - 45، و إياك أن تتلقى هذه الصفات التي أثبتها سبحانه في كتابه للسعداء من عباده أو الأشقياء مثل المقربين و المخلصين و المخبتين و الصالحين و المطهرين و غيرهم، و مثل الظالمين و الفاسقين و الخاسرين و الغاوين و الضالين و أمثالها أوصافا مبتذلة أو مأخوذة لمجرد تزيين اللفظ، فتضطرب بذلك قريحتك في فهم كلامه تعالى فتعطف الجميع على واد واحد، و تأخذها هجاء عاميا و حديثا ساذجا سوقيا بل هي أوصاف كاشفة عن حقائق روحية و مقامات معنوية في صراطي السعادة و الشقاوة، كل واحد منها في نفسه مبدأ لآثار خاصة و منشأ لأحكام مخصوصة معينة، كما أن مراتب السن و خصوصيات القوى و أوضاع الخلقة في الإنسان كل منها منشأ لأحكام و آثار مخصوصة لا يمكننا أن نطلب واحدا منها من غير منشئه و محتده، و لئن تدبرت في مواردها من كلامه تعالى و أمعنت فيها وجدت صدق ما ادعيناه.

بحث الجبر و التفويض

و اعلم: أن بيانه تعالى أن الإضلال إنما يتعلق بالفاسقين يشرح كيفية تأثيره تعالى في أعمال العباد و نتائجها و هو الذي يراد حله في بحث الجبر و التفويض.

بيان ذلك: أنه تعالى قال: «لله ما في السموات و ما في الأرض»:، البقرة - 284، و قال: «له ملك السموات و الأرض»: الحديد - 5، و قال: «له الملك و له الحمد: التغابن - 1، فأثبت فيها و في نظائرها من الآيات الملك لنفسه على العالم بمعنى أنه تعالى مالك على الإطلاق ليس بحيث يملك على بعض الوجوه و لا يملك على بعض الوجوه، كما أن الفرد من الإنسان يملك عبدا أو شيئا آخر فيما يوافق تصرفاته أنظار العقلاء، و أما التصرفات السفهية فلا يملكها، و كذا العالم مملوك لله تعالى مملوكية على الإطلاق، لا مثل مملوكية بعض أجزاء العالم لنا حيث إن ملكنا ناقص إنما يصحح بعض التصرفات لا جميعها، فإن الإنسان المالك لحمار مثلا إنما يملك منه أن يتصرف فيه بالحمل و الركوب مثلا و أما أن يقتله عطشا أو جوعا أو يحرقه بالنار من غير سبب موجب فالعقلاء لا يرون له ذلك، أي كل مالكية في هذا الاجتماع الإنساني مالكية ضعيفة إنما تصحح بعض التصرفات المتصورة في العين المملوكة لا كل تصرف ممكن، و هذا بخلاف ملكه تعالى للأشياء فإنها ليس لها من دون الله تعالى من رب يملكها و هي لا تملك لنفسها نفعا و لا ضرا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا فكل تصرف متصور فيها فهو له تعالى، فأي تصرف تصرف به في عباده و خلقه فله ذلك من غير أن يستتبع قبحا و لا ذما و لا لوما في ذلك، إذ التصرف من بين التصرفات إنما يستقبح و يذم عليه فيما لا يملك المتصرف ذلك لأن العقلاء لا يرون له ذلك، فملك هذا المتصرف محدود مصروف إلى التصرفات الجائزة عند العقل، و أما هو تعالى فكل تصرف تصرف به فهو تصرف من مالك و تصرف في مملوك فلا قبح و لا ذم و لا غير ذلك، و قد أيد هذه الحقيقة بمنع الغير عن أي تصرف في ملكه إلا ما يشاؤه أو يأذن فيه و هو السائل المحاسب دون المسئول المأخوذ، فقال تعالى: «من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه»: البقرة - 255، و قال تعالى: «ما من شفيع إلا من بعد إذنه»: يونس - 3، و قال تعالى: «و لو شاء الله لهدى الناس جميعا»: الرعد - 33، و قال: «يضل من يشاء و يهدي من يشاء»: النحل - 93، و قال تعالى: «و ما تشاءون إلا أن يشاء الله»: الدهر - 30، و قال تعالى: «لا يسأل عما يفعل و هم يسألون»: الأنبياء - 23، فالله هو المتصرف الفاعل في ملكه و ليس لشيء غيره شيء من ذلك إلا بإذنه و مشيته، فهذا ما يقتضيه ربوبيته.

ثم إنا نرى أنه تعالى نصب نفسه في مقام التشريع و جرى في ذلك على ما يجري عليه العقلاء في المجتمع الإنساني، من استحسان الحسن و المدح و الشكر عليه و استقباح القبيح و الذم عليه كما قال تعالى: «إن تبدوا الصدقات فنعما هي»: البقرة - 271، و قال: «بئس الاسم الفسوق»: الحجرات - 11، و ذكر أن تشريعاته منظور فيها إلى مصالح الإنسان و مفاسده مرعي فيها أصلح ما يعالج به نقص الإنسان فقال تعالى: «إذا دعاكم لما يحييكم»: الأنفال - 24، و قال تعالى: «ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون»: الصف - 11، و قال تعالى: «إن الله يأمر بالعدل و الإحسان إلى أن قال و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي»: النحل - 90، و قال تعالى: «إن الله لا يأمر بالفحشاء»: الأعراف - 28، و الآيات في ذلك كثيرة، و في ذلك إمضاء لطريقة العقلاء في المجتمع، بمعنى أن هذه المعاني الدائرة عند العقلاء من حسن و قبح و مصلحة و مفسدة و أمر و نهي و ثواب و عقاب أو مدح و ذم و غير ذلك و الأحكام المتعلقة بها كقولهم: الخير يجب أن يؤثر و الحسن يجب أن يفعل، و القبيح يجب أن يجتنب عنه إلى غير ذلك، كما أنها هي الأساس للأحكام العامة العقلائية كذلك الأحكام الشرعية التي شرعها الله تعالى لعباده مرعي فيها ذلك، فمن طريقة العقلاء أن أفعالهم يلزم أن تكون معللة بأغراض و مصالح عقلائية، و من جملة أفعالهم تشريعاتهم و جعلهم للأحكام و القوانين، و منها جعل الجزاء و مجازاة الإحسان بالإحسان و الإساءة بالإساءة إن شاءوا فهذه كلها معللة بالمصالح و الأغراض الصالحة، فلو لم يكن في مورد أمر أو نهي من الأوامر العقلائية ما فيه صلاح الاجتماع بنحو ينطبق على المورد لم يقدم العقلاء على مثله، و كل المجازاة إنما تكون بالمسانخة بين الجزاء و أصل العمل في الخيرية و الشرية و بمقدار يناسب و كيف يناسب، و من أحكامهم أن الأمر و النهي و كل حكم تشريعي لا يتوجه إلا إلى المختار دون المضطر و المجبر على الفعل و أيضا إن الجزاء الحسن أو السيىء أعني الثواب و العقاب لا يتعلقان إلا بالفعل الاختياري اللهم إلا فيما كان الخروج عن الاختيار و الوقوع في الاضطرار مستندا إلى سوء الاختيار كمن أوقع نفسه في اضطرار المخالفة فإن العقلاء لا يرون عقابه قبيحا، و لا يبالون بقصة اضطراره.

فلو أنه سبحانه أجبر عباده على الطاعات أو المعاصي لم يكن جزاء المطيع بالجنة و العاصي بالنار إلا جزافا في مورد المطيع، و ظلما في مورد العاصي، و الجزاف و الظلم قبيحان عند العقلاء و لزم الترجيح من غير مرجح و هو قبيح عندهم أيضا و لا حجة في قبيح و قد قال تعالى: «لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل»: النساء - 165، و قال تعالى «ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة»: الأنفال - 44، فقد اتضح بالبيان السابق أمور: أحدها: أن التشريع ليس مبنيا على أساس الإجبار في الأفعال، فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم و معادهم أولا، و هي متوجهة إلى العباد من حيث إنهم مختارون في الفعل و الترك ثانيا، و المكلفون إنما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شر اختيارا.

ثانيها: أن ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الإضلال و الخدعة و المكر و الإمداد في الطغيان و تسليط الشيطان و توليته على الإنسان و تقييض القرين و نظائر ذلك جميعها منسوبة إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه و نزاهته تعالى عن ألواث النقص و القبح و المنكر، فإن جميع هذه المعاني راجعة بالآخرة إلى الإضلال و شعبه و أنواعه، و ليس كل إضلال حتى الإضلال البدوي و على سبيل الإغفال بمنسوب إليه و لا لائق بجنابه، بل الثابت له الإضلال مجازاة و خذلانا لمن يستقبل بسوء اختياره ذلك كما قال تعالى: «يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين» الآية: البقرة - 26، و قال: «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم»: الصف - 5، و قال تعالى: «كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب»: المؤمن - 34.

ثالثها: أن القضاء غير متعلق بأفعال العباد من حيث إنها منسوبة إلى الفاعلين بالانتساب الفعلي دون الانتساب الوجودي، و سيجيء لهذا القول زيادة توضيح في التذييل الآتي و في الكلام على القضاء و القدر إن شاء الله تعالى.

رابعها: أن التشريع كما لا يلائم الجبر كذلك لا يلائم التفويض، إذ لا معنى للأمر و النهي المولويين فيما لا يملك المولى منه شيئا، مضافا إلى أن التفويض لا يتم إلا مع سلب إطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه.

بحث روائي

استفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنهم قالوا: لا جبر و لا تفويض بل أمر بين أمرين الحديث.

و في العيون، بعدة طرق: لما انصرف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) من صفين قام إليه شيخ ممن شهد الواقعة معه فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا من مسيرنا هذا أ بقضاء من الله و قدر، فقال له أمير المؤمنين: أجل يا شيخ فوالله ما علوتم تلعة و لا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله و قدر، فقال الشيخ عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال: مهلا يا شيخ لعلك تظن قضاء حتما و قدرا لازما، لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب و الأمر و النهي و الزجر، و لسقط معنى الوعد و الوعيد، و لم تكن على مسيء لائمة و لا لمحسن محمدة، و لكان المحسن أولى باللائمة من المذنب و المذنب أولى بالإحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان و خصماء الرحمن و قدرية هذه الأمة و مجوسها. يا شيخ إن الله كلف تخييرا و نهى تحذيرا، و أعطى على القليل كثيرا و لم يعص مغلوبا، و لم يطع مكروها و لم يخلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا. ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار الحديث.

أقول: قوله: بقضاء من الله و قدر إلى قوله: عند الله أحتسب عنائي.

ليعلم أن من أقدم المباحث التي وقعت في الإسلام موردا للنقض و الإبرام، و تشاغبت فيه الأنظار مسألة الكلام و مسألة القضاء و القدر و إذ صوروا معنى القضاء و القدر و استنتجوا نتيجته فإذا هي أن الإرادة الإلهية الأزلية تعلقت بكل شيء من العالم فلا شيء من العالم موجودا على وصف الإمكان، بل إن كان موجودا فبالضرورة، لتعلق الإرادة بها و استحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته، و إن كان معدوما فبالامتناع لعدم تعلق الإرادة بها و إلا لكانت موجودة، و إذا اطردت هذه القاعدة في الموجودات وقع الإشكال في الأفعال الاختيارية الصادرة منا فإنا نرى في بادي النظر أن نسبة هذه الأفعال وجودا و عدما إلينا متساوية، و إنما يتعين واحد من الجانبين بتعلق الإرادة به بعد اختيار ذلك الجانب فأفعالنا اختيارية، و الإرادة مؤثرة في تحققه سبب في إيجاده، و لكن، فرض تعلق الإرادة الإلهية الأزلية المستحيلة التخلف بالفعل يبطل اختيارية الفعل أولا، و تأثير إرادتنا في وجود الفعل ثانيا و حينئذ لم يكن معنى للقدرة قبل الفعل على الفعل، و لا معنى للتكليف لعدم القدرة قبل الفعل و خاصة في صورة الخلاف و التمرد فيكون تكليفا بما لا يطاق، و لا معنى لإثابة المطيع بالجبر لأنه جزاف قبيح، و لا معنى لعقاب العاصي بالجبر لأنه ظلم قبيح إلى غير ذلك من اللوازم، و قد التزم الجميع هؤلاء الباحثون فقالوا القدرة غير موجودة قبل الفعل، و الحسن و القبح أمران غير واقعيين لا يلزم تقيد أفعاله تعالى بهما بل كل ما يفعله فهو حسن و لا يتصف فعله تعالى بالقبح، فلا مانع هناك من الترجيح بلا مرجح، و لا من الإرادة الجزافية، و لا من التكليف بما لا يطاق، و لا من عقاب العاصي و إن لم يكن النقصان من قبله إلى غير ذلك من التوالي تعالى عن ذلك.

و بالجملة كان القول بالقضاء و القدر في الصدر الأول مساوقا لارتفاع الحسن و القبح و الجزاء بالاستحقاق و لذلك لما سمع الشيخ منه (عليه السلام) كون المسير بقضاء و قدر قال و هو في مقام التأثر و اليأس: عند الله أحتسب عنائي أي إن مسيري و إرادتي فاقدة الجدوى من حيث تعلق الإرادة الإلهية بها فلم يبق لي إلا العناء و التعب من الفعل فأحتسبه عند ربي فهو الذي أتعبني بذلك فأجاب عنه الإمام (عليه السلام) بقوله: لو كان كذلك لبطل الثواب و العقاب إلخ، و هو أخذ بالأصول العقلائية التي أساس التشريع مبني عليها و استدل في آخر كلامه (عليه السلام) بقوله: و لم يخلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا إلخ، و ذلك لأن صحة الإرادة الجزافية التي هي من لوازم ارتفاع الاختيار يوجب إمكان تحقق الفعل من غير غاية و غرض و هو يوجب إمكان ارتفاع الغاية عن الخلقة و الإيجاد، و هذا الإمكان يساوق الوجوب، فلا غاية على هذا التقدير للخلقة و الإيجاد، و ذلك خلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا، و فيه بطلان المعاد و فيه كل محذور، و قوله و لم يعص مغلوبا و لم يطع مكروها كان المراد لم يعص و الحال أن عاصيه مغلوب بالجبر و لم يطع و الحال أن طوعه مكروه للمطيع.

و في التوحيد، و العيون، عن الرضا (عليه السلام) قال: ذكر عنده الجبر و التفويض فقال: أ لا أعلمكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه و لا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه؟ قلنا إن رأيت ذلك، فقال إن الله عز و جل لم يطع بإكراه، و لم يعص بغلبة، و لم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملكهم، و القادر على ما أقدرهم عليه فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله منها صادا، و لا منها مانعا و إن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل، و إن لم يحل فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال (عليه السلام) من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.

أقول: قد عرفت أن الذي ألزم المجبرة أن قالوا بما قالوا هو البحث في القضاء و القدر و استنتاج الحتم و اللزوم فيهما و هذا البحث صحيح و كذلك النتيجة أيضا نتيجة صحيحة غير أنهم أخطئوا في تطبيقها، و اشتبه عليهم أمر الحقائق و الاعتباريات، و اختلط عليهم الوجوب و الإمكان، توضيح ذلك أن القضاء و القدر على تقدير ثبوتهما ينتجان أن الأشياء في نظام الإيجاد و الخلقة على صفة الوجوب و اللزوم فكل موجود من الموجودات و كل حال من أحوال الموجود مقدرة محدودة عند الله سبحانه، معين له جميع ما هو معه من الوجود و أطواره و أحواله لا يتخلف عنه و لا يختلف، و من الواضح أن الضرورة و الوجوب من شئون العلة فإن العلة التامة هي التي إذا قيس إليها الشيء صار متصفا بصفة الوجوب و إذا قيس إلى غيرها أي شيء كان لم يصر إلا متصفا بالإمكان، فانبساط القدر و القضاء في العالم هو سريان العلية التامة و المعلولية في العالم بتمامه و جميعه، و ذلك لا ينافي سريان حكم القوة و الإمكان في العام من جهة أخرى و بنظر آخر، فالفعل الاختياري الصادر عن الإنسان بإرادته إذا فرض منسوبا إلى جميع ما يحتاج إليه في وجوده من علم و إرادة و أدوات صحيحة و مادة يتعلق بها الفعل و سائر الشرائط الزمانية و المكانية كان ضروري الوجود، و هو الذي تعلقت به الإرادة الإلهية الأزلية لكن كون الفعل ضروريا بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة و من جهتها لا يوجب كونه ضروريا إذا قيس إلى بعض أجزاء علته التامة، كما إذا قيس الفعل إلى الفاعل دون بقية أجزاء علته التامة فإنه لا يتجاوز حد الإمكان، و لا يبلغ البتة حد الوجوب فلا معنى لما زعموه أن عموم القضاء و تعلق الإرادة الإلهية بالفعل يوجب زوال القدرة و ارتفاع الاختيار، بل الإرادة الإلهية إنما تعلقت بالفعل بجميع شئونه و خصوصياته الوجودية و منها ارتباطاته بعلله و شرائط وجوده، و بعبارة أخرى تعلقت الإرادة الإلهية بالفعل الصادر من زيد مثلا لا مطلقا بل من حيث إنه فعل اختياري صادر من فاعل كذا في زمان كذا و مكان كذا فإذن تأثير الإرادة الإلهية في الفعل يوجب كون الفعل اختياريا و إلا تخلف متعلق الإرادة الإلهية عنها فإذن تأثير الإرادة الإلهية في صيرورة الفعل ضروريا يوجب كون الفعل اختياريا أي كون الفعل ضروريا بالنسبة إلى الإرادة الإلهية ممكنا اختياريا بالنسبة إلى الإرادة الإنسانية الفاعلية، فالإرادة في طول الإرادة و ليست في عرضها حتى تتزاحما، و يلزم من تأثير الإرادة الإلهية بطلان تأثير الإرادة الإنسانية فظهر أن ملاك خطإ المجبرة فيما أخطئوا فيه عدم تمييزهم كيفية تعلق الإرادة الإلهية بالفعل، و عدم فرقهم بين الإرادتين الطوليتين و بين الإرادتين العرضيتين و حكمهم ببطلان تأثير إرادة العبد في الفعل لتعلق إرادة الله تعالى به.

و المعتزلة و إن خالفت المجبرة في اختيارية أفعال العبد و سائر اللوازم إلا أنهم سلكوا في إثباته مسلكا لا يقصر من قول المجبرة فسادا، و هو أنهم سلموا للمجبرة أن تعلق إرادة الله بالفعل يوجب بطلان الاختيار، و من جهة أخرى أصروا على اختيارية الأفعال الاختيارية فنفوا بالآخرة تعلق الإرادة الإلهية بالأفعال فلزمهم إثبات خالق آخر للأفعال و هو الإنسان، كما أن خالق غيرها هو الله سبحانه فلزمهم محذور الثنوية، ثم وقعوا في محاذير أخرى أشد مما وقعت فيه المجبرة كما قال (عليه السلام): مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من قدرته و سلطانه الحديث.

فمثل هذا مثل المولى من الموالي العرفية يختار عبدا من عبيده و يزوجه إحدى فتياته ثم يقطع له قطيعة و يخصه بدار و أثاث و غير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود و أجل مسمى، فإن قلنا إن المولى و إن أعطى لعبده ما أعطى و ملكه ما ملك فإنه لا يملك و أين العبد من الملك كان ذلك قول المجبرة، و إن قلنا إن للمولى بإعطائه المال لعبده و تمليكه جعله مالكا و انعزل هو عن المالكية و كان المالك هو العبد كان ذلك قول المعتزلة، و لو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين و قلنا: إن المولى مقامه في المولوية و للعبد مقامه في الرقية و إن العبد إنما يملك في ملك المولى، فالمولى مالك في عين أن العبد مالك فهنا ملك على ملك كان ذلك القول الحق الذي رآه أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و قام عليه البرهان هذا.

و في الإحتجاج،: فيما سأله عباية بن ربعي الأسدي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في معنى الاستطاعة، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية بن ربعي فقال له قل يا عباية، قال: و ما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك فإن ملككها كان ذلك من عطائه و إن سلبكها كان ذلك من بلائه و هو المالك لما ملكك و القادر على ما عليه أقدرك الحديث.

أقول: و معنى الرواية واضح مما بيناه آنفا.

و في شرح العقائد، للمفيد قال: و قد روي عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أنه سئل عن أفعال العباد أ هي مخلوقة لله تعالى؟ فقال (عليه السلام): لو كان خالقا لها لما تبرأ منها و قد قال سبحانه: إن الله بريء من المشركين و لم يرد البراءة من خلق ذواتهم و إنما تبرأ من شركهم و قبائحهم.

أقول للأفعال جهتان: جهة ثبوت و وجود، و جهة الانتساب إلى الفاعل، و هذه الجهة الثانية هي التي تتصف بها الأفعال بأنها طاعة أو معصية أو حسنة أو سيئة، فإن النكاح و الزنا لا فرق بينهما من جهة الثبوت و التحقق، و إنما الفرق الفارق هو أن النكاح موافق لأمر الله تعالى، و الزنا فاقد للموافقة المذكورة، و كذا قتل النفس بالنفس و قتل النفس بغير نفس، و ضرب اليتيم تأديبا و ضربه ظلما، فالمعاصي فاقدة لجهة من جهات الصلاح أو لموافقة الأمر أو الغاية الاجتماعية بخلاف غيرها، و قد قال تعالى: «الله خالق كل شيء»: الزمر - 62، و الفعل شيء بثبوته و وجوده، و قد قال (عليه السلام): «كل ما وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا الله الحديث» ثم قال تعالى: «الذي أحسن كل شيء خلقه»: السجدة - 7، فتبين أن كل شيء كما أنه مخلوق فهو في أنه مخلوق، حسن فالخلقة و الحسن متلازمان متصاحبان لا ينفك أحدهما عن الآخر أصلا، ثم إنه تعالى سمى بعض الأفعال سيئة فقال: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها و من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها»: الأنعام - 160، و هي المعاصي التي يفعلها الإنسان بدليل المجازاة، و علمنا بذلك أنها من حيث إنها معاص عدمية غير مخلوقة و إلا كانت حسنة، و قال تعالى: «ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها»: الحديد - 22، و قال: «ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله و من يؤمن بالله يهد قلبه»: التغابن - 11، و قال: «ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير»: الشورى - 30، و قال: «ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك»: النساء - 79، و قال: «و إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا»: النساء - 78، علمنا بذلك أن هذه المصائب إنما هي سيئات نسبية بمعنى أن الإنسان المنعم بنعمة من نعم الله كالأمن و السلامة و الصحة و الغنى يعد واجدا فإذا فقدها لنزول نازلة و إصابة مصيبة كانت النازلة بالنسبة إليه سيئة لأنها مقارنة لفقد ما و عدم ما، فكل نازلة فهي من الله و ليست من هذه الجهة سيئة و إنما هي سيئة نسبية بالنسبة إلى الإنسان و هو واجد، فكل سيئة فهي أمر عدمي غير منسوب من هذه الجهة إلى الله سبحانه البتة و إن كانت من جهة أخرى منسوبة إليه تعالى بالإذن فيه و نحو ذلك.

و في قرب الإسناد، عن البزنطي، قال: قلت: للرضا (عليه السلام) إن أصحابنا بعضهم يقول: بالجبر، و بعضهم بالاستطاعة فقال لي: اكتب، قال الله تبارك و تعالى يا بن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء و بقوتي أديت إلي فرائضي و بنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا، ما أصابك من حسنة فمن الله، و ما أصابك من سيئة فمن نفسك، و ذلك أني أولى بحسناتك منك و أنت أولى بسيئاتك مني، و ذلك أني لا أسأل عما أفعل و هم يسألون، فقد نظمت لك كل شيء تريد الحديث و هو أو ما يقربه مروي بطرق عامية و خاصية أخرى و بالجملة فالذي لا تنسب إلى الله سبحانه من الأفعال هي المعاصي من جهة أنها معاص خاصة، و بذلك يعلم معنى قوله (عليه السلام) في الرواية السابقة لو كان خالقا لها لما تبرأ منها إلى قوله و إنما تبرأ من شركهم و قبائحهم الحديث.

و في التوحيد، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) «قالا: إن الله عز و جل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، و الله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون» قال: فسئلا (عليهما السلام) هل بين الجبر و القدر منزلة ثالثة؟ قالا نعم أوسع مما بين السماء و الأرض.

و في التوحيد، عن محمد بن عجلان، قال قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام) فوض الله الأمر إلى العباد؟ قال: «الله أكرم من أن يفوض إليهم» قلت: فأجبر الله العباد على أفعالهم فقال: «الله أعدل من أن يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه».

و في التوحيد، أيضا عن مهزم، قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): أخبرني عما اختلف فيه من خلفك من موالينا، قال: قلت: في الجبر و التفويض؟ قال: فاسألني قلت: أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: «الله أقهر لهم من ذلك» قلت: ففوض إليهم؟ قال: الله أقدر عليهم من ذلك، قال قلت فأي شيء هذا، أصلحك الله؟ قال: فقلب يده مرتين أو ثلاثا ثم قال: «لو أجبتك فيه لكفرت».

أقول: قوله (عليه السلام): الله أقهر لهم من ذلك، معناه أن الجبر إنما هو لقهر من المجبر يبطل به مقاومة القوة الفاعلة، و أقهر منه و أقوى أن يريد المريد وقوع الفعل الاختياري من فاعله من مجرى اختياره فيأتي به من غير أن يبطل إرادته و اختياره أو ينازع إرادة الفاعل إرادة الآمر.

و في التوحيد، أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: قال: «رسول الله: من زعم أن الله يأمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب على الله» و من زعم أن الخير و الشر بغير مشية الله فقد أخرج الله من سلطانه».

و في الطرائف،: روي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصري و إلى عمرو بن عبيد و إلى واصل بن عطاء و إلى عامر الشعبي أن يذكروا ما عندهم و ما وصل إليهم في القضاء و القدر، فكتب إليه الحسن البصري إن أحسن ما انتهى إلي ما سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أنه قال: «أ تظن أن الذي نهاك دهاك؟ و إنما دهاك أسفلك و أعلاك، و الله بريء من ذاك». و كتب إليه عمرو بن عبيد أحسن ما سمعت في القضاء و القدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) «لو كان الزور في الأصل محتوما لكان المزور في القصاص مظلوما». و كتب إليه واصل بن عطاء أحسن ما سمعت في القضاء و القدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) «أ يدلك على الطريق و يأخذ عليك المضيق؟» و كتب إليه الشعبي أحسن ما سمعت في القضاء و القدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) «كلما استغفرت الله منه فهو منك، و كلما حمدت الله عليه فهو منه» فلما وصلت كتبهم إلى الحجاج و وقف عليها قال لقد أخذوها من عين صافية و في الطرائف، أيضا روي: أن رجلا سأل جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) عن القضاء و القدر فقال: «ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه، و ما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله» يقول الله للعبد: لم عصيت، لم فسقت، لم شربت الخمر، لم زنيت؟ فهذا فعل العبد، و لا يقول له لم مرضت، لم قصرت، لم ابيضضت، لم اسوددت؟ لأنه من فعل الله تعالى.

و في النهج،: سئل (عليه السلام) عن التوحيد و العدل فقال: «التوحيد أن لا تتوهمه، و العدل أن لا تتهمه».

أقول: و الأخبار فيما مر متكاثرة جدا غير أن الذي نقلناه حاو لمعاني ما تركناه و لئن تدبرت فيما تقدم من الأخبار وجدتها مشتملة على طرق خاصة عديدة من الاستدلال.

منها: الاستدلال بنفس الأمر و النهي و العقاب و الثواب و أمثالها على تحقق الاختيار من غير جبر و لا تفويض، كما في الخبر المنقول عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فيما أجاب به الشيخ، و هو قريب المأخذ مما استفدناه من كلامه تعالى.

و منها: الاستدلال بوقوع أمور في القرآن لا تصدق لو صدق جبر أو تفويض، كقوله تعالى: «لله ملك السموات و الأرض»، و قوله: «و ما ربك بظلام للعبيد»، و قوله تعالى: «قل إن الله لا يأمر بالفحشاء» الآية، و يمكن أن يناقش فيه بأن الفعل إنما هو فاحشة أو ظلم بالنسبة إلينا و أما إذا نسب إليه تعالى فلا يسمى فاحشة و لا ظلما فلا يقع منه تعالى فاحشة و لا ظلم، و لكن صدر الآية بمدلولها الخاص يدفعها فإنه تعالى يقول: «و إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليه آبائنا و الله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء» الآية، فالإشارة بقوله بهذا يوجب أن يكون النفي اللاحق متوجها إليه سواء سمي فحشاء أو لم يسم.

و منها: الاستدلال من جهة الصفات و هو أن الله تسمى بأسماء حسني و اتصف بصفات عليا لا تصدق و لا تصح ثبوتها على تقدير جبر أو تفويض فإنه تعالى قهار قادر كريم رحيم، و هذه صفات لا تستقر معانيها إلا عند ما يكون وجود كل شيء منه تعالى و نقص كل شيء و فساده غير راجع إلى ساحة قدسه كما في الروايات التي نقلناها عن التوحيد.

و منها: الاستدلال بمثل الاستغفار و عروض اللوم فإن الذنب لو لم يكن من العبد لم يكن معنى لاستغفاره و لو كان الفعل كله من الله لم يكن فرق بين فعل و فعل في عروض اللوم على بعضها و عدم عروضه على بعض آخر.

و هاهنا روايات أخر مروية فيما ينسب إليه سبحانه من معنى الإضلال و الطبع و الإغواء و غير ذلك.

ففي العيون، عن الرضا (عليه السلام): في قوله تعالى: «و تركهم في ظلمات لا يبصرون» قال (عليه السلام) «إن الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه لكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر و الضلال منعهم المعاونة و اللطف و خلى بينهم و بين اختيارهم».

و في العيون، أيضا عنه (عليه السلام): في قوله تعالى: ختم الله على قلوبهم، قال: الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم، كما قال الله تعالى: بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا و في المجمع، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: إن الله لا يستحيي الآية، هذا القول من الله رد على من زعم أن الله تبارك و تعالى يضل العباد ثم يعذبهم على ضلالتهم الحديث، أقول: قد مر بيان معناها.

بحث فلسفي

لا ريب أن الأمور التي نسميها أنواعا في الخارج هي التي تفعل الأفاعيل النوعية، و هي موضوعاتها، فإنا إنما أثبتنا وجود هذه الأنواع و نوعيتها الممتازة عن غيرها من طريق الآثار و الأفاعيل، بأن شاهدنا من طرق الحواس أفاعيل متنوعة و آثارا مختلفة من غير أن تنال الحواس في إحساسها أمرا وراء الآثار العرضية، ثم أثبتنا من طريق القياس و البرهان علة فاعلة لها و موضوعا يقومها ثم حكمنا باختلاف هذه الموضوعات أعني الأنواع لاختلاف الآثار و الأفاعيل المشهودة لنا، فالاختلاف المشهود في آثار الإنسان و سائر الأنواع الحيوانية مثلا هو الموجب للحكم بأن هناك أنواعا مختلفة تسمى بكذا و كذا و لها آثار و أفاعيل كذا و كذا، و كذا الاختلافات بين الأعراض و الأفاعيل إنما نثبتها و نحكم بها من ناحية موضوعاتها أو خواصها.

و كيف كان فالأفاعيل بالنسبة إلى موضوعاتها تنقسم بانقسام أولي إلى قسمين: الأول: الفعل الصادر عن الطبيعة من غير دخل للعلم في صدوره كأفعال النشوء و النمو و التغذي للنبات و الحركات للأجسام، و من هذا القبيل الصحة و المرض و أمثال ذلك فإنها و إن كانت معلومة لنا و قائمة بنا إلا أن تعلق العلم بها لا يؤثر في وجودها و صدورها شيئا و إنما هي مستندة تمام الاستناد إلى فاعلها الطبيعي، و الثاني: الفعل الصادر عن الفاعل من حيث إنه معلوم تعلق به العلم كما في الأفعال الإرادية للإنسان و سائر ذوات الشعور من الحيوان، فهذا القسم من الفعل إنما يفعله فاعله من حيث تعلق العلم به و تشخيصه و تمييزه، فالعلم فيه إنما يفيد تعيينه و تمييزه من غيره و هذا التمييز و التعيين إنما يتحقق من جهة انطباق مفهوم يكون كمالا للفاعل انطباقا بواسطة العلم، فإن الفاعل أي فاعل كان إنما يفعل من الفعل ما يكون مقتضى كماله و تمام وجوده فالفعل الصادر عن العلم إنما يحتاج إلى العلم من جهة أن يتميز عند الفاعل ما هو كمال له عن ما ليس بكمال له.

و من هنا ما نرى أن الأفعال الصادرة عن الملكات كصدور أصوات الحروف منظمة عن الإنسان المتكلم، و كذا الأفعال الصادرة عنها مع اقتضاء ما و مداخلة من الطبيعة كصدور التنفس عن الإنسان، و كذا الأفعال الصادرة عن الإنسان بغلبة الحزن أو الخوف أو غير ذلك كل ذلك لا يحتاج إلى ترو من الفاعل، إذ ليس هناك إلا صورة علمية واحدة منطبقة على الفعل و الفاعل لا حالة منتظرة لفعله، فيفعل البتة، و أما الأفعال التي لها صور علمية متعددة تكون هي من جهة بعضها مصداق كمال الإنسان حقيقة أو تخيلا، و من جهة بعضها غير مصداق لكماله الحقيقي أو التخيلي كما أن الخبز بالنسبة إلى زيد الجائع كذلك فإنه مشبع رافع لجوعه و يمكن أن يكون مال الغير و يمكن أن يكون مسموما و يمكن أن يكون قذرا يتنفر عنه الطبع، و هكذا و الإنسان إنما يتروى فيما يتروى لترجيح أحد هذه العناوين في انطباقه على الخبز مثلا، فإذا تعين أحد العناوين و سقطت بقيتها و صار مصداقا لكمال الفاعل لم يلبث الفاعل في فعله أصلا، و القسم الأول: نسميه فعلا اضطراريا كالتأثيرات الطبيعية.

و القسم الثاني: نسميه فعلا إراديا كالمشي و التكلم.

و الفعل الإرادي: الصادر عن علم و إرادة ينقسم ثانيا إلى قسمين: فإن ترجيح أحد جانبي الفعل و الترك إما مستند إلى نفس الفاعل من غير أن يتأثر عن آخر كالجائع الذي يتروى في أكل خبز موجود عنده حتى رجح أن يبقيه و لا يأكله لأنه كان مال الغير من غير إذن منه في التصرف فانتخب الحفظ و اختاره أو رجح الأكل فأكله اختيارا، و إما أن يكون الترجيح و التعيين مستندا إلى تأثير الغير كمن يجبره جبار على فعل بتهديده بقتل أو نحوه ففعله إجبارا من غير أن يكون متعينا بانتخابه و اختياره و القسم الأول.

يسمى فعلا اختياريا، و الثاني فعلا إجباريا هذا، و أنت تجد بجودة التأمل أن الفعل الإجباري و إن أسندناه إلى إجبار المجبر و أنه هو الذي يجعل أحد الطرفين محالا و ممتنعا بواسطة الإجبار فلا يبقى للفاعل إلا طرف واحد، لكن الفعل الإجباري أيضا كالاختياري لا يقع إلا بعد ترجيح الفاعل المجبور جانب الفعل على الترك و إن كان الذي يجبره هو المتسبب إلى الفعل بوجه، لكن الفعل ما لم يترجح بنظر الفاعل و إن كان نظره مستندا بوجه إلى إجبار المجبر و تهديده لم يقع، و الوجدان الصحيح شاهد على ذلك، و من هنا يظهر أن تقسيم الأفعال الإرادية إلى اختيارية و جبرية ليس تقسيما حقيقيا ينوع المقسم إلى نوعين مختلفين بحسب الذات و الآثار، فإن الفعل الإرادي إنما يحتاج إلى تعيين و ترجيح علمي يعين للفاعل مجرى فعله، و هو في الفعل الاختياري و الجبري على حد سواء، و أما أن ترجيح الفاعل في أحدهما مستند إلى رسله و في آخر إلى آخر فلا يوجب اختلافا نوعيا يؤدي إلى اختلاف الآثار.

أ لا ترى أن المستظل تحت حائط إذا شاهد أن الحائط يريد أن ينقض، فخرج خائفا عد فعله هذا اختياريا؟ و أما إذا هدده جبار بأنه لو لم يقم لهدم الحائط عليه، فخرج خائفا عد فعله هذا إجباريا من غير فرق بين الفعلين و الترجيحين أصلا غير أن أحد الترجيحين مستند إلى إرادة الجبار.

فإن قلت: كفى فرقا بين الفعلين أن الفعل الاختياري يوافق في صدوره مصلحة عند الفاعل و هو فعل يترتب عليه المدح و الذم و يتبعه الثواب و العقاب إلى غير ذلك من الآثار، و هذا بخلاف الفعل الإجباري فإنه لا يترتب عليه شيء من ذلك.

قلت: الأمر على ما ذكر، غير أن هذه الآثار إنما هي بحسب اعتبار العقلاء على ما يوافق الكمال الأخير الاجتماعي، فهي آثار اعتبارية غير حقيقية، فليس البحث عن الجبر و الاختيار بحثا فلسفيا لأن البحث الفلسفي إنما ينال الموجودات الخارجية و آثارها العينية، و أما الأمور المنتهية إلى أنحاء الاعتبارات العقلائية، فلا ينالها بحث فلسفي و لا يشملها برهان البتة، و إن كانت معتبرة في بابها، مؤثرة أثرها، فالواجب أن نرد البحث المزبور من طريق آخر، فنقول: لا شك أن كل ممكن حادث مفتقر إلى علة، و الحكم ثابت من طريق البرهان، و لا شك أيضا أن الشيء ما لم يجب لم يوجد إذ الشيء ما لم يتعين طرف وجوده بمعين كان نسبته إلى الوجود و العدم بالسوية، و لو وجد الشيء و هو كذلك لم يكن مفتقرا إلى علة و هذا خلف، فإذا فرض وجود الشيء كان متصفا بالضرورة ما دام موجودا، و هذه الضرورة إنما اكتسبها من ناحية العلة، فإذا أخذنا دار الوجود بأجمعها كانت كسلسلة مؤلفة من حلقات مترتبة متوالية كلها واجبة الوجود، و لا موقع لأمر ممكن الوجود في هذه السلسلة.

ثم نقول: هذه النسبة الوجوبية إنما تنشأ عن نسبة المعلول إلى علتها التامة البسيطة أو المركبة من أمور كثيرة كالعلل الأربع و الشرائط و المعدات و أما إذا نسب المعلول المذكور إلى بعض أجزاء العلة أو إلى شيء آخر لو فرض كانت النسبة نسبة الإمكان بالضرورة، بداهة أنه لو كانت بالضرورة كانت العلة التامة وجودها مستغنى عنه و هي علة تامة هذا خلف، ففي عالمنا الطبيعي نظامان: نظام الضرورة و نظام الإمكان، فنظام الضرورة منبسط على العلل التامة و معلولاتها و لا يوجد بين أجزاء هذا النظام أمر إمكاني البتة لا ذات و لا فعل ذات، و نظام الإمكان منبسط على المادة و الصور التي في قوة المادة التلبس بها و الآثار التي يمكنها أن تقبلها، فإذا فرضت فعلا من أفعال الإنسان الاختيارية و نسبتها إلى تمام علتها، و هي الإنسان و العلم و الإرادة و وجود المادة القابلة و تحقق الشرائط المكانية و الزمانية و ارتفاع الموانع، و بالجملة كل ما يحتاج إليه الفعل في وجوده كان الفعل واجبا ضروريا، و إذا نسب إلى الإنسان فقط، و من المعلوم أنه جزء من أجزاء العلة التامة كانت النسبة بالإمكان.

ثم نقول: سبب الاحتياج و الفقر إلى العلة كما بين في محلة كون الوجود و هو مناط الجعل وجودا إمكانيا، أي رابطا بحسب الحقيقة غير مستقل بنفسه، فما لم ينته سلسلة الربط إلى مستقل بالذات لم ينقطع سلسلة الفقر و الفاقة.

و من هنا يستنتج أولا: أن المعلول لا ينقطع بواسطة استناده إلى علته عن الاحتياج إلى العلة الواجبة التي إليها تنتهي سلسلة الإمكان.

و ثانيا: أن هذا الاحتياج حيث كان من حيث الوجود كان الاحتياج في الوجود مع حفظ جميع خصوصياته الوجودية و ارتباطاته بعلله و شرائطه الزمانية و المكانية إلى غير ذلك.

فقد تبين بهذا أمران: الأول: أن الإنسان كما أنه مستند الوجود إلى الإرادة الإلهية على حد سائر الذوات الطبيعية و أفعالها الطبيعية فكذلك أفعال الإنسان مستندة الوجود إلى الإرادة الإلهية، فما ذكره المعتزلة من كون الأفعال الإنسانية غير مرتبطة الوجود بالله سبحانه و إنكار القدر ساقط من أصله، و هذا الاستناد حيث إنه استناد وجودي فالخصوصيات الوجودية الموجودة في المعلول دخيلة فيه، فكل معلول مستند إلى علته بحده الوجودي الذي له، فكما أن الفرد من الإنسان إنما يستند إلى العلة الأولى بجميع حدوده الوجودية من أب و أم و زمان و مكان و شكل و كم و كيف و عوامل أخر مادية، فكذلك فعل الإنسان إنما يستند إلى العلة الأولى مأخوذا بجميع خصوصياته الوجودية، فهذا الفعل إذا انتسب إلى العلة الأولى و الإرادة الواجبة مثلا لا يخرجه ذلك عما هو عليه و لا يوجب بطلان الإرادة الإنسانية مثلا في التأثير، فإن الإرادة الواجبية إنما تعلقت بالفعل الصادر من الإنسان عن إرادة و اختيار، فلو كان هذا الفعل حين التحقق غير إرادي و غير اختياري لزم تخلف إرادته تعالى عن مراده و هو محال، فما ذهب إليه المجبرة من الأشاعرة من أن تعلق الإرادة الإلهية بالأفعال الإرادية يوجب بطلان تأثير الإرادة و الاختيار فاسد جدا، فالحق الحقيق بالتصديق أن الأفعال الإنسانية لها نسبة إلى الفاعل و نسبة إلى الواجب و إحدى النسبتين لا توجب بطلان الأخرى لكونهما طوليتين لا عرضيتين.

الثاني: أن الأفعال كما أن لها استنادا إلى عللها التامة و قد عرفت أن هذه النسبة ضرورية وجوبية كسائر الموجودات المنسوبة إلى عللها التامة بالوجوب كذلك لها استنادا إلى بعض أجزاء عللها التامة كالإنسان مثلا، و قد عرفت أن هذه النسبة بالإمكان فكون فعل من الأفعال ضروري الوجود بملاحظة علته التامة الضرورية لا يوجب عدم كون هذا الفعل ممكنا بنظر آخر، إذ النسبتان ثابتتان و هما غير متنافيتين كما مر فما ذكره جمع من الماديين من فلاسفة العصر الحاضر من شمول الجبر لنظام الطبيعة و إنكار الاختيار باطل جدا بل الحق أن الحوادث بالنسبة إلى عللها التامة واجبة الوجود بالنسبة إلى موادها و أجزاء عللها ممكنة الوجود، و هذا هو الملاك في أعمال الإنسان و أفعاله فبناؤه في جميع مواقف عمله على أساس الرجاء و التربية و التعليم و نحو ذلك، و لا معنى لابتناء الواجبات و الضروريات على التربية و التعليم، و لا الركون إلى الرجاء فيها و هو ظاهر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بيان

رجوع ثان إلى ما في بدء الكلام فإ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 22, 2010 2:15 pm

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
بيان

الآيات تنبىء عن غرض إنزال الإنسان إلى الدنيا و حقيقة جعل الخلافة في الأرض و ما هو آثارها و خواصها، و هي على خلاف سائر قصصه لم يقع في القرآن إلا في محل واحد و هو هذا المحل.

قوله تعالى: و إذ قال ربك إلخ، سيأتي الكلام في معنى القول منه تعالى و كذا القول من الملائكة و الشيطان إن شاء الله.

قوله تعالى
: «قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء، إلى قوله. و نقدس لك.

مشعر بأنهم إنما فهموا وقوع الإفساد و سفك الدماء من قوله سبحانه. إني جاعل في الأرض خليفة، حيث إن الموجود الأرضي بما أنه مادي مركب من القوى الغضبية و الشهوية، و الدار دار التزاحم، محدودة الجهات، وافرة المزاحمات، مركباتها في معرض الانحلال، و انتظاماتها و إصلاحاتها في مظنة الفساد و مصب البطلان، لا تتم الحياة فيها إلا بالحياة النوعية، و لا يكمل البقاء فيها إلا بالاجتماع و التعاون، فلا تخلو من الفساد و سفك الدماء، ففهموا من هناك أن الخلافة المرادة لا تقع في الأرض إلا بكثرة من الأفراد و نظام اجتماعي بينهم يفضي بالآخرة إلى الفساد و السفك، و - الخلافة - و هي قيام شيء مقام آخر لا تتم إلا بكون الخليفة حاكيا للمستخلف في جميع شئونه الوجودية و آثاره و أحكامه و تدابيره بما هو مستخلف، و الله سبحانه في وجوده مسمى بالأسماء الحسنى متصف بالصفات العليا، من أوصاف الجمال و الجلال، منزه في نفسه عن النقص و مقدس في فعله عن الشر و الفساد جلت عظمته، و الخليفة الأرضي بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف و لا يحكي بوجوده المشوب بكل نقص و شين الوجود الإلهي المقدس المنزه عن جميع النقائص و كل الأعدام، فأين التراب و رب الأرباب، و هذا الكلام من الملائكة في مقام تعرف ما جهلوه و استيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة، و ليس من الاعتراض و الخصومة في شيء، و الدليل على ذلك قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم: إنك أنت العليم الحكيم حيث صدر الجملة بإن التعليلية المشعرة بتسلم مدخولها فافهم، فملخص قولهم يعود إلى أن جعل الخلافة إنما هو لأجل أن يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده و تقديسه له بوجوده، و الأرضية لا تدعه يفعل ذلك بل تجره إلى الفساد و الشر، و الغاية من هذا الجعل و هي التسبيح و التقديس بالمعنى الذي مر من الحكاية حاصلة بتسبيحنا بحمدك و تقديسنا لك، فنحن خلفاؤك أو فاجعلنا خلفاء لك، فما فائدة جعل هذه الخلافة الأرضية لك؟ فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله: إني أعلم ما لا تعلمون و علم آدم الأسماء كلها.

و هذا السياق: يشعر أولا: بأن الخلافة المذكورة إنما كانت خلافة الله تعالى، لا خلافة نوع من الموجود الأرضي كانوا في الأرض قبل الإنسان و انقرضوا ثم أراد الله تعالى أن يخلفهم بالإنسان كما احتمله بعض المفسرين، و ذلك لأن الجواب الذي أجاب سبحانه به عنهم و هو تعليم آدم الأسماء لا يناسب ذلك، و على هذا فالخلافة غير مقصورة على شخص آدم (عليه السلام) بل بنوه يشاركونه فيها من غير اختصاص، و يكون معنى تعليم الأسماء إيداع هذا العلم في الإنسان بحيث يظهر منه آثاره تدريجا دائما و لو اهتدى إلى السبيل أمكنه أن يخرجه من القوة إلى الفعل، و يؤيد عموم الخلافة قوله تعالى «إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح»
الأعراف - 69، و قوله تعالى «ثم جعلناكم خلائف في الأرض»: يونس - 14، و قوله تعالى«و يجعلكم خلفاء الأرض»: النمل - 62.

و ثانيا: إنه سبحانه لم ينف عن خليفة الأرض الفساد و سفك الدماء، و لا كذب الملائكة في دعويهم التسبيح و التقديس، و قررهم على ما ادعوا، بل إنما أبدى شيئا آخر و هو أن هناك أمرا لا يقدر الملائكة على حمله و لا تتحمله و يتحمله هذا الخليفة الأرضي فإنه يحكي عن الله سبحانه أمرا و يتحمل منه سرا ليس في وسع الملائكة، و لا محالة يتدارك بذلك أمر الفساد و سفك الدماء، و قد بدل سبحانه قوله: قال إني أعلم ما لا تعلمون ثانيا بقوله: أ لم أقل لكم إني أعلم غيب السموات و الأرض، و المراد بهذا الغيب هو الأسماء لا علم آدم بها فإن الملائكة ما كانت تعلم أن هناك أسماء لا يعلمونها، لا أنهم كانوا يعلمون وجود أسماء كذلك و يجهلون من آدم أنه يعلمها، و إلا لما كان لسؤاله تعالى إياهم عن الأسماء وجه و هو ظاهر بل كان حق المقام أن يقتصر بقوله: قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم حتى يتبين لهم أن آدم يعلمها لا أن يسأل الملائكة عن ذلك، فإن هذا السياق يعطي أنهم ادعوا الخلافة و أذعنوا انتفاءها عن آدم و كان اللازم أن يعلم الخليفة بالأسماء فسألهم عن الأسماء فجهلوها و علمها آدم، فثبت بذلك لياقته لها و انتفاؤها عنهم، و قد ذيل سبحانه السؤال بقوله: إن كنتم صادقين، و هو مشعر بأنهم كانوا ادعوا شيئا كان لازمه العلم بالأسماء.

و قوله تعالى: و علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم، مشعر بأن هذه الأسماء أو أن مسمياتها كانوا موجودات أحياء عقلاء، محجوبين تحت حجاب الغيب و أن العلم بأسمائهم كان غير نحو العلم الذي عندنا بأسماء الأشياء، و إلا كانت الملائكة بإنباء آدم إياهم بها عالمين و صائرين مثل آدم مساوين معه، و لم يكن في ذلك إكرام لآدم و لا كرامة حيث علمه الله سبحانه أسماء و لم يعلمهم، و لو علمهم إياها كانوا مثل آدم أو أشرف منه، و لم يكن في ذلك ما يقنعهم أو يبطل حجتهم، و أي حجة تتم في أن يعلم الله تعالى رجلا علم اللغة ثم يباهي به و يتم الحجة على ملائكة مكرمين لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون بأن هذا خليفتي و قابل لكرامتي دونكم؟ و يقول تعالى أنبئوني باللغات التي سوف يضعها الآدميون بينهم للإفهام و التفهيم إن كنتم صادقين في دعويكم أو مسألتكم خلافتي، على أن كمال اللغة هو المعرفة بمقاصد القلوب و الملائكة لا تحتاج فيها إلى التكلم، و إنما تتلقى المقاصد من غير واسطة، فلهم كمال فوق كمال التكلم، و بالجملة فما حصل للملائكة من العلم بواسطة إنباء آدم لهم بالأسماء هو غير ما حصل لآدم من حقيقة العلم بالأسماء بتعليم الله تعالى فأحد الأمرين كان ممكنا في حق الملائكة و في مقدرتهم دون الآخر، و آدم إنما استحق الخلافة الإلهية بالعلم بالأسماء دون إنبائها إذ الملائكة إنما قالوا في مقام الجواب: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، فنفوا العلم.

فقد ظهر مما مر أن العلم بأسماء هؤلاء المسميات يجب أن يكون بحيث يكشف عن حقائقهم و أعيان وجوداتهم، دون مجرد ما يتكفله الوضع اللغوي من إعطاء المفهوم فهؤلاء المسميات المعلومة حقائق خارجية، و وجودات عينيه و هي مع ذلك مستورة تحت ستر الغيب غيب السماوات و الأرض، و العلم بها على ما هي عليها كان أولا ميسورا ممكنا لموجود أرضي لا ملك سماوي و ثانيا دخيلا في الخلافة الإلهية.

و الأسماء في قوله تعالى: و علم آدم الأسماء كلها، جمع محلى باللام و هو يفيد العموم على ما صرحوا به، مضافا إلى أنه مؤكد بقوله: كلها، فالمراد بها كل اسم يقع لمسمى و لا تقييد و لا عهد، ثم قوله: عرضهم، دال على كون كل اسم أي مسماه ذا حياة و علم و هو مع ذلك تحت حجاب الغيب، غيب السموات و الأرض.

و إضافة الغيب إلى السماوات و الأرض و إن أمكن أن يكون في بعض الموارد إضافة من، فيفيد التبعيض لكن المورد و هو مقام إظهار تمام قدرته تعالى و إحاطته و عجز الملائكة و نقصهم يوجب كون إضافة الغيب إلى السماوات و الأرض إضافة اللام، فيفيد أن الأسماء أمور غائبة عن العالم السماوي و الأرضي، خارج محيط الكون، و إذا تأملت هذه الجهات أعني عموم الأسماء و كون مسمياتها أولي حياة و علم و كونها غيب السماوات و الأرض قضيت بانطباقها بالضرورة على ما أشير إليه في قوله تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»:، الحجر - 21، حيث أخبر سبحانه بأنه كل ما، يقع عليه اسم شيء فله عنده تعالى خزائن مخزونة باقية عنده غير نافدة، و لا مقدرة بقدر، و لا محدودة بحد، و أن القدر و الحد في مرتبة الإنزال و الخلق، و أن الكثرة التي في هذه الخزائن ليست من جنس الكثرة العددية الملازمة للتقدير و التحديد بل تعدد المراتب و الدرجات، و سيجيء بعض الكلام فيها في سورة الحجر إن شاء الله تعالى.

فتحصل أن هؤلاء الذين عرضهم الله تعالى على الملائكة موجودات عالية محفوظة عند الله تعالى، محجوبة بحجب الغيب، أنزل الله سبحانه كل اسم في العالم بخيرها و بركتها و اشتق كل ما في السماوات و الأرض من نورها و بهائها، و أنهم على كثرتهم و تعددهم لا يتعددون تعدد الأفراد، و لا يتفاوتون تفاوت الأشخاص، و إنما يدور الأمر هناك مدار المراتب و الدرجات و نزول الاسم من عند هؤلاء إنما هو بهذا القسم من النزول.

و قوله تعالى: و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون و كان هذان القسمان من الغيب النسبي الذي هو بعض السماوات و الأرض، و لذلك قوبل به قوله: أعلم غيب السموات و الأرض، ليشمل قسمي الغيب أعني الخارج عن العالم الأرضي و السماوي و غير الخارج عنه.

و قوله تعالى: كنتم تكتمون، تقييد الكتمان بقوله: كنتم، مشعر بأن هناك أمرا مكتوما في خصوص آدم و جعل خلافته، و يمكن أن يستظهر ذلك من قوله تعالى في الآية التالية: «فسجدوا إلا إبليس أبى و استكبر و كان من الكافرين».

فيظهر أن إبليس كان كافرا قبل ذلك الحين، و أن إباءه عن السجدة كان مرتبطا بذلك فقد كان أضمره هذا.

و يظهر بذلك أن سجدة الملائكة و إباء إبليس عنها كانت واقعة بين قوله تعالى: قال إني أعلم ما لا تعلمون و بين قوله: أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون، و يظهر السر أيضا في تبديل قوله: إني أعلم ما لا تعلمون، ثانيا بقوله: إني أعلم غيب السموات و الأرض.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام)، قال: ما علم الملائكة بقولهم: أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء، لو لا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها و يسفك الدماء أقول: يمكن أن يشير بها إلى دورة في الأرض سابقة على دورة بني آدم هذه كما وردت فيه الأخبار و لا ينافي ذلك ما مر أن الملائكة فهمت ذلك من قوله تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة، بل لا يتم الخبر بدون ذلك، و إلا كان هذا القول قياسا من الملائكة مذموما كقياس إبليس.

و في تفسير العياشي، أيضا عنه (عليه السلام) قال زرارة: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقال: أي شيء عندك من أحاديث الشيعة فقلت: إن عندي منها شيئا كثيرا فقد هممت أن أوقد لها نارا فأحرقها فقال (عليه السلام): وارها تنس ما أنكرت منها فخطر على بالي الآدميون فقال: ما كان علم الملائكة حيث قالوا: أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء؟ قال و كان يقول أبو عبد الله (عليه السلام): إذا حدث بهذا الحديث هو كسر على القدرية، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن آدم (عليه السلام) كان له في السماء خليل من الملائكة، فلما هبط آدم من السماء إلى الأرض استوحش الملك و شكى إلى الله تعالى و سأله أن يأذن له، فأذن له فهبط عليه فوجده قاعدا في قفرة من الأرض، فلما رآه آدم وضع يده على رأسه و صاح صيحة، قال أبو عبد الله (عليه السلام): يروون أنه أسمع عامة الخلق فقال له الملك: يا آدم ما أراك إلا و قد عصيت ربك و حملت على نفسك ما لا تطيق، أ تدري ما قال لنا الله فيك فرددنا عليه؟ قال: لا، قال: قال: إني جاعل في الأرض خليفة، قلنا أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء؟ فهو خلقك أن تكون في الأرض أ يستقيم أن تكون في السماء؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام) و الله عزى بها آدم ثلاثا.

أقول: و يستفاد من الرواية أن جنة آدم كانت في السماء و سيجيء فيه روايات أخر أيضا.

و في تفسير العياشي، أيضا عن أبي العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن قول الله: و علم آدم الأسماء كلها، ما ذا علمه؟ قال الأرضين و الجبال و الشعاب و الأودية، ثم نظر إلى بساط تحته، فقال: و هذا البساط مما علمه.

و في التفسير، أيضا عن الفضيل بن العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن قول الله: و علم آدم الأسماء كلها ما هي؟ قال: أسماء الأودية و النبات و الشجر و الجبال من الأرض.

و في التفسير، أيضا عن داود بن سرحان العطار، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدعا بالخوان فتغذينا ثم دعا بالطست و الدست سنانه فقلت: جعلت فداك، قوله: و علم آدم الأسماء كلها، الطست و الدست سنانه منه فقال: (عليه السلام) الفجاج و الأودية و أهوى بيده كذا و كذا.

و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): إن الله عز و جل علم آدم أسماء حججه كلها ثم عرضهم و هم أرواح على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنكم أحق بالخلافة في الأرض لتسبيحكم و تقديسكم من آدم فقالوا: سبحانك لا علم لنا - إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال الله تبارك و تعالى: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله عز ذكره، فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه و حججه على بريته، ثم غيبهم عن أبصارهم و استعبدهم بولايتهم و محبتهم، و قال لهم: أ لم أقل لكم إني أعلم غيب السموات و الأرض - و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون.

أقول: و بالرجوع إلى ما مر من البيان تعرف معنى هذه الروايات و أن لا منافاة بين هذه و ما تقدمها، إذ قد تقدم أن قوله تعالى: و إن من شيء إلا عندنا خزائنه تعطي أنه ما من شيء إلا و له في خزائن الغيب وجود، و إن هذه الأشياء التي قبلنا إنما وجدت بالنزول من هناك، و كل اسم وضع بحيال مسمى من هذه المسميات فهي اسم لما في خزائن الغيب، فسواء قيل: إن الله علم آدم ما في خزائن غيبه من الأشياء و هي غيب السماوات و الأرض، أو قيل: إنه علم آدم أسماء كل شيء و هي غيب السماوات و الأرض كان المؤدى و النتيجة واحدا و هو ظاهر.

و يناسب المقام عدة من أخبار الطينة كما رواه في البحار، عن جابر بن عبد الله قال: قلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أول شيء خلق الله ما هو؟ فقال نور نبيك يا جابر خلقه الله ثم خلق منه كل خير، ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله، ثم جعله أقساما، فخلق العرش من قسم، و الكرسي من قسم، و حملة العرش و سكنة الكرسي من قسم، و أقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء الله، ثم جعله أقساما، فخلق القلم من قسم، و اللوح من قسم، و الجنة من قسم، و أقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله، ثم جعله أجزاء فخلق الملائكة من جزء، و الشمس من جزء و القمر من جزء، و أقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله، ثم جعله أجزاء، فخلق العقل من جزء و العلم و الحلم من جزء، و العصمة و التوفيق من جزء، و أقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله، ثم نظر إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور و قطرت منه مائة ألف و أربعة و عشرون ألف قطرة، فخلق الله من كل قطرة روح نبي و رسول، ثم تنفست أرواح الأنبياء فخلق الله من أنفاسها أرواح الأولياء و الشهداء و الصالحين.

أقول: و الأخبار في هذه المعاني كثيرة، متظافرة، و أنت إذا أجلت نظرة التأمل و الإمعان فيها وجدتها شواهد على ما قدمناه، و سيجيء شطر من الكلام في بعضها.

و إياك أن ترمي أمثال هذه الأحاديث الشريفة المأثورة عن معادن العلم و منابع الحكمة بأنها من اختلاقات المتصوفة و أوهامهم فللخلقة أسرار، و هو ذا العلماء من طبقات أقوام الإنسان لا يألون جهدا في البحث عن أسرار الطبيعة، منذ أخذ البشر في الانتشار، و كلما لاح لهم معلوم واحد بأن لهم مجاهيل كثيرة، و هي عالم الطبيعة أضيق العوالم و أخسها فما ظنك بما وراءها، و هي عوالم النور و السعة.


وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

بيان

قد عرفت أن قوله تعالى: و ما كنتم تكتمون، فيه دلالة على وقوع أمر مكتوم ظاهر بعد أن كان مكتوما، و لا يخلو ذلك عن مناسبة مع قوله: أبى و استكبر و كان من الكافرين حيث لم يعبر أبى و استكبر و كفر، و عرفت أيضا أن قصة السجدة كالواقعة أو هي واقعة بين قوله تعالى: إني أعلم ما لا تعلمون، و قوله: و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون، فقوله تعالى: و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، كالجملة المستخرجة من بين الجمل ليتخلص بها إلى قصة الجنة، فإن هذه الآيات كما عرفت إنما سيقت لبيان كيفية خلافة الإنسان و موقعه و كيفية نزوله إلى الدنيا و ما يئول إليه أمره من سعادة و شقاء، فلا يهم من قصة السجدة هاهنا إلا إجمالها المؤدي إلى قصة الجنة و هبوط آدم هذا، فهذا هو الوجه في الإضراب عن الإطناب إلى الإيجاز، و لعل هذا هو السر أيضا في الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله تعالى: و إذ قلنا للملائكة اسجدوا، بعد قوله: و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل.

و على ما مر فنسبة الكتمان إلى الملائكة و هو فعل إبليس بناء على الجري على الدأب الكلامي من نسبة فعل الواحد إلى الجماعة إذا اختلط بهم و لم يتميز منهم، و يمكن أن يكون له وجه آخر، و هو أن يكون ظاهر قوله تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة، إطلاق الخلافة حتى على الملائكة كما يؤيده أيضا أمرهم ثانيا بالسجود، و يوجب ذلك خطورا في قلوب الملائكة، حيث إنها ما كانت تظن أن موجودا أرضيا يمكن أن يسود على كل شيء حتى عليهم، و يدل على هذا المعنى بعض الروايات كما سيأتي.

و قوله تعالى: اسجدوا لآدم، يستفاد منه جواز السجود لغير الله في الجملة إذا كان تحية و تكرمة للغير و فيه خضوع لله تعالى بموافقة أمره، و نظيره قوله تعالى في قصة يوسف (عليه السلام) «و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا قال: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا»: يوسف - 100، و ملخص القول في ذلك أنك قد عرفت في سورة الفاتحة أن العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام العبودية و إتيان ما يثبت و يستثبت به ذلك فالفعل العبادي يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولوية المولى أو، عبدية العبد كالسجود و الركوع و القيام أمامه حينما يقعد، و المشي خلفه حينما يمشي و غير ذلك، و كلما زادت الصلاحية المزبورة ازدادت العبادة تعينا للعبودية، و أوضح الأفعال في الدلالة على عز المولوية و ذل العبودية السجدة، لما فيها من الخرور على الأرض، و وضع الجبهة عليها، و أما ما ربما ظنه بعض: من أن السجدة عبادة ذاتية، فليس بشيء، فإن الذاتي لا يختلف.

و لا يتخلف و هذا الفعل يمكن أن يصدر بعينه من فاعله بداع غير داع التعظيم و العبادة كالسخرية و الاستهزاء فلا يكون عبادة مع اشتماله على جميع ما يشتمل عليه و هو عبادة نعم معنى العبادة أوضح في السجدة من غيرها، و إذا لم يكن عبادة ذاتية لم يكن لذاته مختصا بالله سبحانه، بناء على أن المعبود منحصر فيه تعالى، فلو كان هناك مانع لكان من جهة النهي الشرعي أو العقلي و الممنوع شرعا أو عقلا ليس إلا إعطاء الربوبية لغيره تعالى، و أما تحية الغير أو تكرمته من غير إعطاء الربوبية، بل لمجرد التعارف و التحية فحسب، فلا دليل على المنع من ذلك، لكن الذوق الديني المتخذ من الاستيناس بظواهره يقضي باختصاص هذا الفعل به تعالى، و المنع عن استعماله في غير مورده تعالى، و إن لم يقصد به إلا التحية و التكرمة فقط، و أما المنع عن كل ما فيه إظهار الإخلاص لله، بإبراز المحبة لصالحي عباده أو لقبور أوليائه أو آثارهم فمما لم يقم عليه دليل عقلي أو نقلي أصلا، و سنعود إلى البحث عن هذا الموضوع في محل يناسبه إن شاء الله تعالى.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له فقالت الملائكة في أنفسها: ما كنا نظن أن الله خلق خلقا أكرم عليه منا فنحن جيرانه و نحن أقرب الخلق إليه. فقال الله: أ لم أقل لكم إني أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون، فيما أبدوا من أمر بني الجان و كتموا ما في أنفسهم، فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش.

و في التفسير، أيضا عن علي بن الحسين (عليهما السلام): ما في معناه و فيه: فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش، و أنها كانت عصابة من الملائكة و هم الذين كانوا حول العرش، لم يكن جميع الملائكة إلى أن قال: فهم يلوذون حول العرش إلى يوم القيامة.

أقول: يمكن أن يستفاد مضمون الروايتين من قوله حكاية عن الملائكة: و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك إلى قوله: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

و سيجيء أن العرش هو العلم، و بذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فافهم ذلك، و على هذا كان المراد من قوله تعالى: و كان من الكافرين، قوم إبليس من الجان المخلوقين قبل الإنسان.

قال تعالى: «و لقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون و الجان خلقناه من قبل من نار السموم»: الحجر - 27، و على هذه الرواية فنسبة الكتمان إلى جميع الملائكة لا تحتاج إلى عناية زائدة، بل هي على حقيقته، فإن المعنى المكتوم خطر على قلوب جميع الملائكة، و لا منافاة بين هذه الرواية و ما تفيد أن المكتوم هو ما كان يكتمه إبليس من الإباء عن الخضوع لآدم، و الاستكبار لو دعي إلى السجود، لجواز استفادة الجميع كما هو كذلك.

و في قصص الأنبياء، عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): سجدت الملائكة و وضعوا أجباههم على الأرض؟ قال: نعم تكرمة من الله تعالى.

و في تحف العقول، قال: إن السجود من الملائكة لآدم إنما كان ذلك طاعة لله و محبة منهم لآدم.

و في الاحتجاج، عن موسى بن جعفر عن آبائه: أن يهوديا سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن معجزات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابلة معجزات الأنبياء، فقال: هذا آدم أسجد الله له ملائكته، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا؟ فقال علي: لقد كان ذلك، و لكن أسجد الله لآدم ملائكته، فإن سجودهم لم يكن سجود طاعة أنهم عبدوا آدم من دون الله عز و جل، و لكن اعترافا لآدم بالفضيلة و رحمة من الله له و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله جل و علا صلى عليه في جبروته و الملائكة بأجمعها، و تعبد المؤمنون بالصلاة عليه فهذه زيادة له يا يهودي.

و في تفسير القمي،: خلق الله آدم فبقي أربعين سنة مصورا، و كان يمر به إبليس اللعين فيقول: لأمر ما خلقت؟ فقال: العالم» فقال إبليس: لئن أمرني الله بالسجود لهذا لعصيته» إلى أن قال: ثم قال الله تعالى للملائكة: اسجدوا لآدم فسجدوا فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد.

و في البحار، عن قصص الأنبياء، عن الصادق (عليه السلام) قال: أمر إبليس بالسجود لآدم فقال: يا رب و عزتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها، قال الله جل جلاله: إني أحب أن أطاع من حيث أريد و قال: إن إبليس رن أربع رنات: أولهن يوم لعن، و يوم أهبط إلى الأرض، و يوم بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على فترة من الرسل، و حين أنزلت أم الكتاب، و نخر نخرتين: حين أكل آدم من الشجرة، و حين أهبط من الجنة، و قال في قوله تعالى: فبدت لهما سوآتهما، و كانت سوآتهما لا ترى فصارت ترى بارزة، و قال الشجرة التي نهي عنها آدم هي السنبلة.

أقول: و في الروايات - و هي كثيرة - تأييد ما ذكرناه في السجدة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 22, 2010 2:17 pm

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

بيان

قوله تعالى: قلنا يا آدم اسكن، على أن قصة سجود الملائكة لآدم تكررت في عدة مواضع من القرآن الكريم.

لم يقع قصة الجنة إلا في ثلاث مواضع: أحدها: هاهنا من سورة البقرة.

الثاني: في سورة الأعراف.

قال الله تعالى: «و يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة و كلا منها رغدا حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما و قال: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين. فدليهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة و ناديهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة و أقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال: اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين. قال: فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون»: الآيات 19، 25.

و الثالث: في سورة طه.

قال الله تعالى: «و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما. و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك و لزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. إن لك ألا تجوع فيها و لا تعرى، و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى. فوسوس إليه الشيطان فقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى. فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة و عصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى. قال: اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى. و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى. قال: رب لم حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا. قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تنسى».

الآيات.

و سياق الآيات و خاصة قوله تعالى في صدر القصة: إني جاعل في الأرض خليفة يعطي أن آدم (عليه السلام) إنما خلق ليحيا في الأرض و يموت فيها و إنما أسكنهما الله الجنة لاختبارهما و لتبدو لهما سوآتهما حتى يهبطا إلى الأرض، و كذا سياق قوله تعالى في سورة طه: فقلنا يا آدم، و في سورة الأعراف: و يا آدم اسكن حيث سبك قصة الجنة مع قصة إسجاد الملائكة كلتيهما كقصة واحدة متواصلة، و بالجملة فهو (عليه السلام) كان مخلوقا ليسكن الأرض، و كان الطريق إلى الاستقرار في الأرض هذا الطريق، و هو تفضيله على الملائكة لإثبات خلافته، ثم أمرهم بالسجدة، ثم إسكان الجنة.

و النهي عن قرب الشجرة المنهية حتى يأكلا منها فيبدو لهما سوآتهما فيهبطا إلى الأرض، فآخر العوامل للاستقرار في الأرض، و انتخاب الحياة الدنيوية ظهور السوأة، و هي العورة بقرينة قوله تعالى: و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة فهو التمايل الحيواني و يستلزم التغذي و النمو أيضا فما كان لإبليس هم إلا إبداء سوآتهما، و آدم و زوجته و إن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضية بشرية ثم أدخلهما الجنة لم يمكثا بعد التسوية، و لم يمهلا كثيرا، ليتم في الدنيا إدراكهما لسوآتهما و لا لغيرها من لوازم الحياة الدنيا و احتياجاتها حتى أدخلهما الله الجنة، و أنه إنما أدخلهما الله الجنة حين أدخلهما و لما ينفصلا و لما ينقطع إدراكهما عن عالم الروح و الملائكة، و الدليل على ذلك قوله تعالى: ليبدي لهما ما ووري عنهما و لم يقل ما كان ووري عنهما، و هو مشعر بأن مواراة السوآة ما كانت ممكنة في الحياة الدنيا استدامة و إنما تمشت دفعة ما و استعقب ذلك إسكان الجنة فظهور السوآة كان مقضيا محتوما في الحياة الأرضية و مع أكل الشجرة، و لذلك قال تعالى: فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، و قال تعالى: و أخرجهما مما كانا فيه و أيضا هو تعالى غفر خطيئتهما بعد ما تابا و لم يرجعهما إلى الجنة بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها و لو لم تكن الحياة الأرضية مع أكل الشجرة و ظهور السوآة حتما مقضيا، و الرجوع إلى الجنة مع ذلك محالا، لرجعا إليها بعد حط الخطيئة، فالعامل في خروجهما من الجنة و هبوطهما هو الأكل من الشجرة و ظهور السوآة، و كان ذلك بوسوسة الشيطان اللعين، و قد قال تعالى في سورة طه في صدر القصة: «و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما».

ثم ساق تعالى القصة.

فهل هذا العهد هو قوله تعالى: لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين؟ أو أنه قوله تعالى: إن هذا عدو لك و لزوجك أو أنه العهد بمعنى الميثاق العمومي المأخوذ من جميع الإنسان، و من الأنبياء خاصة بوجه آكد و أغلظ.

و الاحتمال الأول غير صحيح لقوله تعالى: «فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما و قال ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين» الآيتان فهما قد كانا حين اقتراف الخطيئة و اقتراب الشجرة على ذكر من النهي، و قد قال تعالى: «فنسي و لم نجد له عزما» فالعهد المذكور ليس هو النهي عن قرب الشجرة و أما الاحتمال الثاني و هو أن يكون العهد المذكور هو التحذير عن اتباع إبليس فهو و إن لم يكن بالبعيد، كل البعيد، لكن ظواهر الآيات لا تساعد عليه فإن العهد مخصوص بآدم (عليه السلام) كما هو ظاهر الآية.

مع أن التحذير عن إبليس كان لهما معا، و أيضا ذيل الآيات و هو على طبق صدرها في سورة طه يناسب العهد بمعنى الميثاق الكلي، لا العهد بمعنى التحذير عن إبليس، قال تعالى: «فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى الآيات» فبحسب التطبيق ينطبق قوله تعالى: و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا على نسيان العهد و هو كما ترى مع العهد بمعنى الميثاق على الربوبية و العبودية أنسب منه مع التحذير من إبليس، إذ لا كثير مناسبة بحسب المفهوم بين الإعراض عن الذكر و اتباع إبليس، و أما الميثاق على الربوبية فهو له أنسب، فإن الميثاق على الربوبية هو أن لا ينسى الإنسان كونه تعالى ربا له أي مالكا مدبرا أي لا ينسى الإنسان أبدا و لا في حال أنه مملوك طلق لا يملك لنفسه شيئا لا نفعا و لا ضرا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا، أي لا ذاتا و لا وصفا و لا فعلا.

و الخطيئة التي تقابله هو إعراض الإنسان عن ذكر مقام ربه و الغفلة عنه بالالتفات إلى نفسه أو ما يعود و يرجع إلى نفسه من زخارف الحياة الدنيا الفانية البالية هذا.

لكنك إذا أمعنت النظر في الحياة الدنيا على اختلاف جهاتها و تشتت أطرافها و أنحائها و وحدتها و اشتراكها بين المؤمن و الكافر وجدتها بحسب الحقيقة و الباطن مختلفة في الموردين بحسب ذوق العلم بالله تعالى و الجهل به فالعارف بمقام ربه إذا نظر إلى نفسه و كذلك إلى الحياة الدنيا الجامعة لأقسام الكدورات و أنواع الآلام و ضروب المكاره من موت و حياة، و صحة و سقم، و سعة و إقتار، و راحة و تعب، و وجدان و فقدان.

على أن الجميع أعم مما في نفس الإنسان أو في غيره مملوكة لربه، لا استقلال لشيء منها و فيها، بل الكل ممن ليس عنده إلا الحسن و البهاء و الجمال و الخير على ما يليق بعزته و جلاله، و لا يترشح من لدنه إلا الجميل و الخير، فإذا نظر إليها و هي هكذا لم ير مكروها يكرهه و لا مخوفا يخافه، و لا مهيبا يهابه، و لا محذورا يحذره، بل يرى كل ما يراه حسنا محبوبا إلا ما يأمره ربه أن يكرهه و يبغضه، و هو مع ذلك يكرهه لأمره، و يحب ما يحب و يلتذ و يبتهج بأمره، لا شغل له إلا بربه، كل ذلك لما يرى الجميع ملكا طلقا لربه لا نصيب و لا حظ لشيء غيره في شيء منها، فما له و لمالك الأمر و ما يتصرف به في ملكه؟ من إحياء و إماتة، و نفع و ضر و غيرها، فهذه هي الحياة الطيبة التي لا شقاء فيها البتة و هي نور لا ظلمة معه، و سرور لا غم معه، و وجدان لا فقد معه، و غنى لا فقر معه كل ذلك بالله سبحانه، و في مقابل هذه الحياة حياة الجاهل بمقام ربه، إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربه لا يقع بصره على موجود من نفسه و غيره إلا رآه مستقلا بنفسه ضارا أو نافعا خيرا أو شرا فهو يتقلب في حياته بين الخوف عما يخاف فوته، و الحذر عما يحذر وقوعه، و الحزن لما يفوته، و الحسرة لما يضيع عنه من جاه أو مال أو بنين أو أعوان و سائر ما يحبه و يتكل و يعتمد عليه و يؤثره.

كلما نضج جلده بالاعتياد بمكروه و السكون إلى مرارة بدل جلدا غيره، ليذوق العذاب بفؤاد مضطرب قلق، و حشى ذائب محترق، و صدر ضيق حرج، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.

إذا عرفت هذا علمت: أن مرجع الأمرين أعني نسيان الميثاق و شقاء الحياة الدنيا واحد، و أن الشقاء الدنيوي من فروع نسيان الميثاق.

و هذا هو الذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لأهل الدنيا في سورة طه فقال تعالى: «فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى. و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى».

و بدل ذلك في هذه السورة من قوله: «فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون».

و من هنا تحدس إن كنت ذا فطانة أن الشجرة كانت شجرة في اقترابها تعب الحياة الدنيا و شقاؤها، و هو أن يعيش الإنسان في الدنيا ناسيا لربه، غافلا عن مقامه، و أن آدم (عليه السلام) كأنه أراد أن يجمع بينها و بين الميثاق المأخوذ عليه، فلم يتمكن فنسي الميثاق و وقع في تعب الحياة الدنيا، ثم تدورك له ذلك بالتوبة.

قوله تعالى: «و كلا منها رغدا» الرغد الهناء و طيب العيش و أرغد القوم مواشيهم تركوها ترعى كيف شاءت، و قوم رغد، و نساء رغد، أي ذوو عيش رغيد.

و قوله تعالى: «و لا تقربا هذه الشجرة» و كأن النهي إنما كان عن أكل الثمرة و إنما تعلق بالقرب من الشجرة إيذانا بشدة النهي و مبالغة في التأكيد و يشهد بذلك قوله تعالى «فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما»:، الأعراف - 22.

و قوله تعالى: «فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما»: طه - 121، فكانت المخالفة بالأكل فهو المنهي عنه بقوله: و لا تقربا.

قوله تعالى: فتكونا من الظالمين، من الظلم لا من الظلمة على ما احتمله بعضهم و قد اعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما: «ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا».

إلا أنه تعالى بدل في سورة طه هذه الكلمة أعني قوله: فتكونا من الظالمين من قوله فتشقى و الشقاء هو التعب ثم فسر التعب و فصله، فقال: «إن لك ألا تجوع فيها و لا تعرى و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى الآيات».

و من هنا يظهر أن وبال هذا الظلم إنما كان هو الوقوع في تعب حياة هذه الدنيا من جوع و عطش و عراء و عناء و على هذا فالظلم منهما إنما هو ظلمهما لأنفسهما، لا بمعنى المعصية المصطلحة و الظلم على الله سبحانه.

و من هنا يظهر أيضا أن هذا النهي أعني قوله: و لا تقربا، إنما كان نهيا تنزيهيا إرشاديا يرشد به إلى ما فيه خير المكلف و صلاحه في مقام النصح لا نهيا مولويا.

فهما إنما ظلما أنفسهما في ترك الجنة على أن جزاء المخالفة للنهي المولوي التكليفي يتبدل بالتوبة إذا قبلت و لم يتبدل في موردهما، فإنهما تابا و قبلت توبتهما و لم يرجعا إلى ما كانا فيه من الجنة و لو لا أن التكليف إرشادي ليس له إلا التبعة التكوينية دون التشريعية لاستلزام قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب و سيأتي لهذا الكلام بقية فيما سيأتي إن شاء الله.

قوله سبحانه: فأزلهما الشيطان، الظاهر من هذه الجملة كنظائرها و إن لم يكن أزيد من وسوسة الشيطان لهما مثل ما يوسوس لنا بني آدم على نحو إلقاء الوسوسة في القلب من غير رؤية الشخص.

لكن الظاهر من أمثال قوله تعالى في سورة طه: «فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك و لزوجك» يدل على أنه تعالى أراهما الشيطان و عرفهما إياه بالشخص و العين دون الوصف و كذا قوله تعالى حكاية عن الشيطان: «يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد» الآية حيث أتى بالكلام في صورة حكاية الخطاب، و يدل ذلك على متكلم مشعور به.

و كذا قوله تعالى في سورة الأعراف: «و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين» و القسم إنما يكون من مقاسم مشعور به.

و كذا قوله تعالى: «و ناديهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة و أقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين» كل ذلك يدل على أنه كان يتراءى لهما و كانا يشاهدانه.

و لو كان حالهما (عليهما السلام) مثل حالنا من عدم المشاهدة حين الوسوسة لجاز لهما أن يقولا: ربنا إننا لم نشعر و خلنا أن هذه الوساوس هي من أفكارنا من غير استشعار بحضوره، و لا قصد لمخالفة ما وصيتنا به من التحذير من وسوسته.

و بالجملة فهما كانا يشاهدانه و يعرفانه، و الأنبياء و هم المعصومون بعصمة الله كذلك يعرفونه و يشاهدونه حين تعرضه بهم لو تعرض على ما وردت به الروايات في نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و يحيى و أيوب و إسماعيل و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا.

و كذا ظاهر هذه الآيات كظاهر قوله تعالى: «ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة» حيث ينبىء عن كونهما معه لعنه الله بحيال الشجرة في الجنة، فقد كان دخل الجنة، و صاحبهما و غرهما بوسوسته، و لا محذور فيه إذ لم تكن الجنة جنة الخلد حتى لا يدخلها الشيطان، و الدليل على ذلك خروجهم جميعا من هذه الجنة.

و أما قوله تعالى خطابا لإبليس: «فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج منها»: الأعراف - 13، فيمكن أن يكون المراد به الخروج من الملائكة، أو الخروج من السماء من جهة كونها مقام قرب و تشريف.

قوله تعالى: «و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو» الآية ظاهر السياق أنه خطاب لآدم و زوجته و إبليس و قد خص إبليس وحده بالخطاب في سورة الأعراف حيث قال: «فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها» الآية فقوله تعالى: اهبطوا كالجمع بين الخطابين و حكاية عن قضاء قضى الله به العداوة بين إبليس لعنه الله و بين آدم و زوجته و ذريتهما، و كذلك قضى به حياتهم في الأرض و موتهم فيها و بعثهم منها.

و ذرية آدم مع آدم في الحكم كما ربما يستشعر من ظاهر قوله: «فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون» الآية و كما سيأتي في قوله تعالى: «و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم» الآية من سورة الأعراف.

إن إسجاد الملائكة لآدم (عليه السلام) إنما كان من جهة أنه خليفة أرضي، فكان المسجود له آدم و حكم السجدة لجميع البشر، فكان أقامه آدم (عليه السلام) مقام المسجود له معنونا بعنوان الأنموذج و النائب.

و بالجملة يشبه أن تكون هذه القصة التي قصها الله تعالى من إسكان آدم و زوجته الجنة، ثم إهباطهما لأكل الشجرة كالمثل يمثل به ما كان الإنسان فيه قبل نزوله إلى الدنيا من السعادة و الكرامة بسكونه حظيرة القدس، و منزل الرفعة و القرب، و دار نعمة و سرور، و أنس و نور، و رفقاء طاهرين، و أخلاء روحانيين، و جوار رب العالمين.

ثم إنه يختار مكانه كل تعب و عناء و مكروه و ألم بالميل إلى حياة فانية، و جيفة منتنة دانية، ثم إنه لو رجع بعد ذلك إلى ربه لأعاده إلى دار كرامته و سعادته و لو لم يرجع إليه و أخلد إلى الأرض و اتبع هواه فقد بدل نعمة الله كفرا و أحل بنفسه دار البوار، جهنم يصلاها و بئس القرار.

قوله تعالى: «فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه»، التلقي هو التلقن، و هو أخذ الكلام مع فهم و فقه و هذا التلقي كان هو الطريق المسهل لآدم (عليه السلام) توبته.

و من ذلك يظهر أن التوبة توبتان: توبة من الله تعالى و هي الرجوع إلى العبد بالرحمة، و توبة من العبد و هي الرجوع إلى الله بالاستغفار و الانقلاع من المعصية.

و توبة العبد، محفوفة بتوبتين من الله تعالى، فإن العبد لا يستغني عن ربه في حال من الأحوال، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى و إعانته و رحمته حتى يتحقق منه التوبة، ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى و عنايته و رحمته، فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى: «ثم تاب عليهم ليتوبوا: التوبة - 119.

و قراءة نصب آدم و رفع كلمات تناسب هذه النكتة، و إن كانت القراءة الأخرى و هي قراءة رفع آدم و نصب كلمات لا تنافيه أيضا.

و أما أن هذه الكلمات ما هي؟ فربما يحتمل أنها هي ما يحكيه الله تعالى عنهما في سورة الأعراف بقوله: «قالا ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين»: الأعراف - 23، إلا أن وقوع هذه الكلمات أعني قوله: «قالا ربنا ظلمنا» الآية قبل قوله: «قلنا اهبطوا» في سورة الأعراف و وقوع قوله «فتلقى آدم» الآية بعد قوله: قلنا اهبطوا، في هذه السورة لا يساعد عليه.

لكن هاهنا شيء: و هو أنك عرفت في صدر القصة أن الله تعالى حيث قال: «إني جاعل في الأرض خليفة»، قالت الملائكة: «أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك» الآية و هو تعالى لم يرد عليهم دعواهم على الخليفة الأرضي بما رموه به و لم يجب عنه بشيء إلا أنه علم آدم الأسماء كلها.

و لو لا أنه كان فيما صنعه تعالى من تعليم الأسماء ما يسد باب اعتراضهم ذلك لم ينقطع كلامهم و لا تمت الحجة عليهم قطعا.

ففي جملة ما علمه الله تعالى آدم من الأسماء أمر ينفع العاصي إذا عصى و المذنب إذا أذنب، فلعل تلقيه من ربه كان متعلقا بشيء من تلك الأسماء فافهم ذلك.

و اعلم أن آدم (عليه السلام) و إن ظلم نفسه في إلقائها إلى شفا جرف الهلكة و منشعب طريقي السعادة و الشقاوة أعني الدنيا، فلو وقف في مهبطه فقد هلك، و لو رجع إلى سعادته الأولى فقد أتعب نفسه و ظلمها، فهو (عليه السلام) ظالم لنفسه على كل تقدير، إلا أنه (عليه السلام) هيأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة و منزلة من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل و كذلك ما كان ينالها لو نزل من غير خطيئة.

فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر و المذلة و المسكنة و الحاجة و القصور و له في كل ما يصيبه من التعب و العناء و الكد روح و راحة في حظيرة القدس و جوار رب العالمين، فلله تعالى صفات من عفو و مغفرة و توبة و ستر و فضل و رأفة و رحمة لا ينالها إلا المذنبون، و له في أيام الدهر نفحات لا يرتاح بها إلا المتعرضون.

فهذه التوبة هي التي استدعت تشريع الطريق الذي يتوقع سلوكه و تنظيف المنزل الذي يرجى سكونه، فوراءها تشريع الدين و تقويم الملة.

و يدل على ذلك ما تراه أن الله تعالى يكرر في كلامه تقدم التوبة على الإيمان.

قال تعالى: «فاستقم كما أمرت و من تاب معك»: هود - 112، و قال: «و إني لغفار لمن تاب و آمن»: طه - 82، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى.

و هذا أول ما شرع من الدين لآدم (عليه السلام) و ذريته، أوجز الدين كله في جملتين لا يزاد عليه شيء إلى يوم القيامة.

و أنت إذا تدبرت هذه القصة قصة الجنة و خاصة ما وقع في سورة طه وجدت أن المستفاد منها أن جريان القصة أوجب قضاءين منه تعالى في آدم و ذريته، فأكل الشجرة أوجب حكمه تعالى و قضاءه بالهبوط و الاستقرار في الأرض و الحياة فيها تلك الحياة الشقية التي حذرا منها حين نهيا عن اقتراب الشجرة هذا.

و أن التوبة ثانيا: تعقب قضاء و حكما ثانيا منه تعالى بإكرام آدم و ذريته بالهداية إلى العبودية فالمقضي أولا كان نفس الحياة الأرضية، ثم بالتوبة طيب الله تلك الحياة بأن ركب عليها الهداية إلى العبودية، فتألفت الحياة من حياة أرضية، و حياة سماوية.

و هذا هو المستفاد من تكرار الأمر بالهبوط في هذه السورة حيث قال تعالى: «و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين» الآية و قال تعالى: «قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى الآية.

و توسيط التوبة بين الأمرين بالهبوط مشعر بأن التوبة وقعت و لما ينفصلا من الجنة و إن لم يكونا أيضا فيها كاستقرارهما فيها قبل ذلك.

يشعر بذلك أيضا قوله تعالى: «و ناديهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة» الآية بعد ما قال لهما: لا تقربا هذه الشجرة فأتى بلفظة تلكما و هي إشارة إلى البعيد بعد ما أتى بلفظة هذه و هي إشارة إلى القريب و عبر بلفظة نادى و هي للبعيد بعد ما أتى بلفظة قال و هي للقريب فافهم.

و اعلم أن ظاهر قوله تعالى: «و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين» الآية و قوله تعالى: «قال فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون» الآية أن نحوة هذه الحياة بعد الهبوط تغاير نحوها في الجنة قبل الهبوط، و أن هذه حياة ممتزجة حقيقتها بحقيقة الأرض ذات عناء و شقاء يلزمها أن يتكون الإنسان في الأرض ثم يعاد بالموت إليها ثم يخرج بالبعث منها.

فالحياة الأرضية تغاير حياة الجنة فحياتها حياة سماوية غير أرضية.

و من هنا يمكن أن يجزم أن جنة آدم كانت في السماء، و إن لم تكن جنة الآخرة جنة الخلد التي لا يخرج منها من دخل فيها.

نعم: يبقى الكلام في معنى السماء و لعلنا سنوفق لاستيفاء البحث منه، إن شاء الله تعالى.

بقي هنا شيء و هو القول في خطيئة آدم فنقول ظاهر الآيات في بادي النظر و إن كان تحقق المعصية و الخطيئة منه (عليه السلام) كما قال تعالى: فتكونا من الظالمين، و قال تعالى: و عصى آدم ربه فغوى الآية، و كما اعترف به فيما حكاه الله عنهما: «ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين الآية.

لكن التدبر في آيات القصة و الدقة في النهي الوارد عن أكل الشجرة يوجب القطع بأن النهي المذكور لم يكن نهيا مولويا و إنما هو نهي إرشادي يراد به الإرشاد و الهداية إلى ما في مورد التكليف من الصلاح و الخير لا البعث و الإرادة المولوية.

و يدل على ذلك أولا: أنه تعالى فرع على النهي في هذه السورة و في سورة الأعراف أنه ظلم حيث قال: «لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين» ثم بدله في سورة طه من قوله: فتشقى مفرعا إياه على ترك الجنة.

و معنى الشقاء التعب ثم ذكر بعده كالتفسير له: «إن لك أن لا تجوع فيها و لا تعرى، و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى» الآيات.

فأوضح أن المراد بالشقاء هو التعب الدنيوي، الذي تستتبعه هذه الحياة الأرضية من جوع و عطش و عراء و غير ذلك.

فالتوقي من هذه الأمور هو الموجب للنهي الكذائي لا جهة أخرى مولوية فالنهي إرشادي، و مخالفة النهي الإرشادي لا توجب معصية مولوية، و تعديا عن طور العبودية و على هذا فالمراد بالظلم أيضا في ما ورد من الآيات ظلمهما على أنفسهما في إلقائها في التعب و التهلكة دون الظلم المذموم في باب الربوبية و العبودية و هو ظاهر.

و ثانيا: أن التوبة، و هي الرجوع من العبد إذا استتبع القبول من جانب المولى أوجب كون الذنب كلا ذنب، و المعصية كأنها لم تصدر، فيعامل مع العاصي التائب معاملة المطيع المنقاد، و في مورد فعله معاملة الامتثال و الانقياد.

و لو كان النهي عن أكل الشجرة مولويا و كانت التوبة توبة عن ذنب عبودي و رجوعا عن مخالفة نهي مولوي كان اللازم رجوعهما إلى الجنة مع أنهما لم يرجعا.

و من هنا يعلم أن استتباع الأكل المنهي للخروج من الجنة كان استتباعا ضروريا تكوينيا، نظير استتباع السم للقتل و النار للإحراق، كما في موارد التكاليف الإرشادية لا استتباعا من قبيل المجازاة المولوية في التكاليف المولوية، كدخول النار لتارك الصلاة، و استحقاق الذم و استيجاب البعد في المخالفات العمومية الاجتماعية المولوية.

و ثالثا: أن قوله تعالى: «قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون، و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، الآيات».

و هو كلمة جامعة لجميع التشريعات التفصيلية التي أنزلها الله تعالى في هذه الدنيا من طرق ملائكته و كتبه و رسله، يحكي عن أول تشريع شرع للإنسان في هذه الدنيا التي هي دنيا آدم و ذريته، و قد وقع على ما يحكي الله تعالى بعد الأمر الثاني بالهبوط و من الواضح أن الأمر بالهبوط أمر تكويني متأخر عن الكون في الجنة و اقتراف الخطيئة، فلم يكن حين مخالفة النهي و اقتراب الشجرة لا دين مشروع و لا تكليف مولوي فلم يتحقق عند ذلك ذنب عبودي، و لا معصية مولوية.

و لا ينافي ذلك كون خطاب اسجدوا للملائكة و لإبليس و هو قبل خطاب لا تقربا، خطابا مولويا لأن المكلف غير المكلف.

فإن قلت: إذا كان النهي نهيا إرشاديا لا نهيا مولويا فما معنى عده تعالى فعلهما ظلما و عصيانا و غواية؟.

قلت: أما الظلم فقد مر أن المراد به ظلمهما لأنفسهما في جنب الله تعالى، و أما العصيان فهو لغة عدم الانفعال أو الانفعال بصعوبة كما يقال: كسرته فانكسر و كسرته فعصى، و العصيان و هو عدم الانفعال عن الأمر أو النهي كما يتحقق في مورد التكاليف المولوية كذلك يتحقق في مورد الخطابات الإرشادية.

و أما تعين معنى المعصية في هذه الأزمنة عندنا جماعة المسلمين في مخالفة مثل صل، أم صم، أو حج، أو لا تشرب الخمر، أو لا تزن و نحو ذلك فهو تعين بنحو الحقيقة الشرعية أو المتشرعة لا يضر بعموم المعنى بحسب اللغة و العرف العام هذا.

و أما الغواية فهو عدم اقتدار الإنسان مثلا على حفظ المقصد و تدبير نفسه في معيشته بحيث يناسب المقصد و يلائمه.

و واضح أنه يختلف باختلاف الموارد من إرشاد و مولوية.

فإن قلت: فما معنى التوبة حينئذ و قولهما: «و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين؟».

قلت: التوبة كما مر هي الرجوع و الرجوع، يختلف بحسب اختلاف موارده.

فكما يجوز للعبد المتمرد عن أمر سيده و إرادته أن يتوب إليه، فيرد إليه مقامه الزائل من القرب عنده كذلك يجوز للمريض الذي نهاه الطبيب نهيا إرشاديا عن أكل شيء معين من الفواكه و المأكولات، و إنما كان ذلك منه مراعاة لجانب سلامته و عافيته فلم ينته المريض عن نهيه فاقترفه فتضرر فأشرف على الهلاك.

يجوز أن يتوب إلى الطبيب ليشير إليه بدواء يعيده إلى سابق حاله و عافيته، فيذكر له أن ذلك محتاج إلى تحمل التعب و المشقة و العناء و الرياضة خلال مدة حتى يعود إلى سلامة المزاج الأولية بل إلى أشرف منها و أحسن، هذا.

و أما المغفرة و الرحمة و الخسران فالكلام فيها نظير الكلام في نظائرها في اختلافها بحسب اختلاف مواردها، هذا.

بحث روائي

في تفسير القمي، عن أبيه رفعه قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن جنة آدم أ من جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة؟ فقال (عليه السلام): كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس و القمر، و لو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا، قال (عليه السلام): فلما أسكنه الله الجنة و أباحها له إلا الشجرة، لأنه خلق خلقة لا يبقى إلا بالأمر و النهي و الغذاء و اللباس و الاكتنان و النكاح، و لا يدرك ما ينفعه مما يضره إلا بالتوفيق، فجاءه إبليس فقال له إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين، و بقيتما في الجنة أبدا، و إن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة، و حلف لهما أنه لهما ناصح كما قال الله عز و جل حكاية عنه: «ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة - إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين - و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة» فكانا كما حكى الله، فبدت لهما سوآتهما، و سقط عنهما ما ألبسهما الله من الجنة» و أقبلا يستتران من ورق الجنة، و ناديهما ربهما: أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة - و أقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، فقالا كما حكى الله عنهما ربنا ظلمنا أنفسنا - و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين فقال الله لهما: اهبطوا بعضكم لبعض عدو - و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين، قال: أي يوم القيامة، قال: فهبط آدم على الصفا، و إنما سميت الصفا لأن صفي الله أنزل عليها، و نزلت حواء على المروة و إنما سميت المروة لأن المرأة أنزلت عليها، فبقي آدم أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنة، فنزل عليه جبرئيل، فقال أ ليس خلقك الله بيده و نفخ فيك من روحه و أسجد لك ملائكته؟ قال: بلى، و أمرك أن لا تأكل من الشجرة فعصيته؟ قال آدم: إن إبليس حلف لي بالله كاذبا.

أقول: و في كون جنة آدم من جنان الدنيا روايات أخر من طريق أهل البيت و إن اتحد بعضها مع هذه الرواية في إبراهيم بن هاشم.

و المراد بكونها من جنان الدنيا كونها برزخية في مقابل جنان الخلد، كما يشير إليه بعض فقرات الرواية كقوله: فهبط آدم على الصفا، و كقوله: و نزلت حواء على المروة، و كقوله: إن المراد بحين يوم القيامة فيكون المكث في البرزخ بعد الموت مكثا في الأرض طبقا لما في آيات البعث من القرآن من عد المكث البرزخي مكثا في الأرض كما يشير إليه قوله تعالى: «قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون»: المؤمنون - 114، و قوله تعالى: «و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث و لكنكم كنتم لا تعلمون»: الروم - 56، على أن عدة من الروايات المنقولة عن أهل البيت تدل على أن الجنة كانت في السماء، و أنهما نزلا من السماء، على أن المستأنس بلسان الروايات لا يستوحش من كون الجنة المذكورة في السماء و الهبوط منها إلى الأرض مع كونهما خلقا في الأرض و عاشا فيها كما ورد في كون الجنة في السماء و وقوع سؤال القبر فيه و كونه روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار و غير ذلك و أرجو أن يرتفع هذا الإشكال و ما يشاكله من الإشكالات فيما سيأتي من البحث في السماء إن شاء الله العزيز.

و أما كيفية مجيء إبليس إليهما، و ما اتخذه فيه من الوسيلة فالصحاح و المعتبرة من الروايات خالية عن بيانها.

و في بعض الأخبار ذكر الحية و الطاووس عونين لإبليس في إغوائه إياهما لكنها غير معتبرة، أضربنا عن ذكرها و كأنها من الأخبار الدخيلة، و القصة مأخوذة من التوراة و هاك لفظ التوراة في القصة بعينه: قال في الفصل الثاني من السفر الأول و هو سفر الخليقة: و إن الله خلق آدم ترابا من الأرض، و نفخ في أنفه الحياة، فصار آدم نفسا ناطقا، و غرس الله جنانا في عدن شرقيا، و صير هناك آدم الذي خلقه، و أنبت الله من الأرض كل شجرة، حسن منظرها و طيب مأكلها، و شجرة الحياة في وسط الجنان، و شجرة معرفة الخير و الشر، و جعل نهرا يخرج من عدن ليسقي الجنان، و من ثم يفترق فيصير أربعة أرؤس، اسم أحدها النيل، و هو المحيط بجميع بلد ذويلة الذي فيه الذهب، و ذهب ذلك البلد جيد، ثم اللؤلؤ و حجارة البلور، و اسم النهر الثاني جيحون، و هو المحيط بجميع بلد الحبشة، و اسم النهر الثالث دجلة، و هو يسير في شرقي الموصل، و اسم النهر الرابع هو الفرات، فأخذ الله آدم و أنزله في جنان عدن ليفلحه و ليحفظه و أمر الله آدم قائلا: من جميع شجر الجنان جائز لك أن تأكل، و من شجرة معرفة الخير و الشر لا تأكل، فإنك في يوم أكلك منها تستحق أن تموت، و قال الله لا خير في بقاء آدم وحده، اصنع له عونا حذاه، فحشر الله من الأرض جميع وحش الصحراء و طير السماء و أتى بها إلى آدم ليريه ما يسميها، فكل ما سمى آدم من نفس حية باسم هو اسمه إلى الآن. فأسمى آدم أسماء لجميع البهائم و طير السماء و جميع وحش الصحراء و لم يجد آدم عونا حذاه، فأوقع سباتا على آدم لئلا يحس فنام، فاستل إحدى أضلاعه و سد مكانها اللحم، و بنى الله الضلع التي أخذ امرأة، فأتى بها إلى آدم، و قال آدم هذه المرة شاهدت عظما من عظامي، و لحما من لحمي، و ينبغي أن تسمى امرأة لأنها من أمري أخذت، و لذلك يترك الرجل أباه و أمه و يلزم زوجته، فيصيران كجسد واحد. و كانا جميعا عريانين آدم و زوجته و لا يحتشمان من ذلك. الفصل الثالث: و الثعبان صار حكيما من جميع حيوان الصحراء الذي خلقه الله فقال للمرأة أ يقينا قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنان؟ قالت المرأة للثعبان من ثمر شجر الجنان نأكل، لكن من ثمر الشجرة التي في وسطه قال الله لا تأكلا منه، و لا تدنوا به كيلا تموتا، قال لهما لستما تموتان، إن الله عالم أنكما في يوم أكلكما منه تنفتح عيونكما و تصيران كالملائكة عارفي الخير و الشر بزيادة، فلما رأت المرأة أن الشجرة طيبة المأكل شهية المنظر، مني للعقل، أخذت من ثمرها فأكلت، و أعطت بعلها فأكل معها، فانفتحت عيونهما فعلما أنهما عريانان فخيطا من ورق التين ما صنعا منه مآزر، فسمعا صوت الله مارا في الجنان برفق في حركة النهار، فاستخبأ آدم و زوجته من قبل صوت الله خباء فيما بين شجر الجنان، فنادى الله آدم، و قال له مقررا: أين أنت؟ قال: إني سمعت صوتك في الجنان فاتقيت إذ أنا عريان فاستخبأت، قال: من أخبرك أنك عريان؟ أ من الشجرة التي نهيتك عن الأكل منها أكلت؟ قال آدم المرأة التي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلت، قال الله للمرأة: ما ذا صنعت؟ قالت: الثعبان أغراني فأكلت قال الله للثعبان: إذ صنعت هذا بعلم فأنت ملعون من جميع البهائم و جميع وحش الصحراء و على صدرك تسلك و ترابا تأكل طول أيام حياتك، و أجعل عداوة بينك و بين المرأة، و بين نسلك و نسلها، و هو يشدخ منك الرأس و أنت تلذعه في العقب، و قال للمرأة: لأكثرن مشقتك و حملك، و بمشقة تلدين الأولاد، و إلى بعلك يكون قيادك، و هو يتسلط عليك. و قال لآدم: إذ قبلت قول زوجتك فأكلت من الشجرة التي نهيتك قائلا لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك بمشقة تأكل منها طول حياتك، و شوكا و دردرا تنبت لك، و تأكل عشب الصحراء، بعرق وجهك تأكل الطعام إلى حين رجوعك إلى الأرض التي أخذت منها لأنك تراب و إلى التراب ترجع، و سمى آدم زوجته حواء لأنها كانت أم كل حي ناطق، و صنع الله لآدم و زوجته ثياب بدن و ألبسهما، ثم قال الله، هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف معرفة الخير و الشر، و الآن فيجب أن يخرج من الجنان لئلا يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا و يأكل فيحيا إلى الدهر، فطرده الله من جنان عدن ليفلح الأرض التي أخذ منها، و لما طرد آدم أسكن من شرقي جنان عدن الملائكة، و لمع سيف متقلب ليحفظوا طريق شجرة الحياة. انتهى الفصل من التوراة العربية المطبوعة سنة 1811 ميلادية، و أنت بتطبيق القصة من الطريقين أعني طريقي القرآن و التوراة ثم التأمل في الروايات الواردة من طريقي العامة و الخاصة تعثر بحقائق من الحال غير أنا أضربنا عن الغور في بيانها و البحث عنها لأن الكتاب غير موضوع لذلك.

و أما دخول إبليس الجنة و إغواؤه فيها و هي أولا مقام القرب و النزاهة و الطهارة و قد قال تعالى: «لا لغو فيها و لا تأثيم»: الطور - 23، و هي ثانيا في السماء و قد قال تعالى خطابا لإبليس حين إبائه عن السجدة لآدم: «فاخرج منها فإنك رجيم»: الحجر - 34، و قال تعالى: «فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها»: الأعراف - 12.

فالجواب عن الأول كما ربما يقال إن القرآن إنما نفى ما نفى من وقوع اللغو و التأثيم في الجنة عن جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون في الآخرة و جنة البرزخ التي يدخلونها بعد الموت و الارتحال عن دار التكليف، و أما الجنة التي أدخل فيها آدم و زوجته و ذلك قبل استقرار الإنسان في دار التكليف و توجه الأمر و النهي فالقرآن لم ينطق فيه بشيء من ذلك، بل الأمر بالعكس و ناهيك في ذلك ما ذكر من وقوع عصيان آدم فيه على أن اللغو و التأثيم من الأمور النسبية التي لا تتحقق إلا بعد حلول الإنسان الدنيا و توجه الأمر و النهي إليه و تلبسه بالتكليف.

و الجواب عن الثاني أولا: أن رجوع الضمير في قوله: فاخرج منها، و قوله: فاهبط منها إلى السماء غير ظاهر من الآية لعدم ذكر السماء في الكلام سابقا و عدم العهد بها، فمن الجائز أن يكون المراد الخروج من الملائكة و الهبوط منها ببعض العنايات، أو الخروج و الهبوط من المنزلة و الكرامة.

و ثانيا: أنه يجوز أن يكون الأمر بالهبوط و الخروج كناية عن النهي عن المقام هناك بين الملائكة، لا عن أصل الكون فيها بالعروج و المرور من غير مقام و استقرار كالملائكة، و يلوح إليه بل يشهد به ما ربما يظهر من الآيات من استراق السمع، و قد روي: أن الشياطين كانوا يعرجون قبل عيسى إلى السماء السابعة فلما ولد عيسى منعوا من السماء الرابعة فما فوقها، ثم لما ولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منعوا من جميع السماوات و خطفوا بالخطفة.

و ثالثا: أن كلامه تعالى خال عن دخول إبليس الجنة فلا مورد للاستشكال، و إنما ورد ما ورد من حديث الدخول في الروايات و هي آحاد غير متواترة مع احتمال النقل بالمعنى من الراوي.

و أقصى ما يدل من كلامه تعالى على دخوله الجنة قوله تعالى حكاية عن إبليس «و قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين»: «الأعراف - 19» حيث أتي بلفظة هذه و هي للإشارة من قريب، لكنها لو دلت هاهنا على القرب المكاني لدل في قوله تعالى: «و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين»: الأعراف - 18، على مثله فيه تعالى.

و في العيون، عن عبد السلام الهروي قال: قلت للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم و حواء ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها فمنهم من يروي أنها الحنطة، و منهم من يروي أنها شجرة الحسد، فقال كل ذلك حق، قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال: يا بن الصلت إن شجرة الجنة تحمل أنواعا، و كانت شجرة الحنطة و فيها عنب و ليست كشجرة الدنيا، و إن آدم لما أكرمه الله تعالى بإسجاد ملائكته له، و بإدخاله الجنة، قال: هل خلق الله بشرا أفضل مني؟ فعلم الله عز و جل ما وقع في نفسه فناداه ارفع رأسك يا آدم و انظر إلى ساق العرش، فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين و زوجته فاطمة سيدة نساء العالمين و الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟ فقال عز و جل يا آدم هؤلاء ذريتك. و هم خير منك و من جميع خلقي، و لو لا هم ما خلقتك و لا الجنة و لا النار و لا السماء و لا الأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد و تمنى منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، و تسلط على حواء فنظرت إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم فأخرجهما الله تعالى من جنته و أهبطهما من جواره إلى الأرض.

أقول: و قد ورد هذا المعنى في عدة روايات بعضها أبسط من هذه الرواية و أطنب و بعضها أجمل و أوجز.

يتبع...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 22, 2010 2:21 pm

تابع
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

و هذه الرواية كما ترى سلم ع فيها أن الشجرة كانت شجرة الحنطة و شجرة الحسد و أنهما أكلا من شجرة الحنطة ثمرتها و حسدا و تمنيا منزلة محمد و آله، (صلى الله عليه وآله وسلم)، و مقتضى المعنى الأول أن الشجرة كانت أخفض شأنا من أن يميل إليها و يشتهيها أهل الجنة، و مقتضى الثاني أنها كانت أرفع شأنا من أن ينالها آدم و زوجته كما في رواية أخرى أنها كانت شجرة علم محمد و آله.

و بالجملة لهما معنيان مختلفان، لكنك بالرجوع إلى ما مر من أمر الميثاق تعرف أن المعنى واحد و أن آدم (عليه السلام) أراد أن يجمع بين التمتع بالجنة و هو مقام القرب من الله و فيها الميثاق أن لا يتوجه إلى غيره تعالى و بين الشجرة المنهية التي فيها تعب التعلق بالدنيا فلم يتيسر له الجمع بينهما فهبط إلى الأرض و نسي الميثاق فلم يجتمع له الأمران و هو منزلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم هداه الله بالاجتباء و نزعه بالتوبة من الدنيا، و ألحقه بما كان نسيه من الميثاق فافهم.

و قوله (عليه السلام): فنظر إليهم بعين الحسد و تمنى منزلتهم فيه بيان أن المراد بالحسد تمني منزلتهم دون الحسد الذي هو أحد الأخلاق الرذيلة.

و بالبيان السابق يرتفع التنافي الذي يتراءى بين ما رواه في كمال الدين، عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: إن الله عز و جل عهد إلى آدم أن لا يقرب الشجرة فلما بلغ الوقت الذي في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها و ذلك قول الله عز و جل: و لقد عهدنا إلى آدم فنسي و لم نجد له عزما، الحديث.

و بين ما رواه العياشي، في تفسيره عن أحدهما: و قد سئل كيف أخذ الله آدم بالنسيان؟ فقال: إنه لم ينس و كيف ينسى و هو يذكر و يقول له إبليس: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين الحديث.

و الوجه فيه واضح.

و في أمالي الصدوق، عن أبي الصلت الهروي، قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليهما السلام): أهل المقالات من أهل الإسلام و الديانات من اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين و سائر أهل المقالات فلم يقم أحد حتى ألزم حجته كأنه ألقم حجرا فقام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا بن رسول الله أ تقول بعصمة الأنبياء؟ قال: بلى، قال: فما تعمل بقول الله عز و جل: «و عصى آدم ربه فغوى؟» إلى أن قال: فقال مولانا الرضا (عليه السلام): ويحك يا علي اتق الله و لا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش و لا تتأول كتاب الله عز و جل برأيك فإن الله عز و جل يقول: «و ما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم». أما قوله عز و جل في آدم: «و عصى آدم ربه فغوى» فإن الله عز و جل خلق آدم حجة في أرضه و خليفة في بلاده لم يخلقه للجنة، و كانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض لتتم مقادير أمر الله عز و جل فلما أهبط إلى الأرض و جعل حجة و خليفة عصم بقوله عز و جل: «إن الله اصطفى آدم و نوحا - و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين» الحديث.

أقول: قوله: و كانت المعصية في الجنة إلخ إشارة إلى ما قدمناه أن التكليف الديني المولوي لم يكن مجعولا في الجنة بعد، و إنما موطنه الحياة الأرضية المقدرة لآدم (عليه السلام) بعد الهبوط إلى الأرض، فالمعصية إنما كانت معصية لأمر إرشادي غير مولوي فلا وجه لتعسف التأويل في الحديث على ما ارتكبه بعض.

و في العيون، عن علي بن محمد بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون و عنده علي بن موسى فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟ فقال بلى، قال فما معنى قول الله تعالى: فعصى آدم ربه فغوى؟ قال: إن الله تعالى قال لآدم: اسكن أنت و زوجك الجنة و كلا منها رغدا حيث شئتما - و لا تقربا هذه الشجرة و أشار لهما إلى شجرة الحنطة فتكونا من الظالمين، و لم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة و لا مما كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة و لم يأكلا منها و إنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما و قال: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة و إنما نهاكما أن تقربا غيرها و لم ينهكما أن تأكلا منها إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين و لم يكن آدم و حواء شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا فدلاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه بالله، و كان ذلك من آدم قبل النبوة و لم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار، و إنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم، فلما اجتباه الله و جعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة و لا كبيرة، قال الله عز و جل: «و عصى آدم ربه فغوى - ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى، و قال عز و جل: «إن الله اصطفى آدم و نوحا - و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين» الحديث.

أقول: قال الصدوق رحمه الله بعد نقل الحديث على طوله: و الحديث عجيب من طريق علي بن محمد بن الجهم مع نصبه و بغضه و عداوته لأهل البيت (عليهم السلام) انتهى.

و ما أعجبه منه إلا ما شاهده من اشتماله على تنزيه الأنبياء من غير أن يمعن النظر في الأصول المأخوذة فيه، فما نقله من جوابه (عليه السلام) في آدم لا يوافق مذهب أئمة أهل البيت المستفيض عنهم من عصمة الأنبياء من الصغائر و الكبائر قبل النبوة و بعدها.

على أن الجواب مشتمل على تقدير في قوله تعالى: «ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا»، إلى مثل قولنا: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة و إنما نهاكما عن غيرها و ما نهاكما عن غيرها إلا أن تكونا إلخ.

على أن قوله تعالى «ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين»، و قوله تعالى «قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى» الآية، يدل على أن إبليس إنما كان يحرضهما على الأكل من شخص الشجرة المنهية تطميعا في الخلود و الملك الذي حجب عنه بالنهي، على أن الرجل أعني علي بن محمد بن الجهم قد أخذ الجواب الصحيح التام بنفسه في مجلس المأمون كما رويناه في الحديث السابق، فالرواية لا تخلو عن شيء و إن كان بعض هذه الوجوه ممكن الاندفاع هذا.

و روى الصدوق، عن الباقر (عليه السلام) عن آبائه عن علي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: إنما كان لبث آدم و حواء في الجنة حتى أخرجا منها سبع ساعات من أيام الدنيا حتى أهبطهما الله في يومهما.

و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن سنان، قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) و أنا حاضر: كم لبث آدم و زوجته في الجنة حتى أخرجهما منها خطيئة؟ فقال: إن الله تبارك و تعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ثم برأ زوجته من أسفل أضلاعه ثم أسجد له ملائكته و أسكنه جنته من يومه ذلك، فوالله ما استقر فيها إلا ست ساعات من يومه ذلك، حتى عصى الله تعالى، فأخرجهما الله منها بعد غروب الشمس و صيرا بفناء الجنة حتى أصبحا فبدت لهما سوآتهما و ناداهما ربهما: أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة فاستحيا آدم فخضع و قال: ربنا ظلمنا أنفسنا و اعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا، قال الله لهما اهبطا من سماواتي إلى الأرض، فإنه لا يجاورني في جنتي عاص و لا في سماواتي.

أقول: و يمكن أن يستفاد ما يشتمل عليه الرواية من كيفية خروجهما و أنه كان أولا من الجنة إلى فنائها و من فنائها إلى الأرض من تكرر الأمر بالهبوط في الآية مع كونه أمرا تكوينيا غير قابل التخلف، و كذا من تغيير السياق في قوله تعالى: «و قلنا: يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة، إلى أن قال: و لا تقربا هذه الشجرة» الآية، و قوله تعالى: و ناديهما ربهما: أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة الآية، حيث عبر في الأول بالقول و بالإشارة القريبة و في الثاني بالنداء و الإشارة البعيدة، غير أن الرواية مشتملة على خلق حواء من أسفل أضلاع آدم كما اشتملت عليه التوراة، و الروايات عن أئمة أهل البيت تكذبه كما سيجيء في البحث عن خلقة آدم، و إن أمكن أن يحمل خلقها من فاضل طينة آدم مما يلي أضلاعه هذا، و أما ساعات مكثه في الجنة، و أنها ستة أو سبعة فالأمر فيها هين فإنما هو تقريب.

و في الكافي،: عن أحدهما (عليهما السلام): في قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات، قال: لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم و بحمدك، عملت سوءا و ظلمت نفسي فاغفر لي و أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم و بحمدك، عملت سوءا و ظلمت نفسي فارحمني و أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي فارحمني و أنت خير الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي فاغفر لي و تب علي إنك أنت التواب الرحيم.

أقول: و روى هذا المعنى الصدوق و العياشي و القمي و غيرهم، و عن طرق أهل السنة و الجماعة أيضا ما يقرب من ذلك، و ربما استفيد ذلك من ظاهر آيات القصة.

و قال الكليني في الكافي،: و في رواية أخرى: في قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات قال: سأله بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين.

أقول: و روى هذا المعنى أيضا الصدوق و العياشي و القمي و غيرهم، و روي ما يقرب من ذلك من طرق أهل السنة و الجماعة أيضا كما رواه في الدر المنثور، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي فأوحى الله إليه، و من محمد؟ قال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس أحد عندك أعظم قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك فأوحى الله إليه يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك و لولاه ما خلقتك.

أقول: و هذا المعنى و إن كان بعيدا عن ظاهر الآيات في بادي النظر لكن إشباع النظر و التدبر فيها ربما قرب ذلك تقريبا، إذ قوله: فتلقى آدم، يشتمل على معنى الأخذ مع الاستقبال، ففيه دلالة على أخذ آدم هذه الكلمات من ربه، ففيه علم سابق على التوبة، و قد كان (عليه السلام) تعلم من ربه الأسماء كلها إذ قال تعالى للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون و علم آدم الأسماء كلها، فهذا العلم كان من شأنه إزاحة كل ظلم و معصية لا محالة و دواء كل داء و إلا لم يتم الجواب عما أورده الملائكة و لا قامت الحجة عليهم لأنه سبحانه لم يذكر قبال قولهم: يفسد فيها و يسفك الدماء شيئا و لم يقابلهم بشيء دون أن علم آدم الأسماء كلها ففيه إصلاح كل فاسد، و قد عرفت ما حقيقة هذه الأسماء، و أنها موجودات عالية مغيبة في غيب السماوات و الأرض، و وسائط فيوضاته تعالى لما دونها، لا يتم كمال لمستكمل إلا ببركاتها و قد ورد في بعض الأخبار أنه رأى أشباح أهل البيت و أنوارهم حين علم الأسماء، و ورد أنه رآها حين أخرج الله ذريته من ظهره، و ورد أيضا أنه رآها و هو في الجنة فراجع و الله الهادي.

و قد أبهم الله أمر هذه الكلمات في قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات الآية حيث نكرها، و ورد في القرآن: إطلاق الكلمة على الموجود العيني صريحا في قوله: «بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم»: آل عمران - 40.

و أما ما ذكره بعض المفسرين: أن الكلمات التي حكاها الله عنهما في سورة الأعراف بقوله: «قالا ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين» الآية، ففيه: «أن التوبة كما يدل عليه الآيات في هذه السورة أعني سورة البقرة وقعت بعد الهبوط إلى الأرض، قال تعالى: «و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو» إلى أن قال: «فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه» الآيات و هذه الكلمات تكلم بها آدم و زوجته قبل الهبوط و هما في الجنة كما في سورة الأعراف، قال تعالى: «و ناديهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة» إلى أن قال: «قالا ربنا ظلمنا أنفسنا» إلى أن قال: «قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو» الآيات، بل الظاهر أن قولهما: ربنا ظلمنا أنفسنا، تذلل منهما و خضوع قبال ندائه تعالى و إيذان بأن الأمر إلى الله سبحانه كيف يشاء بعد الاعتراف بأن له الربوبية و أنهما ظالمان مشرفان على خطر الخسران.

و في تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن موسى سأل ربه أن يجمع بينه و بين آدم، فجمع فقال له موسى: يا أبت أ لم يخلقك الله بيده و نفخ فيك من روحه و أسجد لك الملائكة و أمرك أن لا تأكل من الشجرة؟ فلم عصيته؟ قال: يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التورية؟ قال: بثلاثين ألف سنة قال: فقال: هو ذاك، قال الصادق (عليه السلام) فحجج آدم موسى.

أقول: و روى ما يقرب من هذا المعنى العلامة السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في العلل، عن الباقر (عليه السلام): و الله لقد خلق الله آدم للدنيا، و أسكنه الجنة ليعصيه فيرده إلى ما خلقه له.

أقول: و قد مر رواية العياشي عن الصادق (عليه السلام): في خليل كان لآدم من الملائكة الحديث في هذا المعنى.

و في الاحتجاج،: في احتجاج علي مع الشامي حين سأله: عن أكرم واد على وجه الأرض، فقال (عليه السلام): واد يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السماء.

أقول: و تقابلها روايات مستفيضة تدل على سقوطه في أرض مكة و قد مر بعضها و يمكن التوفيق بينها بإمكان نزوله أولا بسرانديب ثم هبوطه إلى أرض مكة و ليس بنزولين عرضيين هذا.

و في الدر المنثور، عن الطبراني و أبي الشيخ في العظمة و ابن مردويه عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أ رأيت آدم أ نبيا كان؟ قال: نعم كان نبيا رسولا، كلمه الله قبلا، قال له: يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة.

أقول: و روى أهل السنة و الجماعة قريبا من هذا المعنى بعدة طرق.


يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (44)

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
بيان

أخذ سبحانه في معاتبة اليهود و ذلك في طي نيف و مائة آية يذكر فيها نعمة التي أفاضها عليهم، و كراماته التي حباهم بها، و ما قابلوها من الكفر و العصيان و نقض الميثاق و التمرد و الجحود، يذكرهم بالإشارة إلى اثنتي عشرة قصة من قصصهم، كنجاتهم من آل فرعون بفرق البحر، و غرق فرعون و جنوده، و مواعدة الطور، و اتخاذهم العجل من بعده و أمر موسى إياهم بقتل أنفسهم، و اقتراحهم من موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ثم بعثهم الله تعالى، إلى آخر ما أشير إليه من قصصهم التي كلها مشحونة بألطاف إلهية و عنايات ربانية، و يذكرهم أيضا المواثيق التي أخذ منهم ثم نقضوها و نبذوها وراء ظهورهم، و يذكرهم أيضا معاصي ارتكبوها و جرائم اكتسبوها و آثاما كسبتها قلوبهم على نهي من كتابهم، و ردع صريح من عقولهم، لقساوة قلوبهم، و شقاوة نفوسهم، و ضلال سعيهم.

قوله تعالى: و أوفوا بعهدي، أصل العهد الحفاظ، و منه اشتقت معانيه كالعهد بمعنى الميثاق و اليمين و الوصية و اللقاء و المنزل و نحو ذلك.

قوله تعالى: فارهبون، الرهبة الخوف، و تقابل الرغبة.

قوله تعالى: و لا تكونوا أول كافر به، أي من بين أهل الكتاب، أو من بين قومكم ممن مضى و سيأتي، فإن كفار مكة كانوا قد سبقوهم إلى الكفر به.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 22, 2010 2:26 pm

وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
بيان

قوله تعالى: و استعينوا بالصبر و الصلوة، الاستعانة و هي طلب العون إنما يتم فيما لا يقوى الإنسان عليه وحده من المهمات و النوازل، و إذ لا معين في الحقيقة إلا الله سبحانه فالعون على المهمات مقاومة الإنسان لها بالثبات و الاستقامة و الاتصال به تعالى بالانصراف إليه، و الإقبال عليه بنفسه، و هذا هو الصبر و الصلاة، و هما أحسن سبب على ذلك، فالصبر يصغر كل عظيمة نازلة، و بالإقبال على الله و الالتجاء إليه تستيقظ روح الإيمان، و تتنبه: أن الإنسان متك على ركن لا ينهدم، و سبب لا ينفصم.

قوله تعالى: و إنها لكبيرة إلا على الخاشعين، الضمير راجع إلى الصلاة، و أما إرجاعه إلى الاستعانة لتضمن قوله: استعينوا ذلك فينافيه ظاهرا قوله: إلا على الخاشعين، فإن الخشوع لا يلائم الصبر كثير ملائمة، و الفرق بين الخشوع و الخضوع مع أن في كليهما معنى التذلل و الانكسار أن الخضوع مختص بالجوارح و الخشوع بالقلب.

قوله تعالى: الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم.

هذا المورد، أعني مورد الاعتقاد بالآخرة على أنه مورد اليقين لا يفيد فيه الظن و الحسبان الذي لا يمنع النقيض، قال تعالى: «و بالآخرة هم يوقنون: البقرة - 4، و يمكن أن يكون الوجه فيه الأخذ بتحقق الخشوع فإن العلوم التدريجية الحصول من أسباب تدريجية تتدرج فيها النفس المدركة من تنبه و شك ثم ترجح أحد طرفي النقيض ثم انعدام الاحتمالات المخالفة شيئا فشيئا حتى يتم الإدراك الجازم و هو العلم، و هذا النوع من العلم إذا تعلق بأمر هائل موجب لاضطراب النفس و قلقها و خشوعها إنما تبتدي الخشوع الذي معه من حين شروع الرجحان قبل حصول الإدراك العلمي و تمامه، ففي وضع الظن موضع العلم إشارة إلى أن الإنسان لا يتوقف على زيادة مئونة على العلم إن تنبه بأن له ربا يمكن أن يلاقيه و يرجع إليه و ذلك كقول الشاعر: فقلت لهم ظنوا بألفي مذحج.

سراتهم في الفارسي المسرد.

و إنما يخوف العدو باليقين لا بالشك و لكنه أمرهم بالظن لأن الظن يكفيهم في الانقلاع عن المخالفة، بلا حاجة إلى اليقين حتى يتكلف المهدد إلى إيجاد اليقين فيهم بالتفهيم من غير اعتناء منه بشأنهم، و على هذا فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى: «فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا»: الكهف - 110، و هذا كله لو كان المراد باللقاء في قوله تعالى: ملاقوا ربهم، يوم البعث و لو كان المراد به ما سيأتي تصويره في سورة الأعراف إن شاء الله فلا محذور فيه أصلا.

بحث روائي

في الكافي،: عن الصادق (عليه السلام) قال: كان علي إذا أهاله أمر فزع قام إلى الصلاة ثم تلا هذه الآية: و استعينوا بالصبر و الصلوة.

و في الكافي، أيضا: عنه (عليه السلام): في الآية، قال: الصبر الصيام، و قال: إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم. إن الله عز و جل يقول: و استعينوا بالصبر يعني الصيام. أقول: و روى مضمون الحديثين العياشي في تفسيره.

و تفسير الصبر بالصيام من باب المصداق و الجري.

و في تفسير العياشي،: عن أبي الحسن (عليه السلام): في الآية قال: الصبر الصوم، إذا نزلت بالرجل الشدة أو النازلة فليصم، إن الله يقول: و استعينوا بالصبر و الصلوة و إنها لكبيرة إلا على الخاشعين. و الخاشع الذليل في صلاته المقبل عليها، يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمير المؤمنين (عليه السلام).

أقول: قد استفاد (عليه السلام) استحباب الصوم و الصلاة عند نزول الملمات و الشدائد، و كذا التوسل بالنبي و الولي عندها، و هو تأويل الصوم و الصلاة برسول الله و أمير المؤمنين.

و في تفسير العياشي، أيضا: عن علي (عليه السلام): في قوله تعالى: «الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم» الآية يقول: يوقنون أنهم مبعوثون، و الظن منهم يقين.

أقول: و رواه الصدوق أيضا.

و روى ابن شهر آشوب عن الباقر (عليه السلام): أن الآية نازلة في علي و عثمان بن مظعون و عمار بن ياسر و أصحاب لهم




يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (48)

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
بيان

قوله تعالى: و اتقوا يوما لا تجزي.

الملك و السلطان الدنيوي بأنواعه و أقسامه و بجميع شئونه، و قواه المقننة الحاكمة و المجرية مبتنية على حوائج الحياة، و غايتها رفع الحاجة حسب ما يساعد عليه العوامل الزمانية و المكانية، فربما بدل متاع من متاع أو نفع من نفع أو حكم من حكم من غير ميزان كلي يضبط الحكم و يجري ذلك في باب المجازاة أيضا فإن الجرم و الجناية عندهم يستتبع العقاب، و ربما بدل الحاكم العقاب لغرض يستدعي منه ذلك كأن يلح المحكوم الذي يرجى عقابه على القاضي و يسترحمه أو يرتشيه فينحرف في قضائه فيجزي أي يقضي فيه بخلاف الحق، أو يبعث المجرم شفيعا يتوسط بينه و بين الحاكم أو مجري الحكم أو يعطي عدلا و بدلا إذا كانت حاجة الحاكم المريد للعقاب إليه أزيد و أكثر من الحاجة إلى عقاب ذلك المجرم، أو يستنصر قومه فينصروه فيتخلص بذلك عن تبعة العقاب و نحو ذلك.

تلك سنة جارية و عادة دائرة بينهم، و كانت الملل القديمة من الوثنيين و غيرهم تعتقد أن الحياة الآخرة نوع حياة دنيوية يطرد فيها قانون الأسباب و يحكم فيها ناموس التأثير و التأثر المادي الطبيعي، فيقدمون إلى آلهتهم أنواع القرابين و الهدايا للصفح عن جرائمهم أو الإمداد في حوائجهم، أو يستشفعون بها، أو يفدون بشيء عن جريمة أو يستنصرون بنفس أو سلاح حتى إنهم كانوا يدفنون مع الأموات أنواع الزخرف و الزينة، ليكون معهم ما يتمتعون به في آخرتهم، و من أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم، و ربما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها، و من الأبطال من يستنصر به الميت، و توجد اليوم في المتاحف بين الآثار الأرضية عتائق كثيرة من هذا القبيل، و يوجد عقائد متنوعة شبيهة بتلك العقائد بين الملل الإسلامية على اختلاف ألسنتهم و ألوانهم، بقيت بينهم بالتوارث، ربما تلونت لونا بعد لون، جيلا بعد جيل، و قد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية، و الأقاويل الكاذبة، فقد قال عز من قائل: «و الأمر يومئذ لله،: الانفطار - 19، و قال: «و رأوا العذاب و تقطعت بهم الأسباب»: البقرة - 166، و قال «و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة و تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم و ما نرى معكم شفعائكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء، لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون»: الأنعام - 94، و قال: «هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت و ردوا إلى الله مولاهم الحق و ضل عنهم ما كانوا يفترون»: يونس - 30، إلى غير ذلك من الآيات التي بين فيها: أن الموطن خال عن الأسباب الدنيوية، و بمعزل عن الارتباطات الطبيعية، و هذا أصل يتفرع عليه بطلان كل واحد من تلك الأقاويل و الأوهام على طريق الإجمال، ثم فصل القول في نفي واحد واحد منها و إبطاله فقال: «و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا و لا يقبل منها شفاعة و لا يؤخذ منها عدل و لا هم ينصرون»: البقرة - 48، و قال: «يوم لا بيع فيه، و لا خلة، و لا شفاعة»: البقرة - 254، و قال: «يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا»: الدخان - 41، و قال: «يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم»: المؤمن - 33، و قال: «ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون»: الصافات - 26، و قال: «و يعبدون من دون الله ما لا يضرهم و لا ينفعهم و يقولون هؤلاء شفعائنا عند الله قل أ تنبئون الله بما لا يعلم في السموات و لا في الأرض سبحانه و تعالى عما يشركون»: يونس - 18، و قال: «ما للظالمين من حميم و لا شفيع يطاع»: المؤمن - 18، و قال: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم»: الشعراء - 101، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة و تأثير الوسائط و الأسباب يوم القيامة هذا.

ثم إن القرآن مع ذلك لا ينفي الشفاعة من أصلها، بل يثبتها بعض الإثبات، قال تعالى: «الله الذي خلق السموات و الأرض و ما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع أ فلا تتذكرون»: السجدة - 3، و قال تعالى: «ليس لهم من دونه ولي و لا شفيع»: الأنعام - 51، و قال تعالى: «قل لله الشفاعة جميعا»: الزمر - 44، و قال تعالى: «له ما في السموات و ما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم»: البقرة - 255، و قال تعالى: «إن ربكم الله الذي خلق السموات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه»: يونس - 3، و قال تعالى: «و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من خشيته مشفقون»: الأنبياء - 28، و قال: «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون»: الزخرف - 86، و قال: «و لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا»: مريم - 87، و قال تعالى: «يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن و رضي له قولا، يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يحيطون به علما»: طه - 110، و قال تعالى: «و لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له»: السبا - 23، و قال تعالى: «و كم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء و يرضى»: النجم - 26، فهذه الآيات كما ترى بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عز اسمه كالآيات الثلاثة الأولى و بين ما يعممها لغيره تعالى بإذنه و ارتضائه و نحو ذلك، و كيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب، غير أن بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك، و بعضها تثبتها لغيره بإذنه و ارتضائه، و قد عرفت أن هناك آيات تنفيها فتكون النسبة بين هذه الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره، و إثباته له تعالى بالاختصاص و لغيره بارتضائه، قال تعالى: «قل لا يعلم من في السموات و الأرض الغيب»: النمل - 65، و قال تعالى: «و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو»: الأنعام - 59 و قال تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول»: الجن - 27، و كذلك الآيات الناطقة في التوفي و الخلق و الرزق و التأثير و الحكم و الملك و غير ذلك فإنها شائعة في أسلوب القرآن، حيث ينفي كل كمال عن غيره تعالى، ثم يثبته لنفسه، ثم يثبته لغيره بإذنه و مشيته، فتفيد أن الموجودات غيره تعالى لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها و استقلالها، و إنما تملكها بتمليك الله لها إياها، حتى أن القرآن تثبت نوعا من المشية في ما حكم فيه و قضى عليه بقضاء، حتم كقوله تعالى: «فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير و شهيق خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض إلا ما شاء ربك، إن ربك فعال لما يريد و أما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ»: هود - 108، فقد علق الخلود بالمشية و خاصة في خلود الجنة مع حكمه بأن العطاء غير مجذوذ، إشعارا بأن قضاءه تعالى بالخلود لا يخرج الأمر من يده و لا يبطل سلطانه و ملكه عز سلطانه كما يدل عليه قوله: «إن ربك فعال لما يريد»: هود - 107، و بالجملة لا إعطاء هناك يخرج الأمر من يده و يوجب له الفقر، و لا منع يضطره إلى حفظ ما منعه و إبطال سلطانه تعالى.

و من هنا يظهر أن الآيات النافية للشفاعة إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك، و الآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الأصالة، و لغيره تعالى بإذنه و تمليكه، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى بإذنه فلننظر ما ذا يفيده كلامه في معنى الشفاعة و متعلقها؟ و فيمن تجري؟ و ممن تصح؟ و متى تتحقق؟ و ما نسبتها إلى العفو و المغفرة منه تعالى؟ و نحو ذلك في أمور.

1 - ما هي الشفاعة؟

الشفاعة على ما نعرف من معناها إجمالا بالقريحة المكتسبة من الاجتماع و التعاون و هي من الشفع مقابل الوتر كأن الشفيع ينضم إلى الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع فيصير به زوجا بعد ما كان فردا فيقوى على نيل ما يريده، لو لم يكن يناله وحده لنقص وسيلته و ضعفها و قصورها من الأمور التي نستعلمها لإنجاح المقاصد، و نستعين بها على حوائج الحياة، و جل الموارد التي نستعملها فيها إما مورد يقصد فيها جلب المنفعة و الخير، و إما مورد يطلب فيها دفع المضرة و الشر، لكن لا كل نفع و ضرر، فإنا لا نستشفع فيما يتضمنه الأسباب الطبيعية و الحوادث الكونية من الخير و الشر، و النفع و الضر، كالجوع، و العطش، و الحر، و البرد، و الصحة، و المرض، بل نتسبب فيها بالأسباب الطبيعية، و نتوسل إليها بوسائلها المناسبة لها كالأكل، و الشرب، و اللبس و الاكتنان و المداواة، و إنما نستشفع في الخيرات و الشرور و المنافع و المضار التي تستدعيها أو تستتبعها أوضاع القوانين و الأحكام التي وضعتها و اعتبرتها و قررتها و أجرتها حكومة الاجتماع بنحو الخصوص أو العموم، ففي دائرة المولوية و العبودية، و عند كل حاكم و محكوم، و أحكام من الأمر و النهي إذا عمل بها و امتثلها المكلف بها استتبع ذلك تبعة الثواب من مدح أو نفع، من جاه أو مال، و إذا خالفها و تمرد منها استتبع ذلك تبعة العقاب من ذم أو ضرر مادي، أو معنوي، فإذا أمر المولى أو نهى عبده، أو كل من هو تحت سيادته و حكومته بأمر أو نهي مثلا فامتثله كان له بذلك أجر كريم، و إن خالف كان له عقاب أو عذاب فهناك نوعان من الوضع و الاعتبار، وضع الحكم و وضع تبعة الحكم، يتعين به تبعة الموافقة و المخالفة.

و على هذا الأصل تدور جميع الحكومات العامة بين الملل و الخاصة بين كل إنسان و من دونه.

فإذا أراد الإنسان أن ينال كمالا و خيرا ماديا أو معنويا و ليس عنده ما يستوجب ذلك بحسب ما يعينه الاجتماع، و يعرف به لياقته، أو أراد أن يدفع عن نفسه شرا متوجها إليه من عقاب المخالفة و ليس عنده ما يدفعه، أعني الامتثال و الخروج عن عهدة التكليف، و بعبارة واضحة إذا أراد نيل ثواب من غير تهيئة أسبابه، أو التخلص من عقاب من غير إتيان التكليف المتوجه إليه فذلك مورد الشفاعة، و عنده تؤثر لكن لا مطلقا فإن من لا لياقة له بالنسبة إلى التلبس بكمال، أو لا رابطة له تربطها إلى المشفوع عنده أصلا، كالعامي الأمي الذي يريد تقلد مقام علمي، أو الجاحد الطاغي الذي لا يخضع لسيده أصلا لا تنفع عنده الشفاعة، فإنما الشفاعة متممة للسبب لا مستقلة في التأثير.

ثم إن تأثير الشفيع عند الحاكم المشفوع عنده لا يكون تأثيرا جزافيا من غير سبب يوجب ذلك بل لا بد أن يوسط أمرا يؤثر في الحاكم، و يوجب نيل الثواب، أو التخلص من العقاب، فالشفيع لا يطلب من المولى مثلا أن يبطل مولوية نفسه و عبودية عبده فلا يعاقبه، و لا يطلب منه أن يرفع اليد عن حكمه و تكليفه المجعول، أو ينسخه عموما أو في خصوص الواقعة فلا يعاقبه، و لا يطلب منه أن يبطل قانون المجازاة عموما أو خصوصا فلا يعاقب لذلك رأسا، أو في خصوص الواقعة، فلا نفوذ و لا تأثير للشفيع في مولوية و عبودية، و لا في حكم و لا في جزاء حكم، بل الشفيع بعد ما يسلم جميع الجهات الثلاث المذكورة إنما يتمسك: إما بصفات في المولى الحاكم توجب العفو و الصفح كسؤدده، و كرمه، و سخائه، و شرافة محتده، و إما بصفات في العبد تستدعي الرأفة و الحنان و تثير عوامل المغفرة كمذلته و مسكنته و حقارته و سوء حاله، و إما بصفات في نفسه أعني نفس الشفيع من قربه إلى المولى و كرامته و علو منزلته عنده فيقول: ما أسألك إبطال مولويتك و عبوديته، و لا أن تبطل حكمك و لا أن تبطل الجزاء، بل أسألك الصفح عنه بأن لك سؤددا و رأفة و كرما لا تنتفع بعقابه و لا يضرك الصفح عن ذنبه أو بأنه جاهل حقير مسكين لا يعتني مثلك بشأنه و لا يهتم بأمره أو بأن لي عندك من المنزلة و الكرامة ما يوجب إسعاف حاجتي في تخليصه و العفو عنه.

و من هنا يظهر للمتأمل أن الشفيع إنما يحكم بعض العوامل المربوطة بالمورد المؤثرة في رفع العقاب مثلا من صفات المشفوع عنده أو نحوها على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم و ترتب العقاب على مخالفته، و نعني بالحكومة أن يخرج مورد الحكم عن كونه موردا بإدخاله في مورد حكم آخر، فلا يشمله الحكم الأول لعدم كونه من مصاديقه لا أن يشمله فيبطل حكمه بعد الشمول بالمضادة كإبطال الأسباب المتضادة في الطبيعة بعضها حكم بعض بالمعارضة و الغلبة في التأثير، فحقيقة الشفاعة التوسط في إيصال نفع أو دفع شر بنحو الحكومة دون المضادة.

و من هنا يظهر أيضا أن الشفاعة من مصاديق السببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الأول البعيد و مسببه، هذا ما يتحصل من تحليل معنى الشفاعة التي عندنا.

ثم إن الله سبحانه يمكن أن يقع مورد النظر في السببية من جهتين: إحداهما: أنه يبتدي منه التأثير، و ينتهي إليه السببية، فهو المالك للخلق و الإيجاد على الإطلاق، و جميع العلل و الأسباب أمور متخللة متوسطة بينه و بين غيره لنشر رحمته التي لا تنفد و نعمته التي لا تحصى إلى خلقه و صنعه.

و الثانية: أنه تعالى تفضل علينا بالدنو في حين علوه فشرع الدين و وضع فيه أحكاما من أوامر و نواهي و غير ذلك و تبعات من الثواب و العقاب في الدار الآخرة و أرسل رسلا مبشرين و منذرين فبلغوه أحسن تبليغ و قامت بذلك الحجة و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته.

أما من الجهة الأولى: و هي النظر إليه من جهة التكوين فانطباق معنى الشفاعة على شأن الأسباب و العلل الوجودية المتوسطة واضح لا يخفى، فإنها تستفيد من صفاته العليا من الرحمة و الخلق و الإحياء و الرزق و غير ذلك إيصال أنواع النعم و الفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه، و كلامه تعالى أيضا يحتمل ذلك كقوله تعالى: «له ما في السموات و ما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه»: البقرة - 255، و قوله «إن ربكم الله الذي خلق السموات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه»: يونس - 3، فإن الشفاعة في مورد التكوين ليست إلا توسط العلل و الأسباب بينه و بين مسبباتها في تدبير أمرها و تنظيم وجودها و بقائها فهذه شفاعة تكوينية.

و أما من الجهة الثانية و هي النظر إليه من جهة التشريع فالذي ينبغي أن يقال: أن مفهوم الشفاعة على ما سبق من التحليل يصح صدقه في مورده و لا محذور في ذلك و عليه ينطبق قوله تعالى: «يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن و رضي له قولا»: طه - 109، و قوله: «لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له»: السبا - 23، و قوله «لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء و يرضى»: النجم - 26، و قوله: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى»: الأنبياء - 28، و قوله: «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون»: الزخرف - 86، فإن الآيات كما ترى تثبت الشفاعة بمعنى الشافعية لعدة من عباده من الملائكة و الناس من بعد الإذن و الارتضاء، فهو تمليك و لله الملك و له الأمر فلهم أن يتمسكوا برحمته و عفوه و مغفرته و ما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبدا من عباده سائت حاله بالمعصية، و شملته بلية العقوبة، فيخرج عن كونه مصداقا للحكم الشامل، و الجرم العامل على ما عرفت أن تأثير الشفاعة بنحو الحكومة دون التضاد و هو القائل عز من قائل: «أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات»: الفرقان - 70، فله تعالى أن يبدل عملا من عمل كما أن له أن يجعل الموجود من العمل معدوما، قال تعالى: «و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا»: الفرقان - 23، و قال تعالى: «فأحبط أعمالهم»: محمد - 10، و قال تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم»: النساء - 31، و قال تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء»: النساء - 48، و الآية في غير مورد الإيمان و التوبة قطعا فإن الإيمان و التوبة يغفر بهما الشرك أيضا كسائر الذنوب و له تكثير القليل من العمل، قال تعالى: «أولئك يؤتون أجرهم مرتين»: القصص - 65، و قال: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها»: الأنعام - 160، و له سبحانه أن يجعل المعدوم من العمل موجودا، قال تعالى: «الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرىء بما كسب رهين»: الطور - 21، و هذا هو اللحوق و الإلحاق و بالجملة فله تعالى أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

نعم إنما يفعل لمصلحة مقتضية، و علة متوسطة و لتكن من جملتها شفاعة الشافعين من أنبيائه و أوليائه و المقربين من عباده من غير جزاف و لا ظلم.

و من هنا ظهر أن معنى الشفاعة بمعنى الشافعية، صادق بحسب الحقيقة في حقه تعالى فإن كلا من صفاته متوسطة بينه و بين خلقه في إفاضة الجود و بذل الوجود فهو الشفيع في الحقيقة على الإطلاق.

قال تعالى: «قل لله الشفاعة جميعا»: الزمر - 44، و قال تعالى: «ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع»: السجدة - 4، و قال تعالى: «ليس لهم من دونه ولي و لا شفيع»: الأنعام - 51.

و غيره تعالى لو كان شفيعا فإنما هو بإذنه و تمليكه.

فقد ثبت بما مر صحة تحقق الشفاعة عنده تعالى في الجملة فيما لا يوجب محذورا لا يليق بساحة كبريائه تعالى.

2 - إشكالات الشفاعة

قد عرفت: أن الشفاعة ثابتة في الجملة لا بالجملة، و ستعرف أن الكتاب و كذلك السنة لا يثبتان أزيد من ذلك، بل التأمل في معناها وحده يقضي بذلك، فإن الشفاعة كما مر يرجع بحسب المعنى إلى التوسط في السببية و التأثير، و لا معنى للإطلاق في السببية و التأثير فلا السبب يكون سببا لكل مسبب من غير شرط و لا مسبب واحد يكون مسببا لكل سبب على الإطلاق فإن ذلك يؤدي إلى بطلان السببية و هو باطل بالضرورة.

و من هنا اشتبه الأمر على النافين للشفاعة حيث توهموها مطلقة من غير شرط فاستشكلوا فيها بأمور و بنوا عليها بطلان هذه الحقيقة القرآنية من غير تدبر فيما يعطيه كلامه تعالى و هاك شطرا منها: الإشكال الأول: أن رفع العقاب عن المجرم يوم القيامة بعد ما أثبته الله تعالى بالوعيد إما أن يكون عدلا أو ظلما.

فإن كان عدلا كان أصل الحكم المستتبع للعقاب ظلما لا يليق بساحته تعالى و تقدس، و إن كان ظلما كان شفاعة الأنبياء مثلا سؤالا للظلم منه و هو جهل لا يجوز نسبته إليهم صلوات الله عليهم.

و الجواب عنه أولا: بالنقض فإنه منقوض بالأوامر الامتحانية فرفع الحكم الامتحاني ثانيا و إثباته أولا كلاهما من العدل، و الحكمة فيها اختبار سريرة المكلف أو إظهار باطن أمره أو إخراج ما في قوته إلى الفعل، فيقال في مورد الشفاعة أيضا يمكن أن تكون النجاة مكتوبة لجميع المؤمنين، ثم يوضع الأحكام و ما لمخالفتها من أنواع العقاب ليهلك الكافرون بكفرهم، و أما المؤمنون فيرتفع بالطاعة درجات المحسنين منهم و يبقى السميئون فينالون بالشفاعة النجاة المكتوبة لهم و لو بالنسبة إلى بعض أنواع العذاب أو أفراده مع مقاساة البعض الآخر كأحوال البرزخ و أهوال يوم القيامة، فيكون بذلك أصل وضع الحكم و عقابه أولا عدلا و رفع عقابه ثانيا عدلا.

و ثانيا: بالحل، فإن رفع العقاب أولا بواسطة الشفاعة إنما يغاير الحكم الأول فيما ذكر من العدل و الظلم لو كان رفع العقاب بالشفاعة نقضا للحكم الأول أو نقضا للحكم باستتباع العقوبة و قد عرفت أنه ليس كذلك بل أثر الشفاعة بالحكومة لا بالمضادة فيها إخراج المجرم عن كونه مصداقا لشمول العقاب بجعله مصداقا لشمول الرحمة من صفات أخرى له تعالى من رحمة و عفو و مغفرة، و منها إفضاله للشافع بالإكرام و الإعظام.

الإشكال الثاني: أن سنة الله تعالى جرت على صون أفعاله من التخلف و الاختلاف، فما قضى و حكم به يجريه على وتيرة واحدة من غير استثناء، و على هذا جرت سنة الأسباب، قال تعالى: «هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين و إن جهنم لموعدهم أجمعين»: الحجر - 43، و قال تعالى: «و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم»: الأنعام - 153، و قال تعالى: «فلن تجد لسنة الله تبديلا و لن تجد لسنة الله تحويلا»: الفاطر - 42، و تحقق الشفاعة موجب للاختلاف في الفعل فإن رفع العقاب بالشفاعة عن جميع المجرمين في جميع جرائمهم موجب لنقض الفرض المحال، و لعب ينافي الحكمة قطعا، و رفعه عن بعض المجرمين أو في بعض جرائمهم و ذنوبهم اختلاف في فعله تعالى و تغير و تبدل في سنته الجارية و طريقته الدائمة، إذ لا فرق بين المجرمين في أن كل واحد منهم مجرم و لا بين الذنوب في أن كلا منها ذنب و خروج عن زي العبودية فتخصيص بعضهم أو بعض من أعمالهم بالصفح و الإغماض دون بعض بواسطة الشفاعة محال، و إنما تجري الشفاعة و ما يشبهها في سنة هذه الحياة من ابتناء الأعمال و الأفعال على الأهواء و الأوهام التي ربما تقضي في الحق و الباطل على السواء، و تجري عن الحكمة و عن الجهالة على نسق واحد.

و الجواب أنه لا ريب في أن صراطه تعالى مستقيم و سنته واحدة لكن هذه السنة الواحدة الغير المختلفة ليست قائمة على أصل صفة واحدة من صفاته تعالى كصفة التشريع و الحكم مثلا حتى لا يتخلف حكم عن مورده و لا جزاء حكم عن محله قط بل هي قائمة على ما يستوجبه جميع صفاته المربوط علت صفاته.

توضيح ذلك: أن الله سبحانه هو الواهب المفيض لكل ما في الوجود من حياة أو موت أو رزق أو نعمة أو غير ذلك.

و هي أمور مختلفة لا ترتبط به سبحانه على السواء و لا لرابطة واحدة كيف كانت، فإن فيه بطلان الارتباط و السببية، فهو تعالى لا يشفي مريضا من غير سبب موجب و مصلحة مقتضية و لا يشفيه لأنه الله المميت المنتقم شديد البطش بل لأنه الله الرءوف الرحيم المنعم الشافي المعافي مثلا و لا يهلك جبارا مستكبرا من غير سبب، لأنه رءوف رحيم به، بل لأنه الله المنتقم الشديد البطش القهار مثلا و هكذا.

و القرآن بذلك ناطق فكل حادث من الحوادث بما يشتمل عليه من جهات الوجود يسند إليه من جهة صفة أو أكثر من صفاته العليا تتسبب إليه بالتلاؤم و الايتلاف الواقع بينها و الاقتضاء المستنتج من ذلك، و إن شئت قلت: كل أمر من الأمور يرتبط به تعالى من جهة ما يتضمنه من المصالح و الخيرات.

إذا عرفت هذا علمت: أن استقامة صراطه و عدم تبدل سنته و عدم اختلاف فعله إنما هي بالنسبة إلى ما يفعله بجميع صفاته المربوطة لا بالنسبة إلى مقتضى صفة قاصرة و إن شئت قلت: بالنسبة إلى ما يتحصل من الفعل و الانفعال و الكسر و الانكسار الواقع بين الحكم و المصالح المرتبطة بالمورد لا بالنسبة إلى مقتضى مصلحة واحدة.

فلو كان هناك سبب الحكم المجعول فقط لم يتغير و لم يختلف في بر و لا فاجر و لا مؤمن و لا كافر.

لكن الأسباب كثيرة ربما استدعى توافق عدة منها غير ما يقتضيه بعضها فافهم ذلك.

فوقوع الشفاعة و ارتفاع العقاب - و ذلك إثر عدة من الأسباب كالرحمة و المغفرة و الحكم و القضاء و إعطاء كل ذي حق حقه و الفصل في القضاء - لا يوجب اختلافا في السنة الجارية و ضلالا في الصراط المستقيم.

الإشكال الثالث: أن الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك أراد غيره حكم به أو لا فلا تتحقق الشفاعة إلا بترك الإرادة و نسخها لأجل الشفيع فأما الحاكم العادل فإنه لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به، كأن أخطأ ثم عرف الصواب و رأى أن المصلحة أو العمل في خلاف ما كان يريده أو حكم به.

و أما الحاكم المستبد الظالم فإنه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشيء و هو عالم بأنه ظلم و أن العدل في خلافه و لكنه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة، و كل من النوعين محال على الله تعالى لأن إرادته على حسب علمه و علمه أزلي لا يتغير.

و الجواب أن ذلك منه تعالى ليس من تغير الإرادة و العلم في شيء و إنما التغير في المراد و المعلوم، فهو سبحانه يعلم أن الإنسان الفلاني سيتحول عليه الحالات فيكون في حين كذا على حال كذا لاقتران أسباب و شرائط خاصة فيريد فيه بإرادة، ثم يكون في حين آخر على حال آخر جديد يخالف الأول لاقتران أسباب و شرائط أخر فيريد فيه بإرادة أخرى و كل يوم هو في شأن، و قد قال تعالى: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب»: الرعد - 39، و قال: «بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء»: المائدة - 67، مثال ذلك: أنا نعلم أن الهواء ستغشاه الظلمة فلا يعمل أبصارنا و الحاجة إليه قائمة ثم تنجلي الظلمة بإنارة الشمس فتتعلق إرادتنا عند إقبال الليل بالاستضاءة بالسراج و عند انقضائه بإطفائه و العلم و الإرادة غير متغيرتين و إنما تغير المعلوم و المراد، فخرجا عن كونهما منطبقا عليه للعلم و الإرادة، و ليس كل علم ينطبق على كل معلوم، و لا كل إرادة تتعلق بكل مراد، نعم تغير العلم و الإرادة المستحيل عليه تعالى هو بطلان انطباق العلم على المعلوم و الإرادة على المراد مع بقاء المعلوم و المراد على حالهما و هو الخطأ و الفسخ، مثل أن ترى شبحا فتحكم بكونه إنسانا ثم يتبين أنه فرس فيتبدل العلم، أو تريد أمرا لمصلحة ما ثم يظهر لك أن المصلحة في خلافه فتنفسخ إرادتك، و هذان غير جائزين في مورده تعالى، و الشفاعة و رفع العقاب بها ليس من هذا القبيل كما عرفت.

الإشكال الرابع: أن وعد الشفاعة منه تعالى أو تبليغها من الأنبياء (عليهم السلام) مستلزم لتجري الناس على المعصية و إغراء لهم على هتك محارم الله تعالى و هو مناف للغرض الوحيد من الدين من سوق الناس إلى العبودية و الطلاعة فلا بد من تأويل ما يدل عليه من الكتاب و السنة بما لا يزاحم هذا الأصل البديهي.

و الجواب عنه، أولا: بالنقض بالآيات الدالة على شمول المغفرة و سعة الرحمة كقوله تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء»: النساء - 51، و الآية - كما - مر في غير مورد التوبة بدليل استثنائه الشرك المغفور بالتوبة.

و ثانيا: بالحل: فإن وعد الشفاعة أو تبليغها إنما يستلزم تجري الناس على المعصية و إغراءهم على التمرد و المخالفة بشرطين: أحدهما: تعيين المجرم بنفسه و نعته أو تعيين الذنب الذي تقع فيه الشفاعة تعيينا لا يقع فيه لبس بنحو الإنجاز من غير تعليق بشرط جائز.

و ثانيهما: تأثير الشفاعة في جميع أنواع العقاب و أوقاته بأن تقلعه من أصله قلعا.

فلو قيل: إن الطائفة الفلانية من الناس أو كل الناس لا يعاقبون على ما أجرموا و لا يؤاخذون فيما أذنبوا أبدا، أو قيل إن الذنب الفلاني لا عذاب عليه قط كان ذلك باطلا من القول و لعبا بالأحكام و التكاليف المتوجهة إلى المكلفين، و أما إذا أبهم الأمر من حيث الشرطين فلم يعين أن الشفاعة في أي الذنوب و في حق أي المذنبين أو أن العقاب المرفوع هو جميع العقوبات و في جميع الأوقات و الأحوال، فلا تعلم نفس هل تنال الشفاعة الموعودة أو لا فلا تتجرى على هتك محارم الله تعالى، غير أن ذلك توقظ قريحة رجائها فلا يوجب مشاهدة ما يشاهدها من ذنوبها و آثامها قنوطا من رحمة الله، و يأسا من روح الله، مضافا إلى قوله تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم»: النساء - 31، فإن الآية تدل على رفع عقاب السيئات و المعاصي الصغيرة على تقدير اجتناب المعاصي الكبيرة فإذا جاز أن يقول الله سبحانه: إن اتقيتم الكبائر عفونا عن صغائركم، فليجز أن يقال: إن تحفظتم على إيمانكم حتى أتيتموني في يوم اللقاء بإيمان سليم قبلت فيكم شفاعة الشافعين، فإنما الشأن كل الشأن في حفظ الإيمان و المعاصي تضعف الإيمان و تقسي القلب و تجلب الشرك، و قد قال تعالى: «فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون»: الأعراف - 98، و قال: «كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون»: المطففين - 14، و قال: «ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله»: الروم - 10، و ربما أوجب ذلك انقلاعه عن المعاصي، و ركوبه على صراط التقوى، و صيرورته من المحسنين، و استغناءه عن الشفاعة بهذا المعنى، و هذا من أعظم الفوائد، و كذا إذا عين المجرم المشفوع له أو الجرم المشفوع فيه لكن صرح بشموله على بعض جهات العذاب أو بعض أوقاته فلا يوجب تجري المجرمين قطعا.

و القرآن لم ينطق في خصوص المجرمين و في خصوص الذنب بالتعيين و لم ينطق في رفع العقاب إلا بالبعض كما سيجيء فلا إشكال أصلا.

الإشكال الخامس: أن العقل لو دل فإنما يدل على إمكان وقوع الشفاعة لا على فعلية وقوعها على أن أصل دلالته ممنوع، و أما النقل فما يتضمنه القرآن لا دلالة فيه على وقوعها فإن فيها آيات دالة على نفي الشفاعة مطلقا كقوله، «لا بيع فيه و لا خلة و لا شفاعة»: البقرة - 254، و أخرى ناطقة بنفي منفعة الشفاعة كقوله تعالى: «فما تنفعهم شفاعة الشافعين»: المدثر - 48 و أخرى تفيد النفي بمثل قوله تعالى: «إلا بإذنه»: البقرة - 255 و قوله: «إلا من بعد إذنه»: يونس - 3، و قوله تعالى: «إلا لمن ارتضى»: الأنبياء - 28، و مثل هذا الاستثناء أي الاستثناء بالإذن و المشية معهود في أسلوب القرآن في مقام النفي القطعي للإشعار بأن ذلك بإذنه و مشيته سبحانه كقوله تعالى: «سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله»: الأعلى - 6، و قوله تعالى: «خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض إلا ما شاء ربك»: هود - 107، فليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة و أما السنة فما دلت عليه الروايات من الخصوصيات لا تعويل عليه، و أما المتيقن منها فلا يزيد على ما في الكتاب دلالة.

و الجواب: أما عن الآيات النافية للشفاعة فقد عرفت أنها لا تنفي مطلق الشفاعة بل الشفاعة بغير إذن الله و ارتضائه، و أما عن الآيات النافية لمنفعة الشفاعة على زعم المستشكل فإنها تثبت الشفاعة و لا تنفيه فإن الآيات واقعة في سورة المدثر و إنما تنفي الانتفاع عن طائفة خاصة من المجرمين لا عن جميعهم، و مع ذلك فالشفاعة مضافة لا مجردة مقطوعة عن الإضافة، ففرق بين أن يقول القائل: فلا تنفعهم الشفاعة و بين أن يقول: فلا تنفعهم شفاعة الشافعين فإن المصدر المضاف يشعر بوقوع الفعل في الخارج بخلاف المقطوع عن الإضافة، نص عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز فقوله: شفاعة الشافعين يدل على أن شفاعة ما ستقع غير أن هؤلاء لا ينتفعون بها على أن الإتيان بصيغة الجمع في الشافعين يدل على ذلك أيضا كقوله: «كانت من الغابرين» و قوله: «و كان من الكافرين» و قوله: «فكان من الغاوين» و قوله: «لا ينال عهدي الظالمين» و أمثال ذلك، و لو لا ذلك لكان الإتيان بصيغة الجمع و له مدلول زائد على مدلول المفرد لغوا زائدا في الكلام فقوله: فما تنفعهم شفاعة الشافعين من الآيات المثبتة للشفاعة دون النافية.

و أما عن الآيات المشتملة على استثناء الإذن و الارتضاء فدلالة قوله: «إلا بإذنه» و قوله: «إلا من بعد إذنه» على الوقوع و هو مصدر مضاف مما لا ينبغي أن ينكره عارف بأساليب الكلام و كذا القول: بكون قوله: «إلا بإذنه» و قوله: «إلا لمن ارتضى»، بمعنى واحد و هو المشية مما لا ينبغي الإصغاء إليه، على أن الاستثناء واقع في مورد الشفاعة بوجوه مختلفة كقوله: «إلا بإذنه و إلا من بعد إذنه» و قوله «إلا لمن ارتضى»، و قوله: «إلا من شهد بالحق و هم يعلمون» إلى غير ذلك، فهب: أن الإذن و الارتضاء واحد و هو المشية فهل يمكن التفوه بذلك في قوله: «إلا من شهد بالحق و هم يعلمون».

فهل المراد بهذا الاستثناء استثناء المشية أيضا؟ هذا و أمثاله من المساهلة في البيان مما لا يصح نسبته إلى كلام سوقي فكيف بالكلام البليغ! و كيف بأبلغ الكلام! و أما السنة فسيأتي الكلام في دلالتها على ما يحاذي دلالة الكتاب.

الإشكال السادس: أن الآيات غير صريحة في رفع العقاب الثابت على المجرمين يوم القيامة بعد ثبوت الجرم و لزوم العقاب بل المراد بها شفاعة الأنبياء بمعنى توسطهم بما هم أنبياء بين الناس و بين ربهم بأخذ الأحكام بالوحي و تبليغها الناس و هدايتهم و هذا المقدار كالبذر ينمو و ينشأ منه ما يستقبله من الأقدار و الأوصاف و الأحوال فهم (عليهم السلام) شفعاء المؤمنين في الدنيا و شفعاؤهم في الآخرة.

و الجواب: أنه لا كلام في أن ذلك من مصاديق الشفاعة إلا أن الشفاعة غير مقصورة فيه كما مر بيانه، و من الدليل عليه قوله تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء»: النساء - 48، و قد مر بيان أن الآية في غير مورد الإيمان و التوبة، و الشفاعة التي قررها المستشكل في الأنبياء إنما هي بطريق الدعوة إلى الإيمان و التوبة.

الإشكال السابع: أن طريق العقل لا يوصل إلى تحقق الشفاعة، و ما نطق به القرآن آيات متشابهة تنفيها تارة و تثبتها أخرى، و ربما قيدتها و ربما أطلقتها، و الأدب الديني الإيمان بها، و إرجاع علمها إلى الله تعالى.

و الجواب عنه: أن المتشابهة من الآيات تصير بإرجاعها إلى المحكمات محكمات مثلها، و هو أمر ميسور لنا غير مضروب دونه الستر، كما سيجيء بيانه عند قوله تعالى: «منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات»: آل عمران - 7.

3 - فيمن تجري الشفاعة؟

قد عرفت أن تعيين المشفوع لهم يوم القيامة لا يلائم التربية الدينية كل الملاءمة إلا أن يعرفوا بما لا يخلو عن شوب إبهام و على ذلك جرى بيان القرآن، قال تعالى: «كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين و لم نك نطعم المسكين و كنا نخوض مع الخائضين و كنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين»: المدثر - 48، بين سبحانه فيها أن كل نفس مرهونة يوم القيامة بما كسبت من الذنوب، مأخوذة بما أسلفت من الخطايا إلا أصحاب اليمين فقد فكوا من الرهن و أطلقوا و استقروا في الجنان، ثم ذكر أنهم غير محجوبين عن المجرمين الذين هم مرهونون بأعمالهم، مأخوذ عليهم في سقر، يتساءلون عنهم سلوكهم في النار، و هم يجيبون بالإشارة إلى عدة صفات ساقتهم إلى النار، فرع على هذه الصفات بأنه لم ينفعهم لذلك شفاعة الشافعين.

و مقتضى هذا البيان كون أصحاب اليمين غير متصفين بهذه الصفات التي يدل الكلام على كونها هي المانعة عن شمول الشفاعة، و إذا كانوا غير متصفين بهذه الصفات المانعة عن شمول الشفاعة و قد فك الله تعالى نفوسهم عن رهانة الذنوب و الآثام دون المجرمين المحرومين عن الشفاعة، المسلوكين في سقر، فهذا الفك و الإخراج إنما هو بالشفاعة فأصحاب اليمين هم المشفعون بالشفاعة، و في الآيات تعريف أصحاب اليمين بانتفاء الأوصاف المذكورة عنهم، بيان ذلك: أن الآيات واقعة في سورة المدثر و هي من السور النازلة بمكة في بدء البعثة كما ترشد إليه مضامين الآيات الواقعة فيها، و لم يشرع يومئذ الصلاة و الزكاة بالكيفية الموجودة اليوم، فالمراد بالصلاة في قوله لم نك من المصلين التوجه إلى الله تعالى بالخضوع العبودي، و بإطعام المسكين مطلق الإنفاق على المحتاج في سبيل الله، دون الصلاة و الزكاة المعهودتين في الشريعة الإسلامية و الخوض هو الغور في ملاهي الحياة و زخارف الدنيا الصارفة للإنسان عن الإقبال على الآخرة و ذكر الحساب يوم الدين، أو التعمق في الطعن في آيات الله المذكرة ليوم الحساب المبشرة المنذرة، و بالتلبس بهذه الصفات الأربعة، و هي ترك الصلاة لله و ترك الإنفاق في سبيل الله و الخوض و تكذيب يوم الدين ينهدم أركان الدين، و بالتلبس بها تقوم قاعدته على ساق فإن الدين هو الاقتداء بالهداة الطاهرين بالإعراض عن الإخلاد إلى الأرض و الإقبال إلى يوم لقاء الله، و هذان هما ترك الخوض و تصديق يوم الدين و لازم هذين عملا التوجه إلى الله بالعبودية، و السعي في رفع حوائج جامعة الحياة و هذان هما الصلاة و الإنفاق في سبيل الله، فالدين يتقوم بحسب جهتي العلم و العمل بهذه الخصال الأربع، و تستلزم بقية الأركان كالتوحيد و النبوة استلزاما هذا، فأصحاب اليمين هم الفائزون بالشفاعة، و هم المرضيون دينا و اعتقادا سواء كانت أعمالهم مرضية غير محتاجة إلى شفاعة يوم القيامة أو لم تكن، و هم المعنيون بالشفاعة، فالشفاعة للمذنبين من أصحاب اليمين، و قد قال تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم»: النساء - 31، فمن كان له ذنب باق إلى يوم القيامة فهو لا محالة من أهل الكبائر، إذ لو كان الذنب من الصغائر فقط لكان مكفرا عنه، فقد بان أن الشفاعة لأهل الكبائر من أصحاب اليمين، و قد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل، الحديث.

و من جهة أخرى إنما سمي هؤلاء بأصحاب اليمين في مقابل أصحاب الشمال و ربما سموا أصحاب الميمنة في مقابل أصحاب المشأمة، و هو من الألفاظ التي اصطلح عليه القرآن مأخوذ من إيتاء الإنسان يوم القيامة كتابه بيمينه أو بشماله، قال تعالى: «يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم و لا يظلمون فتيلا و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا»: إسراء - 72، و سنبين في الآية إن شاء الله تعالى أن المراد من إيتاء الكتاب باليمين اتباع الإمام الحق، و من إيتائه بالشمال اتباع إمام الضلال كما قال تعالى في فرعون: «يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار»: هود - 98، و بالجملة مرجع التسمية بأصحاب اليمين أيضا إلى ارتضاء الدين كما أن إليه مرجع التوصيف بالصفات الأربعة المذكورة هذا.

ثم إنه تعالى قال في موضع آخر من كلامه: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى» : الأنبياء - 28، فأثبت الشفاعة على من ارتضى، و قد أطلق الارتضاء من غير تقييد بعمل و نحوه، كما فعله في قوله: «إلا من أذن له الرحمن و رضي له قولا»: طه - 109، ففهمنا أن المراد به ارتضاء أنفسهم أي ارتضاء دينهم لا ارتضاء عملهم، فهذه الآية أيضا ترجع من حيث الإفادة إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة ثم إنه تعالى قال «يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا» فهو يملك الشفاعة أي المصدر المبني للمفعول و ليس كل مجرم بكافر محتوم له النار، بدليل قوله تعالى: «إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها و لا يحيى و من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى»: طه - 75، فمن لم يكن مؤمنا قد عمل صالحا فهو مجرم سواء كان لم يؤمن، أو كان قد آمن و لم يعمل صالحا، فمن المجرمين من كان على دين الحق لكنه لم يعمل صالحا و هو الذي قد اتخذ عند الله عهدا لقوله تعالى: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم»: يس - 61 فقوله تعالى: «و أن اعبدوني» عهد بمعنى الأمر و قوله تعالى: هذا صراط مستقيم، عهد بمعنى الالتزام لاشتمال الصراط المستقيم على الهداية إلى السعادة و النجاة، فهؤلاء قوم من أهل الإيمان يدخلون النار لسوء أعمالهم، ثم ينجون منها بالشفاعة، و إلى هذا المعنى يلوح قوله تعالى «قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل اتخذتم عند الله عهدا»: البقرة - 80، فهذه الآيات أيضا ترجع إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة، و الجميع تدل على أن مورد الشفاعة أعني المشفوع لهم يوم القيمة هم الدائنون بدين الحق من أصحاب الكبائر، و هم الذين ارتضى الله دينهم.

4 - من تقع منه الشفاعة؟

قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية، و منها تشريعية، فأما الشفاعة التكوينية فجملة الأسباب الكونية شفعاء عند الله بما هم وسائط بينه و بين الأشياء.

و أما الشفاعة التشريعية، و هي الواقعة في عالم التكليف و المجازات، فمنها ما يستدعي في الدنيا مغفرة من الله سبحانه أو قربا و زلفى، فهو شفيع متوسط بينه و بين عبده.

و منه التوبة كما قال تعالى: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم»: الزمر - 54، و يعم شموله لجميع المعاصي حتى الشرك.

و منه الإيمان قال تعالى: «آمنوا برسوله، إلى قوله: و يغفر لكم»: الحديد - 28.

و منه كل عمل صالح.

قال تعالى: «وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم مغفرة و أجر عظيم»: المائدة - 9، و قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ابتغوا إليه الوسيلة»: المائدة - 35 و الآيات فيه كثيرة، و منه القرآن لقوله تعالى: «يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم»: المائدة - 16.

و منه كل ما له ارتباط بعمل صالح، و المساجد و الأمكنة المتبركة و الأيام الشريفة، و منه الأنبياء و الرسل باستغفارهم لأممهم.

قال تعالى: «و لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله و استغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما»: النساء - 64.

و منه الملائكة في استغفارهم للمؤمنين، قال تعالى: «الذين يحملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و يؤمنون به و يستغفرون للذين آمنوا»: ال
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 22, 2010 2:28 pm

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (48)
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
و أما نشأة البرزخ و ما يدل على حضور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأئمة (عليهم السلام) عند الموت و عند مساءلة القبر و إعانتهم إياه على الشدائد كما سيأتي في قوله تعالى: «و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به»: النساء - 158، فليس من الشفاعة عند الله في شيء و إنما هو من سبيل التصرفات و الحكومة الموهوبة لهم بإذن الله سبحانه، قال تعالى: «و على الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم و نادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها و هم يطمعون، إلى أن قال: «و نادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم و ما كنتم تستكبرون، أ هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم و لا أنتم تحزنون»: الأعراف - 46، 48، 49، و من هذا القبيل من وجه قوله تعالى: «يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه»: إسراء - 71، فوساطة الإمام في الدعوة، و إيتاء الكتاب من قبيل الحكومة الموهوبة فافهم.

فتحصل أن المتحصل من أمر الشفاعة وقوعها في آخر موقف من مواقف يوم القيامة باستيهاب المغفرة بالمنع عن دخول النار، أو إخراج بعض من كان داخلا فيها، باتساع الرحمة أو ظهور الكرامة.

بحث روائي

في أمالي الصدوق، عن الحسين بن خالد عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي و من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأما المحسنون منهم فما عليهم من سبيل، قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا (عليه السلام) يا بن رسول الله فما معنى قول الله عز و جل: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى» قال (عليه السلام) لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه.

أقول: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما شفاعتي، هذا المعنى رواه الفريقان بطرق متعددة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد مر استفادة معناه من الآيات.

و في تفسير العياشي، عن سماعة بن مهران عن أبي إبراهيم (عليه السلام): في قول الله: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاما و يؤمر الشمس، فيركب على رءوس العباد، و يلجمهم العرق، و يؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئا فيأتون آدم فيستشفعون منه فيدلهم على نوح، و يدلهم نوح على إبراهيم، و يدلهم إبراهيم على موسى، و يدلهم موسى على عيسى، و يدلهم عيسى فيقول: عليكم بمحمد خاتم البشر فيقول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا لها فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له: من هذا؟ و الله أعلم فيقول: محمد، فيقال: افتحوا له فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا رفع رأسه حتى يقال له: تكلم و سل تعط و اشفع تشفع فيرفع رأسه و يستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى إنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجه من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو قول الله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا.

أقول: و هذا المعنى مستفيض مروي بالاختصار و التفصيل بطرق متعددة من العامة و الخاصة، و فيها دلالة على كون المقام المحمود في الآية هو مقام الشفاعة، و لا ينافي ذلك كون غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأنبياء، و غيرهم جائز الشفاعة لإمكان كون شفاعتهم فرعا لشفاعته فافتتاحها بيده (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في تفسير العياشي، أيضا: عن أحدهما (عليهما السلام): في قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، قال: هي الشفاعة.

و في تفسير العياشي، أيضا: عن عبيد بن زرارة قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال: نعم فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ؟ قال: نعم إن للمؤمنين خطايا و ذنوبا و ما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ. قال: و سأله رجل عن قول رسول الله: أنا سيد ولد آدم و لا فخر. قال نعم. قال: يأخذ حلقة باب الجنة فيفتحها فيخر ساجدا فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع اطلب تعط فيرفع رأسه ثم يخر ساجدا فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع و اطلب تعط ثم يرفع رأسه فيشفع فيشفع و يطلب فيعطى.

و في تفسير الفرات،: عن محمد بن القاسم بن عبيد معنعنا عن بشر بن شريح البصري قال: قلت لمحمد بن علي (عليهما السلام)، أية آية في كتاب الله أرجى؟ قال: فما يقول فيها قومك؟ قلت: يقولون: «يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله». قال: لكنا أهل بيت لا نقول ذلك. قال: قلت: فأي شيء تقولون فيها؟ قال: نقول: و لسوف يعطيك ربك فترضى الشفاعة و الله الشفاعة و الله الشفاعة.

أقول: أما كون قوله تعالى: «عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا» الآية مقام الشفاعة فربما ساعد عليه لفظ الآية أيضا مضافا إلى ما استفاض عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه مقام الشفاعة فإن قوله تعالى: أن يبعثك، يدل على أنه مقام سيناله يوم القيامة.

و قوله محمودا مطلق فهو حمد غير مقيد يدل على وقوعه من جميع الناس من الأولين و الآخرين، و الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري ففيه دلالة على وقوع فعل منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ينتفع به و يستفيد منه الكل فيحمده عليه، و لذلك قال (عليه السلام) في رواية عبيد بن زرارة السابقة: و ما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ الحديث.

و سيجيء بيان هذا المعنى بوجه آخر وجيه.

و أما كون قوله تعالى: و لسوف يعطيك ربك فترضى، أرجى آية في كتاب الله دون قوله تعالى: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا الآية، فإن النهي عن القنوط و إن تكرر ذكره في القرآن الشريف إلا أن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): قال: «و من يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون:» الحجر - 56، و قوله تعالى حكاية عن يعقوب (عليه السلام): «إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون»: يوسف - 87، ناظرتان إلى اليأس و القنوط من الرحمة التكوينية بشهادة المورد.

و أما قوله تعالى: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم:» الزمر - 54، إلى آخر الآيات فهو و إن كان نهيا عن القنوط من الرحمة التشريعية بقرينة قوله تعالى أسرفوا على أنفسهم الظاهر في كون القنوط في الآية قنوطا من جهة المعصية، و قد عمم سبحانه المغفرة للذنوب جميعا من غير استثناء، و لكنه تعالى ذيله بالأمر بالتوبة و الإسلام و العمل بالإتباع فدلت الآية على أن العبد المسرف على نفسه لا ينبغي له أن يقنط من روح الله ما دام يمكنه اختبار التوبة و الإسلام و العمل الصالح.

و بالجملة فهذه رحمة مقيدة أمر الله تعالى عباده بالتعلق بها، و ليس رجاء الرحمة المقيدة كرجاء الرحمة العامة و الإعطاء، و الإرضاء المطلقين الذين وعدهما الله لرسوله الذي جعله رحمة للعالمين.

ذلك الوعد يطيب نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تعالى: و لسوف يعطيك ربك فترضى» الآية.

توضيح ذلك: أن الآية في مقام الامتنان و فيها وعد يختص به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعد الله سبحانه بمثله أحدا من خلقه قط، و لم يقيد الإعطاء بشيء فهو إعطاء مطلق و قد وعد الله ما يشابه ذلك فريقا من عباده في الجنة فقال تعالى: «لهم فيها ما يشاءون عند ربهم:» الشورى - 22، و قال تعالى: «لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد:» ق - 35، فأفاد أن لهم هناك ما هو فوق مشيتهم، و المشية تتعلق بكل ما يخطر ببال الإنسان من السعادة و الخير، فهناك ما لا يخطر على قلب بشر كما قال تعالى: «فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين:» السجدة - 17، فإذا كان هذا قدر ما أعطاه الله على عباده الذين آمنوا و عملوا الصالحات و هو أمر فوق القدر كما عرفت ذلك فما يعطيه لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام الامتنان أوسع من ذلك و أعظم فافهم.

فهذا شأن إعطائه تعالى، و أما شأن رضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمن المعلوم أن هذا الرضا ليس هو الرضا بما قسم الله، الذي هو زميل لأمر الله.

فإن الله هو المالك الغني على الإطلاق و ليس للعبد إلا الفقر و الحاجة فينبغي أن يرضى بقليل ما يعطيه ربه و كثيره و ينبغي أن يرضى بما قضاه الله في حقه، سره ذلك أو ساءه، فإذا كان هذا هكذا فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعلم و أعمل، لا يريد إلا ما يريده الله في حقه، لكن هذا الرضا حيث وضع في مقابل الإعطاء يفيد معنى آخر نظير إغناء الفقير بما يشكو فقده، و إرضاء الجائع بإشباعه فهو الإرضاء بالإعطاء من غير تحديد، و هذا أيضا مما وعد الله ما يشابهه لفريق من عباده.

قال عز من قائل: «إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم و رضوا عنه ذلك لمن خشي ربه:» البينة - 8، و هذا أيضا لموقع الامتنان و الاختصاص يجب أن يكون أمرا فوق ما للمؤمنين و أوسع من ذلك، و قد قال تعالى: في حق رسوله: «بالمؤمنين رءوف رحيم:» التوبة - 128، فصدق رأفته و كيف يرضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يطيب نفسه أن يتنعم بنعيم الجنة و يرتاض في رياضه و فريق من المؤمنين متغلغلون في دركات السعير، مسجونون تحت أطباق النار و هم معترفون لله بالربوبية، و لرسوله بالرسالة، و لما جاء به بالصدق، و إنما غلبت عليهم الجهالة، و لعب بهم الشيطان، فاقترفوا معاصي من غير عناد و استكبار.

و الواحد منا إذا راجع ما أسلفه من عمره و نظر إلى ما قصر به في الاستكمال و الارتقاء يلوم نفسه بالتفريط في سعيه و طلبه ثم يلتفت إلى جهالة الشباب و نقص التجارب فربما خمدت نار غضبه و انكسرت سورة ملامته لرحمة ناقصة أودعها الله فطرته، فما ظنك برحمة رب العالمين في موقف ليس فيه إلا جهالة إنسان ضعيف و كرامة النبي الرءوف الرحيم و رحمة أرحم الراحمين.

و قد رأى ما رأى من وبال أمره من لدن نشبت عليه أظفار المنية إلى آخر مواقف يوم القيامة.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له الآية، عن أبي العباس المكبر قال: دخل مولى لامرأة علي بن الحسين يقال له: أبو أيمن فقال: يا أبا جعفر تغرون الناس و تقولون: شفاعة محمد، شفاعة محمد فغضب أبو جعفر حتى تربد وجهه، ثم قال: ويحك يا أبا أيمن أ غرك أن عف بطنك و فرجك؟ أما لو قد رأيت أفزاع القيمة لقد احتجت إلى شفاعة محمد، ويلك فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار؟ قال: ما من أحد من الأولين و الآخرين إلا و هو محتاج إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة، ثم قال أبو جعفر: إن لرسول الله الشفاعة في أمته، و لنا شفاعة في شيعتنا، و لشيعتنا شفاعة في أهاليهم، ثم قال: و إن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة و مضر، و إن المؤمن ليشفع لخادمه و يقول: يا رب حق خدمتي كان يقيني الحر و البرد.

أقول: قوله (عليه السلام): ما من أحد من الأولين و الآخرين إلا و هو محتاج إلى شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهرة أن هذه الشفاعة العامة غير التي ذكرها بقوله: ويلك فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار و قد مر نظير هذا المعنى في رواية العياشي عن عبيد بن زرارة عن الصادق (عليه السلام).

و في هذا المعنى روايات أخر روتها العامة و الخاصة، و يدل عليه قوله تعالى: «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون:» الزخرف - 86، حيث يفيد أن الملاك في الشفاعة هو الشهادة، فالشهداء هم الشفعاء المالكون للشفاعة، و سيأتي إن شاء الله في قوله تعالى: «و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا:» البقرة - 143، أن الأنبياء شهداء و أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد عليهم، فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد الشهداء فهو شفيع الشفعاء و لو لا شهادة الشهداء لما قام للقيامة أساس.

و في تفسير القمي، أيضا: في قوله تعالى: و لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له. قال (عليه السلام): لا يشفع أحد من أنبياء الله و رسله حتى يأذن الله له إلا رسول الله فإن الله أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة، و الشفاعة له و للأئمة من ولده ثم من بعد ذلك للأنبياء.

و في الخصال،: عن علي (عليه السلام) قال قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاثة يشفعون إلى الله عز و جل فيشفعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء.

أقول: الظاهر أن المراد بالشهداء، شهداء معركة القتال كما هو المعروف في لسان الأئمة في الأخبار لا شهداء الأعمال كما هو مصطلح القرآن.

و في الخصال، في حديث الأربعمائة: و قال (عليه السلام): لنا شفاعة و لأهل مودتنا شفاعة.

أقول: و هناك روايات كثيرة في شفاعة سيدة النساء فاطمة (عليها السلام) و شفاعة ذريتها غير الأئمة و شفاعة المؤمنين حتى السقط منهم.

ففي الحديث المعروف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): تناكحوا تناسلوا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة و لو بالسقط يقوم محبنطئا على باب الجنة فيقال له: ادخل فيقول: لا حتى يدخل أبواي الحديث.

و في الخصال، عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال: إن للجنة ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيون و الصديقون، و باب يدخل منه الشهداء و الصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبونا، فلا أزال واقفا على الصراط أدعو و أقول: رب سلم شيعتي و محبي و أنصاري و من تولاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش، قد أجيبت دعوتك، و شفعت في شيعتك، و يشفع كل رجل من شيعتي و من تولاني و نصرني و حارب من عاداني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه و أقربائه، و باب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله و لم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت.

و في الكافي،: عن حفص المؤذن عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رسالته إلى أصحابه قال (عليه السلام): و اعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه لا ملك مقرب و لا نبي مرسل و لا من دون ذلك من سره أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه.

و في تفسير الفرات،: بإسناده عن الصادق (عليه السلام) قال: قال جابر لأبي جعفر (عليه السلام): جعلت فداك يا بن رسول الله حدثني بحديث في جدتك فاطمة و ساق الحديث يذكر فيه شفاعة فاطمة يوم القيامة إلى أن قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): فوالله لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات نادوا كما قال الله تعالى فما لنا من شافعين و لا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين، قال أبو جعفر (عليه السلام): هيهات هيهات منعوا ما طلبوا و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون.

أقول: تمسكه (عليه السلام) بقوله تعالى: فما لنا من شافعين يدل على استشعار دلالة الآيات على وقوع الشفاعة و قد تمسك بها النافون للشفاعة على نفيها و قد اتضح مما قدمناه في قوله تعالى: فما تنفعهم شفاعة الشافعين وجه دلالتها عليها في الجملة، فلو كان المراد مجرد النفي لكان حق الكلام أن يقال: فما لنا من شفيع و لا صديق حميم، فالإتيان في حيز النفي بصيغة الجمع يدل على وقوع شفاعة من جماعة و عدم نفعها في حقهم، مضافا إلى أن قوله تعالى: فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين بعد قوله: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم المسوق للتحسر تمن واقع في حيز التحسر و من المعلوم أن التمني في حيز التحسر إنما يكون بما يتضمن ما فقده و يشتمل على ما تحسر عليه فيكون معنى قولهم: فلو أن لنا كرة معناه يا ليتنا نرد فنكون من المؤمنين حتى ننال الشفاعة من الشافعين كما نالها المؤمنون، فالآية من الآيات الدالة على وقوع الشفاعة.

و في التوحيد،: عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل، قيل: يا بن رسول الله كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر، و الله تعالى يقول: و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و من ارتكب الكبيرة لا يكون مرتضى؟ فقال (عليه السلام): ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا ساءه ذلك و ندم عليه، و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كفى بالندم توبة، و قال (صلى الله عليه وآله وسلم) من سرته حسنة و ساءته سيئة فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن و لم تجب له الشفاعة و كان ظالما و الله تعالى ذكره يقول: ما للظالمين من حميم و لا شفيع يطاع، فقيل له: يا بن رسول الله و كيف لا يكون مؤمنا من لا يندم على ذنب يرتكبه فقال: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي و هو يعلم أن سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب، و متى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة، و متى لم يندم عليها كان مصرا و المصر لا يغفر له، لأنه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، و لو كان مؤمنا بالعقوبة لندم و قد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار، و أما قول الله عز و جل: و لا يشفعون إلا لمن ارتضى فإنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه، و الدين الإقرار بالجزاء على الحسنات و السيئات، فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة.

أقول: قوله (عليه السلام) و كان ظالما، فيه تعريف الظالم يوم القيامة و إشارة إلى ما عرفه به القرآن حيث يقول: «فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين» الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون»: الأعراف - 44 45، و هو الذي لا يعتقد بيوم المجازاة فلا يتأسف على فوت أوامر الله تعالى و لا يسوؤه اقتحام محارمه إما بجحد جميع المعارف الحقة و التعاليم الدينية و إما بالاستهانة لأمرها و عدم الاعتناء بالجزاء و الدين يوم الجزاء و الدين فيكون قوله به استهزاء بأمره و تكذيبا له، و قوله (عليه السلام): فتكون تائبا مستحقا للشفاعة، أي راجعا إلى الله ذا دين مرضي مستحقا للشفاعة، و أما التوبة المصطلحة فهي بنفسها شفيعة منجية، و قوله (عليه السلام): و قد قال النبي لا كبيرة مع الاستغفار، إلخ تمسكه (عليه السلام) به من جهة أن الإصرار و هو عدم الانقباض بالذنب و الندم عليه يخرج الذنب عن شأنه الذي له إلى شأن آخر و هو تكذيب المعاد و الظلم بآيات الله فلا يغفر لأن الذنب إنما يغفر إما بتوبة أو بشفاعة متوقفة على دين مرضي و لا توبة هناك و لا دين مرضيا.

و نظير هذا المعنى واقع في رواية العلل، عن أبي إسحاق الليثي قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام): يا بن رسول الله أخبرني عن المؤمن المستبصر إذا بلغ في المعرفة و كمل هل يزني؟ قال: اللهم لا، قلت: فيلوط قال اللهم لا، قلت فيسرق؟ قال لا، قلت: فيشرب الخمر؟ قال: لا قلت: فيأتي بكبيرة من هذه الكبائر أو فاحشة من هذه الفواحش؟ قال لا، قلت فيذنب ذنبا؟ قال: نعم و هو مؤمن مذنب مسلم، قلت: ما معنى مسلم؟ قال: المسلم لا يلزمه و لا يصر عليه.

الحديث.

و في الخصال،: بأسانيد عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) قال قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا كان يوم القيامة تجلى الله عز و جل لعبده المؤمن فيوقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا ثم يغفر الله له لا يطلع الله له ملكا مقربا و لا نبيا مرسلا و يستر عليه أن يقف عليه أحد، ثم يقول لسيئاته: كوني حسنات.

و عن صحيح مسلم، مرفوعا إلى أبي ذر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه و نحوا عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا و كذا و كذا و هو مقر لا ينكر و هو مشفق من الكبائر فيقال: أعطوه مكان كل سيئة حسنة فيقول: إن لي ذنوبا ما أراها هاهنا، قال: و لقد رأيت رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه.

و في الأمالي،: عن الصادق (عليه السلام): إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك و تعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته.

أقول: و الروايات الثلاث الأخيرة من المطلقات و الأخبار الدالة على وقوع شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة من طرق أئمة أهل البيت و كذا من طرق أهل السنة و الجماعة بالغة حد التواتر، و هي من حيث المجموع إنما تدل على معنى واحد و هو الشفاعة على المذنبين من أهل الإيمان إما بالتخليص من دخول النار و إما بالإخراج منها بعد الدخول فيها، و المتيقن منها عدم خلود المذنبين من أهل الإيمان في النار و قد عرفت أن القرآن أيضا لا يدل على أزيد من ذلك.

بحث فلسفي

البراهين العقلية و إن قصرت عن إعطاء التفاصيل الواردة كتابا و سنة في المعاد لعدم نيلها المقدمات المتوسطة في الاستنتاج على ما ذكره الشيخ ابن سينا لكنها تنال ما يستقبله الإنسان من كمالاته العقلية و المثالية في صراطي السعادة و الشقاوة بعد مفارقة نفسه بدنه من جهة التجرد العقلي و المثالي الناهض عليهما البرهان.

فالإنسان في بادىء أمره يحصل له من كل فعل يفعله هيئة نفسانية و حال من أحوال السعادة و الشقاوة، و نعني بالسعادة ما هو خير له من حيث إنه إنسان، و بالشقاوة ما يقابل ذلك، ثم تصير تلك الأحوال بتكررها ملكة راسخة، ثم يتحصل منها صورة سعيدة أو شقية للنفس تكون مبدأ لهيئات و صور نفسانية، فإن كانت سعيدة فآثارها وجودية ملائمة للصورة الجديدة، و للنفس التي هي بمنزلة المادة القابلة لها، و إن كانت شقية فآثارها أمور عدمية ترجع بالتحليل إلى الفقدان و الشر، فالنفس السعيدة تلتذ بآثارها بما هي إنسان، و تلتذ بها بما هي إنسان سعيد بالفعل، و النفس الشقية و إن كانت آثارها مستأنسة لها و ملائمة بما أنها مبدأ لها لكنها تتألم بها بما أنها إنسان، هذا بالنسبة إلى النفوس الكاملة في جانب السعادة و الشقاوة، أعني الإنسان السعيد ذاتا و الصالح عملا و الإنسان الشقي ذاتا و الطالح عملا، و أما الناقصة في سعادتها و شقاوتها فالإنسان السعيد ذاتا الشقي فعلا بمعنى أن يكون ذاته ذات صورة سعيدة بالاعتقاد الحق الثابت غير أن في نفسه هيئات شقية ردية من الذنوب و الآثام اكتسبتها حين تعلقها بالبدن الدنيوي و ارتضاعها من ثدي الاختيار، فهي أمور قسرية غير ملائمة لذاته، و قد أقيم البرهان على أن القسر لا يدوم، فهذه النفس سترزق التطهر منها في برزخ أو قيمة على حسب قوة رسوخها في النفس، و كذلك الأمر فيما للنفس الشقية من الهيئات العارضة السعيدة فإنها ستسلب عنها و تزول سريعا أو بطيئا، و أما النفس التي لم تتم لها فعلية السعادة و الشقاوة في الحياة الدنيا حتى فارقت البدن مستضعفة ناقصة فهي من المرجئين لأمر الله عز و جل، فهذا ما يقتضيه البراهين في المجازاة بالثواب و العقاب المقتضية لكونها من لوازم الأعمال و نتائجها، لوجوب رجوع الروابط الوضعية الاعتبارية بالآخرة إلى روابط حقيقية وجودية هذا.

ثم إن البراهين قائمة على أن الكمال الوجودي مختلف بحسب مراتب الكمال و النقص و الشدة و الضعف و هو التشكيك خاصة في النور المجرد فلهذه النفوس مراتب مختلفة في القرب و البعد من مبدإ الكمال و منتهاه في سيرها الارتقائي و عودها إلى ما بدأت منها و هي بعضها فوق بعض، و هذه شأن العلل الفاعلية بمعنى ما به و وسائط الفيض، فلبعض النفوس و هي النفوس التامة الكاملة كنفوس الأنبياء (عليهم السلام) و خاصة من هو في أرقى درجات الكمال و الفعلية وساطة في زوال الهيئات الشقية الردية القسرية من نفوس الضعفاء، و من دونهم من السعداء إذا لزمتها قسرا، و هذه هي الشفاعة الخاصة بأصحاب الذنوب.

بحث اجتماعي

الذي تعطيه أصول الاجتماع أن المجتمع الإنساني لا يقدر على حفظ حياته و إدامة وجوده إلا بقوانين موضوعة معتبرة بينهم، لها النظارة في حاله، و الحكومة في أعمال الأفراد و شئونهم، تنشأ عن فطرة المجتمع و غريزة الأفراد المجتمعين بحسب الشرائط الموجودة، فتسير بهدايتها جميع طبقات الاجتماع كل على حسب ما يلائم شأنه و يناسب موقعه فيسير المجتمع بذلك سيرا حثيثا و يتولد بتألف أطرافه و تفاعل متفرقاته العدل الاجتماعي و هي موضوعة على مصالح و منافع مادية يحتاج إليها ارتقاء الاجتماع المادي، و على كمالات معنوية كالأخلاق الحسنة الفاضلة التي يدعو إليها صلاح الاجتماع كالصدق في القول و الوفاء بالعهد و النصح و غير ذلك، و حيث كانت القوانين و الأحكام وضعية غير حقيقية احتاجت إلى تتميم تأثيرها، بوضع أحكام مقررة أخرى في المجازاة لتكون هي الحافظة لحماها عن تعدي الأفراد المتهوسين و تساهل آخرين، و لذلك كلما قويت حكومة أي حكومة كانت على إجراء مقررات الجزاء لم يتوقف المجتمع في سيره و لا ضل سائره عن طريقه و مقصده، و كلما ضعفت اشتد الهرج و المرج في داخله و انحرف عن مسيره فمن التعاليم اللازمة تثبيتها في الاجتماع تلقين أمر الجزاء، و إيجاد الإيمان به في نفوس الأفراد، و من الواجب الاحتراز من أن يدخل في نفوسهم رجاء التخلص عن حكم الجزاء، و تبعة المخالفة و العصيان، بشفاعة أو رشوة أو بشيء من الحيل و الدسائس المهلكة، و لذلك نقموا على الديانة المسيحية ما وقع فيها أن المسيح فدى الناس في معاصيهم بصلبه، فالناس يتكلون عليه في تخليصهم من يد القضاء يوم القيامة و يكون الدين إذ ذاك هادما للإنسانية، مؤخرا للمدنية، راجعا بالإنسان القهقرى كما قيل.

و أن الإحصاء يدل من أن المتدينين أكثر كذبا و أبعد من العدل من غيرهم و ليس ذلك إلا أنهم يتكلون بحقية دينهم، و ادخار الشفاعة في حقهم ليوم القيامة، فلا يبالون ما يعملون بخلاف غيرهم، فإنهم خلوا و غرائزهم و فطرهم و لم يبطل حكمها بما بطل به في المتدينين فحكمت بقبح التخلف عما يخالف حكم الإنسانية و المدنية الفاضلة.

و بذلك عول جمع من الباحثين في تأويل ما ورد في خصوص الشفاعة في الإسلام و قد نطق به الكتاب و تواترت عليه السنة.

و لعمري لا الإسلام تثبت الشفاعة بالمعنى الذي فسروها به، و لا الشفاعة التي تثبتها تؤثر الأثر الذي زعموه لها، فمن الواجب أن يحصل الباحث في المعارف الدينية و تطبيق ما شرعه الإسلام على هيكل الاجتماع الصالح و المدنية الفاضلة تمام ما رامه الإسلام من الأصول و القوانين المنطبقة على الاجتماع كيفية ذلك التطبيق، ثم يحصل ما هي الشفاعة الموعودة و ما هو محلها و موقعها بين المعارف التي جاء بها.

فيعلم أولا: أن الذي يثبته القرآن من الشفاعة هو أن المؤمنين لا يخلدون في النار يوم القيامة بشرط أن يلاقوا ربهم بالإيمان المرضي و الدين الحق فهو وعد وعده القرآن مشروطا ثم نطق بأن الإيمان من حيث بقائه على خطر عظيم من جهة الذنوب و لا سيما الكبائر و لا سيما الإدمان منها و الإمرار فيها، فهو شفا جرف الهلاك الدائم، و بذلك يتحصل رجاء النجاة و خوف الهلاك، و يسلك نفس المؤمن بين الخوف و الرجاء فيعبد ربه رغبة و رهبة، و يسير في حياته سيرا معتدلا غير منحرف لا إلى خمود القنوط و لا إلى كسل الوثوق.

و ثانيا: أن الإسلام قد وضع من القوانين الاجتماعية من مادياتها و معنوياتها ما يستوعب جميع الحركات و السكنات الفردية و الاجتماعية، ثم اعتبر لكل مادة من موادها ما هو المناسب له من التبعة و الجزاء من دية و حد و تعزير إلى أن ينتهي إلى تحريم مزايا الاجتماع و اللوم و الذم و التقبيح، ثم تحفظ على ذلك بعد تحكيم حكومة أولياء الأمر، بتسليط الكل على الكل بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ثم أحيا ذلك بنفخ روح الدعوة الدينية المضمنة بالإنذار و التبشير بالعقاب و الثواب في الآخرة، و بنى أساس تربيته بتلقين معارف المبدإ و المعاد على هذا الترتيب.

فهذا ما يرومه الإسلام بتعليمه، جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و صدقه التجارب الواقع في عهده و عهد من يليه حتى أثبت به أيدي الولاة في السلطنة الأموية و من شايعهم في استبدادهم و لعبهم بأحكام الدين و إبطالهم الحدود و السياسات الدينية حتى آل الأمر إلى ما آل إليه اليوم و ارتفعت أعلام الحرية و ظهرت المدنية الغربية و لم يبق من الدين بين المسلمين إلا كصبابة في إناء فهذا الضعف البين في سياسة الدين و ارتجاع المسلمين القهقرى هو الموجب لتنزلهم في الفضائل و الفواضل و انحطاطهم في الأخلاق و الآداب الشريفة و انغمارهم في الملاهي و الشهوات و خوضهم في الفواحش و المنكرات، هو الذي أجرأهم على انتهاك كل حرمة و اقتراف كل ما يستشنعه حتى غير المنتحل بالدين لا ما يتخيله المعترض من استناد الفساد إلى بعض المعارف الدينية التي لا غاية لها و فيها إلا سعادة الإنسان في آجله و عاجله و الله المعين، و الإحصاء الذي ذكروها إنما وقع على جمعية المتدينين و ليس عليهم قيم و لا حافظ قوي و على جمعية غير المنتحلين، و التعليم و التربية الاجتماعيان قيمان عليهم حافظان لصلاحهم الاجتماعي فلا يفيد فيما أراده شيئا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالأربعاء ديسمبر 22, 2010 2:31 pm

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (61)
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
بيان

قوله تعالى: و يستحيون نساءكم، أي يتركونهن أحياء للخدمة من غير أن يقتلوهن كالأبناء فالاستحياء طلب الحياة و يمكن أن يكون المعنى و يفعلون ما يوجب زوال حيائهن من المنكرات، و معنى يسومونكم يولونكم.

قوله تعالى: و إذ فرقنا بكم الفرق مقابل الجمع كالفصل و الوصل، و الفرق في البحر الشق و الباء للسببية أو الملابسة أي فرقنا لإنجائكم البحر أو لملابستكم دخول البحر.

قوله تعالى: و إذ واعدنا موسى أربعين ليلة و قص تعالى القصة في سورة الأعراف بقوله: «و واعدنا موسى ثلاثين ليلة و أتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة»: الأعراف - 142، فعد المواعدة فيها أربعين ليلة إما للتغليب أو لأنه كانت العشرة الأخيرة بمواعدة أخرى فالأربعون مجموع المواعدتين كما وردت به الرواية.

قوله تعالى: فتوبوا إلى بارئكم البارىء من الأسماء الحسنى كما قال تعالى: «هو الله الخالق البارىء المصور له الأسماء الحسنى»: الحشر - 24، وقع في ثلاث مواضع من كلامه تعالى: اثنان منها في هذه الآية و لعله خص بالذكر هاهنا من بين الأسماء الملائمة معناه للمورد لأنه قريب المعنى من الخالق و الموجد، من برأ يبرأ براء إذا فصل لأنه يفصل الخلق من العدم أو الإنسان من الأرض، فكأنه تعالى يقول: هذه التوبة و قتلكم أنفسكم و إن كان أشق ما يكون من الأوامر لكن الله الذي أمركم بهذا الفناء و الزوال بالقتل هو الذي برأكم فالذي أحب وجودكم و هو خير لكم هو يحب الآن حلول القتل عليكم فهو خير لكم و كيف لا يحب خيركم و قد برأكم، فاختيار لفظ البارىء بإضافته إليهم في قوله: إلى بارئكم، و قوله عند بارئكم للإشعار بالاختصاص لإثارة المحبة.

قوله تعالى: ذلكم خير لكم عند بارئكم ظاهر الآية و ما تقدمها أن هذه الخطابات و ما وقع فيها من عد أنواع تعدياتهم و معاصيهم إنما نسبت إلى الكل مع كونها صادرة عن البعض لكونهم جامعة ذات قومية واحدة يرضى بعضهم بفعل بعض، و ينسب فعل بعضهم إلى آخرين.

لمكان الوحدة الموجودة فيهم، فما كل بني إسرائيل عبدوا العجل، و لا كلهم قتلوا الأنبياء إلى غير ذلك من معاصيهم و على هذا فقوله تعالى: فاقتلوا أنفسكم، إنما يعني به قتل البعض و هم الذين عبدوا العجل كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، و قوله تعالى: ذلكم خير لكم عند بارئكم تتمة الحكاية من قول موسى كما هو الظاهر، و قوله تعالى: فتاب عليكم يدل على نزول التوبة و قبولها، و قد وردت الرواية أن التوبة نزلت و لما يقتل جميع المجرمين منهم.

و من هنا يظهر أن الأمر كان أمرا امتحانيا نظير ما وقع في قصة رؤيا إبراهيم (عليه السلام) و ذبح إسماعيل «يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا»: الصافات - 105، فقد ذكر موسى (عليه السلام) فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم، و أمضى الله سبحانه قوله (عليه السلام) و جعل قتل البعض قتلا للكل و أنزل التوبة بقوله: فتاب عليكم.

قوله تعالى: رجزا من السماء، الرجز العذاب.

قوله تعالى: و لا تعثوا العيث و العثي أشد الفساد.

قوله تعالى: و قثائها و فومها، القثاء الخيار و الفوم الثوم أو الحنطة.

قوله تعالى: و باءوا بغضب، أي رجعوا.

قوله تعالى: ذلك بأنهم كانوا يكفرون، تعليل لما تقدمه.

قوله تعالى: ذلك بما عصوا، تعليل للتعليل فعصيانهم و مداومتهم للاعتداء هو الموجب لكفرهم بالآيات و قتلهم الأنبياء كما قال تعالى: «ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزءون»: الروم - 10، و في التعليل بالمعصية وجه سيأتي في البحث الآتي.

بحث روائي

في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: «و إذ واعدنا موسى أربعين ليلة» عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان في العلم و التقدير ثلاثين ليلة ثم بدا منه فزاد عشرا فتم ميقات ربه الأول و الآخر أربعين ليلة.

أقول: و الرواية تؤيد ما مر أن الأربعين مجموع المواعدتين.

و في الدر المنثور،: عن علي (عليه السلام): في قوله تعالى: و إذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم الآية، قال: قالوا لموسى: ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضا فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه و أباه و ابنه و الله لا يبالي من قتل حتى قتل منهم سبعون ألفا فأوحى الله إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم و قد غفر لمن قتل و تيب على من بقي.

و في تفسير القمي،: قال (عليه السلام): إن موسى لما خرج إلى الميقات و رجع إلى قومه و قد عبدوا العجل قال لهم موسى: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل - فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم - ذلكم خير لكم عند بارئكم فقالوا له: كيف نقتل أنفسنا فقال لهم موسى: اغدوا كل واحد منكم إلى بيت المقدس و معه سكين أو حديدة أو سيف فإذا صعدت أنا منبر بني إسرائيل فكونوا أنتم ملتثمين لا يعرف أحد صاحبه فاقتلوا بعضكم بعضا» فاجتمعوا سبعين ألف رجل ممن كان عبدوا العجل إلى بيت المقدس فلما صلى بهم موسى و صعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضا حتى نزل جبرائيل فقال: قل لهم: يا موسى ارفعوا القتل فقد تاب الله لكم، فقتل منهم عشرة آلاف و أنزل الله: ذلكم خير لكم عند بارئكم - فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم.

أقول: و الرواية كما ترى تدل على كون قوله تعالى: ذلكم خير لكم عند بارئكم مقولا لموسى و مقولا له سبحانه فيكون إمضاء لكلمة قالها موسى و كشفا عن كونها تامة على خلاف ما يلوح من الظاهر من كونها ناقصة فإن الظاهر يعطي أن موسى جعل قتل الجميع خيرا لهم عند بارئهم، و قد قتل منهم البعض دون الجميع فجعل سبحانه ما وقع من القتل هو الخير الذي ذكره موسى (عليه السلام) كما مر.

و في تفسير القمي، أيضا: في قوله تعالى: و ظللنا عليكم الغمام الآية أن بني إسرائيل لما عبر موسى بهم البحر نزلوا في مفازة فقالوا: يا موسى أهلكتنا و قتلتنا و أخرجتنا من العمران إلى مفازة لا ظل، و لا شجر، و لا ماء. و كانت تجيء بالنهار غمامة تظلهم من الشمس و ينزل عليهم بالليل المن فيقع على النبات و الشجر و الحجر فيأكلونه و بالعشي يأتيهم طائر مشوي يقع على موائدهم فإذا أكلوا و شربوا طار و مر و كان مع موسى حجر يضعه وسط العسكر ثم يضربه بعصاه فتنفجر منها اثنتا عشرة عينا كما حكى الله فيذهب إلى كل سبط في رحله و كانوا اثني عشر سبطا.

و في الكافي،: في قوله تعالى: و ما ظلمونا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون، عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: إن الله أعز و أمنع من أن يظلم أو ينسب نفسه إلى الظلم و لكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه و ولايتنا ولايته، ثم أنزل الله بذلك قرآنا على نبيه فقال: و ما ظلمونا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون. قال الراوي: قلت: هذا تنزيل، قال: نعم:. أقول: و روي ما يقرب منه أيضا عن الباقر (عليه السلام) و قوله (عليه السلام): أمنع من أن يظلم بالبناء للمفعول تفسير لقوله تعالى: و ما ظلمونا، و قوله: أو ينسب نفسه إلى الظلم بالبناء للفاعل، و قوله: و لكنه خلطنا بنفسه أي خلطنا معاشر الأنبياء و الأوصياء و الأئمة بنفسه، و قوله: قلت: هذا تنزيل قال: نعم وجهه أن النفي في هذه الموارد و أمثالها إنما يصح فيما يصح فيه الإثبات أو يتوهم صحته، فلا يقال للجدار، أنه لا يبصر أو لا يظلم إلا لنكتة و هو سبحانه أجل من أن يسلم في كلامه توهم الظلم عليه، أو جاز وقوعه عليه فالنكتة في هذا النفي الخلط المذكور لأن العظماء يتكلمون عن خدمهم و أعوانهم.

و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله الآية عن الصادق (عليه السلام) أنه قرأ هذه الآية: ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله - و يقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون فقال: و الله ما ضربوهم بأيديهم و لا قتلوهم بأسيافهم و لكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فكان قتلا و اعتداء و مصيبة: أقول: و في الكافي، عنه (عليه السلام) مثله و كأنه (عليه السلام) استفاد ذلك من قوله تعالى: ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون فإن القتل و خاصة قتل الأنبياء و الكفر بآيات الله لا يعلل بالعصيان بل الأمر بالعكس على ما يوجبه الشدة و الأهمية لكن العصيان بمعنى عدم الكتمان و التحفظ مما يصح التعليل المذكور به.


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
بيان

تكرار الإيمان ثانيا و هو الاتصاف بحقيقته كما يعطيه السياق يفيد أن المراد بالذين آمنوا في صدر الآية هم المتصفون بالإيمان ظاهرا المتسمون بهذا الاسم فيكون محصل المعنى أن الأسماء و التسمي بها مثل المؤمنين و اليهود و النصارى و الصابئين لا يوجب عند الله تعالى أجرا و لا أمنا من العذاب كقولهم: لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، و إنما ملاك الأمر و سبب الكرامة و السعادة حقيقة الإيمان بالله و اليوم الآخر و العمل الصالح، و لذلك لم يقل من آمن منهم بإرجاع الضمير إلى الموصول اللازم في الصلة لئلا يكون تقريرا للفائدة في التسمي على ما يعطيه النظم كما لا يخفى و هذا مما تكررت فيه آيات القرآن أن السعادة و الكرامة تدور مدار العبودية، فلا اسم من هذه الأسماء ينفع لمتسميه شيئا، و لا وصف من أوصاف الكمال يبقى لصاحبه و ينجيه إلا مع لزوم العبودية، الأنبياء و من دونهم فيه سواء، فقد قال تعالى في أنبيائه بعد ما وصفهم بكل وصف جميل: «و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون»: الأنعام - 88، و قال تعالى في أصحاب نبيه و من آمن معه مع ما ذكر من عظم شأنهم و علو قدرهم: «وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما»: الفتح - 29، فأتى بكلمة منهم و قال في غيرهم ممن أوتي آيات الله تعالى: «و لو شئنا لرفعناه بها و لكنه أخلد إلى الأرض و اتبع هواه»: الأعراف - 176، إلى غير ذلك من الآيات الناصة على أن الكرامة بالحقيقة دون الظاهر.

بحث روائي

في الدر المنثور،: عن سلمان الفارسي قال: سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أهل دين كنت معهم، فذكر من صلاتهم و عبادتهم فنزلت: «إن الذين آمنوا و الذين هادوا» الآية: أقول: و روي أيضا نزول الآية في أصحاب سلمان بعدة طرق أخرى.

و في المعاني، عن ابن فضال قال: قلت للرضا (عليه السلام) لم سمي النصارى نصارى قال: لأنهم كانوا من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشام نزلتها مريم و عيسى بعد رجوعهما من مصر أقول و في الرواية بحث سنتعرض له في قصص عيسى (عليه السلام) من سورة آل عمران إن شاء الله.

و في الرواية: أن اليهود سموا باليهود لأنهم من ولد يهودا بن يعقوب.

و في تفسير القمي،: قال: قال (عليه السلام): الصابئون قوم لا مجوس و لا يهود و لا نصارى و لا مسلمون و هم يعبدون النجوم و الكواكب.

أقول: و هي الوثنية، غير أن عبادة الأصنام غير مقصورة عليهم بل الذي يخصهم عبادة أصنام الكواكب.

بحث تاريخي

ذكر أبو ريحان البيروني في الآثار الباقية، ما لفظه: و أول المذكورين منهم يعني المتنبئين يوذاسف و قد ظهر عند مضي سنة من ملك طهمورث بأرض الهند و أتى بالكتابة الفارسية، و دعا إلى ملة الصابئين فاتبعه خلق كثير، و كانت الملوك البيشدادية و بعض الكيانية ممن كان يستوطن بلخ يعظمون النيرين و الكواكب و كليات العناصر و يقدسونها إلى وقت ظهور زرادشت عند مضي ثلاثين سنة من ملك بشتاسف، و بقايا أولئك الصابئين بحران ينسبون إلى موضعهم، فيقال لهم: الحرانية و قد قيل: إنها نسبة إلى هادان بن ترخ أخي إبراهيم (عليه السلام) و إنه كان من بين رؤسائهم أوغلهم في الدين و أشدهم تمسكا به، و حكى عنه ابن سنكلا النصراني في كتابه الذي قصد فيه نقض نحلتهم، فحشاه بالكذب و الأباطيل، أنهم يقولون إن إبراهيم (عليه السلام) إنما خرج عن جملتهم لأنه خرج في قلفته برص و إن من كان به ذلك فهو نجس لا يخالطونه فقطع قلفته بذلك السبب يعني اختتن، و دخل إلى بيت من بيوت الأصنام فسمع صوتا من صنم يقول له: يا إبراهيم خرجت من عندنا بعيب واحد، و جئتنا بعيبين، اخرج و لا تعاود المجيء إلينا فحمله الغيظ على أن جعلها جذاذا، و خرج من جملتهم ثم إنه ندم بعد ما فعله، و أراد ذبح ابنه لكوكب المشتري على عادتهم في ذبح أولادهم، زعم فلما علم كوكب المشتري صدق توبته فداه بكبش.

و حكى عبد المسيح بن إسحاق الكندي عنهم في جوابه عن كتاب عبد الله بن إسماعيل الهاشمي، أنهم يعرفون بذبح الناس و لكن ذلك لا يمكنهم اليوم جهرا و نحن لا نعلم منهم إلا أنهم أناس يوحدون الله، و ينزهونه عن القبائح، و يصفونه بالسلب لا الإيجاب كقولهم: لا يحد، و لا يرى، و لا يظلم، و لا يجور و يسمونه بالأسماء الحسنى مجازا، إذ ليس عندهم صفة بالحقيقة، و ينسبون التدبير إلى الفلك و أجرامه، و يقولون بحياتها و نطقها و سمعها و بصرها، و يعظمون الأنوار، و من آثارهم القبة التي فوق محراب عند المقصورة من جامع دمشق، و كان مصلاهم، كان اليونانيون و الروم على دينهم، ثم صارت في أيدي اليهود، فعملوها كنيستهم، ثم تغلب عليها النصارى، فصيروها بيعة إلى أن جاء الإسلام و أهله فاتخذوها مسجدا و كانت لهم هياكل و أصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال كما ذكرها أبو معشر البلخي في كتابه في بيوت العبادات، مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس، و قران فإنها منسوبة إلى القمر، و بناؤها على صورته كالطيلسان و بقربها قرية تسمى سلمسين، و اسمها القديم صنمسين، أي صنم القمر، و قرية أخرى تسمى ترععوز أي باب الزهرة و يذكرون أن الكعبة و أصنامها كانت لهم، و عبدتها كانوا من جملتهم، و أن اللات كان باسم زحل، و العزى باسم الزهرة و لهم أنبياء كثيرة أكثرهم فلاسفة يونان كهرمس المصري و أغاذيمون و واليس و فيثاغورث و باباسوار جد أفلاطون من جهة أمه و أمثالهم، و منهم من حرم عليه السمك خوفا أن يكون رغاوة و الفرخ لأنه أبدا محموم، و الثوم لأنه مصدع محرق للدم أو المني الذي منه قوام العالم، و الباقلاء لأنه يغلظ الذهن و يفسده، و أنه في أول الأمر إنما نبت في جمجمة إنسان، و لهم ثلاث صلوات مكتوبات.

أولها: عند طلوع الشمس ثماني ركعات.

و الثانية: عند زوال الشمس عن وسط السماء خمس ركعات، و في كل ركعة من صلاتهم ثلاث سجدات، و يتنفلون بصلاة في الساعة الثانية من النهار، و أخرى في التاسعة من النهار.

و الثالثة: في الساعة الثالثة من الليل، و يصلون على طهر و وضوء، و يغتسلون من الجنابة و لا يختتنون إذ لم يؤمروا بذلك زعموا و أكثر أحكامهم في المناكح و الحدود مثل أحكام المسلمين، و في التنجس عند مس الموتى، و أمثال ذلك شبيهة بالتوراة، و لهم قرابين متعلقة بالكواكب و أصنامها و هياكلها و ذبائح يتولاها كهنتهم و فاتنوهم، و يستخرجون من ذلك علم ما عسى يكون المقرب و جواب ما يسأل عنه، و قد يسمى هرمس بإدريس الذي ذكر في التوراة أخنوخ، و بعضهم زعم أن يوذاسف هو هرمس.

و قد قيل: إن هؤلاء الحرانية ليسوا هم الصابئة بالحقيقة، بل هم المسمون في الكتب بالحنفاء و الوثنية، فإن الصابئة هم الذين تخلفوا ببابل من جملة الأسباط الناهضة في أيام كورش و أيام أرطحشست إلى بيت المقدس، و مالوا إلى شرائع المجوس فصبوا إلى دين بخت نصر، فذهبوا مذهبا ممتزجا من المجوسية و اليهودية، كالسامرة بالشام، و قد توجد أكثرهم بواسط و سواد العراق بناحية جعفر و الجامدة و نهري الصلة منتمين إلى أنوش بن شيث، و مخالفين للحرانية، عائبين مذاهبهم، لا يوافقونهم إلا في أشياء قليلة، حتى أنهم يتوجهون في الصلاة إلى جهة القطب الشمالي و الحرانية إلى الجنوبي، و زعم بعض أهل الكتاب أنه كان لمتوشلخ ابن غير ملك يسمى صابي، و أن الصابئة سموا به، و كان الناس قبل ظهور الشرائع و خروج يوذاسف شمينين سكان الجانب الشرقي من الأرض و كانوا عبدة أوثان، و بقاياهم الآن بالهند و الصين و التغزغز و يسميهم أهل خراسان شمنان، و آثارهم و بهاراتهم و أصنامهم و فرخاراتهم ظاهرة في ثغور خراسان المتصلة بالهند، و يقولون: بقدم الدهر، و تناسخ الأرواح، و هوي الفلك في خلإ غير متناه، و لذلك يتحرك على استدارة فإن الشيء المستدير إذا أزيل ينزل مع دوران، زعموا و منهم من أقر بحدوث العالم، و زعم أن مدته ألف ألف سنة انتهى موضع الحاجة.

أقول: و ما نسبه إلى بعض من تفسير الصائبة بالمذهب الممتزج من المجوسية و اليهودية مع أشياء من الحرانية هو الأوفق بما في الآية فإن ظاهر السياق أن التعداد لأهل الملة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالجمعة ديسمبر 24, 2010 4:00 pm

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

بيان

قوله تعالى: و رفعنا فوقكم الطور، الطور هو الجبل كما بدله منه في قوله تعالى: «و إذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة»: الأعراف - 171، و النتق هو الجذب و الاقتلاع، و سياق الآية حيث ذكر أخذ الميثاق أولا و الأمر بأخذ ما أوتوا و ذكر ما فيه أخيرا و وضع رفع الطور فوقهم بين الأمرين مع السكوت عن سبب الرفع و غايتها يدل على أنه كان لإرهابهم بعظمة القدرة من دون أن يكون لإجبارهم و إكراههم على العمل بما أوتوه و إلا لم يكن لأخذ الميثاق وجه، فما ربما يقال: إن رفع الجبل فوقهم لو كان على ظاهره كان آية معجزة و أوجب إجبارهم و إكراههم على العمل.

و قد قال سبحانه: «لا إكراه في الدين»: البقرة - 256، و قال تعالى: «أ فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»: يونس - 99، غير وجيه فإن الآية كما مر لا تدل على أزيد من الإخافة و الإرهاب و لو كان مجرد رفع الجبل فوق بني إسرائيل إكراها لهم على الإيمان أو العمل، لكان أغلب معجزات موسى موجبة للإكراه، نعم هذا التأويل و صرف الآية عن ظاهرها، و القول بأن بني إسرائيل كانوا في أصل الجبل فزلزل و زعزع حتى أظل رأسه عليهم، فظنوا أنه واقع بهم فعبر عنها برفعه فوقهم أو نتقه فوقهم، مبني على أصل إنكار المعجزات و خوارق العادات، و قد مر الكلام فيها و لو جاز أمثال هذه التأويلات لم يبق للكلام ظهور، و لا لبلاغة الكلام و فصاحته أصل تتكي عليه و تقوم به.

قوله تعالى: لعلكم تتقون.

لعل كلمة ترج و اللازم في الترجي صحته في الكلام سواء كان قائما بنفس المتكلم أو المخاطب أو بالمقام، كأن يكون المقام مقام رجاء و إن لم يكن للمتكلم و المخاطب رجاء فيه و هو لا يخلو عن شوب جهل بعاقبة الأمر فالرجاء في كلامه تعالى إما بملاحظة المخاطب أو بملاحظة المقام.

و أما هو تعالى فيستحيل نسبة الرجاء إليه لعلمه بعواقب الأمور، كما نبه عليه الراغب في مفرداته.

قوله تعالى: كونوا قردة خاسئين أي صاغرين.

قوله تعالى: فجعلناها نكالا أي عبرة يعتبر بها، و النكال هو ما يفعل من الإذلال و الإهانة بواحد ليعتبر به آخرون.

قوله تعالى: «و إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة» إلخ، هذه قصة بقرة بني إسرائيل، و بها سميت السورة سورة البقرة.

و الأمر في بيان القرآن لهذه القصة عجيب فإن القصة فصل بعضها عن بعض حيث قال تعالى: «و إذ قال موسى لقومه إلى آخره» ثم قال: «و إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها» ثم إنه أخرج فصلا منها من وسطها و قدم أولا و وضع صدر القصة و ذيلها ثانيا، ثم إن الكلام كان مع بني إسرائيل في الآيات السابقة بنحو الخطاب فانتقل بالالتفات إلى الغيبة حيث قال: و إذ قال موسى لقومه ثم التفت إلى الخطاب ثانيا بقوله: و إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها.

أما الالتفات في قوله تعالى: و إذ قال موسى لقومه: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، ففيه صرف الخطاب عن بني إسرائيل، و توجيهه إلى النبي في شطر من القصة و هو أمر ذبح البقرة و توصيفها ليكون كالمقدمة الموضحة للخطاب الذي سيخاطب به بنو إسرائيل بقوله: و إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها و الله مخرج ما كنتم تكتمون، فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى و يريكم آياته لعلكم تعقلون، الآيتان في سلك الخطابات السابقة فهذه الآيات الخمس من قوله: و إذ قال موسى إلى قوله: و ما كادوا يفعلون، كالمعترضة في الكلام تبين معنى الخطاب التالي مع ما فيها من الدلالة على سوء أدبهم و إيذائهم لرسولهم، برميه بفضول القول و لغو الكلام، مع ما فيه من تعنتهم و تشديدهم و إصرارهم في الاستيضاح و الاستفهام المستلزم لنسبة الإبهام إلى الأوامر الإلهية و بيانات الأنبياء مع ما في كلامهم من شوب الإهانة و الاستخفاف الظاهر بمقام الربوبية فانظر إلى قول موسى (عليه السلام) لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، و قولهم: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، و قولهم ثانيا: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، و قولهم ثالثا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا، فأتوا في الجميع بلفظ ربك من غير أن يقولوا ربنا ثم كرروا قولهم: ما هي و قالوا إن البقر تشابه علينا فادعوا التشابه بعد البيان، و لم يقولوا: إن البقرة تشابهت علينا بل قالوا: إن البقر تشابه علينا كأنهم يدعون أن جنس البقر متشابه و لا يؤثر هذا الأثر إلا بعض أفراد هذا النوع و هذا المقدار من البيان لا يجزي في تعيين الفرد المطلوب و تشخيصه، مع أن التأثير لله عز اسمه لا للبقرة، و قد أمرهم أن يذبحوا بقرة فأطلق القول و لم يقيده بقيد، و كان لهم أن يأخذوا بإطلاقه، ثم انظر إلى قولهم لنبيهم: أ تتخذنا هزوا، المتضمن لرميه (عليه السلام) بالجهالة و اللغو حتى نفاه عن نفسه بقوله: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، و قولهم أخيرا بعد تمام البيان الإلهي: الآن جئت بالحق، الدال على نفي الحق عن البيانات السابقة المستلزم لنسبة الباطل إلى طرز البيان الإلهي و التبليغ النبوي.

و بالجملة فتقديم هذا الشطر من القصة لإبانة الأمر في الخطاب التالي كما ذكر مضافا إلى نكتة أخرى، و هي أن قصة البقرة غير مذكورة في التوراة الموجودة عند اليهود اليوم فكان من الحري أن لا يخاطبوا بهذه القصة أصلا أو يخاطبوا به بعد بيان ما لعبت به أيديهم من التحريف، فأعرض عن خطابهم أولا بتوجيه الخطاب إلى النبي ثم بعد تثبيت الأصل، عاد إلى ما جرى عليه الكلام من خطابهم المتسلسل، نعم في هذا المورد من التوراة حكم لا يخلو عن دلالة ما على وقوع القصة و هاك عبارة التوراة.

قال في الفصل الحادي و العشرين من سفر تثنية الاشتراع: إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله يخرج شيوخك و قضاتك و يقيسون إلى المدن التي حول القتيل فالمدينة القريبة من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالغير و ينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه و لم يزرع و يكسرون عنق العجلة في الوادي ثم يتقدم الكهنة بني لاوي لأنه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه و يباركوا باسم الرب و حسب قولهم تكون كل خصومة و كل ضربة و يغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي و يصرخون و يقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم و أعيننا لم تبصر اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب و لا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل فيغفر لهم الدم انتهى.

إذا عرفت هذا على طوله علمت أن بيان هذه القصة على هذا النحو ليس من قبيل فصل القصة، بل القصة مبينة على نحو الإجمال في الخطاب الذي في قوله: و إذ قتلتم نفسا إلخ و شطر من القصة مأتية بها ببيان تفصيلي في صورة قصة أخرى لنكتة دعت إليه.

فقوله تعالى: و إذ قال موسى لقومه خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو كلام في صورة قصة و إنما هي مقدمة توضيحية للخطاب التالي لم يذكر معها السبب الباعث على هذا الأمر و الغاية المقصودة منها بل أطلقت إطلاقا ليتنبه بذلك نفس السامع و تقف موقف التجسس، و تنتشط إذا سمعت أصل القصة، و نالت الارتباط بين الكلامين، و لذلك لما سمعت بنو إسرائيل قوله: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة تعجبوا من ذلك و لم يحملوه إلا على أن نبي الله موسى يستهزء بهم لعدم وجود رابطة عندهم بين ذبح البقرة و ما يسألونه من فصل الخصومة و الحصول على القاتل قالوا أ تتخذنا هزوا و سخرية.

و إنما قالوا ذلك لفقدهم روح الإطاعة و السمع و استقرار ملكة الاستكبار و العتو فيهم، و قولهم: إنا لا نحوم حول التقليد المذموم، و إنما نؤمن بما نشاهده و نراه كما قالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة و إنما وقعوا فيما وقعوا من جهة استقلالهم في الحكم و القضاء فيما لهم ذلك، و فيما ليس لهم ذلك فحكموا بالمحسوس على المعقول فطالبوا معاينة الرب بالحس الباصر و قالوا: «يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون»: الأعراف - 138، و زعموا أن نبيهم موسى مثلهم يتهوس كتهوسهم، و يلعب كلعبهم، فرموه بالاستهزاء و السفه و الجهالة حتى رد عليهم، و قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، و إنما استعاذ بالله و لم يخبر عن نفسه بأنه ليس يجاهل لأن ذلك منه (عليه السلام) أخذ بالعصمة الإلهية التي لا تتخلف لا الحكمة الخلقية التي ربما تتخلف.

و زعموا أن ليس للإنسان أن يقبل قولا إلا عن دليل، و هذا حق، لكنهم غلطوا في زعمهم أن كل حكم يجب العثور على دليله تفصيلا و لا يكفي في ذلك الإجمال و من أجل ذلك طالبوا تفصيل أوصاف البقرة لحكمهم أن نوع البقر ليس فيه خاصة الإحياء، فإن كان و لا بد فهو في فرد خاص منه يجب تعيينه بأوصاف كاملة البيان و لذلك قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، و هذا تشديد منهم على أنفسهم من غير جهة فشدد الله عليهم، و قال موسى إنه يقول إنها بقرة لا فارض، أي ليست بمسنة انقطعت ولادتها و لا بكر أي لم تلد عوان بين ذلك، و العوان من النساء و البهائم ما هو في منتصف السن أي واقعة في السن بين ما ذكر من الفارض و البكر، ثم ترحم عليهم ربهم فوعظهم أن لا يلحوا في السؤال، و لا يشددوا على أنفسهم و يقنعوا بما بين لهم فقال: فافعلوا ما تؤمرون، لكنهم لم يرتدعوا بذلك بل قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع شديد الصفرة في صفاء لونها تسر الناظرين و تم بذلك وصف البقرة بيانا، و اتضح أنها ما هي و ما لونها و هم مع ذلك لم يرضوا به، و أعادوا كلامهم الأول، من غير تحجب و انقباض و قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا و إنا إن شاء الله لمهتدون، فأجابهم ثانيا بتوضيح في ماهيتها و لونها و قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول أي غير مذللة بالحرث و السقي تثير الأرض بالشيار و لا تسقي الحرث فلما تم عليهم البيان و لم يجدوا ما يسألونه قالوا الآن جئت بالحق قول من يعترف بالحقيقة بالإلزام و الحجة من غير أن يجد إلى الرد سبيلا، فيعترف بالحق اضطرارا، و يعتذر عن المبادرة إلى الإنكار بأن القول لم يكن مبينا من قبل، و لا بينا تاما.

و الدليل على ذلك قوله تعالى: فذبحوها و ما كادوا يفعلون.

قوله تعالى: و إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها، شروع في أصل القصة و التدارؤ هو التدافع من الدرء بمعنى الدفع فقد كانوا قتلوا - نفسا - و كل طائفة منهم يدفع الدم عن نفسها إلى غيرها - و أراد الله سبحانه إظهار ما كتموه.

قوله تعالى: فقلنا اضربوه ببعضها، أول الضميرين راجع إلى النفس باعتبار أنه قتيل، و ثانيهما إلى البقرة، و قد قيل: إن المراد بالقصة بيان أصل تشريع الحكم حتى ينطبق على الحكم المذكور في التوراة الذي نقلناه، و المراد بإحياء الموتى العثور بوسيلة تشريع هذا الحكم على دم المقتول، نظير ما ذكره تعالى بقوله: «و لكم في القصاص حيوة»: البقرة - 179، من دون أن يكون هناك إحياء بنحو الإعجاز هذا، و أنت خبير بأن سياق الكلام و خاصة قوله تعالى: فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى، يأبى ذلك.

قوله تعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة القسوة في القلب بمنزلة الصلابة في الحجر و كلمة أو بمعنى بل، و المراد بكونها بمعنى بل انطباق معناه على موردها، و قد بين شدة قسوة قلوبهم بقوله: و إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، و قوبل فيه بين الحجارة و الماء لكون الحجارة يضرب بها المثل في الصلابة ككون الماء يضرب به المثل في اللين فهذه الحجارة على كمال صلابتها يتفجر منها الأنهار على لين مائها و تشقق فيخرج منها الماء على لينه و صلابتها، و لا يصدر من قلوبهم حال يلائم الحق، و لا قول حق يلائم الكمال الواقع.

قوله تعالى: و إن منها لما يهبط من خشية الله، و هبوط الحجارة ما نشاهد من انشقاق الصخور على قلل الجبال، و هبوط قطعات منها بواسطة الزلازل، و صيرورة الجمد الذي يتخللها في فصل الشتاء ماء في فصل الربيع إلى غير ذلك، و عد هذا الهبوط المستند إلى أسبابها الطبيعية هبوطا من خشية الله تعالى لأن جميع الأسباب منتهية إلى الله سبحانه فانفعال الحجارة في هبوطها عن سببها الخاص بها انفعال عن أمر الله سبحانه إياها بالهبوط، و هي شاعرة لأمر ربها شعورا تكوينيا، كما قال تعالى: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده، و لكن لا تفقهون تسبيحهم»: إسراء - 44، و قال تعالى: «كل له قانتون»: البقرة - 116، و الانفعال الشعوري هو الخشية فهي هابطة من خشية الله تعالى، فالآية جارية مجرى قوله تعالى: «و يسبح الرعد بحمده و الملائكة من خيفته»: الرعد - 13: و قوله تعالى: «و لله يسجد من في السموات و الأرض طوعا و كرها و ظلالهم بالغدو و الآصال»: الرعد - 15، حيث عد صوت الرعد تسبيحا بالحمد و عد الظلال ساجدة لله سبحانه إلى غير ذلك من الآيات التي جرى القول فيها مجرى التحليل كما لا يخفى.

و بالجملة فقوله: و إن منها لما يهبط، بيان ثان لكون قلوبهم أقسى من الحجارة فإن الحجارة تخشى الله تعالى، فتهبط من خشيته، و قلوبهم لا تخشى الله تعالى و لا تهابه.


[color=blue]بحث روائي

في المحاسن: عن الصادق (عليه السلام): في قول الله: خذوا ما آتيناكم بقوة، أ قوة الأبدان أو قوة القلب؟ قال (عليه السلام): فيهما جميعا:. أقول: و رواه العياشي أيضا في تفسيره.

و في تفسير العياشي، عن الحلبي: في قوله تعالى: و اذكروا ما فيه، قال: قال اذكروا ما فيه و اذكروا ما في تركه من العقوبة.

أقول: و قد استفيد ذلك من المقام من قوله تعالى: و رفعنا فوقكم الطور خذوا.

و في الدر المنثور،: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو لا أن بني إسرائيل قالوا و إنا إن شاء الله لمتهدون ما أعطوا أبدا و لو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم و لكنهم شددوا فشدد الله عليهم.

و في تفسير القمي،: عن ابن فضال قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: إن الله أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة و إنما كانوا يحتاجون إلى ذنبها فشدد الله عليهم.

و في المعاني، و تفسير العياشي،: عن البزنطي قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: إن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه و طرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثم جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى إن سبط آل فلان قتلوا فلانا فأخبر من قتله قال: ائتوني ببقرة قالوا: أ تتخذنا هزوا؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد الله عليهم، قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟ قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض و لا بكر يعني لا صغيرة و لا كبيرة عوان بين ذلك و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد الله عليهم قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها - قال إنه يقول إنها بقرة صفراء - فاقع لونها تسر الناظرين و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد الله عليهم قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي أن البقر تشابه علينا - و إنا إن شاء الله لمهتدون. قال: إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض - و لا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها. قالوا الآن جئت بالحق فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل فقال لا أبيعها إلا بملء مسك ذهبا، فجاءوا إلى موسى و قالوا له ذلك قال اشتروها فاشتروها و جاءوا بها فأمر بذبحها ثم أمر أن يضربوا الميت بذنبها فلما فعلوا ذلك حيي المقتول و قال يا رسول الله إن ابن عمي قتلني، دون من أدعي عليه قتلي، فعلموا بذلك قاتله فقال لرسول الله موسى بعض أصحابه إن هذه البقرة لها نبأ فقال و ما هو؟ قال إن فتى من بني إسرائيل كان بارا بأبيه و أنه اشترى بيعا فجاء إلى أبيه و الأقاليد تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع فاستيقظ أبوه فأخبره فقال أحسنت، هذه البقرة فهي لك عوضا مما فاتك فقال له رسول الله موسى انظر إلى البر ما بلغ بأهله.

أقول: و الروايات كما ترى منطبقة على إجمال ما استفدناه من الآيات الشريفة.

بحث فلسفي

السورة كما ترى مشتملة على عدة من الآيات المعجزة، في قصص بني إسرائيل و غيرهم، كفرق البحر و إغراق آل فرعون في قوله تعالى: و إذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم و أغرقنا آل فرعون الآية، و أخذ الصاعقة بني إسرائيل و إحيائهم بعد الموت في قوله تعالى: و إذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك الآية، و تظليل الغمام و إنزال المن و السلوى عليهم في قوله تعالى: و ظللنا عليكم الغمام الآية، و انفجار العيون من الحجر في قوله تعالى: و إذ استسقى موسى لقومه الآية، و رفع الطور فوقهم في قوله تعالى: و رفعنا فوقكم الطور الآية، و مسخ قوم منهم في قوله تعالى: فقلنا لهم كونوا قردة الآية، و إحياء القتيل ببعض البقرة المذبوحة في قوله: فقلنا اضربوه ببعضها الآية، و كإحياء قوم آخرين في قوله أ لم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم الآية، و كإحياء الذي مر على قرية خربة في قوله: أو كالذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها الآية، و كإحياء الطير بيد إبراهيم في قوله تعالى: و إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى الآية، فهذه اثنتا عشرة آية معجزة خارقة للعادة جرت أكثرها في بني إسرائيل ذكرها القرآن - و قد بينا فيما مر إمكان وقوع المعجزة و أن خوارق العادات جائزة الوقوع في الوجود و هي مع ذلك ليست ناقضة لقانون العلية و المعلولية الكلي، و تبين به أن لا دليل على تأويل الآيات الظاهرة في وقوع الإعجاز، و صرفها عن ظواهرها ما دامت الحادثة ممكنة، بخلاف المحالات كانقسام الثلاثة بمتساويين و تولد مولود يكون أبا لنفسه، فإنه لا سبيل إلى جوازها.

نعم تختص بعض المعجزات كإحياء الموتى و المسخ ببحث آخر، فقد قيل: إنه قد ثبت في محله أن الموجود الذي له قوة الكمال و الفعلية إذا خرج من القوة إلى الفعل فإنه يستحيل بعد ذلك رجوعه إلى القوة ثانيا، و كذلك كل ما هو أكمل وجودا فإنه لا يرجع في سيره الاستكمالي إلى ما هو أنقص وجودا منه من حيث هو كذلك.

و الإنسان بموته يتجرد بنفسه عن المادة فيعود موجودا مجردا مثاليا أو عقليا، و هاتان الرتبتان فوق مرتبة المادة، و الوجود فيهما أقوى من الوجود المادي، فمن المحال أن تتعلق النفس بعد موتها بالمادة ثانيا، و إلا لزم رجوع الشيء إلى القوة بعد خروجه إلى الفعل، و هو محال، و أيضا الإنسان أقوى وجودا من سائر أنواع الحيوان، فمن المحال أن يعود الإنسان شيئا من سائر أنواع الحيوان بالمسخ.

أقول: ما ذكره من استحالة رجوع ما بالقوة بعد خروجه إلى الفعل إلى القوة ثانيا حق لا ريب فيه، لكن عود الميت إلى حياته الدنيا ثانيا في الجملة و كذا المسخ ليسا من مصاديقه.

بيان ذلك: أن المحصل من الحس و البرهان أن الجوهر النباتي المادي إذا وقعت في صراط الاستكمال الحيواني فإنه يتحرك إلى الحيوانية، فيتصور بالصورة الحيوانية و هي صورة مجردة بالتجرد البرزخي، و حقيقتها إدراك الشيء نفسه بإدراك جزئي خيالي و هذه الصورة وجود كامل للجوهر النباتي و فعلية لهذه القوة تلبس بها بالحركة الجوهرية و من المحال أن ترجع يوما إلى الجوهر المادي فتصير إياه إلا أن تفارق مادتها فتبقى المادة مع صورة مادية كالحيوان تموت فيصير جسدا لا حراك به، ثم إن الصورة الحيوانية مبدأ لأفعال إدراكية تصدر عنها، و أحوال علمية تترتب عليها، تنتقش النفس بكل واحد من تلك الأحوال بصدورها منها، و لا يزال نقش عن نقش، و إذا تراكمت من هذه النقوش ما هي متشاكلة متشابهة تحصل نقش واحد و صار صورة ثابتة غير قابلة للزوال، و ملكة راسخة، و هذه صورة نفسانية جديدة يمكن أن يتنوع بها نفس حيواني فتصير حيوانا خاصا ذا صورة خاصة منوعة كصورة المكر و الحقد و الشهوة و الوفاء و الافتراس و غير ذلك و إذا لم تحصل ملكة بقي النفس على مرتبتها الساذجة السابقة، كالنبات إذا وقفت عن حركتها الجوهرية بقي نباتا و لم يخرج إلى الفعلية الحيوانية، و لو أن النفس البرزخية تتكامل من جهة أحوالها و أفعالها بحصول الصورة دفعة لانقطعت علقتها مع البدن في أول وجودها لكنها تتكامل بواسطة أفعالها الإدراكية المتعلقة بالمادة شيئا فشيئا حتى تصير حيوانا خاصا إن عمر العمر الطبيعي أو قدرا معتدا به، و إن حال بينه و بين استتمام العمر الطبيعي أو القدر المعتد به مانع كالموت الاخترامي بقي على ما كان عليه من سذاجة الحيوانية، ثم إن الحيوان إذا وقعت في صراط الإنسانية و هي الوجود الذي يعقل ذاته تعقلا كليا مجردا عن المادة و لوازمها من المقادير و الألوان و غيرهما خرج بالحركة الجوهرية من فعلية المثال التي هي قوة العقل إلى فعلية التجرد العقلي، و تحققت له صورة الإنسان بالفعل، و من المحال أن تعود هذه الفعلية إلى قوتها التي هي التجرد المثالي على حد ما ذكر في الحيوان.

ثم إن لهذه الصورة أيضا أفعالا و أحوالا تحصل بتراكمها التدريجي صورة خاصة جديدة توجب تنوع النوعية الإنسانية على حد ما ذكر نظيره في النوعية الحيوانية.

إذا عرفت ما ذكرناه ظهر لك أنا لو فرضنا إنسانا رجع بعد موته إلى الدنيا و تجدد لنفسه التعلق بالمادة و خاصة المادة التي كانت متعلقة نفسه من قبل لم يبطل بذلك أصل تجرد نفسه فقد كانت مجردة قبل انقطاع العلقة و معها أيضا و هي مع التعلق ثانيا حافظة لتجردها، و الذي كان لها بالموت أن الأداة التي كانت رابطة فعلها بالمادة صارت مفقودة لها فلا تقدر على فعل مادي كالصانع إذا فقد آلات صنعته و الأدوات اللازمة لها فإذا عادت النفس إلى تعلقها الفعلي بالمادة أخذت في استعمال قواها و أدواتها البدنية و وضعت ما اكتسبتها من الأحوال و الملكات بواسطة الأفعال فوق ما كانت حاضرة و حاصلة لها من قبل و استكملت بها استكمالا جديدا من غير أن يكون ذلك منه رجوعا قهقرى و سيرا نزوليا من الكمال إلى النقص، و من الفعل إلى القوة.

فإن قلت: هذا يوجب القول: بالقسر الدائم مع ضرورة بطلانه، فإن النفس المجردة المنقطعة عن البدن لو بقي في طباعها إمكان الاستكمال من جهة الأفعال المادية بالتعلق بالمادة ثانيا كان بقاؤها على الحرمان من الكمال إلى الأبد حرمانا عما تستدعيه بطباعها، فما كل نفس براجعة إلى الدنيا بإعجاز أو خرق عادة، و الحرمان المستمر قسر دائم.

قلت: هذه النفوس التي خرجت من القوة إلى الفعل في الدنيا و اتصلت إلى حد و ماتت عندها لا تبقى على إمكان الاستكمال اللاحق دائما بل يستقر على فعليتها الحاضرة بعد حين أو تخرج إلى الصورة العقلية المناسبة لذلك و تبقى على ذلك، و تزول الإمكان المذكور بعد ذلك فالإنسان الذي مات و له نفس ساذجة غير أنه فعل أفعالا و خلط عملا صالحا و آخر سيئا لو عاش حينا أمكن أن يكتسب على نفسه الساذجة صورة سعيدة أو شقية و كذا لو عاد بعد الموت إلى الدنيا و عاش أمكن أن يكتسب على صورته السابقة صورة خاصة جديدة و إذا لم يعد فهو في البرزخ مثاب أو معذب بما كسبته من الأفعال حتى يتصور بصورة عقلية مناسبة لصورته السابقة المثالية و عند ذلك يبطل الإمكان المذكور و يبقى إمكانات الاستكمالات العقلية فإن عاد إلى الدنيا كالأنبياء و الأولياء لو عادوا إلى الدنيا بعد موتهم أمكن أن يحصل صورة أخرى عقلية من ناحية المادة و الأفعال المتعلقة بها و لو لم يعد فليس له إلا ما كسب من الكمال و الصعود في مدارجه، و السير في صراطه، هذا.

و من المعلوم أن هذا ليس قسرا دائما و لو كان مجرد حرمان موجود عن كماله الممكن له بواسطة عمل عوامل و تأثير علل مؤثرة قسرا دائما لكان أكثر حوادث هذا العالم الذي هو دار التزاحم، و موطن التضاد أو جميعها قسرا دائما، فجميع أجزاء هذا العالم الطبيعي مؤثرة في الجميع، و إنما القسر الدائم أن يجعل في غريزة نوع من الأنواع اقتضاء كمال من الكمالات أو استعداد ثم لا يظهر أثر ذلك دائما إما لأمر في داخل ذاته أو لأمر من خارج ذاته متوجه إلى إبطاله بحسب الغريزة، فيكون تغريز النوع المقتضي أو المستعد للكمال تغريزا باطلا و تجبيلا هباء لغوا فافهم ذلك، و كذا لو فرضنا إنسانا تغيرت صورته إلى صورة نوع آخر من أنواع الحيوان كالقرد و الخنزير فإنما هي صورة على صورة، فهو إنسان خنزير أو إنسان قردة، لا إنسان بطلت إنسانيته، و خلت الصورة الخنزيرية أو القردية محلها، فالإنسان إذا كسب صورة من صور الملكات تصورت نفسه بها و لا دليل على استحالة خروجها في هذه الدنيا من الكمون إلى البروز على حد ما ستظهر في الآخرة بعد الموت، و قد مر أن النفس الإنسانية في أول حدوثها على السذاجة يمكن أن تتنوع بصورة خاصة تخصصها بعد الإبهام و تقيدها بعد الإطلاق و القبول فالممسوخ من الإنسان إنسان ممسوخ لا أنه ممسوخ فاقد للإنسانية هذا، و نحن نقرأ في المنشورات اليومية من أخبار المجامع العلمية بأوربا و أمريكا ما يؤخذ جواز الحياة بعد الموت، و تبدل صورة الإنسان بصورة المسخ، و إن لم نتكل في هذه المباحث على أمثال هذه الأخبار، لكن من الواجب على الباحثين من المحصلين أن لا ينسوا اليوم ما يتلونه بالأمس.

فإن قلت: فعلى هذا فلا مانع من القول بالتناسخ.

قلت: كلا فإن التناسخ و هو تعلق النفس المستكملة بنوع كمالها بعد مفارقتها البدن ببدن آخر محال، فإن هذا البدن إن كان ذا نفس استلزم التناسخ تعلق نفسين ببدن واحد، و هو وحدة الكثير، و كثرة الواحد، و إن لم تكن ذا نفس استلزم رجوع ما بالفعل إلى القوة، كرجوع الشيخ إلى الصبا، و كذلك يستحيل تعلق نفس إنساني مستكملة مفارقة ببدن نباتي أو حيواني بما مر من البيان.

بحث علمي و أخلاقي

أكثر الأمم الماضية قصة في القرآن أمة بني إسرائيل، و أكثر الأنبياء ذكرا فيه موسى بن عمران (عليهما السلام)، فقد ذكر اسمه في القرآن، في مائة و ستة و ثلاثين موضعا ضعف ما ذكر إبراهيم (عليه السلام) الذي هو أكثر الأنبياء ذكرا بعد موسى، فقد ذكر في تسعة و ستين موضعا على ما قيل فيهما، و الوجه الظاهر فيه أن الإسلام هو الدين الحنيف المبني على التوحيد الذي أسس أساسه إبراهيم (عليه السلام) و أتمه الله سبحانه و أكمله لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قال تعالى: «ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل»: الحج - 78، و بنو إسرائيل أكثر الأمم لجاجا و خصاما، و أبعدهم من الانقياد للحق، كما أنه كان كفار العرب الذين ابتلي بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذه الصفة، فقد آل الأمر إلى أن نزل فيهم: «إن الذين كفروا سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون»: البقرة - 6.

و لا ترى رذيلة من رذائل بني إسرائيل في قسوتهم و جفوتهم مما ذكره القرآن إلا و هو موجود فيهم، و كيف كان فأنت إذا تأملت قصص بني إسرائيل المذكورة في القرآن، و أمعنت فيها، و ما فيها من أسرار أخلاقهم وجدت أنهم كانوا قوما غائرين في المادة مكبين على ما يعطيه الحس من لذائذ الحياة الصورية، فقد كانت هذه الأمة لا تؤمن بما وراء الحس، و لا تنقاد إلا إلى اللذة و الكمال المادي، و هم اليوم كذلك.

و هذا الشأن هو الذي صير عقلهم و إرادتهم تحت انقياد الحس و المادة، لا يعقلون إلا ما يجوزانه، و لا يريدون إلا ما يرخصان لهم ذلك فانقياد الحس يوجب لهم أن لا يقبلوا قولا إلا إذا دل عليه الحس، و إن كان حقا و انقياد المادة اقتضى فيهم أن يقبلوا كل ما يريده أو يستحسنه لهم كبراؤهم ممن أوتي جمال المادة، و زخرف الحياة و إن لم يكن حقا، فأنتج ذلك فيهم التناقض قولا و فعلا، فهم يذمون كل اتباع باسم أنه تقليد و إن كان مما ينبغي إذا كان بعيدا من حسهم، و يمدحون كل اتباع باسم أنه حظ الحياة، و إن كان مما لا ينبغي إذا كان ملائما لهوساتهم المادية، و قد ساعدهم على ذلك و أعانهم عليه مكثهم الممتد و قطونهم الطويل بمصر تحت استذلال المصريين، و استرقاقهم، و تعذيبهم، يسومونهم سوء العذاب و يذبحون أبناءهم و يستحيون نساءهم و في ذلك بلاء من ربهم عظيم.

و بالجملة فكانوا لذلك صعبة الانقياد لما يأمرهم به أنبياؤهم، و الربانيون من علمائهم مما فيه صلاح معاشهم و معادهم تذكر في ذلك مواقفهم مع موسى و غيره و سريعة اللحوق إلى ما يدعوهم المغرضون و المستكبرون منهم.

و قد ابتليت الحقيقة و الحق اليوم بمثل هذه البلية بالمدنية المادية التي أتحفها إليها عالم الغرب، فهي مبنية القاعدة على الحس و المادة، فلا يقبل دليل فيما بعد عن الحس و لا يسأل عن دليل فيما تضمن لذة مادية حسية، فأوجب ذلك إبطال الغريزة الإنسانية في أحكامها، و ارتحال المعارف العالية و الأخلاق الفاضلة من بيننا فصار يهدد الإنسانية بالانهدام، و جامعة البشر بأشد الفساد و ليعلمن نبأه بعد حين.

و استيفاء البحث في الأخلاق ينتج خلاف ذلك، فما كل دليل بمطلوب، و ما كل تقليد بمذموم، بيان ذلك: أن النوع الإنساني بما أنه إنسان إنما يسير إلى كماله الحيوي بأفعاله الإرادية المتوقفة على الفكر و الإرادة منه مستحيلة التحقق إلا عن فكر، فالفكر هو الأساس الوحيد الذي يبتني عليه الكمال الوجودي الضروري فلا بد للإنسان من تصديقات عملية أو نظرية يرتبط بها كماله الوجودي ارتباطا بلا واسطة أو بواسطة، و هي القضايا التي نعلل بها أفعالنا الفردية أو الاجتماعية أو نحضرها في أذهاننا، ثم نحصلها في الخارج بأفعالنا، هذا.

ثم إن في غريزة الإنسان أن يبحث عن علل ما يجده من الحوادث، أو يهاجم إلى ذهنه من المعلومات، فلا يصدر عنه فعل يريد به إيجاد ما حضر في ذهنه في الخارج إلا إذا حضر في ذهنه علته الموجبة، و لا يقبل تصديقا نظريا إلا إذا اتكىء على التصديق بعلته بنحو، و هذا شأن الإنسان لا يتخطاه البتة، و لو عثرنا في موارد على ما يلوح منه خلاف ذلك فبالتأمل و الإمعان تنحل الشبهة، و يظهر البحث عن العلة، و الركون و الطمأنينة إليها فطري، و الفطرة لا تختلف و لا يتخلف فعلها، و هذا يؤدي الإنسان إلى ما فوق طاقته من العمل الفكري و الفعل المتفرع عليه لسعة الاحتياج الطبيعي، بحيث لا يقدر الإنسان الواحد إلى رفعه معتمدا على نفسه و متكئا إلى قوة طبيعته الشخصية فاحتالت الفطرة إلى بعثه نحو الاجتماع و هو المدينة و الحضارة و وزعت أبواب الحاجة الحيوية بين أفراد الاجتماع، و وكل بكل باب من أبوابها طائفة كأعضاء الحيوان في تكاليفها المختلفة المجتمعة فائدتها و عائدتها في نفسه، و لا تزال الحوائج الإنسانية تزداد كمية و اتساعا و تنشعب الفنون و الصناعات و العلوم، و يتربى عند ذلك الأخصائيون من العلماء و الصناع، فكثير من العلوم و الصناعات كانت علما أو صنعة واحدة يقوم بأمرها الواحد من الناس، و اليوم نرى كل باب من أبوابه علما أو علوما أو صنعة أو صنائع، كالطب المعدود قديما فنا واحدا من فروع الطبيعيات و هو اليوم فنون لا يقوم الواحد من العلماء الأخصائيين بأزيد من أمر فن واحد منها.

و هذا يدعو الإنسان بالإلهام الفطري، أن يستقل بما يخصه من الشغل الإنساني في البحث عن علته و يتبع في غيره من يعتمد على خبرته و مهارته.

فبناء العقلاء من أفراد الاجتماع على الرجوع إلى أهل الخبرة و حقيقة هذا الاتباع، و التقليد المصطلح و الركون إلى الدليل الإجمالي فيما ليس في وسع الإنسان أن ينال دليل تفاصيله كما أنه مفطور على الاستقلال بالبحث عن دليله التفصيلي فيما يسعه أن ينال تفصيل علته و دليله، و ملاك الأمر كله أن الإنسان لا يركن إلى غير العلم، فمن الواجب عند الفطرة الاجتهاد، و هو الاستقلال في البحث عن العلة فيما يسعه ذلك و التقليد و هو الاتباع و رجوع الجاهل إلى العالم فيما لا يسعه ذلك، و لما استحال أن يوجد فرد من هذا النوع الإنساني مستقلا بنفسه قائما بجميع شئون الأصل الذي يتكي عليه الحياة استحال أن يوجد فرد من الإنسان من غير اتباع و تقليد، و من ادعى خلاف ذلك أو ظن من نفسه أنه غير مقلد في حياته فقد سفه نفسه.

نعم: التقليد فيما للإنسان أن ينال علته و سببه كالاجتهاد فيما ليس له الورود عليه و النيل منه، من الرذائل التي هي من مهلكات الاجتماع، و مفنيات المدنية الفاضلة و لا يجوز الاتباع المحض إلا في الله سبحانه لأنه السبب الذي إليه تنتهي الأسباب.


[color=red]
أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ (88) [/color[/color



بيان

السياق و خاصة ما في ذيل الآيات يفيد أن اليهود عند الكفار، و خاصة كفار المدينة: لقرب دارهم منهم كانوا يعرفون قبل البعثة ظهيرا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و عندهم علم الدين و الكتاب، و لذلك كان الرجاء في إيمانهم أكثر من غيرهم، و كان المتوقع أن يؤمنوا به أفواجا فيتأيد بذلك و يظهر نوره، و ينتشر دعوته، و لما هاجر النبي إلى المدينة و كان من أمرهم ما كان تبدل الرجاء قنوطا، و الطمع يأسا، و لذلك يقول سبحانه: أ فتطمعون أن يؤمنوا لكم إلخ، يعني أن كتمان الحقائق و تحريف الكلام من شيمهم، فلا ينبغي أن يستبعد نكولهم عما قالوا و نقضهم ما أبرموا.

قوله تعالى: أ فتطمعون أن يؤمنوا لكم، فيه التفات من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب النبي و الذين آمنوا و وضعهم موضع الغيبة و كان الوجه فيه أنه لما قص قصة البقرة و عدل فيها من خطاب بني إسرائيل إلى غيبتهم لمكان التحريف الواقع فيها بحذفها من التوراة كما مر، أريد إتمام البيان بنحو الغيبة بالإشارة إلى تحريفهم كتاب الله تعالى فصرف لذلك وجه الكلام إلى الغيبة.

قوله تعالى: و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلا إلخ، لا تقابل بين الشرطين و هما مدخولا إذا في الموضعين كما في قوله تعالى: «و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون»: البقرة - 14، بل المراد بيان موضعين آخرين من مواضع جرائمهم و جهالتهم.

أحدهما: أنهم ينافقون فيتظاهرون بالإيمان صونا لأنفسهم من الإيذاء و الطعن و القتل.

و ثانيهما: أنهم يريدون تعمية الأمر و إبهامه على الله سبحانه العالم بسرهم و علانيتهم و ذلك أن العامة منهم، و هم أولوا بساطة النفس ربما كانوا ينبسطون للمؤمنين، فيحدثونهم ببعض ما في كتبهم من بشارات النبي أو ما ينفع المؤمنين في تصديق النبوة، كما يلوح من لحن الخطاب فكان أولياؤهم ينهونهم معللا بأن ذلك مما فتح الله لهم، فلا ينبغي أن يفشى للمؤمنين، فيحاجوهم به عند ربهم كأنهم لو لم يحاجوهم به عند ربهم لم يطلع الله عليه فلم يؤاخذهم بذلك و لازم ذلك أن الله تعالى إنما يعلم علانية الأمر، دون سره و باطنه و هذا من الجهل بمكان، فرد الله سبحانه عليهم بقوله: «أ و لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون و ما يعلنون» الآية فإن هذا النوع من العلم - و هو ما يتعلق بظاهر الأمر دون باطنه - إنما هو العلم المنتهي إلى الحس الذي يفتقر إلى بدن مادي مجهز بآلات مادية مقيد بقيود الزمان و المكان مولود لعلل أخرى مادية و ما هو كذلك مصنوع من العالم لا صانع العالم.

و هذا أيضا من شواهد ما قدمناه آنفا أن بني إسرائيل لإذعانهم بأصالة المادة كانوا يحكمون في الله سبحانه بما للمادة من الأحكام، فكانوا يظنونه موجودا فعالا في المادة، مستعليا قاهرا عليه، و لكن بعين ما تفعل علة مادية و تستعلي و تقهر على معلول مادي، و هذا أمر لا يختص به اليهود، بل هو شأن كل من يذعن بأصالة المادة من المليين و غيرهم، فلا يحكمون في ساحة قدسه سبحانه إلا بما يعقلون من أوصاف الماديات من الحياة و العلم و القدرة و الاختيار و الإرادة و القضاء و الحكم و تدبير الأمر و إبرام القضاء إلى غير ذلك، و هذا داء لا ينجع معه دواء، و ما تغني الآيات و النذر عن قوم لا يعقلون، حتى آل الأمر إلى أن استهزأ بهم من لا مسكة له في دينهم الحق و لا قدم له في معارفهم الحقة، قائلا إن المسلمين يروون عن نبيهم أن الله خلق آدم على صورته و هم معاشر أمته يخلقون الله على صورة آدم، فهؤلاء يدور أمرهم بين أن يثبتوا لربهم جميع أحكام المادة، كما يفعله المشبهة من المسلمين أو من يتلو تلوهم و إن لم يعرف بالتشبيه، أو لا يفهموا شيئا من أوصاف جماله، فينفوا الجميع بإرجاعها إلى السلوب قائلا إن ما يبين أوصافه تعالى من الألفاظ إنما يقع عليه بالاشتراك اللفظي فلقولنا: إنه موجود ثابت عالم قادر حي معان لا نفهمها و لا نعقلها، فاللازم إرجاع معانيها إلى النفي، فالمعنى مثلا أنه ليس بمعدوم، و لا زائل، و لا جاهل، و لا عاجز و لا ميت فاعتبروا يا أولي الأبصار فهذا بالاستلزام زعم منهم بأنهم يؤمنون بما لا يدرون، و يعبدون ما لا يفهمون، و يدعون إلى ما لا يعقلون، و لا يعقله أحد من الناس، و قد كفتهم الدعوة الدينية مئونة هذه الأباطيل بالحق فحكم على العامة أن يحفظوا حقيقة القول و لب الحقيقة بين التشبيه و التنزيه فيقولوا: إن الله سبحانه شيء لا كالأشياء و إن له علما لا كعلومنا، و قدرة لا كقدرتنا، و حياة لا كحياتنا، مريد لا بهمامة، متكلم لا بشق فم، و على الخاصة أن يتدبروا في آياته و يتفقهوا في دينه فقد قال الله سبحانه: «هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب»: الزمر - 9، و الخاصة كما لا يساوون العامة في درجات المعرفة، كذلك لا يساوونهم في التكاليف المتوجهة إليهم، فهذا هو التعليم الديني النازل في حقهم لو أنهم كانوا يأخذون به.

قوله تعالى: و منهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني، الأمي من لا يقرأ و لا يكتب منسوب إلى الأم لأن عطوفة الأم و شفقتها كانت تمنعها أن ترسل ولدها إلى المعلم و تسلمه إلى تربيته، فكان يكتفي بتربية الأم، و الأماني جمع أمنية، و هي الأكاذيب، فمحصل المعنى أنهم بين من يقرأ الكتاب و يكتبه فيحرفه و بين من لا يقرأ و لا يكتب و لا يعلم من الكتاب إلا أكاذيب المحرفين.

قوله تعالى: فويل للذين يكتبون، الويل هو الهلكة و العذاب الشديد و الحزن و الخزي و الهوان و كل ما يحذره الإنسان أشد الحذر و الاشتراء هو الابتياع.

قوله تعالى: فويل لهم مما كتبت أيديهم و ويل لهم إلخ، الضمائر إما راجعة إلى بني إسرائيل أو لخصوص المحرفين منهم و لكل وجه و على الأول يثبت الويل للأميين منهم أيضا.

قوله تعالى: بلى من كسب سيئة و أحاطت به خطيئته إلخ، الخطيئة هي الحالة الحاصلة للنفس من كسب السيئة، و لذلك أتى بإحاطة الخطيئة بعد ذكر كسب السيئة و إحاطة الخطيئة توجب أن يكون الإنسان المحاط مقطوع الطريق إلى النجاة كان الهداية لإحاطة الخطيئة به لا تجد إليه سبيلا فهو من أصحاب النار مخلدا فيها و لو كان في قلبه شيء من الإيمان بالفعل، أو كان معه بعض ما لا يدفع الحق من الأخلاق و الملكات، كالإنصاف و الخضوع للحق، أو ما يشابههما لكانت الهداية و السعادة ممكنتي النفوذ إليه، فإحاطة الخطيئة لا تتحقق إلا بالشرك الذي قال تعالى فيه: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء»: النساء - 48، و من جهة أخرى إلا بالكفر و تكذيب الآيات كما قال سبحانه: «و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»: البقرة - 39، فكسب السيئة، و إحاطة الخطيئة كالكلمة الجامعة لما يوجب الخلود في النار.

و اعلم أن هاتين الآيتين قريبتا المعنى من قوله تعالى: «إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين إلخ»: البقرة - 62، و إنما الفرق أن الآيتين أعني قوله: بلى من كسب سيئة، في مقام بيان أن الملاك في السعادة إنما هو حقيقة الإيمان و العمل الصالح دون الدعاوي و الآيتان المتقدمتان أعني قوله: إن الذين آمنوا إلخ في مقام بيان أن الملاك فيها هو حقيقة الإيمان و العمل الصالح دون التسمي بالأسماء.

بحث روائي

في المجمع،: في قوله: و إذا لقوا الذين، الآية عن الباقر (عليه السلام) قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فنهى كبراؤهم عن ذلك و قالوا لا تخبروهم بما في ال


عدل سابقا من قبل حسن الذهبى في الجمعة ديسمبر 24, 2010 4:59 pm عدل 2 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالجمعة ديسمبر 24, 2010 4:17 pm

بيان

قوله تعالى: و إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، الآية في بديع نظمها تبتدىء أولا بالغيبة و تنتهي إلى الخطاب حيث تقول: ثم توليتم إلا قليلا منكم و أنتم معرضون، ثم إنها تذكر أولا الميثاق و هو أخذ للعهد، و لا يكون إلا بالقول، ثم تحكي ما أخذ عليه الميثاق فتبتدىء، فيه بالخبر، حيث تقول: لا تعبدون إلا الله، و تختتم بالإنشاء حيث تقول و قولوا للناس حسنا إلخ.

و لعل الوجه في ذلك كله أن الآيات المتعرضة لحال بني إسرائيل لما بدئت بالخطاب لمكان اشتمالها على التقريع و التوبيخ و جرت عليه كان سياق الكلام فيها الخطاب ثم لما تبدل الخطاب بالغيبة بعد قصة البقرة لنكتة داعية إليها كما مر حتى انتهت إلى هذه الآية، فبدئت أيضا بالغيبة لكن الميثاق حيث كان بالقول و بني على حكايته حكي بالخطاب فقيل: لا تعبدون إلا الله إلخ، و هو نهي في صورة الخبر.

و إنما فعل ذلك دلالة على شدة الاهتمام به، كان الناهي لا يشك في عدم تحقق ما نهى عنه في الخارج، و لا يرتاب في أن المكلف المأخوذ عليه الميثاق سوف لا ينتهي عن نهيه، فلا يوقع الفعل قطعا و كذا قوله: و بالوالدين إحسانا و ذي القربى و اليتامى و المساكين، كل ذلك أمر في صورة الخبر.

ثم إن الانتقال إلى الخطاب من قبل الحكاية أعطى فرصة للانتقال إلى أصل الكلام، و هو خطاب بني إسرائيل لمكان الاتصال في قوله: و أقيموا الصلوة و آتوا الزكوة ثم توليتم إلخ و انتظم بذلك السياق.

قوله تعالى: و بالوالدين إحسانا، أمر أو خبر بمعنى الأمر و التقدير و أحسنوا بالوالدين إحسانا، و ذي القربى و اليتامى و المساكين، أو التقدير: و تحسنون بالوالدين إحسانا، إلخ، و قد رتب موارد الإحسان أخذا من الأهم و الأقرب إلى المهم و الأبعد فقرابة الإنسان أقرب إليه من غيرهم، و الوالدان و هما الأصل الذي تتكي عليه و تقوم به شجرة وجوده أقرب من غيرهما من الأرحام، و في غير القرابة أيضا اليتامى أحق بالإحسان لصغرهم و فقدهم من يقوم بأمرهم من المساكين.

هذا و قوله: و اليتامى، اليتيم من مات أبوه، و لا يقال لمن ماتت أمه يتيم.

و قيل اليتيم في الإنسان إنما تكون من جهة الأب و في غير الإنسان من سائر الحيوان من جهة الأم و قوله تعالى: و المساكين، جمع مسكين و هو الفقير العادم الذليل.

و قوله تعالى: حسنا مصدر بمعنى الصفة جيء به للمبالغة.

و في بعض القراءات حسنا، بفتح الحاء و السين صفة مشبهة.

و المعنى قولوا للناس قولا حسنا، و هو كناية عن حسن المعاشرة مع الناس، كافرهم، و مؤمنهم و لا ينافي حكم القتال حتى تكون آية القتال ناسخة له لأن مورد القتال غير مورد المعاشرة فلا ينافي الأمر بحسن المعاشرة كما أن القول الخشن في مقام التأديب لا ينافي حسن المعاشرة.

قوله تعالى: لا تسفكون دماءكم، خبر في معنى الإنشاء نظير ما مر في قوله: لا تعبدون إلا الله، و السفك الصب.

قوله تعالى: تظاهرون عليهم، التظاهر هو التعارف، و الظهير العون مأخوذ من الظهر لأن العون يلي ظهر الإنسان.

قوله تعالى: و هو محرم عليكم إخراجهم، الضمير للشأن و القصة كقوله تعالى: قل هو الله أحد.

قوله تعالى: أ فتؤمنون ببعض الكتاب، أي ما هو الفرق بين الإخراج و الفدية حيث أخذتم بحكم الفدية و تركتم حكم الإخراج و هما جميعا في الكتاب، أ فتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض.

قوله تعالى: و قفينا التقفية الاتباع و إتيان الواحد قفا الواحد.

قوله تعالى: و آتينا عيسى بن مريم البينات، سيأتي الكلام فيه في سورة آل عمران.

قوله تعالى: و قالوا قلوبنا غلف جمع أغلف من الغلاف أي قلوبنا محفوظة تحت لفائف و أستار و حجب، فهو نظير قوله تعالى: «و قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه»: حم سجدة - 5، و هو كناية عن عدم إمكان استماع ما يدعون إليه.

بحث روائي

في الكافي، عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: و قولوا للناس حسنا الآية. قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم.

و في الكافي، أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: قولوا للناس و لا تقولوا إلا خيرا حتى تعلموا ما هو.

و في المعاني، عن الباقر (عليه السلام) قال: قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله عز و جل يبغض السباب اللعان الطعان على المؤمنين الفاحش المفحش السائل و يحب الحيي الحليم العفيف المتعفف.

أقول: و روى مثل الحديث في الكافي، بطريق آخر عن الصادق (عليه السلام) و كذا العياشي عنه (عليه السلام) و مثل الحديث الثاني في الكافي، عنه.

و مثل الحديث الثالث العياشي عن الباقر (عليه السلام) و كان هذه المعاني استفيدت من إطلاق الحسن عند القائل و إطلاقه من حيث المورد.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بخمسة أسياف فسيف على أهل الذمة. قال الله: و قولوا للناس حسنا، نزلت في أهل الذمة ثم نسختها أخرى قوله: «قاتلوا الذين لا يؤمنون» الحديث.

أقول: و هو منه (عليه السلام) أخذ بإطلاق آخر للقول و هو شموله للكلام و لمطلق التعرض.

يقال لا تقل له إلا حسنا و خيرا أي لا تتعرض له إلا بالخير و الحسن، و لا تمسسه إلا بالخير و الحسن.

هذا إن كان النسخ في قوله (عليه السلام) هو النسخ بالمعنى الأخص و هو المصطلح و يمكن أن يكون المراد هو النسخ بالمعنى الأعم، على ما سيجيء في قوله تعالى: «ما ننسخ من آية أو ننسها»: البقرة - 106، و هو الكثير في كلامهم (عليهم السلام) لتكون هذه الآية و آية القتال غير متحدتين موردا.

[color=red][/cإolor]وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (93)
[color=brown]بيان

قوله تعالى: و لما جاءهم إلخ، السياق يدل على أن هذا الكتاب هو القرآن.

و قوله: و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، على وقوع تعرض بهم من كفار العرب، و أنهم كانوا يستفتحون أي يطلبون الفتح عليهم ببعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هجرته و أن ذلك الاستفتاح قد استمر منهم قبل الهجرة، بحيث كان الكفار من العرب أيضا يعرفون ذلك منهم لمكان قوله: كانوا، و قوله: فلما جاءهم ما عرفوا، أي عرفوا أنه هو بانطباق ما كان عندهم من الأوصاف عليه كفروا.

قوله تعالى: بئسما اشتروا بيان لسبب كفرهم بعد العلم و أن السبب الوحيد في ذلك هو البغي و الحسد، فقوله بغيا، مفعول مطلق نوعي.

و قوله أن ينزل الله» متعلق به، و قوله تعالى: فباءوا بغضب على غضب، أي رجعوا بمصاحبته أو بتلبس غضب بسبب كفرهم بالقرآن على غضب بسبب كفرهم بالتوراة من قبل، و المعنى أنهم كانوا قبل البعثة و الهجرة ظهيرا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و مستفتحا به و بالكتاب النازل عليه، ثم لما نزل بهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزل عليه القرآن و عرفوا أنه هو الذي كانوا يستفتحون به و ينتظرون قدومه هاج بهم الحسد، و أخذهم الاستكبار، فكفروا و أنكروا ما كانوا يذكرونه كما كانوا يكفرون بالتوراة من قبل، فكان ذلك منهم كفرا على كفر.

قوله تعالى: و يكفرون بما وراءه، أي يظهرون الكفر بما وراءه، و إلا فهم بالذي أنزل إليهم و هو التوراة أيضا كافرون.

قوله تعالى: قل فلم تقتلون، الفاء للتفريع.

و السؤال متفرع على قولهم: نؤمن بما أنزل علينا، أي لو كان قولكم: نؤمن بما أنزل علينا حقا و صدقا فلم تقتلون أنبياء الله، و لم كفرتم بموسى باتخاذ العجل، و لم قلتم عند أخذ الميثاق و رفع الطور: سمعنا و عصينا.

قوله تعالى: و أشربوا في قلوبهم العجل، الإشراب هو السقي، و المراد بالعجل حب العجل، وضع موضعه للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل و به يتعلق قوله في قلوبهم، ففي الكلام استعارتان أو استعارة و مجاز.

قوله تعالى: قل بئسما يأمركم به إيمانكم، بمنزلة أخذ النتيجة مما أورد عليهم من قتل الأنبياء و الكفر بموسى، و الاستكبار بإعلام المعصية، و فيه معنى الاستهزاء بهم.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: «و لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق» الآية قال (عليه السلام): كانت اليهود تجد في كتبهم أن مهاجر محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بين عير و أحد فخرجوا يطلبون الموضع، فمروا بجبل يقال له حداد فقالوا حداد و أحد سواء، فتفرقوا عنده، فنزل بعضهم بتيماء، و بعضهم بفدك، و بعضهم بخيبر، فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمر بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه، و قال لهم أمر بكم ما بين عير و أحد، فقالوا له إذا مررت بهما فأذنا لهما، فلما توسط بهم أرض المدينة، قال ذلك عير و هذا أحد فنزلوا عن ظهر إبله و قالوا له قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت و كتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك و خيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا فكتبوا إليهم أنا قد استقرت بنا الدار و اتخذنا بها الأموال و ما أقربنا منكم فإذا كان ذلك أسرعنا إليكم، و اتخذوا بأرض المدينة أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم آمنهم فنزلوا عليه فقال لهم إني قد استطبت بلادكم و لا أراني إلا مقيما فيكم، فقالوا: ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي، و ليس ذلك لأحد حتى يكون ذلك، فقال لهم فإني مخلف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده و نصره فخلف حيين تراهم: الأوس و الخزرج، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم أما لو بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لنخرجنكم من ديارنا و أموالنا فلما بعث الله محمدا آمنت به الأنصار و كفرت به اليهود و هو قوله تعالى: و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا إلى آخر الآية.

و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس: أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس و الخزرج برسول الله قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب كفروا به و جحدوا ما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل و بشر بن أبي البراء و داود بن سلمة يا معشر اليهود اتقوا الله و أسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد و نحن أهل شرك و تخبرونا بأنه مبعوث و تصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير ما جاءنا بشيء نعرفه و ما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله: و لما جاءهم كتاب من عند الله الآية.

و في الدر المنثور، أيضا أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء و الضحاك عن ابن عباس قال: كانت يهود بني قريظة و النضير من قبل أن يبعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يستفتحون الله، يدعون على الذين كفروا و يقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم فينصرون فلما جاءهم ما عرفوا يريد محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يشكوا فيه كفروا به.

أقول: و روى قريبا من هذين المعنيين بطرق أخرى أيضا.

قال بعض المفسرين بعد الإشارة إلى الرواية الأخيرة و نظائرها: إنها على ضعف رواتها و مخالفتها للروايات المنقولة شاذة المعنى بجعل الاستفتاح دعاء بشخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و في بعض بحقه و هذا غير مشروع و لا حق لأحد على الله فيدعى به انتهى.

و هذا ناش من عدم التأمل في معنى الحق و في معنى القسم.

بيانه: أن القسم هو تقييد الخبر أو الإنشاء بشيء ذي شرافة و كرامة من حيث إنه شريف أو كريم فتبطل شرافته أو كرامته ببطلان النسبة الكلامية، فإن كان خبرا فببطلان صدقه و إن كان إنشاء أمرا أو نهيا فبعدم امتثال التكليف.

فإذا قلت: لعمري إن زيدا قائم فقد قيدت صدق كلامك بشرافة عمرك و حياتك و علقتها عليه بحيث لو كان حديثك كاذبا كان عمرك فاقدا للشرافة، و كذا إذا قلت أفعل كذا و حياتي أو قلت أقسمك بحياتي أن تفعل كذا فقد قيدت أمرك بشرف حياتك بحيث لو لم يأتمر مخاطبك لذهب بشرف حياتك و قيمة عمرك.

و من هنا يظهر أولا: أن القسم أعلى مراتب التأكيد في الكلام كما ذكره أهل الأدب.

و ثانيا: أن المقسم به يجب أن يكون أشرف من متعلقه فلا معنى لتأكيد الكلام بما هو دونه في الشرف و الكرامة.

و قد أقسم الله تعالى في كتابه باسم نفسه و وصفه كقوله: «و الله ربنا» و كقوله: «فوربك لنسألنهم» و قوله: «فبعزتك لأغوينهم» و أقسم بنبيه و ملائكته و كتبه و أقسم بمخلوقاته كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الليل و النهار و اليوم و الجبال و البحار و البلاد و الإنسان و الشجر و التين و الزيتون.

و ليس إلا أن لها شرافة حقة بتشريف الله و كرامة على الله من حيث إن كلا منها إما ذو صفة من أوصافه المقدسة الكريمة بكرامة ذاته المتعالية أو فعل منسوب إلى منبع البهاء و القدس - و الكل شريف بشرف ذاته الشريفة - فما المانع للداعي منا إذا سأل الله شيئا أن يسأله بشيء منها من حيث إن الله سبحانه شرفه و أقسم به؟ و ما الذي هون الأمر في خصوص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أخرجه من هذه الكلية و استثناء من هذه الجملة؟.

و لعمري ليس رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأهون عند الله من تينة عراقية، أو زيتونة شامية، و قد أقسم الله بشخصه الكريم فقال: «لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون»: الحجر - 72.

ثم إن الحق - و يقابله الباطل - هو الثابت الواقع في الخارج من حيث إنه كذلك كالأرض و الإنسان و كل أمر ثابت في حد نفسه و منه الحق المالي و سائر الحقوق الاجتماعية حيث إنها ثابتة بنظر الاجتماع و قد أبطل القرآن كل ما يدعى حقا إلا ما حققه الله و أثبته سواء في الإيجاد أو في التشريع فالحق في عالم التشريع و ظرف الاجتماع الديني هو ما جعله الله حقا كالحقوق المالية و حقوق الإخوان و الوالدين على الولد و ليس هو سبحانه محكوما بحكم أحد فيجعل عليه تعالى ما يلزم به كما ربما يظهر من بعض الاستدلالات الاعتزالية غير أنه من الممكن أن يجعل على نفسه حقا، جعلا بحسب لسان التشريع فيكون حقا لغيره عليه تعالى كما قال تعالى: «و كان حقا علينا ننجي المؤمنين»: يونس - 103، و قال تعالى: «و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. و إن جندنا لهم الغالبون»: الصافات - 171، 172، 173.

و النصر كما ترى مطلق، غير مقيد بشيء فالإنجاء حق للمؤمنين على الله، و النصر حق للمرسل على الله تعالى و قد شرفه الله تعالى حيث جعله له فكان فعلا منه منسوبا إليه مشرفا به فلا مانع من القسم به عليه تعالى و هو الجاعل المشرف للحق و المقسم بكل أمر شريف.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن لا مانع من إقسام الله تعالى بنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بحق نبيه و كذا إقسامه بأوليائه الطاهرين أو بحقهم و قد جعل لهم على نفسه حقا أن ينصرهم في صراط السعادة بكل نصر مرتبط بها كما عرفت.

و أما قول القائل: ليس لأحد على الله حق فكلام واه.

نعم ليس على الله حق يثبته عليه غيره فيكون محكوما بحكم غيره مقهورا بقهر سواه.

و لا كلام لأحد في ذلك و لا أن الداعي يدعوه بحق ألزمه به غيره بل بما جعله هو تعالى بوعده الذي لا يخلف هذا.

[color=red]قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ (99) [/cإolor]

بيان

قوله تعالى: قل إن كانت لكم إلخ، لما كان قولهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة: و قولهم نؤمن بما أنزل علينا في جواب ما قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله يدلان بالالتزام على دعواهم أنهم ناجون في الآخرة دون غيرهم و أن نجاتهم و سعادتهم فيها غير مشوبة بهلاك و شقاء لأنهم ليسوا بزعمهم بمعذبين إلا أياما معدودة و هي أيام عبادتهم للعجل، قابلهم الله تعالى خطابا بما يظهر به كذبهم في دعواهم و أنهم يعلمون ذلك من غير تردد و ارتياب فقال تعالى لنبيه: «قل إن كانت لكم الدار الآخرة» أي سعادة تلك الدار فإن من ملك دارا فإنما يتصرف فيها بما يستحسنه و يحبه و يحل منها بأجمل ما يمكن و أسعده و قوله «عند الله» أي مستقرا عنده تعالى و بحكمه و إذنه، فهو كقوله تعالى: «إن الدين عند الله الإسلام»: آل عمران - 19 و قوله تعالى: «خالصة» أي غير مشوبة بما تكرهونه من عذاب أو هوان لزعمكم أنكم لا تعذبون فيها إلا أياما معدودة، قوله تعالى: «من دون الناس» و ذلك لزعمكم بطلان كل دين إلا دينكم، و قوله تعالى: «فتمنوا الموت إن كنتم صادقين» و هذا كقوله تعالى: «قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين»: الجمعة - 6 و هذه مؤاخذة بلازم فطري بين الأثر في الخارج بحيث لا يقع فيه أدنى الشك و هو أن الإنسان بل كل موجود ذي شعور إذا خير بين الراحة و التعب اختار الراحة من غير تردد و تذبذب و إذا خير بين حياة و عيشة مكدرة مشوبة و أخرى خالصة صافية اختار الخالصة الهنيئة قطعا و لو فرض ابتلاؤه بما كان يميل عنه إلى غيره من حياة شقية ردية أو عيشة منغصة لم يزل يتمنى الأخرى الطيبة الهنيئة فلا ينفك عن التحسر له في قلبه و عن ذكره في لسانه و عن السعي إليه في عمله.

فلو كانوا صادقين في دعواهم أن السعادة الخالصة الأخروية لهم دون غيرهم من الناس وجب أن يتمنوه جنانا و لسانا و أركانا و لن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم من قتل الأنبياء و الكفر بموسى و نقض المواثيق و الله عليم بالظالمين.

قوله تعالى: بما قدمت أيديهم كناية عن العمل فإن معظم العمل عند الحس يقع بواسطة اليد فيقدم بعد ذلك إلى من ينتفع به أو يطلبه ففيه عنايتان نسبة التقديم إلى الأيدي دون أصحاب الأيدي و عد كل فعل عملا للأيدي.

و بالجملة أعمال الإنسان و خاصة ما يستمر صدوره منه أحسن دليل على ما طوى عليه ضميره و ارتكز في باطنه و الأعمال الطالحة و الأفعال الخبيثة لا يكشف إلا عن طوية خبيثة تأبى أن تميل إلى لقاء الله و الحلول في دار أوليائه.

قوله تعالى: و لتجدنهم أحرص الناس على حياة، كالدليل المبين لقوله تعالى: و لن يتمنوه أبدا أي و يشهد على أنهم لن يتمنوا الموت، إنهم أحرص الناس على هذه الحياة الدنيا التي لا حاجب و لا مانع عن تمني الدار الآخرة إلا الحرص عليها و الإخلاد إليها، و التنكير في قوله تعالى: على حيوة للتحقير كما قال تعالى: «و ما هذه الحيوة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون»:. العنكبوت - 64.

قوله تعالى: و من الذين أشركوا الظاهر أنه عطف على الناس و المعنى و لتجدنهم أحرص من الذين أشركوا.

قوله تعالى: و ما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، الظاهر أن ما نافية و ضمير هو إما للشأن و القصة و أن يعمر مبتدأ خبره قوله: بمزحزحه أي بمبعده، و إما راجع إلى ما يدل عليه قوله: يود أحدهم، أي و ما الذي يوده بمزحزحه من العذاب.

و قوله تعالى: أن يعمر بيان له و معنى الآية و لن يتمنوا الموت و أقسم لتجدنهم أحرص الناس على هذه الحياة الحقيرة الردية الصارفة عن تلك الحياة السعيدة الطيبة بل تجدهم أحرص على الحياة من الذين أشركوا الذين لا يرون بعثا و لا نشورا يود أحدهم لو يعمر أطول العمر و ليس أطول العمر بمبعده من العذاب لأن العمر و هو عمر بالأخرة محدود منته إلى أمد و أجل.

قوله تعالى: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، أي أطول العمر و أكثره، فالألف كناية عن الكثرة و هو آخر مراتب العدد بحسب الوضع الإفرادي عند العرب و الزائد عليه يعبر عنه بالتكرير و التركيب كعشرة آلاف و مائة ألف و ألف ألف.

قوله تعالى: و الله بصير بما يعملون، البصير من أسمائه الحسنى و معناه العلم بالمبصرات فهو من شعب اسم العليم.

قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك إلخ.

السياق يدل على أن الآية نزلت جوابا عما قالته اليهود و أنهم تابوا و استنكفوا عن الإيمان بما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و عللوه بأنهم عدو لجبريل النازل بالوحي إليه.

و الشاهد على ذلك أن الله سبحانه يجيبهم في القرآن و في جبريل معا في الآيتين و ما ورد من شأن النزول يؤيد ذلك فأجاب عن قولهم: إنا لا نؤمن بالقرآن لعداوتنا لجبريل النازل به أولا: أن جبريل إنما نزل به على قلبك بإذن الله لا من عند نفسه فعداوتهم لجبريل لا ينبغي أن يوجب إعراضهم عن كلام نازل بإذن الله، و ثانيا: أن القرآن مصدق لما في أيديهم من الكتاب الحق و لا معنى للإيمان بأمر و الكفر بما يصدقه.

و ثالثا.

أن القرآن هدى للمؤمنين به، و رابعا أنه بشرى و كيف يصح لعاقل أن ينحرف عن الهداية و يغمض عن البشرى و لو كان الآتي بذلك عدوا له.

و أجاب عن قولهم: إنا عدو جبريل أن جبريل ملك من الملائكة لا شأن له إلا امتثال ما أمره به الله سبحانه كميكال و سائر الملائكة و هم عباد مكرمون لا يعصون الله فيما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون، و كذلك رسل الله لا شأن لهم إلا بالله و من الله سبحانه فبغضهم و استعدائهم بغض و استعداء لله و من كان عدوا لله و ملائكته و رسله و جبريل و ميكال فإن الله عدو لهم، و إلى هذين الجوابين تشير الآيتان.

قوله تعالى: فإنه نزله على قلبك، فيه التفات من التكلم إلى الخطاب و كان الظاهر أن يقال على قلبي، لكن بدل من الخطاب للدلالة على أن القرآن كما لا شأن في إنزاله لجبريل و إنما هو مأمور مطيع كذلك لا شأن في تلقيه و تبليغه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن قلبه وعاء للوحي لا يملك منه شيئا و هو مأمور بالتبليغ.

و اعلم أن هذه الآيات في أواخرها، أنواع الالتفات و إن كان الأساس فيها الخطاب لبني إسرائيل، غير أن الخطاب إذا كان خطاب لوم و توبيخ و طال الكلام صار المقام مقام استملال للحديث مع المخاطب و استحقار لشأنه فكان من الحري للمتكلم البليغ الإعراض عن المخاطبة تارة بعد أخرى بالالتفات بعد الالتفات للدلالة على أنه لا يرضى بخطابهم لردائة سمعهم و خسة نفوسهم و لا يرضى بترك خطابهم إظهارا لحق القضاء عليهم.

قوله تعالى: عدو للكافرين، فيه وضع الظاهر موضع المضمر و النكتة فيه الدلالة على علة الحكم كأنه قيل: فإن الله عدو لهم لأنهم كافرون و الله عدو للكافرين.

قوله تعالى: و ما يكفر بها إلا الفاسقون، فيه دلالة على علة الكفر و أنه الفسق فهم لكفرهم فاسقون و لا يبعد أن يكون اللام في قوله: الفاسقون للعهد الذكري و يكون ذلك إشارة إلى ما مر في أوائل السورة من قوله تعالى: و ما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه الآية.

و أما الكلام في جبريل و كيفية تنزيله القرآن على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كذا الكلام في ميكال و الملائكة فسيأتي فيما يناسبه من المحل إن شاء الله.

بحث روائي

في المجمع،: في قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل الآيتان، قال ابن عباس كان سبب نزول الآية ما روي أن ابن صوريا و جماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة سألوه فقالوا: يا محمد كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان. فقال تنام عيناي و قلبي يقظان. قالوا: صدقت يا محمد فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة؟ فقال أما العظام و العصب و العروق فمن الرجل و أما اللحم و الدم و الظفر و الشعر فمن المرأة. قالوا: صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه و ليس له من شبه أخواله شيء؟ أو يشبه أخواله و ليس فيه من شبه أعمامه شيء؟ فقال أيهما علا ماؤه كان الشبه له قالوا صدقت يا محمد فأخبرنا عن ربك ما هو؟ فأنزل الله سبحانه: قل هو الله أحد إلى آخر السورة. فقال له ابن صوريا خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك و اتبعتك. أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك؟ قال: فقال جبرئيل. قال: ذاك عدونا ينزل بالقتال و الشدة و الحرب و ميكائيل ينزل باليسر و الرخاء فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك.

أقول: قوله تنام عيناي و قلبي يقظان، قد استفاض الحديث من العامة و الخاصة أنه كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنام عينه و لا ينام قلبه و معناه أنه كان لا يغفل بالنوم عن نفسه فكان و هو في النوم يعلم أنه نائم و أن ما يراه رؤيا يراها ليس باليقظة، و هذا أمر بما يتفق للصالحين أحيانا عند طهارة نفوسهم و اشتغالها بذكر مقام ربهم و ذلك أن إشراف النفس على مقام ربها لا يدعها غافلة عما لها من طور الحياة الدنيوية و نحو تعلقها بربها.

و هذا نحو مشاهدة يبين للإنسان أنه في عالم الحياة الدنيا على حال النوم سواء معه النوم الذي يراه الناس نوما فقط و كذا اليقظة التي يراها الناس يقظة و أن الناس و هم معتكفون على باب الحس مخلدون إلى أرض الطبيعة، رقود و إن عدوا أنفسهم أيقاظا.

فعن علي (عليه السلام): الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا الحديث.

و سيأتي زيادة استيفاء لهذا البحث و كذا الكلام في سائر فقرات هذا الحديث في مواضع مناسبة من هذا الكتاب إن شاء الله.

[color=red]أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) [/cإolor]
بيان

قوله تعالى: نبذه، النبذ الطرح.

قوله تعالى: و لما جاءهم رسول، المراد به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا كل رسول كان يأتيهم مصدقا لما معهم، لعدم دلالة قوله: و لما جاءهم على الاستمرار بل إنما يدل على الدفعة، و الآية تشير إلى مخالفتهم للحق من حيث كتمانهم بشارة التوراة و عدم إيمانهم بمن يصدق ما معهم.
[color=red]وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (103) [/cإolor]
بيان

قوله تعالى: و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك، إلخ، قد اختلف المفسرون في تفسير الآية اختلافا عجيبا لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القرآن المجيد، فاختلفوا في مرجع ضمير قوله: اتبعوا، أ هم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان، أو الذين في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الجميع؟ و اختلفوا في قوله: تتلوا، هل هو بمعنى تتبع الشياطين و تعمل به أو بمعنى تقرأ، أو بمعنى تكذب؟ و اختلفوا في قوله: الشياطين، فقيل هم شياطين الجن و قيل شياطين الإنس و قيل هما معا، و اختلفوا في قوله: على ملك سليمان، فقيل معناه في ملك سليمان، و قيل معناه في عهد ملك سليمان و قيل معناه على ملك سليمان بحفظ ظاهر الاستعلاء في معنى على، و قيل معناه على عهد ملك سليمان، و اختلفوا في قوله: و لكن الشياطين كفروا، فقيل إنهم كفروا بما استخرجوه من السحر إلى الناس و قيل إنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر، و قيل إنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر، و اختلفوا في قوله: يعلمون الناس السحر، فقيل إنهم ألقوا السحر إليهم فتعلموه، و قيل إنهم دلوا الناس على استخراج السحر و كان مدفونا تحت كرسي سليمان فاستخرجوه و تعلموه، و اختلفوا في قوله: و ما أنزل على الملكين فقيل ما موصولة و العطف على قوله: ما تتلوا، و قيل ما موصولة و العطف على قوله: السحر أي يعلمونهم ما أنزل على الملكين، و قيل ما نافية و الواو استينافية أي و لم ينزل على الملكين سحر كما يدعيه اليهود، و اختلفوا في معنى الإنزال فقيل إنزال من السماء و قيل بل من نجود الأرض و أعاليها، و اختلفوا في قوله: الملكين، فقيل كانا من ملائكة السماء، و قيل بل كانا إنسانين ملكين بكسر اللام إن قرأناه، بكسر اللام كما قرىء كذلك في الشواذ، أو ملكين بفتح اللام أي صالحين، أو متظاهرين بالصلاح، إن قرأناه على ما قرأ به المشهور و اختلفوا في قوله: ببابل، فقيل هي بابل العراق و قيل بابل دماوند، و قيل، من نصيبين إلى رأس العين، و اختلفوا في قوله: و ما يعلمان، فقيل علم بمعناه الظاهر، و قيل علم بمعنى أعلم، و اختلفوا في قوله: فلا تكفر، فقيل، لا تكفر بالعمل بالسحر، و قيل لا تكفر بتعلمه، و قيل بهما معا، و اختلفوا في قوله: فيتعلمون منهما، فقيل أي من هاروت و ماروت، و قيل أي من السحر و الكفر، و قيل بدلا مما علماه الملكان بالنهي إلى فعله، و اختلفوا في قوله: ما يفرقون به بين المرء و زوجه، فقيل أي يوجدون به حبا و بغضا بينهما، و قيل إنهم يغرون أحد الزوجين و يحملونه على الكفر و الشرك فيفرق بينهما اختلاف الملة و النحلة و قيل إنهم يسعون بينهما بالنميمة و الوشاية فيئول إلى الفرقة، فهذه نبذة من الاختلاف في تفسير كلمات ما يشتمل على القصة من الآية و جمله، و هناك اختلافات أخر في الخارج من القصة في ذيل الآية و في نفس القصة، و هل هي قصة واقعة أو بيان على سبيل التمثيل؟ أو غير ذلك؟ و إذا ضربت بعض الأرقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر، ارتقى الاحتمالات إلى كمية عجيبة و هي ما يقرب من ألف ألف و مائتين و ستين ألف احتمال!.

و هذا لعمر الله من عجائب نظم القرآن تتردد الآية بين مذاهب و احتمالات تدهش العقول و تحير الألباب، و الكلام بعد متك على أريكة حسنة متجمل في أجمل جماله متحل بحلي بلاغته و فصاحته و سيمر بك نظيرة هذه الآية و هي قوله تعالى: «أ فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة»: هود - 17.

و الذي ينبغي أن يقال: أن الآية بسياقها تتعرض لشأن آخر من شئون اليهود و هو تداول السحر بينهم، و أنهم كانوا يستندون في أصله إلى قصة معروفة أو قصتين معروفتين عندهم فيها ذكر من أمر سليمان النبي و الملكين ببابل هاروت و ماروت، فالكلام معطوف على ما عندهم من القصة التي يزعمونها إلا أن اليهود كما يذكره عنهم القرآن أهل تحريف و تغيير في المعارف و الحقائق فلا يؤمنون و لا يؤمن من أمرهم أن يأتوا بالقصص التاريخية محرفة مغيرة على ما هو دأبهم في المعارف يميلون كل حين إلى ما يناسبه من منافعهم في القول و الفعل و فيما يلوح من مطاوي جمل الآية كفاية، و كيف كان فيلوح من الآية أن اليهود كانوا يتناولون بينهم السحر ينسبونه إلى سليمان زعما منهم أن سليمان (عليه السلام) إنما ملك الملك و سخر الجن و الإنس و الوحش و الطير، و أتى بغرائب الأمور و خوارقها بالسحر الذي هو بعض ما في أيديهم، و ينسبون بعضه الآخر إلى الملكين ببابل هاروت و ماروت فرد عليهم القرآن بأن سليمان (عليه السلام) لم يكن يعمل بالسحر، كيف و السحر كفر بالله و تصرف في الكون على خلاف ما وضع الله العادة عليه و أظهره على خيال الموجودات الحية و حواسها؟ و لم يكفر سليمان (عليه السلام) و هو نبي معصوم، و هو قوله تعالى: «و ما كفر سليمان و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر» و قوله تعالى: «و لقد علموا لمن اشتريه ما له في الآخرة من خلاق» فسليمان (عليه السلام) أعلى كعبا و أقدس ساحة من أن ينسب إليه السحر و الكفر و قد استعظم الله قدره في مواضع من كلامه في عدة من السور المكية النازلة قبل هذه السورة كسورة الأنعام و الأنبياء و النمل و سورة ص و فيها أنه كان عبدا صالحا و نبيا مرسلا آتاه الله العلم و الحكمة و وهب له من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده فلم يكن بساحر بل هو من القصص الخرافية و الأساطير التي وضعتها الشياطين و تلوها و قرءوها على أوليائهم من الإنس و كفروا بإضلالهم الناس بتعليم السحر.

و رد عليهم القرآن في الملكين ببال هاروت و ماروت بأنه و إن أنزل عليهما ذلك و لا ضير في ذلك لأنه فتنة و امتحان إلهي كما ألهم قلوب بني آدم وجوه الشر و الفساد فتنة و امتحانا و هو من القدر، فهما و إن أنزل عليهما السحر إلا أنهما ما كانا يعلمان من أحد إلا و يقولان له إنما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال ما تتعلمه من السحر في غير مورده كإبطال السحر و الكشف عن بغي أهله و هم مع ذلك يتعلمون منهما ما يفسدون به أصلح ما وضعه الله في الطبيعة و العادة، فيفرقون به بين المرء و زوجه ابتغاء للشر و الفساد و يتعلمون ما يضرهم و لا ينفعهم، فقوله تعالى: و اتبعوا أي اتبعت اليهود الذين بعد عهد سليمان بتوارث الخلف عن السلف ما تتلوا، أي تضع و تكذب الشياطين من الجن على ملك سليمان و الدليل على أن تتلوا بمعنى تكذب تعديه بعلى و على أن الشياطين هم الجن كون هؤلاء تحت تسخير سليمان و معذبين بعذابه، و بذلك كان (عليه السلام) يحبسهم عن الإفساد، قال تعالى: «و من الشياطين من يغوصون له و يعملون عملا دون ذلك و كنا لهم حافظين»: الأنبياء - 82، و قال تعالى: «فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين»: سبأ - 14.

قوله تعالى: و ما كفر سليمان، أي و الحال أن سليمان لم يسحر حتى يكفر و لكن الشياطين كفروا، و الحال أنهم يضلون الناس و يعلمونهم السحر.

قوله تعالى: و ما أنزل، أي و اتبعت اليهود ما أنزل بالإخطار و الإلهام على الملكين ببابل هاروت و ماروت، و الحال أنهما ما يعلمان السحر من أحد حتى يحذراه العمل به و يقولا إنما نحن فتنة لكم و امتحان تمتحنون بنا بما نعلمكم فلا تكفر باستعماله.

قوله تعالى: فيتعلمون منهما، أي من الملكين و هما هاروت و ماروت، ما يفرقون به أي سحرا يفرقون بعمله و تأثيره بين المرء و زوجه.

قوله تعالى: و ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، دفع لما يسبق إلى الوهم أنهم بذلك يفسدون أمر الصنع و التكوين و يسبقون تقدير الله و يبطلون أمره فدفعه بأن السحر نفسه من القدر لا يؤثر إلا بإذن الله فما هم بمعجزين، و إنما قدم هذه الجملة على قوله: و يتعلمون ما يضرهم و لا ينفعهم، لأن هذه الجملة أعني: و يتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء و زوجه، وحدها مشتملة على ذكر التأثير، فأردفت بأن هذا التأثير بإذن الله.

قوله تعالى: و لقد علموا لمن اشتريه ما له في الآخرة من خلاق، علموا ذلك بعقولهم لأن العقل لا يرتاب في أن السحر أشأم منابع الفساد في الاجتماع الإنساني و علموا ذلك أيضا من قول موسى فإنه القائل: «و لا يفلح الساحر حيث أتى»: طه - 69.

قوله تعالى: و لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، أي إنهم مع كونهم عالمين بكونه شرا لهم مفسدا لآخرتهم غير عالمين بذلك حيث لم يعملوا بما علموا فإن العلم إذا لم يهد حامله إلى مستقيم الصراط كان ضلالا و جهلا لا علما، قال تعالى: «أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم»: الجاثية - 23.

فهؤلاء مع علمهم بالأمر ينبغي أن يتمنى المتمني لهم العلم و الهداية.

قوله تعالى: و لو أنهم آمنوا و اتقوا، إلخ أي اتبعوا الإيمان و التقوى، بدل اتباع أساطير الشياطين، و الكفر بالسحر، و فيه دليل على أن الكفر بالسحر كفر في مرتبة العمل كترك الزكاة، لا كفر في مرتبة الاعتقاد، و لو كان السحر كفرا في الاعتقاد لقال تعالى: و لو أنهم آمنوا لمثوبة، إلخ، و اقتصر على الإيمان و لم يذكر التقوى فاليهود آمنوا و لكن لما لم يتقوا و لم يرعوا محارم الله، لم يعبأ بإيمانهم فكانوا كافرين.

قوله تعالى: لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون، أي من المثوبات و المنافع التي يرومونها بالسحر و يقتنونها بالكفر هذا.

بحث روائي

في تفسير العياشي، و القمي،: في قوله تعالى: و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان عن الباقر (عليه السلام) في حديث: فلما هلك سليمان وضع إبليس السحر و كتبه في كتاب ثم طواه و كتب على ظهره، هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا و كذا فليعمل كذا و كذا ثم دفنه تحت سريره ثم استتاره لهم فقرأه فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا، و قال المؤمنون: بل هو عبد الله و نبيه، فقال الله جل ذكره: و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان.

أقول: إسناد الوضع و الكتابة و القراءة إلى إبليس لا ينافي استنادها إلى سائر الشياطين من الجن و الإنس لانتهاء الشر كله إليه و انتشاره منه لعنه الله، إلى أوليائه بالوحي و الوسوسة و ذلك شائع في لسان الأخبار.

و ظاهر الحديث أن كلمة تتلوه من التلاوة بمعنى القراءة و هذا لا ينافي ما استظهرناه في البيان السابق: أن تتلو بمعنى يكذب لأن إفادة معنى الكذب من جهة التضمين أو ما يشبهه، و تقدير قوله: تتلوا الشياطين على ملك سليمان يقرءونه كاذبين على ملك سليمان و الأصل في معنى تلا يتلو رجوعه إلى معنى ولى يلي ولاية و هو أن يملك الشيء من حيث الترتيب و وقوع جزء منه عقيب جزء آخر، و سيأتي الكلام فيه في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: «إنما وليكم الله و رسوله»: المائدة - 58.

و في العيون،: في حديث الرضا (عليه السلام) مع المأمون، و أما هاروت و ماروت فكانا ملكين علما الناس السحر ليتحرزوا به عن سحر السحرة و يبطلوا كيدهم و ما علما أحدا من ذلك شيئا إلا قالا له إنما نحن فتنة فلا تكفر فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز عنه و جعلوا يفرقون بما يعملونه بين المرء و زوجه، قال الله تعالى: و ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله. و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس، قال: كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من شأنه أعطى الجرادة و هي امرأته خاتمه فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذلك اليوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأخذه و لبسه فلما لبسه دانت له شياطين الجن و الإنس فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي فقالت كذبت لست سليمان فعرف أنه بلاء ابتلي به فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر و كفر ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ثم أخرجوها فقرءوها على الناس فقالوا إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب فبرىء الناس من سليمان و أكفروه حتى بعث الله محمدا و أنزل عليه: و ما كفر سليمان و لكن الشياطين كفروا.

أقول: و القصة مروية في روايات أخرى و هي قصة طويلة من جملة القصص الواردة في عثرات الأنبياء مذكورة في جملتها.

و في الدر المنثور، أيضا و أخرج سعيد بن جرير و الخطيب في تاريخه عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر فلما كان في آخر الليل، قال يا نافع: انظر هل طلعت الحمراء؟ قلت لا، مرتين أو ثلاثا ثم قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبا بها و لا أهلا. قلت: سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع. قال ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: إن الملائكة قالت: يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا و الذنوب؟ قال: إني أبليتهم و عافيتهم. قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك، قال: فاختاروا ملكين منكم، فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت و ماروت فنزلا، فألقى الله عليهما الشبق. قلت: و ما الشبق؟ قال: الشهوة فجاءت امرأة يقال لها الزهرة فوقعت في قلوبهما فجعل كل واحد منهما يخفي عن صاحبه ما في نفسه ثم قال أحدهما للآخر هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي؟ قال: نعم، فطالباها لأنفسهما فقالت لا أمكنكما حتى تعلماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء و تهبطان فأبيا ثم سألاها أيضا فأبت. ففعلا فلما استطيرت طمسها الله كوكبا و قطع أجنحتهما ثم سألا التوبة من ربهما فخيرهما فقال إن شئتما رددتكما إلى ما كنتما عليه، فإذا كان يوم القيامة عذبتكما، و إن شئتما عذبتكما في الدنيا فإذا كان يوم القيامة رددتكما إلى ما كنتما عليه، فقال أحدهما لصاحبه إن عذاب الدنيا ينقطع و يزول فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة فأوحى الله إليهما أن ائتيا بابل فانطلقا إلى بابل فخسف بهما فهما منكوسان بين السماء و الأرض معذبان إلى يوم القيامة.

أقول: و قد روي قريب منه في بعض كتب الشيعة مرفوعا عن الباقر (عليه السلام) و روى السيوطي فيما يقرب من هذا المعنى في أمر هاروت و ماروت و الزهرة نيفا و عشرين حديثا، صرحوا بصحة طريق بعضها.

و في منتهى إسنادها عدة من الصحابة كابن عباس و ابن مسعود و علي و أبي الدرداء و عمر و عائشة و ابن عمر.

و هذه قصة خرافية تنسب إلى الملائكة المكرمين الذين نص القرآن على نزاهة ساحتهم و طهارة وجودهم عن الشرك و المعصية أغلظ الشرك و أقبح المعصية، و هو: عبادة الصنم و القتل و الزنا و شرب الخمر و تنسب إلى كوكبة الزهرة أنها امرأة زانية مسخت - و أنها أضحوكة - و هي كوكبة سماوية طاهرة في طليعتها و صنعها أقسم الله تعالى عليها في قوله: «الجوار الكنس»: التكوير - 16 على أن علم الفلك أظهر اليوم هويتها و كشف عن عنصرها و كميتها و كيفيتها و سائر شئونها.

فهذه القصة كالتي قبلها المذكورة في الرواية السابقة تطابق ما عند اليهود على ما قيل: من قصة هاروت و ماروت، تلك القصة الخرافية التي تشبه خرافات يونان في الكواكب و النجوم.

و من هاهنا يظهر للباحث المتأمل: أن هذه الأحاديث كغيرها الواردة في مطاعن الأنبياء و عثراتهم لا تخلو من دس دسته اليهود فيها و تكشف عن تسربهم الدقيق و نفوذهم العميق بين أصحاب الحديث في الصدر الأول فقد لعبوا في رواياتهم بكل ما شاءوا من الدس و الخلط و أعانهم على ذلك قوم آخرون.

لكن الله عز اسمه جعل كتابه في محفظة إلهية من هوسات المتهوسين من أعدائه كلما استرق السمع شيطان من شياطينهم أتبعه بشهاب مبين، فقال عز من قائل: «إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون»: الحجر - 9، و قال «و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و من خلفه تنزيل من حكيم حميد»: فصلت - 42 و قال: «و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا»: إسراء - 82 فأطلق القول و لم يقيد، فما من خلط أو دس إلا و يدفعه القرآن و يظهر خسار صاحبه بالكشف عن حاله و إقراء صفحة تاريخه، و قال رسول الله فيما رواه الفريقان: ما وافق كتاب الله فخذوه و ما خالفه فاتركوه.

فأعطى ميزانا كليا يوزن به المعارف المنقولة منه و من أوليائه، و بالجملة فبالقرآن يدفع الباطل عن ساحة الحق ثم لا يلبث أن يظهر بطلانه و يمات عن القلوب الحية كما أميت عن الأعيان.

قال تعالى: «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه»: الأنبياء - 18، و قال تعالى: «و يريد الله أن يحق الحق بكلماته»: الأنفال - 7، و قال تعالى: «ليحق الحق و يبطل الباطل و لو كره المجرمون»: الأنفال - 8، و لا معنى لإحقاق الحق و لا لإبطال الباطل إلا إظهار صفتهما.

و بعض الناس و خاصة من أهل عصرنا من المتوغلين في الأبحاث المادية و المرعوبين من المدنية الغربية الحديثة استفادوا من هذه الحقيقة المذكورة سوء و أخذوا بطرح جميع ما تضمنته سنة رسول الله و اشتملت عليه جوامع الروايات فسلكوا في ذلك مسلك التفريط، قبال ما سلكه بعض الأخباريين و أصحاب الحديث و الحرورية و غيرهم مسلك الإفراط و الأخذ بكل رواية منقولة كيف كانت.

و كما أن القبول المطلق تكذيب للموازين المنصوبة في الدين لتميز الحق من الباطل و نسبة الباطل و اللغو من القول إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك الطرح الكلي تكذيب لها و إلغاء و إبطال ل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 5:05 am

كذلك الطرح الكلي تكذيب لها و إلغاء و إبطال للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و هو القائل جل ثناؤه: «ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا»: الحشر - 7 و قوله تعالى: «و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله»: النساء - 64، إذ لو لم يكن لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجية أو لما ينقل من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلينا معاشر الغائبين في عصره أو الموجودين بعد ارتحاله من الدنيا حجية لما استقر من الدين حجر على حجر، و الركون على النقل و الحديث مما يعتوره البشر و يقبله في حياته الاجتماعية قبولا يضطر إليه بالبداهة و يهديه إلى ذلك الفطرة الإنسانية لا غنى له عن ذلك، و أما وقوع الدس و الخلط في المعارف المنقولة الدينية فليس ببدع يختص بالدين كيف و رحى الاجتماع بجميع جهاتها و أركانها تدور على الأخبار الدائرة اليومية العامة و الخاصة، و وجوده الكذب و الدس و الخلط فيها أزيد و أيدي السياسات الكلية و الجزئية بها ألعب؟ و نحن على فطرتنا الإنسانية لا نجري على مجرد قرع السمع في الأخبار المنقولة إلينا في نادي الاجتماع بل نعرض كل واحد واحد منها على ما عندنا من الميزان الذي يمكن أن يوزن به فإن وافقه و صدقه قبلناه و إن خالفه و كذبه طرحناه و إن لم يتبين شيء من أمره و لم يتميز حقه من باطله و صدقه من كذبه توقفنا فيه من غير قبول و لا رد على الاحتياط الذي جبلنا عليه في الشرور و المضار.

هذا كله بشرط الخبرة في نوع الخبر الذي نقل إلينا، و أما ما لا خبرة للإنسان فيه من الأخبار بما يشتمل عليه من المضمون فسبيل العقلاء من أهل الاجتماع فيه الرجوع إلى أهل خبرته و الأخذ بما يرون فيه و يحكمون به هذا.

فهذا ما عليه بناؤنا الفطري في الاجتماع الإنساني، و الميزان الديني المضروب لتمييز الحق من الباطل و كذا الصدق من الكذب، لا يغاير ذلك بل هو هو بعينه، و هو العرض على كتاب الله فإن تبين منه شيء أخذ به و إن لم يتبين لشبهة فالوقوف عند الشبهة، و على ذلك أخبار متواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأئمة من أهل بيته.

هذا كله في غير المسائل الفقهية و أما هي فالمرجع في البحث عنها فن أصول الفقه.

بحث فلسفي

من المعلوم وقوع أفعال خارقة للعادة الجارية للمشاهدة و النقل، فقلما يوجد منا من لم يشاهد شيئا من خوارق الأفعال أو لم ينقل إليه شيء من ذلك - قليل أو كثير إلا أن البحث الدقيق في كثير منها يبين رجوعها إلى الأسباب الطبيعية العادية، فكثير من هذه الأفعال الخارقة يتقوى بها أصحابها بالاعتياد و التمرين كأكل السموم و حمل الأثقال و المشي على حبل ممدود في الهواء إلى غير ذلك، و كثير منها تتكي على أسباب طبيعية مخفية على الناس مجهولة لهم كمن يدخل النار و لا يحترق بها من جهة طلاية الطلق ببدنه أو يكتب كتابا لا خط عليه و لا يقرؤه إلا صاحبه، و إنما كتب بمايع لا يظهر إلا إذا عرض الكتاب على النار إلى غير ذلك.

و كثير منها يحصل بحركات سريعة تخفى على الحس لسرعتها فلا يرى الحس إلا أنه وقع من غير سبب طبيعي كالخوارق التي يأتي بها أصحاب الشعبذة، فهذه كلها مستندة إلى أسباب عادية مخفية علي حسنا أو غير مقدورة لنا لكن بعض هذه الخوارق لا يحلل إلى الأسباب الطبيعية الجارية على العادة كالإخبار عن بعض المغيبات و خاصة ما يقع منها في المستقبل و كأعمال الحب و البغض و العقد و الحل و التنويم و التمريض و عقد النوم و الإحضار و التحريكات بالإرادة مما يقع من أرباب الرياضات و هي أمور غير قابلة للإنكار، شاهدنا بعضا منها و نقل إلينا بعض آخر نقلا لا يطعن فيه، و هو ذا يوجد اليوم من أصحابها بالهند و إيران و الغرب جماعة يشاهد منهم أنواع من هذه الخوارق و التأمل التام في طرق الرياضات المعطية لهذه الخوارق و التجارب العملي في أعمالهم و إرادتهم يوجب القول بأنها مستندة إلى قوة الإرادة و الإيمان بالتاثير على تشتت أنواعها، فالإرادة تابعة للعلم و الإذعان السابق عليه، فربما توجد على إطلاقها و ربما توجد عند وجود شرائط خاصة ككتابة شيء خاص بمداد خاص في مكان خاص في بعض أعمال الحب و البغض، أو نصب المرآة حيال وجه طفل خاص عند إحضار الروح أو قراءة عوذة خاصة إلى غير ذلك، فجميع ذلك شرائط لحصول الإرادة الفاعلة، فالعلم إذا تم علما قاطعا أعطى للحواس مشاهدة ما قطع به، و يمكنك أن تختبر صحة ذلك بأن تلقن نفسك أن شيئا كذا أو شخصا كذا حاضر عندك تشاهده بحاستك ثم تتخيله بحيث لا تشك فيه و لا تلتفت إلى عدمه و لا إلى شيء غيره فإنك تجده أمامك على ما تريد، و ربما توجد في الآثار معالجة بعض الأطباء الأمراض المهلكة بتلقين الصحة على المريض.

و إذا كان الأمر على هذا فلو قويت الإرادة أمكنها أن تؤثر في غير الإنسان المريد نظير ما توجده في نفس الإنسان المريد إما من غير شرط و قيد أو مع شيء من الشرائط.

و يتبين بما مر أمور: أحدها: أن الملاك في هذا التأثير تحقق العلم الجازم من صاحب خرق العادة و أما مطابقة هذا العلم للخارج فغير لازم كما كان يعتقده أصحاب تسخير الكواكب من الأرواح المتعلقة بالأجرام الفلكية، و يمكن أن يكون من هذا القبيل الملائكة و الشياطين الذين يستخرج أصحاب الدعوات و العزائم أسماءهم و يدعون بها على طرق خاصة عندهم، و كذلك ما يعتقده أصحاب إحضار الأرواح من حضور الروح فلا دليل لهم على أزيد من حضورها في خيالهم أو حواسهم دون الخارج و إلا لرآه كل من حضر عندهم و للكل حس طبيعي، و به تنحل شبهة أخرى في إحضار روح من هو حي في حال اليقظة مشغول بأمره من غير أن يشعر به و الواحد من الإنسان ليس له إلا روح واحدة، و به تنحل أيضا شبهة أخرى و هي أن الروح جوهر مجرد لا نسبة له إلى زمان و مكان دون زمان و مكان، و به تنحل أيضا شبهة ثالثة، و هي: أن الروح الواحدة ربما تحضر عند أحد بغير الصورة التي تحضر بها عند آخر.

و به تنحل أيضا شبهة رابعة، و هي: أن الأرواح ربما تكذب عند الإحضار في أخبارها و ربما يكذب بعضها بعضا.

فالجواب عن الجميع: أن الروح إنما تحضر في مشاعر الشخص المحضر لا في الخارج منها على حد ما نحس بالأشياء المادية الطبيعية.

ثانيها: أن صاحب هذه الإرادة المؤثرة ربما يعتمد في إرادته على قوة نفسه و ثبات إنيته كغالب أصحاب الرياضات في إرادتهم فتكون لا محالة محدودة القوة مقيدة الأثر عند المريد و في الخارج، و ربما يعتمد فيه على ربه كالأنبياء و الأولياء من أصحاب العبودية لله و أرباب اليقين بالله فهم لا يريدون شيئا إلا لربهم و بربهم، و هذه إرادة طاهرة لا استقلال للنفس التي تطلع هذه الإرادة منها بوجه و لم تتلون بشيء من ألوان الميول النفسانية و لا اتكاء لها إلا على الحق فهي إرادة ربانية غير محدودة و لا مقيدة.

و القسم الثاني: إن أثرت في مقام التحدي كغالب ما ينقل من الأنبياء سميت آية معجزة و إن تحققت في غير مقام التحدي سميت كرامة أو استجابة دعوة إن كانت مع دعاء، و القسم الأول إن كان بالاستخبار و الاستنصار من جن أو روح أو نحوه سمي كهانة و إن كان بدعوة أو عزيمة أو رقية أو نحو ذلك سمي سحرا.

ثالثها: أن الأمر حيث كان دائرا مدار الإرادة في قوتها و هي على مراتب من القوة و الضعف أمكن أن يبطل بعضها أثر البعض كتقابل السحر و المعجزة أو أن لا يؤثر بعض النفوس في بعض إذا كانت مختلفة في مراتب القوة و هو مشهود في أعمال التنويم و الإحضار، هذا و سيأتي شطر من الكلام في ذلك.

بحث علمي

العلوم الباحثة عن غرائب التأثير كثيرة و القول الكلي في تقسيمها و ضبطها عسيرة جدا، و أعرف ما هو متداول بين أهلها ما نذكره: منها: السيمياء، و هو العلم الباحث عن تمزيج القوى الإرادية مع القوى الخاصة المادية للحصول على غرائب التصرف في الأمور الطبيعية، و منه التصرف في الخيال المسمى بسحر العيون و هذا الفن من أصدق مصاديق السحر، و منها: الليمياء و هو العلم الباحث عن كيفية التأثيرات الإرادية باتصالها بالأرواح القوية العالية كالأرواح الموكلة بالكواكب و الحوادث و غير ذلك بتسخيرها أو باتصالها و استمدادها من الجن بتسخيرهم، و هو فن التسخيرات، و منها: الهيمياء.

و هو العلم الباحث عن تركيب قوى العالم العلوي مع العناصر السفلية للحصول على عجائب التأثير و هو الطلسمات، فإن للكواكب العلوية و الأوضاع السماوية ارتباطات مع الحوادث المادية كما أن العناصر و المركبات و كيفياتها الطبيعية كذلك، فلو ركبت الأشكال السماوية المناسبة لحادثة من الحوادث كموت فلان، و حياة فلان، و بقاء فلان مثلا مع الصورة المادية المناسبة أنتج ذلك الحصول على المراد و هذا معنى الطلسم، و منها: الريمياء، و هو العلم الباحث عن استخدام القوى المادية للحصول على آثارها بحيث يظهر للحس أنها آثار خارقة بنحو من الأنحاء و هو الشعبذة، و هذه الفنون الأربعة مع فن خامس يتلوها و هو الكيميا الباحث عن كيفية تبديل صور العناصر بعضها إلى بعض كانت تسمى عندهم بالعلوم الخمسة الخفية، قال شيخنا البهائي: أحسن الكتب المصنفة التي في هذه الفنون كتاب رأيته ببلدة هرات اسمه كلهسر و قد ركب اسمه من أوائل أسماء هذه العلوم، الكيميا، و الليميا، و الهيميا، و السيميا، و الريميا انتهى ملخص كلامه.

و من الكتب المعتبرة فيها خلاصة كتب بليناس و رسائل الخسروشاهي و الذخيرة الإسكندرية و السر المكتوم للرازي و التسخيرات للسكاكي و أعمال الكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي.

و من العلوم الملحقة بما مر علم الأعداد و الأوفاق و هو الباحث عن ارتباطات الأعداد و الحروف للمطالب و وضع العدد أو الحروف المناسبة للمطلوب في جداول مثلثة أو مربعة أو غير ذلك على ترتيب مخصوص، و منها: الخافية و هو تكسير حروف المطلوب أو ما يناسب المطلوب من الأسماء و استخراج أسماء الملائكة أو الشياطين الموكلة بالمطلوب و الدعوة بالعزائم المؤلفة منها للنيل على المطلوب و من الكتب المعتبرة فيها عندهم كتب الشيخ أبي العباس التوني و السيد حسين الأخلاطي و غيرهما.

و من الفنون الملحقة بها الدائرة اليوم التنويم المغناطيسي و إحضار الأرواح و هما كما مر من تأثير الإرادة و التصرف في الخيال و قد ألف فيها كتب و رسائل كثيرة، و اشتهار أمرها يغني عن الإشارة إليها هاهنا، و الغرض مما ذكرنا على طوله إيضاح انطباق ما ينطبق منها على السحر أو الكهانة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)


بيان

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا، أول مورد في القرآن ورد فيه خطاب المؤمنين بلفظة يا أيها الذين آمنوا، و هو واقع في القرآن خطابا في نحو من خمسة و ثمانين موضعا و التعبير عن المؤمنين بلفظة الذين آمنوا بنحو الخطاب أو بغير الخطاب مما يختص بهذه الأمة، و أما الأمم السابقة فيعبر عنهم بلفظة القوم كقوله: «قوم نوح و قوم هود» و قوله: «قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة» الآية و قوله: «أصحاب مدين و أصحاب الرس، و بني إسرائيل، و يا بني إسرائيل، فالتعبير بلفظة الذين آمنوا مما يختص التشرف به بهذه الأمة، غير أن التدبر في كلامه تعالى يعطي أن التعبير بلفظة الذين آمنوا يراد به في كلامه تعالى غير ما يراد بلفظة المؤمنين كقوله تعالى: «و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون»: النور - 31، بحسب المصداق، قال تعالى: «الذين يحملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و يؤمنون به و يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة و علما فاغفر للذين تابوا و اتبعوا سبيلك و قهم عذاب الجحيم، ربنا و أدخلهم جنات عدن التي وعدتهم و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم»: المؤمن - 7 8، فجعل استغفار الملائكة و حملة العرش أولا للذين آمنوا ثم بدله ثانيا من قوله: للذين تابوا و اتبعوا، و التوبة هي الرجوع، ثم علق دعاءهم بالذين آمنوا و عطف عليهم آباءهم و ذرياتهم و لو كان هؤلاء المحكي عنهم بالذين آمنوا هم أهل الإيمان برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كيف ما كانوا، كان الذين آمنوا شاملا للجميع من الآباء و الأبناء و الأزواج و لم يبق للعطف و التفرقة محل و كان الجميع في عرض واحد و وقعوا في صف واحد.

و يستفاد هذا المعنى أيضا من قوله تعالى: «إن الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرىء بما كسب رهين»: الطور - 21، فلو كان ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان مصداقا للذين آمنوا في كلامه تعالى لم يبق للإلحاق وجه، و لو كان قوله: «و اتبعتهم ذريتهم» قرينة على إرادة أشخاص خاصة من الذين آمنوا و هم كل جمع من المؤمنين بالنسبة إلى ذريتهم، المؤمنين لم يبق للإلحاق أيضا وجه، و لا لقوله، و ما ألتناهم من عملهم من شيء، وجه صحيح إلا في الطبقة الأخيرة التي لا ذرية بعدهم يتبعونهم بإيمان فهم يلحقون بآبائهم، و هذا و إن كان معنى معقولا إلا أن سياق الآية و هو سياق التشريف يأبى ذلك لعود المعنى على ذلك التقدير إلى مثل معنى قولنا: المؤمنون بعضهم من بعض أو بعضهم يلحق ببعض و هم جميعا في صف واحد من غير شرافة للبعض على البعض و لا للمتقدم على المتأخر فإن الملاك هو الإيمان و هو في الجميع واحد و هذا مخالف لسياق الآية الدال على نوع كرامة و تشريف للسابق بإلحاق ذريته به، فقوله: و اتبعتهم ذريتهم بإيمان، قرينة على إرادة أشخاص خاصة بقوله: الذين آمنوا، و هم السابقون الأولون في الإيمان برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المهاجرين و الأنصار في يوم العسرة فكلمة الذين آمنوا كلمة تشريف يراد بها هؤلاء، و يشعر بذلك أيضا قوله تعالى: «للفقراء المهاجرين، إلى أن قال: و الذين تبوءوا الدار و الإيمان من قبلهم، إلى أن قال: و الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم»: الحشر - 10، فلو كان مصداق قوله: الذين آمنوا، عين مصداق قوله الذين سبقونا بالإيمان، كان من وضع الظاهر موضع المضمر من غير وجه ظاهر.

و يشعر بما مر أيضا قوله تعالى: «محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تريهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا، إلى أن قال: «وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما»: الفتح - 29.

فقد تحصل أن الكلمة كلمة تشريف تختص بالسابقين الأولين من المؤمنين، و لا يبعد جريان نظير الكلام في لفظة الذين كفروا فيراد به السابقون في الكفر برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من مشركي مكة و أترابهم كما يشعر به أمثال قوله تعالى: «إن الذين كفروا سواء عليهم، أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون»: البقرة - 6.

فإن قلت: فعلى ما مر يختص الخطاب بالذين آمنوا بعده خاصة من الحاضرين في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أن القوم ذكروا أن هذه خطابات عامة لزمان الحضور و غيره و الحاضرين الموجودين في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و غيرهم و خاصة بناء على تقريب الخطاب بنحو القضية الحقيقية.

قلت: نعم هو خطاب تشريفي يختص بالبعض لكن ذلك لا يوجب اختصاص التكاليف المتضمن لها الخطاب بهم فإن لسعة التكليف و ضيقه أسبابا غير ما يوجب سعة الخطاب و ضيقه من الأسباب، كما أن التكاليف المجردة عن الخطاب عامة وسيعة من غير خطاب، فعلى هذا يكون تصدير بعض التكاليف بخطاب يا أيها الذين آمنوا من قبيل تصدير بعض آخر من الخطابات بلفظ يا أيها النبي، و يا أيها الرسول مبنيا على التشريف، و التكليف عام، و المراد وسيع، و مع هذا كله لا يوجب ما ذكرناه من الاختصاص التشريفي عدم إطلاق لفظة الذين آمنوا على غير هؤلاء المختصين بالتشريف أصلا إذا كانت هناك قرينة تدل على ذلك كقوله تعالى: «إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم»: النساء - 137، و قوله تعالى: حكاية عن نوح: «و ما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم»: هود - 29.

قوله تعالى: لا تقولوا راعنا و قولوا انظرنا، أي بدلوا قول راعنا من قول انظرنا و لئن لم تفعلوا ذلك كان ذلك منكم كفرا و للكافرين عذاب أليم ففيه نهي شديد عن قول راعنا و هذه كلمة ذكرتها آية أخرى و بينت معناها في الجملة و هي قوله تعالى «من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه و يقولون سمعنا و عصينا و اسمع غير مسمع و راعنا ليا بألسنتهم و طعنا في الدين»: النساء - 46، و منه يعلم أن اليهود كانت تريد بقولهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) راعنا نحوا من معنى قوله: اسمع غير مسمع و لذلك ورد النهي عن خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك و حينئذ ينطبق على ما نقل: أن المسلمين كانوا يخاطبون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك إذا ألقى إليهم كلاما يقولون راعنا يا رسول الله - يريدون أمهلنا و انظرنا حتى نفهم ما تقول - و كانت اللفظة تفيد في لغة اليهود معنى الشتم فاغتنم اليهود ذلك فكانوا يخاطبون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك يظهرون التأدب معه و هم يريدون الشتم و معناه عندهم اسمع لا أسمعت فنزل.

من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه و يقولون سمعنا و عصينا و اسمع غير مسمع و راعنا، الآية و نهى الله المؤمنين عن الكلمة و أمرهم أن يقولوا ما في معناه و هو انظرنا فقال: لا تقولوا راعنا و قولوا انظرنا.

قوله تعالى: و للكافرين عذاب أليم، يريد المتمردين من هذا النهي و هذا أحد الموارد التي أطلق فيها الكفر على ترك التكاليف الفرعية.

قوله تعالى: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب، لو كان المراد بأهل الكتاب اليهود خاصة كما هو الظاهر لكون الخطابات السابقة مسوقة لهم فتوصيفهم بأهل الكتاب يفيد الإشارة إلى العلة، و هو أنهم لكونهم أهل كتاب ما يودون نزول الكتاب على المؤمنين لاستلزامه بطلان اختصاصهم بأهلية الكتاب مع أن ذلك ضنة منهم بما لا يملكونه، و معارضة مع الله سبحانه في سعة رحمته و عظم فضله، و لو كان المراد عموم أهل الكتاب من اليهود و النصارى فهو تعميم بعد التخصيص لاشتراك الفريقين في بعض الخصائل، و هم على غيظ من الإسلام، و ربما يؤيد هذا الوجه بعض الآيات اللاحقة كقوله تعالى: «و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى»: البقرة - 111، و قوله تعالى: «و قالت اليهود ليست النصارى على شيء و قالت النصارى ليست اليهود على شيء و هم يتلون الكتاب»: البقرة - 113.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنزل الله آية فيها، يا أيها الذين آمنوا إلا و علي رأسها و أميرها.

أقول: و الرواية تؤيد ما سننقله من الروايات الواردة في عدة من الآيات أنها في علي أو في أهل البيت نظير ما في قوله تعالى: «كنتم خير أمة أخرجت للناس»: آل عمران - 110 و قوله تعالى: «لتكونوا شهداء على الناس»: البقرة - 143، و قوله تعالى: و كونوا مع الصادقين:، التوبة - 119.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 5:10 am

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (107)

بيان

الآيتان في النسخ و من المعلوم أن النسخ بالمعنى المعروف عند الفقهاء و هو الإبانة عن انتهاء أمد الحكم و انقضاء أجله اصطلاح متفرع على الآية مأخوذ منها و من مصاديق ما يتحصل من الآية في معنى النسخ على ما هو ظاهر إطلاق الآية.

قوله تعالى: ما ننسخ، النسخ هو الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل إذا أزالته و ذهبت به، قال تعالى: «و ما أرسلنا من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان»: الحج - 51، و منه أيضا قولهم: نسخت الكتاب إذا نقل من نسخة إلى أخرى فكأن الكتاب أذهب به و أبدل مكانه و لذلك بدل لفظ النسخ من التبديل في قوله تعالى: «و إذا بدلنا آية مكان آية و الله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون»: النحل - 101، و كيف كان فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود و بطلان تحققها بل الحكم حيث علق بالوصف و هو الآية و العلامة مع ما يلحق بها من التعليل في الآية بقوله تعالى: أ لم تعلم، إلخ أفاد ذلك أن المراد بالنسخ هو إذهاب أثر الآية من حيث إنها آية، أعني إذهاب كون الشيء آية و علامة مع حفظ أصله فبالنسخ يزول أثره من تكليف أو غيره مع بقاء أصله و هذا هو المستفاد من اقتران قوله: ننسها بقوله: ما ننسخ، و الإنساء إفعال من النسيان و هو الإذهاب عن العلم كما أن النسخ هو الإذهاب عن العين فيكون المعنى ما نذهب بآية عن العين أو عن العلم نأت بخير منها أو مثلها.

ثم إن كون الشيء آية يختلف باختلاف الأشياء و الحيثيات و الجهات، فالبعض من القرآن آية لله سبحانه باعتبار عجز البشر عن إتيان مثله، و الأحكام و التكاليف الإلهية آيات له تعالى باعتبار حصول التقوى و القرب بها منه تعالى، و الموجودات العينية آيات له تعالى باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها و بخصوصيات وجودها عن خصوصيات صفاته و أسمائه سبحانه، و أنبياء الله و أولياؤه تعالى آيات له تعالى باعتبار دعوتهم إليه بالقول و الفعل و هكذا، و لذلك كانت الآية تقبل الشدة و الضعف قال الله تعالى: «لقد رأى من آيات ربه الكبرى»: النجم - 18.

و من جهة أخرى الآية ربما كانت في أنها آية ذات جهة واحدة و ربما كانت ذات جهات كثيرة، و نسخها و إزالتها كما يتصور بجهته الواحدة كإهلاكها كذلك يتصور ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة، كالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي و تبقى من حيث بلاغتها و إعجازها و نحو ذلك.

و هذا الذي استظهرناه من عموم معنى النسخ هو الذي يفيده عموم التعليل المستفاد من قوله تعالى: أ لم تعلم أن الله على كل شيء قدير، أ لم تعلم أن الله له ملك السموات و الأرض، و ذلك أن الإنكار المتوهم في المقام أو الإنكار الواقع من اليهود على ما نقل في شأن نزول الآية بالنسبة إلى معنى النسخ يتعلق به من وجهين: أحدهما: من جهة أن الآية إذا كانت من عند الله تعالى كانت حافظة لمصلحة من المصالح الحقيقية لا تحفظها شيء دونها، فلو زالت الآية فاتت المصلحة و لن تقوم مقامها شيء تحفظ به تلك المصلحة، و يستدرك به ما فات منها من فائدة الخلقة و مصلحة العباد، و ليس شأنه تعالى كشأن عباده و لا علمه كعلمهم بحيث يتغير بتغير العوامل الخارجية فيتعلق يوما علمه بمصلحة فيحكم بحكم ثم يتغير علمه غدا و يتعلق بمصلحة أخرى فاتت عنه بالأمس، فيتغير الحكم، و يقضي ببطلان ما حكم سابقا، و إتيان آخر لاحقا، فيطلع كل يوم حكم، و يظهر لون بعد لون، كما هو شأن العباد غير المحيطين بجهات الصلاح في الأشياء، فكانت أحكامهم و أوضاعهم تتغير بتغير العلوم بالمصالح و المفاسد زيادة و نقيصة و حدوثا و بقاء، و مرجع هذا الوجه إلى نفي عموم القدرة و إطلاقها.

و ثانيهما: أن القدرة و إن كانت مطلقة إلا أن تحقق الإيجاد و فعلية الوجود يستحيل معه التغير، فإن الشيء لا يتغير عما وقع عليه بالضرورة و هذا مثل الإنسان في فعله الاختياري فإن الفعل اختياري للإنسان ما لم يصدر عنه فإذا صدر كان ضروري الثبوت غير اختياري له، و مرجع هذا الوجه إلى نفي إطلاق الملكية و عدم جواز بعض التصرفات بعد خروج الزمام ببعض آخر كما قالت اليهود: يد الله مغلولة: فأشار سبحانه إلى الجواب عن الأول بقوله: أ لم تعلم أن الله على كل شيء قدير أي فلا يعجز عن إقامة ما هو خير من الفائت أو إقامة ما هو مثل الفائت مقامه و أشار إلى الجواب عن الثاني بقوله: أ لم تعلم أن الله له ملك السموات و الأرض و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير، أي أن ملك السموات و الأرض لله سبحانه فله أن يتصرف في ملكه كيف يشاء و ليس لغيره شيء من الملك حتى يوجب ذلك انسداد باب من أبواب تصرفه سبحانه، أو يكون مانعا دون تصرف من تصرفاته، فلا يملك شيء شيئا، لا ابتداء و لا بتمليكه تعالى، فإن التمليك الذي يملكه غيره ليس كتمليك بعضنا بعضا شيئا بنحو يبطل ملك الأول و يحصل ملك الثاني، بل هو مالك في عين ما يملك غيره ما يملك، فإذا نظرنا إلى حقيقة الأمر كان الملك المطلق و التصرف المطلق له وحدة، و إذا نظرنا إلى ما ملكنا بملكه من دون استقلال كان هو الولي لنا و إذا نظرنا إلى ما تفضل علينا من ظاهر الاستقلال - و هو في الحقيقة فقر في صورة الغنى، و تبعية في صورة الاستقلال - لم يمكن لنا أيضا أن ندبر أمورنا من دون إعانته و نصره كان هو النصير لنا.

و هذا الذي ذكرناه هو الذي يقتضيه الحصر الظاهر من قوله تعالى: «إن الله له ملك السموات و الأرض فقوله تعالى: أ لم تعلم أن الله على كل شيء قدير أ لم تعلم أن الله له ملك السموات و الأرض»، مرتب على ترتيب ما يتوهم من الاعتراضين، و من الشاهد على كونهما اعتراضين اثنين الفصل بين الجملتين من غير وصل، و قوله تعالى: و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير، مشتمل على أمرين هما كالمتممين للجواب أي و إن لم تنظروا إلى ملكه المطلق بل نظرتم إلى ما عندكم من الملك الموهوب فحيث كان ملكا موهوبا من غير انفصال و استقلال فهو وحده وليكم، فله أن يتصرف فيكم و في ما عندكم ما شاء من التصرف، و إن لم تنظروا إلى عدم استقلالكم في الملك بل نظرتم إلى ظاهر ما عندكم من الملك و الاستقلال و انجمدتم على ذلك فحسب، فإنكم ترون أن ما عندكم من القدرة و الملك و الاستقلال لا تتم وحدها، و لا تجعل مقاصدكم مطيعة لكم خاضعة لقصودكم و إرادتكم وحدها بل لا بد معها من إعانة الله و نصره فهو النصير لكم فله أن يتصرف من هذا الطريق فله سبحانه التصرف في أمركم من أي سبيل سلكتم هذا، و قوله: و ما لكم من دون الله، جيء فيه بالظاهر موضع المضمر نظرا إلى كون الجملة بمنزلة المستقل من الكلام لتمامية الجواب دونه.

فقد ظهر مما مر: أولا، أن النسخ لا يختص بالأحكام الشرعية بل يعم التكوينيات أيضا.

و ثانيا: أن النسخ لا يتحقق من غير طرفين ناسخ و منسوخ.

و ثالثا: أن الناسخ يشتمل على ما في المنسوخ من كمال أو مصلحة.

و رابعا: أن الناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته و إنما يرتفع التناقض بينهما من جهة اشتمال كليهما على المصلحة المشتركة فإذا توفي نبي و بعث نبي آخر و هما آيتان من آيات الله تعالى أحدهما ناسخ للآخر كان ذلك جريانا على ما يقتضيه ناموس الطبيعة من الحياة و الموت و الرزق و الأجل و ما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب اختلاف الأعصار و تكامل الأفراد من الإنسان، و إذا نسخ حكم ديني بحكم ديني كان الجميع مشتملا على مصلحة الدين و كل من الحكمين أطبق على مصلحة الوقت، أصلح لحال المؤمنين كحكم العفو في أول الدعوة و ليس للمسلمين بعد عدة و لا عدة.

و حكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الإسلام و أعد فيهم ما استطاعوا من قوة و ركز الرعب في قلوب الكفار و المشركين.

و الآيات المنسوخة مع ذلك لا تخلو من إيماء و تلويح إلى النسخ كما في قوله تعالى «فاعفوا و اصفحوا حتى يأتي الله بأمره»: البقرة - 109، المنسوخ بآية القتال و قوله تعالى: «فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفيهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا»: النساء - 14 المنسوخ بآية الجلد فقوله: حتى يأتي الله بأمره و قوله: «أو يجعل الله لهن سبيلا» لا يخلو عن إشعار بأن الحكم موقت مؤجل سيلحقه نسخ.

و خامسا: أن النسبة التي بين الناسخ و المنسوخ غير النسبة التي بين العام و الخاص و بين المطلق و المقيد و بين المجمل و المبين، فإن الرافع للتنافي بين الناسخ و المنسوخ بعد استقراره بينهما بحسب الظهور اللفظي هو الحكمة و المصلحة الموجودة بينهما، بخلاف الرافع للتنافي بين العام و الخاص و المطلق و المقيد و المجمل و المبين فإنه قوة الظهور اللفظي الموجود في الخاص و المقيد و المبين، المفسر للعام بالتخصيص، و للمطلق بالتقييد، و للمجمل بالتبيين على ما بين في فن أصول الفقه، و كذلك في المحكم و المتشابه على ما سيجيء في قوله: «منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات»: آل عمران - 7.

قوله تعالى: أو ننسها، قرىء بضم النون و كسر السين من الإنساء بمعنى الإذهاب عن العلم و الذكر و قد مر توضيحه، و هو كلام مطلق أو عام غير مختص برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل غير شامل له أصلا لقوله تعالى: «سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله»: الأعلى - 7، و هي آية مكية و آية النسخ مدنية فلا يجوز عليه النسيان بعد قوله تعالى: فلا تنسى و أما اشتماله على الاستثناء بقوله: إلا ما شاء الله فهو على حد الاستثناء الواقع في قوله تعالى: «خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ»: هود - 109، جيء بها لإثبات بقاء القدرة مع الفعل على تغيير الأمر، و لو كان الاستثناء مسوقا لبيان الوقوع في الخارج لم يكن للامتنان بقوله: فلا تنسى معنى، إذ كل ذي ذكر و حفظ من الإنسان و سائر الحيوان كذلك يذكر و ينسى و ذكره و نسيانه كلاهما منه تعالى و بمشيته، و قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك قبل هذا الإقراء الامتناني الموعود بقوله: سنقرئك يذكر بمشية الله و ينسى بمشية الله تعالى فليس معنى الاستثناء إلا إثبات إطلاق القدرة أي سنقرئك فلا تنسى أبدا و الله مع ذلك قادر على إنسائك هذا.

و قرىء قوله: ننساها بفتح النون و الهمزة من نسيء نسيئا إذا أخر تأخيرا فيكون المعنى على هذا: ما ننسخ من آية بإزالتها أو نؤخرها بتأخير إظهارها نأت بخير منها أو مثلها و لا يوجب التصرف الإلهي بالتقديم و التأخير في آياته فوت كمال أو مصلحة، و الدليل على أن المراد بيان أن التصرف الإلهي يكون دائما على الكمال و المصلحة هو قوله: بخير منها أو مثلها فإن الخيرية إنما يكون في كمال شيء موجود أو مصلحة حكم مجعول ففي ذلك يكون موجود مماثلا لآخر في الخيرية أو أزيد منه في ذلك فافهم.

بحث روائي

قد تكاثرت روايات الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الصحابة و عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أن في القرآن ناسخا و منسوخا.

و في تفسير النعماني، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): بعد ذكر عدة آيات من الناسخ و المنسوخ: قال (عليه السلام) و نسخ قوله تعالى: و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون قوله عز و جل: و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم أي للرحمة خلقهم.

أقول: و فيها دلالة على أخذه (عليه السلام) النسخ في الآية أعم من النسخ الواقع في التشريع فالآية الثانية تثبت حقيقة توجب تحديد الحقيقة التي تثبتها الآية الأولى، و بعبارة واضحة: الآية الأولى تثبت للخلقة غاية و هي العبادة، و الله سبحانه غير مغلوب في الغاية التي يريدها في فعل من أفعاله غير أنه سبحانه خلقهم على إمكان الاختلاف فلا يزالون مختلفين في الاهتداء و الضلال فلا يزالون مختلفين إلا من أخذته العناية الإلهية، و شملته رحمة الهداية، و لذلك خلقهم أي و لهذه الرحمة خلقهم، فالآية الثانية تثبت للخلقة غاية، و هو الرحمة المقارنة للعبادة و الاهتداء و لا يكون إلا في البعض دون الكل و الآية الأولى كانت تثبت العبادة غاية للجميع فهذه العبادة جعلت غاية الجميع من جهة كون البعض مخلوقا لأجل البعض الآخر و هذا البعض أيضا لآخر حتى ينتهي إلى أهل العبادة و هم العابدون المخلوقون للعبادة فصح أن العبادة غاية للكل نظير بناء الحديقة و غرس الشجرة لثمرتها أو لمنافعها المالية فالآية الثانية تنسخ إطلاق الآية الأولى، و في تفسير النعماني، أيضا عنه (عليه السلام): قال: و نسخ قوله تعالى: «و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا» قوله: «الذين سبقت لهم منا الحسنى - أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها - و هم فيما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر».

أقول: و ليست الآيتان من قبيل العام و الخاص لقوله تعالى: كان على ربك حتما مقضيا، و القضاء الحتم غير قابل الرفع و لا ممكن الإبطال و يظهر معنى هذا النسخ مما سيجيء إن شاء الله في قوله: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون»: الأنبياء - 101.

و في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام): أن من النسخ البداء المشتمل عليه قوله تعالى: يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب، و نجاة قوم يونس.

أقول: و الوجه فيه واضح.

و في بعض الأخبار عن أئمة أهل البيت عد (عليه السلام) موت إمام و قيام إمام آخر مقامه من النسخ.

أقول: و قد مر بيانه، و الأخبار في هذه المعاني كثيرة مستفيضة.

و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و أبو داود في ناسخه و ابن جرير عن قتادة قال: كانت الآية تنسخ الآية و كان نبي الله يقرأ الآية و السورة و ما شاء الله من السورة ثم ترفع فينسيها الله نبيه فقال الله: يقص على نبيه ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها، يقول: فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي.

أقول: و روى فيه أيضا في معنى الإنساء روايات عديدة و جميعها مطروحة بمخالفة الكتاب كما مر في بيان قوله أو ننسها.


أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)

بيان

قوله تعالى: أم تريدون أن تسئلوا رسولكم، سياق الآية يدل على أن بعض المسلمين - ممن آمن بالنبي - سأل النبي أمورا على حد سؤال اليهود نبيهم موسى (عليه السلام) و الله سبحانه وبخهم على ذلك في ضمن ما يوبخ اليهود بما فعلوا مع موسى و النبيين من بعده، و النقل يدل على ذلك.

قوله تعالى: سواء السبيل أي مستوى الطريق.

قوله تعالى: ود كثير من أهل الكتاب، نقل أنه حي بن الأخطب و بعض من معه من متعصبي اليهود.

قوله تعالى: فاعفوا و اصفحوا، قالوا: إنها آية منسوخة بآية القتال.

قوله تعالى: حتى يأتي الله بأمره، فيه كما مر إيماء إلى حكم سيشرعه الله تعالى في حقهم، و نظيره قوله تعالى: في الآية الآتية «أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين»، مع قوله تعالى: «إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا»: التوبة - 29، و سيأتي الكلام في معنى الأمر في قوله تعالى: «يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي»: إسراء - 85.

قوله تعالى: و قالوا: لن يدخل الجنة، شروع في إلحاق النصارى باليهود تصريحا و سوق الكلام في بيان جرائمهم معا.

قوله تعالى: بلى من أسلم وجهه لله، هذه كرة ثالثة عليهم في بيان أن السعادة لا تدور مدار الاسم و لا كرامة لأحد على الله إلا بحقيقة الإيمان و العبودية، أولاها قوله: «إن الذين آمنوا و الذين هادوا»:، البقرة - 62، و ثانيتها، قوله تعالى: «بلى من كسب سيئة و أحاطت به خطيئته»: البقرة - 81، و ثالثتها، هذه الآية و يستفاد من تطبيق الآيات تفسير الإيمان بإسلام الوجه إلى الله و تفسير الإحسان بالعمل الصالح.

قوله تعالى: و هم يتلون الكتاب، أي و هم يعملون بما أوتوا من كتاب الله لا ينبغي لهم أن يقولوا ذلك و الكتاب يبين لهم الحق و الدليل على ذلك قوله: «كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم» فالمراد بالذين لا يعلمون غير أهل الكتاب من الكفار و مشركي العرب قالوا: إن المسلمين ليسوا على شيء أو إن أهل الكتاب ليسوا على شيء.

قوله تعالى: و من أظلم ممن منع، ظاهر السياق أن هؤلاء كفار مكة قبل الهجرة فإن هذه الآيات نزلت في أوائل ورود رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة.

قوله تعالى: أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين، يدل على مضي الواقعة و انقضائها لمكان قوله كان، فينطبق على كفار قريش و فعالهم بمكة كما ورد به النقل أن المانعين كفار، مكة كانوا يمنعون المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام و المساجد التي اتخذوها بفناء الكعبة.

قوله تعالى: و لله المشرق و المغرب فأينما تولوا فثم وجه الله، المشرق و المغرب و كل جهة من الجهات حيث كانت فهي لله بحقيقة الملك التي لا تقبل التبدل و الانتقال، لا كالملك الذي بيننا معاشر أهل الاجتماع، و حيث إن ملكه تعالى مستقر على ذات الشيء محيط بنفسه و أثره، لا كملكنا المستقر على أثر الأشياء و منافعها، لا على ذاتها، و الملك لا يقوم من جهة أنه ملك إلا بمالكه فالله سبحانه قائم على هذه الجهات محيط بها و هو معها، فالمتوجه إلى شيء من الجهات متوجه إليه تعالى.

و لما كان المشرق و المغرب جهتين إضافيتين شملتا سائر الجهات تقريبا إذ لا يبقى خارجا منهما إلا نقطتا الجنوب و الشمال الحقيقتان و لذلك لم يقيد إطلاق قوله فأينما، بهما بأن يقال: أينما تولوا منهما فكأن الإنسان أينما ولى وجهه فهناك إما مشرق أو مغرب، فقوله: و لله المشرق و المغرب بمنزلة قولنا: و لله الجهات جميعا و إنما أخذ بهما لأن الجهات التي يقصدها الإنسان بوجهه إنما تتعين بشروق الشمس و غروبها و سائر الأجرام العلوية المنيرة.

قوله تعالى: فثم وجه الله، فيه وضع علة الحكم في الجزاء موضع الجزاء، و التقدير - و الله - أعلم فأينما تولوا جاز لكم ذلك فإن وجه الله هناك، و يدل على هذا التقدير تعليل الحكم بقوله تعالى: إن الله واسع عليم، أي إن الله واسع الملك و الإحاطة عليم بقصودكم أينما توجهت، لا كالواحد من الإنسان أو سائر الخلق الجسماني لا يتوجه إليه إلا إذا كان في جهة خاصة، و لا أنه يعلم توجه القاصد إليه إلا من جهة خاصة كقدامه فقط، فالتوجه إلى كل جهة توجه إلى الله، معلوم له سبحانه.

و اعلم أن هذا توسعة في القبلة من حيث الجهة لا من حيث المكان، و الدليل عليه قوله: و لله المشرق و المغرب.

بحث روائي

في التهذيب، عن محمد بن الحصين قال: كتب إلى عبد صالح الرجل يصلي في يوم غيم في فلات من الأرض و لا يعرف القبلة فيصلي حتى فرغ من صلاته بدت له الشمس فإذا هو صلى لغير القبلة يعتد بصلاته أم يعيدها؟ فكتب يعيد ما لم يفت الوقت، أ و لم يعلم أن الله يقول: و قوله الحق فأينما تولوا فثم وجه الله.

و في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: و لله المشرق و المغرب إلخ، قال (عليه السلام): أنزل الله هذه الآية في التطوع خاصة فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم، و صلى رسول الله إيماء على راحلته أينما توجهت به حين خرج إلى خيبر، و حين رجع من مكة، و جعل الكعبة خلف ظهره.

أقول: و روى العياشي أيضا قريبا من ذلك عن زرارة عن الصادق (عليه السلام)، و كذا القمي و الشيخ عن أبي الحسن (عليه السلام)، و كذا الصدوق عن الصادق (عليه السلام).

و اعلم أنك إذا تصفحت أخبار أئمة أهل البيت حق التصفح، في موارد العام و الخاص و المطلق و المقيد من القرآن وجدتها كثيرا ما تستفيد من العام حكما، و من الخاص أعني العام مع المخصص حكما آخر، فمن العام مثلا الاستحباب كما هو الغالب و من الخاص الوجوب، و كذلك الحال في الكراهة و الحرمة، و على هذا القياس.

و هذا أحد أصول مفاتيح التفسير في الأخبار المنقولة عنهم، و عليه مدار جم غفير من أحاديثهم.

و من هنا يمكنك أن تستخرج منها في المعارف القرآنية قاعدتين: إحداهما: أن كل جملة وحدها، و هي مع كل قيد من قيودها تحكي عن حقيقة ثابتة من الحقائق أو حكم ثابت من الأحكام كقوله تعالى: «قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون»: الأنعام - 91، ففيه معان أربع: الأول: قل الله، و الثاني: قل الله ثم ذرهم، و الثالث: قل الله ثم ذرهم في خوضهم، و الرابع: قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون.

و اعتبر نظير ذلك في كل ما يمكن.

و الثانية: أن القصتين أو المعنيين إذا اشتركا في جملة أو نحوها، فهما راجعان إلى مرجع واحد.

و هذان سران تحتهما أسرار و الله الهادي.


وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (117)

بيان

قوله تعالى: و قالوا اتخذ الله ولدا يعطي السياق، أن المراد بالقائلين بهذه المقالة هم اليهود و النصارى: إذ قالت اليهود: عزير ابن الله، و قالت النصارى: المسيح ابن الله، فإن وجه الكلام مع أهل الكتاب، و إنما قال أهل الكتاب هذه الكلمة أعني قولهم: اتخذ الله ولدا أول ما قالوها تشريفا لأنبيائهم كما قالوا: نحن أبناء الله و أحباؤه ثم تلبست بلباس الجد و الحقيقة فرد الله سبحانه عليهم في هاتين الآيتين فأضرب عن قولهم بقوله: بل له ما في السموات إلخ، و يشتمل على برهانين ينفي كل منهما الولادة و تحقق الولد منه سبحانه، فإن اتخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي بعض أجزاء وجوده، و يفصله عن نفسه فيصيره بتربية تدريجية فردا من نوعه مماثلا لنفسه، و هو سبحانه منزه عن المثل، بل كل شيء مما في السموات و الأرض مملوك له، قائم الذات به، قانت ذليل عنده ذلة وجودية، فكيف يكون شيء من الأشياء ولدا له مماثلا نوعيا بالنسبة إليه؟ و هو سبحانه بديع السموات و الأرض، إنما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق، فلا يشبه شيء من خلقه خلقا سابقا، و لا يشبه فعله فعل غيره في التقليد و التشبيه و لا في التدريج، و التوصل بالأسباب إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق و لا تدريج، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتخاذ الولد؟ و تحققه يحتاج إلى تربية و تدريج، فقوله: له ما في السموات و الأرض كل له قانتون برهان تام، و قوله: بديع السموات و الأرض إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون برهان آخر تام، هذا.

و يستفاد من الآيتين: أولا: شمول حكم العبادة لجميع المخلوقات مما في السموات و الأرض.

و ثانيا: أن فعله تعالى غير تدريجي، و يستدرج من هنا، أن كل موجود تدريجي فله وجه غير تدريجي، به يصدر عنه تعالى كما قال تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون»: يس - 82، و قال تعالى: «و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر»: القمر - 50، و تفصيل القول في هذه الحقيقة القرآنية، سيأتي إن شاء الله في ذيل قوله: «إنما أمره إذا أراد شيئا»: يس - 82 فانتظر.

قوله تعالى: سبحانه مصدر بمعنى التسبيح و هو لا يستعمل إلا مضافا و هو مفعول مطلق لفعل محذوف أي سبحته تسبيحا، فحذف الفعل و أضيف المصدر إلى الضمير المفعول و أقيم مقامه، و في الكلمة تأديب إلهي بالتنزيه فيما يذكر فيه ما لا يليق بساحة قدسه تعالى و تقدس.

قوله تعالى: كل له قانتون، القنوت العبادة و التذلل.

قوله تعالى: بديع السموات، بداعة الشيء كونه لا يماثل غيره مما يعرف و يؤنس به.

قوله تعالى: فيكون، تفريع على قول كن و ليس في مورد الجزاء حتى يجزم.

بحث روائي

في الكافي، و البصائر، عن سدير الصيرفي، قال: سمعت عمران بن أعين يسأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالى: بديع السموات و الأرض، فقال أبو جعفر (عليه السلام): إن الله عز و جل ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله، فابتدع السماوات و الأرضين و لم يكن قبلهن سماوات و لا أرضون أ ما تسمع لقوله: و كان عرشه على الماء؟.

أقول: و في الرواية استفادة أخرى لطيفة، و هي أن المراد بالماء في قوله تعالى: و كان عرشه على الماء غير المصداق الذي عندنا من الماء بدليل أن الخلقة مستوية على البداعة و كانت السلطنة الإلهية قبل خلق هذه السماوات و الأرض مستقرة مستوية على الماء فهو غير الماء و سيجيء تتمة الكلام في قوله تعالى: «و كان عرشه على الماء»: هود - 7.

بحث علمي و فلسفي

دل التجارب على افتراق كل موجودين في الشخصيات و إن كانت متحدة في الكليات حتى الموجودان اللذان لا يميز الحس جهة الفرقة بينهما فالحس المسلح يدرك ذلك منهما، و البرهان الفلسفي أيضا يوجب ذلك، فإن المفروضين من الموجودين لو لم يتميز أحدهما عن الآخر بشيء خارج عن ذاته، كان سبب الكثرة المفروضة غير خارج من ذاتهما فيكون الذات صرفة غير مخلوطة، و صرف الشيء لا يتثنى و لا يتكرر، فكان ما هو المفروض كثيرا واحدا غير كثير هذا خلف.

فكل موجود مغاير الذات لموجود آخر، فكل موجود فهو بديع الوجود على غير مثال سابق و لا معهود، و الله سبحانه هو المبتدع بديع السماوات و الأرض.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 5:16 am

وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِيَنَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)

بيان

قوله تعالى: و قال الذين لا يعلمون هم المشركون غير أهل الكتاب و يدل عليه المقابلة السابقة في قوله تعالى: و قالت اليهود ليست النصارى على شيء، و قالت النصارى ليست اليهود على شيء، و هم يتلون الكتاب كذلك، قال الذين لا يعلمون مثل قولهم الآية.

ففي تلك الآية ألحق أهل الكتاب في قولهم بالمشركين و الكفار من العرب، و في هذه الآية ألحق المشركين و الكفار بهم، فقال: و قال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية، كذلك قال الذين من قبلهم - و هم أهل الكتاب و اليهود من بينهم - حيث اقترحوا بمثل هذه الأقاويل على نبي الله موسى (عليه السلام)، فهم و الكفار متشابهون في أفكارهم و آرائهم، يقول هؤلاء ما قاله أولئك و بالعكس، تشابهت قلوبهم.

قوله تعالى: قد بينا الآيات لقوم يوقنون جواب عن قول الذين لا يعلمون إلخ، و المراد أن الآيات التي يطالبون بها مأتية مبينة، و لكن لا ينتفع بها إلا قوم يوقنون بآيات الله، و أما هؤلاء الذين لا يعلمون، فقلوبهم محجوبة بحجاب الجهل، مئوفة بآفات العصبية و العناد، و ما تغني الآيات عن قوم لا يعلمون.

و من هنا يظهر وجه توصيفهم بعدم العلم، ثم أيد ذلك بتوجيه الخطاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الإشعار بأنه مرسل من عند الله بالحق بشيرا و نذيرا، فلتطب به نفسه، و ليعلم أن هؤلاء أصحاب الجحيم، مكتوب عليهم ذلك، لا مطمع في هدايتهم و نجاتهم.

قوله تعالى: و لا تسئل عن أصحاب الجحيم، يجري مجرى قوله: «إن الذين كفروا سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون»: البقرة - 6.


وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (123)

بيان

قوله تعالى: و لن ترضى عنك اليهود و لا النصارى، رجوع إلى الطائفتين بعد الالتفات إلى غيرهم، و هو بمنزلة جمع أطراف الكلام على تفرقها و تشتتها، فكأنه بعد هذه الخطابات و التوبيخات لهم يرجع إلى رسوله و يقول له: هؤلاء ليسوا براضين عنك، حتى تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم و نظموها بآرائهم، ثم أمره بالرد عليهم بقوله: قل إن هدى الله هو الهدى أي إن الاتباع إنما هو لغرض الهدى و لا هدى إلا هدى الله و الحق الذي يجب أن يتبع و غيره - و هو ملتكم - ليس بالهدى، فهي أهواؤكم ألبستموها لباس الدين و سميتموها باسم الملة، ففي قوله: قل إن هدى الله إلخ، جعل الهدى كناية عن القرآن النازل، ثم أضيف إلى الله فأفاد صحة الحصر في قوله: إن هدى الله هو الهدى على طريق قصر القلب، و أفاد ذلك خلو ملتهم عن الهدى، و أفاد ذلك كونها أهواء لهم، و استلزم ذلك كون ما عند النبي علما، و كون ما عندهم جهلا، و اتسع المكان لتعقيب الكلام بقوله: و لئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم، ما لك من الله من ولي و لا نصير، فانظر إلى ما في هذا الكلام من أصول البرهان العريقة، و وجوه البلاغة على إيجازه، و سلاسة البيان و صفائه.

قوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يمكن أن تكون الجملة بقرينة الحصر المفهوم من قوله: أولئك يؤمنون به جوابا للسؤال المقدر الذي يسوق الذهن إليه قوله تعالى: و لن ترضى عنك اليهود و لا النصارى إلخ و هو أنهم إذا لم يكن مطمع في إيمانهم، فمن ذا الذي يؤمن منهم؟ و هل توجيه الدعوة إليهم باطل لغو؟ فأجيب بأن الذين آتيناهم الكتاب و الحال أنهم يتلونه حق تلاوته، أولئك يؤمنون بكتابهم فيؤمنون بك، أو أن أولئك يؤمنون بالكتاب، كتاب الله المنزل أيا ما كان، أو أن أولئك يؤمنون بالكتاب الذي هو القرآن.

و عليهذا: فالقصر في قوله: أولئك يؤمنون به قصر إفراد و الضمير في قوله: به على بعض التقادير لا يخلو عن استخدام.

و المراد بالذين أوتوا الكتاب قوم من اليهود و النصارى ليسوا متبعين للهوى من أهل الحق منهم، و بالكتاب التوراة و الإنجيل، و إن كان المراد بهم المؤمنين برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و بالكتاب القرآن، فالمعنى.

إن الذين آتيناهم القرآن، و هم يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون بالقرآن، لا هؤلاء المتبعون لأهوائهم، فالقصر حينئذ قصر قلب.

قوله تعالى: يا بني إسرائيل اذكروا، إلى آخر الآيتين إرجاع ختم الكلام إلى بدئه، و آخره إلى أوله، و عنده يختتم شطر من خطابات بني إسرائيل.

بحث روائي

في إرشاد الديلمي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته، قال: يرتلون آياته و يتفقهون به و يعملون بأحكامه، و يرجون وعده، و يخافون وعيده، و يعتبرون بقصصه، و يأتمرون بأوامره، و ينتهون بنواهيه، ما هو و الله حفظ آياته، و درس حروفه، و تلاوة سورة، و درس أعشاره و أخماسه، حفظوا حروفه و أضاعوا حدوده، و إنما هو تدبر آياته و العمل بأحكامه، قال الله تعالى: كتاب أنزلناه إليك - مبارك ليدبروا آياته.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قول الله عز و جل: يتلونه حق تلاوته قال (عليه السلام): الوقوف عند الجنة و النار.

أقول: و المراد به التدبر.

و في الكافي، عنه (عليه السلام): في الآية قال (عليه السلام): هم الأئمة.

أقول: و هو من باب الجري و الانطباق على المصداق الكامل.


وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

بيان

شروع بجمل من قصص إبراهيم (عليه السلام) و هو كالمقدمة و التوطئة لآيات تغيير القبلة و آيات أحكام الحج، و ما معها من بيان حقيقة الدين الحنيف الإسلامي بمراتبها: من أصول المعارف، و الأخلاق، و الأحكام الفرعية الفقهية جملا، و الآيات مشتملة على قصة اختصاصه تعالى إياه بالإمامة و بنائه الكعبة و دعوته بالبعثة.

فقوله تعالى: و إذ ابتلى إبراهيم ربه إلخ، إشارة إلى قصة إعطائه الإمامة و حبائه بها، و القصة إنما وقعت في أواخر عهد إبراهيم (عليه السلام) بعد كبره و تولد إسماعيل، و إسحاق له و إسكانه إسماعيل و أمه بمكة، كما تنبه به بعضهم أيضا، و الدليل على ذلك قوله (عليه السلام) على ما حكاه الله سبحانه بعد قوله تعالى له: إني جاعلك للناس إماما، قال و من ذريتي، فإنه (عليه السلام) قبل مجيء الملائكة ببشارة إسماعيل، و إسحاق، ما كان يعلم و لا يظن أن سيكون له ذرية من بعده حتى أنه بعد ما بشرته الملائكة بالأولاد خاطبهم بما ظاهره اليأس و القنوط كما قال تعالى: «و نبئهم عن ضيف إبراهيم، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال: إنا منكم وجلون، قالوا: لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم، قال أ بشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون؟ قالوا، بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين»:، الحجر - 55، و كذلك زوجته على ما حكاه الله تعالى في قصة بشارته أيضا إذ قال تعالى: «و امرأته قائمة فضحكت، فبشرناها بإسحق و من وراء إسحاق يعقوب، قالت، يا ويلتى أ ألد و أنا عجوز و هذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب، قالوا أ تعجبين من أمر الله، رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد»: هود - 73، و كلامهما كما ترى يلوح منه آثار اليأس و القنوط و لذلك قابلته الملائكة بنوع كلام فيه تسليتهما و تطييب أنفسهما فما كان هو و لا أهله يعلم أن سيرزق ذرية، و قوله (عليه السلام): و من ذريتي، بعد قوله تعالى: إني جاعلك للناس إماما، قول من يعتقد لنفسه ذرية، و كيف يسع من له أدنى دربة بأدب الكلام و خاصة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربه الجليل أن يتفوه بما لا علم له به؟ و لو كان ذلك لكان من الواجب أن يقول: و من ذريتي إن رزقتني ذرية أو ما يؤدي هذا المعنى فالقصة واقعة كما ذكرنا في أواخر عهد إبراهيم بعد البشارة.

على أن قوله تعالى: و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال: إني جاعلك للناس إماما، يدل على أن هذه الإمامة الموهوبة إنما كانت بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات و ليست هذه إلا أنواع البلاء التي ابتلي (عليه السلام) بها في حياته، و قد نص القرآن على أن من أوضحها بلاء قضية ذبح إسماعيل، قال تعالى: «قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك» إلى أن قال: إن هذا لهو البلاء المبين»: الصافات - 106.

و القضية إنما وقعت في كبر إبراهيم، كما حكى الله تعالى عنه من قوله: «الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل، و إسحاق، إن ربي لسميع الدعاء»: إبراهيم - 41.

و لنرجع إلى ألفاظ الآية فقوله: و إذ ابتلى إبراهيم ربه، الابتلاء و البلاء بمعنى واحد تقول: ابتليته و بلوته بكذا، أي امتحنته و اختبرته، إذا قدمت إليه أمرا أو أوقعته في حدث فاختبرته بذلك و استظهرت ما عنده من الصفات النفسانية الكامنة عنده كالإطاعة و الشجاعة و السخاء و العفة و العلم و الوفاء أو مقابلاتها، و لذلك لا يكون الابتلاء إلا بعمل فإن الفعل هو الذي يظهر به الصفات الكامنة من الإنسان دون القول الذي يحتمل الصدق و الكذب قال تعالى: «إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة»: ن - 17، و قال تعالى: «إن الله مبتليكم بنهر»: البقرة - 249.

فتعلق الابتلاء، في الآية بالكلمات إن كان المراد بها الأقوال إنما هو من جهة تعلقها بالعمل و حكايتها عن العهود و الأوامر المتعلقة بالفعل كقوله تعالى «و قولوا للناس حسنا»: البقرة - 83، أي عاشروهم معاشرة جميلة و قوله: بكلمات فأتمهن، الكلمات و هي جمع كلمة و إن أطلقت في القرآن على العين الخارجي دون اللفظ و القول، كقوله تعالى: «و كلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم»: آل عمران - 45، إلا أن ذلك بعناية إطلاق القول كما قال تعالى: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون»: آل عمران - 59.

و جميع ما نسب إليه تعالى من الكلمة في القرآن أريد بها القول كقوله تعالى: «و لا مبدل لكلمات الله»:، الأنعام - 34، و قوله: «لا تبديل لكلمات الله»: يونس - 64، و قوله: «يحق الحق بكلماته»: الأنفال - 7، و قوله: «إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون»: يونس - 96، و قوله: «و لكن حقت كلمة العذاب»: الزمر - 71، و قوله «و كذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار»: المؤمن - 6، و قوله: «و لو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم»: الشورى - 14، و قوله: «و كلمة الله هي العليا»: التوبة - 41، و قوله: «قال فالحق، و الحق أقول»: ص - 84، و قوله: «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون»: النحل - 40، فهذه و نظائرها أريد بها القول بعناية أن القول توجيه ما يريد المتكلم إعلامه المخاطب ما عنده كما في الأخبار أو لغرض تحميله عليه كما في الإنشاء و لذلك ربما تتصف في كلامه تعالى بالتمام كقوله تعالى: «و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته»: الأنعام - 115، و قوله تعالى: «و تمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل»: الأعراف - 136، كأن الكلمة إذا صدرت عن قائلها فهي ناقصة بعد، لم تتم، حتى تلبس لباس العمل و تعود صدقا.

و هذا لا ينافي كون قوله تعالى فعله، فإن الحقائق الواقعية لها حكم، و للعنايات الكلامية اللفظية حكم آخر، فما يريد الله سبحانه إظهاره لواحد من أنبيائه، أو غيرهم بعد خفائه، أو يريد تحميله على أحد قول و كلام له لاشتماله على غرض القول و الكلام و تضمنه غاية الخبر و النبإ، و الأمر و النهي، و إطلاق القول و الكلمة على مثل ذلك شائع في الاستعمال إذا اشتمل على ما يؤديه القول و الكلمة، تقول: لأفعلن كذا و كذا، لقول قلته و كلمة قدمتها، و لم تقل قولا، و لا قدمت كلمة، و إنما عزمت عزيمة لا تنقضها شفاعة شفيع أو وهن إرادة، و منه قول عنترة: و قولي كلما جشأت و جاشت.

مكانك تحمدي أو تستريحي.

يريد بالقول توطين نفسه على الثبات و العزم، على لزومها مكانها لتفوز بالحمد إن قتل، و بالاستراحة إن غلب.

إذا عرفت ذلك ظهر لك أن المراد بقوله تعالى: بكلمات، قضايا ابتلي بها و عهود إلهية أريدت منه، كابتلائه بالكواكب و الأصنام، و النار و الهجرة و تضحيته بابنه و غير ذلك و لم يبين في الكلام ما هي الكلمات لأن الغرض غير متعلق بذلك، نعم قوله: قال إني جاعلك للناس إماما، من حيث ترتبه على الكلمات تدل على أنها كانت أمورا تثبت بها لياقته، (عليه السلام) لمقام الإمامة.

فهذه هي الكلمات و أما إتمامهن فإن كان الضمير في قوله تعالى: أتمهن راجعا إلى إبراهيم كان معنى إتمامهن إتيانه (عليه السلام) ما أريد منه، و امتثاله لما أمر به، و إن كان الضمير راجعا إليه تعالى كما هو الظاهر كان المراد توفيقه لما أريد منه، و مساعدته على ذلك، و أما ما ذكره بعضهم: أن المراد بالكلمات قوله تعالى: قال إني جاعلك للناس إماما، إلى آخر الآيات فمعنى لا ينبغي الركون إليه إذ لم يعهد في القرآن إطلاق الكلمات على جمل الكلام.

قوله تعالى: إني جاعلك للناس إماما، أي مقتدى يقتدي بك الناس، و يتبعونك في أقوالك و أفعالك، فالإمام هو الذي يقتدي و يأتم به الناس، و لذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة، لأن النبي يقتدي به أمته في دينهم، قال تعالى: «و ما أرسلنا من رسول، إلا ليطاع بإذن الله»: النساء - 63، لكنه في غاية السقوط.

أما أولا: فلأن قوله: إماما، مفعول ثان لعامله الذي هو قوله: جاعلك و اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي، و إنما يعمل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فقوله، إني جاعلك للناس إماما، وعد له (عليه السلام) بالإمامة في ما سيأتي، مع أنه وحي لا يكون إلا مع نبوة، فقد كان (عليه السلام) نبيا قبل تقلده الإمامة، فليست الإمامة في الآية بمعنى النبوة ذكره بعض المفسرين.

و أما ثانيا: فلأنا بينا في صدر الكلام: أن قصة الإمامة، إنما كانت في أواخر عهد إبراهيم (عليه السلام) بعد مجيء البشارة له بإسحق و إسماعيل، و إنما جاءت الملائكة بالبشارة في مسيرهم إلى قوم لوط و إهلاكهم، و قد كان إبراهيم حينئذ نبيا مرسلا، فقد كان نبيا قبل أن يكون إماما فإمامته غير نبوته.

و منشأ هذا التفسير و ما يشابهه الابتذال الطارىء على معاني الألفاظ الواقعة في القرآن الشريف في أنظار الناس من تكرر الاستعمال بمرور الزمن و من جملة تلك الألفاظ لفظ الإمامة، ففسره قوم: بالنبوة و التقدم و المطاعية مطلقا، و فسره آخرون بمعنى الخلافة أو الوصاية، أو الرئاسة في أمور الدين و الدنيا - و كل ذلك لم يكن - فإن النبوة معناها: تحمل النبإ من جانب الله و الرسالة معناها تحمل التبليغ، و المطاعية و الإطاعة قبول الإنسان ما يراه أو يأمره غيره و هو من لوازم النبوة و الرسالة، و الخلافة نحو من النيابة، و كذلك و الوصاية، و الرئاسة نحو من المطاعية و هو مصدرية الحكم في الاجتماع و كل هذه المعاني غير معنى الإمامة التي هي كون الإنسان بحيث يقتدي به غيره بأن يطبق أفعاله و أقواله على أفعاله و أقواله بنحو التبعية، و لا معنى لأن يقال لنبي من الأنبياء مفترض الطاعة إني جاعلك للناس نبيا، أو مطاعا فيما تبلغه بنبوتك، أو رئيسا تأمر و تنهى في الدين، أو وصيا، أو خليفة في الأرض تقضي بين الناس في مرافعاتهم بحكم الله.

و ليست الإمامة تخالف الكلمات السابقة و تختص بموردها بمجرد العناية اللفظية فقط، إذ لا يصح أن يقال لنبي - من لوازم نبوته كونه مطاعا بعد نبوته - إني جاعلك مطاعا للناس بعد ما جعلتك كذلك، و لا يصح أن يقال له ما يئول إليه معناه و إن اختلف بمجرد عناية لفظية، فإن المحذور هو المحذور، و هذه المواهب الإلهية ليست مقصورة على مجرد المفاهيم اللفظية، بل دونها حقائق من المعارف الحقيقية، فلمعنى الإمامة حقيقة وراء هذه الحقائق.

و الذي نجده في كلامه تعالى: أنه كلما تعرض لمعنى الإمامة تعرض معها للهداية تعرض التفسير، قال تعالى في قصص إبراهيم (عليه السلام): «و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة و كلا جعلنا صالحين و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا»: الأنبياء - 73، و قال سبحانه: «و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون»: السجدة - 24، فوصفها بالهداية وصف تعريف، ثم قيدها بالأمر، فبين أن الإمامة ليست مطلق الهداية، بل هي الهداية التي تقع بأمر الله، و هذا الأمر هو الذي بين حقيقته في قوله: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء»: يس - 83، و قوله: «و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر»: القمر - 50، و سنبين في الآيتين أن الأمر الإلهي و هو الذي تسميه الآية المذكورة بالملكوت وجه آخر للخلق، يواجهون به الله سبحانه، طاهر مطهر من قيود الزمان و المكان خال من التغير و التبدل و هو المراد بكلمة - كن - الذي ليس إلا وجود الشيء العيني، و هو قبال الخلق الذي هو وجه آخر من وجهي الأشياء، فيه التغير و التدريج و الانطباق على قوانين الحركة و الزمان، و ليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله إن شاء الله العزيز.

و بالجملة فالإمام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم، و هدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب بأمر الله دون مجرد إراءة الطريق الذي هو شأن النبي و الرسول و كل مؤمن يهدي إلى الله سبحانه بالنصح و الموعظة الحسنة، قال تعالى: «و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء» و يهدي من يشاء»: إبراهيم - 4، و قال تعالى: في مؤمن آل فرعون، «و قال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد»: مؤمن - 38، قال تعالى: «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون»: التوبة - 122، و سيتضح لك هذا المعنى مزيد اتضاح.

ثم إنه تعالى بين سبب موهبة الإمامة بقوله: «لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون الآية» فبين أن الملاك في ذلك صبرهم في جنب الله - و قد أطلق الصبر - فهو في كل ما يبتلي و يمتحن به عبد في عبوديته، و كونهم قبل ذلك موقنين، و قد ذكر في جملة قصص إبراهيم (عليه السلام) قوله: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين»: الأنعام - 75، و الآية كما ترى تعطي بظاهرها: أن إراءة الملكوت لإبراهيم كانت مقدمة لإفاضة اليقين عليه، و يتبين به أن اليقين لا ينفك عن مشاهدة الملكوت كما هو ظاهر قوله تعالى: «كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم»: التكاثر - 6 و قوله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون - إلى أن قال - كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، و ما أدريك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون»: المطففين - 21 و هذه الآيات تدل على أن المقربين هم الذين لا يحجبون عن ربهم بحجاب قلبي و هو المعصية و الجهل و الريب و الشك، فهم أهل اليقين بالله، و هم يشهدون عليين كما يشهدون الجحيم.

و بالجملة فالإمام يجب أن يكون إنسانا ذا يقين مكشوفا له عالم الملكوت - متحققا بكلمات من الله سبحانه - و قد مر أن الملكوت هو الأمر الذي هو الوجه الباطن من وجهي هذا العالم، فقوله تعالى: يهدون بأمرنا، يدل دلالة واضحة على أن كل ما يتعلق به أمر الهداية - و هو القلوب و الأعمال - فالإمام باطنه و حقيقته، و وجهه الأمري حاضر عنده غير غائب عنه، و من المعلوم أن القلوب و الأعمال كسائر الأشياء في كونها ذات وجهين، فالإمام يحضر عنده و يلحق به أعمال العباد، خيرها و شرها، و هو المهيمن على السبيلين جميعا، سبيل السعادة و سبيل الشقاوة.

و قال تعالى أيضا: «يوم ندعوا كل أناس بإمامهم»: الإسراء - 71 و سيجيء تفسيره بالإمام الحق دون كتاب الأعمال، على ما يظن من ظاهرها، فالإمام هو الذي يسوق الناس إلى الله سبحانه يوم تبلى السرائر، كما أنه يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحياة الدنيا و باطنها، و الآية مع ذلك تفيد أن الإمام لا يخلو عنه زمان من الأزمنة، و عصر من الأعصار، لمكان قوله تعالى: كل أناس، على ما سيجيء في تفسير الآية من تقريبه.

ثم إن هذا المعنى أعني الإمامة، على شرافته و عظمته، لا يقوم إلا بمن كان سعيد الذات بنفسه، إذ الذي ربما تلبس ذاته بالظلم و الشقاء، فإنما سعادته بهداية من غيره، و قد قال الله تعالى: «أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى»: يونس - 35.

و قد قوبل في الآية بين الهادي إلى الحق و بين غير المهتدي إلا بغيره، أعني المهتدي بغيره، و هذه المقابلة تقتضي أن يكون الهادي إلى الحق مهتديا بنفسه، و أن المهتدي بغيره لا يكون هاديا إلى الحق البتة.

و يستنتج من هنا أمران: أحدهما: أن الإمام يجب أن يكون معصوما عن الضلال و المعصية، و إلا كان غير مهتد بنفسه، كما مر كما، يدل عليه أيضا قوله تعالى: «و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلوة، و إيتاء الزكوة و كانوا لنا عابدين»: الأنبياء - 73 فأفعال الإمام خيرات يهتدي إليها لا بهداية من غيره بل باهتداء من نفسه بتأييد إلهي، و تسديد رباني و الدليل عليه قوله تعالى: «فعل الخيرات» بناء على أن المصدر المضاف يدل على الوقوع، ففرق بين مثل قولنا: و أوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات فلا يدل على التحقق و الوقوع، بخلاف قوله «و أوحينا إليهم فعل الخيرات» فهو يدل على أن ما فعلوه من الخيرات إنما هو بوحي باطني و تأييد سماوي.

الثاني: عكس الأمر الأول و هو أن من ليس بمعصوم فلا يكون إماما هاديا إلى الحق البتة.

و بهذا البيان يظهر: أن المراد بالظالمين في قوله تعالى، «قال و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين» مطلق من صدر عنه ظلم ما، من شرك أو معصية، و إن كان منه في برهة من عمره، ثم تاب و صلح.

و قد سئل بعض أساتيذنا رحمة الله عليه: عن تقريب دلالة على عصمة الإمام.

فأجاب: أن الناس بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام: من كان ظالما في جميع عمره، و من لم يكن ظالما في جميع عمره، و من هو ظالم في أول عمره دون آخره، و من هو بالعكس هذا.

و إبراهيم (عليه السلام) أجل شأنا من أن يسأل الإمامة للقسم الأول و الرابع من ذريته، فبقي قسمان و قد نفى الله أحدهما، و هو الذي يكون ظالما في أول عمره دون آخره، فبقي الآخر، و هو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره انتهى و قد ظهر مما تقدم من البيان أمور: الأول: إن الإمامة لمجعولة.

الثاني: أن الإمام يجب أن يكون معصوما بعصمة إلهية.

الثالث: أن الأرض و فيه الناس، لا تخلو عن إمام حق.

الرابع: أن الإمام يجب أن يكون مؤيدا من عند الله تعالى.

الخامس: أن أعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام.

السادس: أنه يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمور معاشهم و معادهم.

السابع: أنه يستحيل أن يوجد فيهم من يفوقه في فضائل النفس.

فهذه سبع مسائل هي أمهات مسائل الإمامة: تعطيها الآية الشريفة بما ينضم إليها من الآيات و الله الهادي.

فإن قلت: لو كانت الإمامة هي الهداية بأمر الله تعالى: و هي الهداية إلى الحق الملازم مع الاهتداء بالذات كما استفيد من قوله تعالى: «أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع» الآية كان جميع الأنبياء أئمة قطعا، لوضوح أن نبوة النبي لا يتم إلا باهتداء من جانب الله تعالى بالوحي، من غير أن يكون مكتسبا من الغير، بتعليم أو إرشاد و نحوهما، و حينئذ فموهبة النبوة تستلزم موهبة الإمامة، و عاد الإشكال إلى أنفسكم.

قلت: الذي يتحصل من البيان السابق المستفاد من الآية أن الهداية بالحق و هي الإمامة تستلزم الاهتداء بالحق، و أما العكس و هو أن يكون كل من اهتدى بالحق هاديا لغيره بالحق، حتى يكون كل نبي لاهتدائه بالذات إماما، فلم يتبين بعد، و قد ذكر سبحانه هذا الاهتداء بالحق، من غير أن يقرنه بهداية الغير بالحق في قوله تعالى: «وهبنا له إسحاق و يعقوب كلا هدينا و نوحا هدينا من قبل، و من ذريته داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسى و هرون و كذلك نجزي المحسنين. و زكريا و يحيى و عيسى و إلياس كل من الصالحين، و إسمعيل و اليسع و يونس و لوطا و كلا فضلنا على العالمين. و من آبائهم و ذرياتهم و إخوانهم و اجتبيناهم و هديناهم إلى صراط مستقيم. ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون أولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين. أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده»: الأنعام - 90، و سياق الآيات كما ترى يعطي أن هذه الهداية أمر ليس من شأنه أن يتغير و يتخلف، و أن هذه الهداية لن ترتفع بعد رسول الله عن أمته، بل عن ذرية إبراهيم منهم خاصة، كما يدل عليه قوله تعالى: «و إذ قال إبراهيم لأبيه و قومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين. و جعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون»: الزخرف - 28، فأعلم قومه ببراءته في الحال و أخبرهم بهدايته في المستقبل، و هي الهداية بأمر الله حقا، لا الهداية التي يعطيها النظر و الاعتبار، فإنها كانت حاصلة مدلولا عليها بقوله: إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني، ثم أخبر الله: أنه جعل هذه الهداية كلمة باقية في عقب إبراهيم، و هذا أحد الموارد التي أطلق القرآن الكلمة فيها على الأمر الخارجي دون القول، كقوله تعالى: «و ألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها»: الفتح - 26.

و قد تبين بما ذكر: أن الإمامة في ولد إبراهيم بعده، و في قوله تعالى: «قال و من ذريتي. قال لا ينال عهدي الظالمين» إشارة إلى ذلك، فإن إبراهيم (عليه السلام) إنما كان سأل الإمامة لبعض ذريته لا لجميعهم، فأجيب: بنفيها عن الظالمين من ولده، و ليس جميع ولده ظالمين بالضرورة حتى يكون نفيها عن الظالمين نفيا لها عن الجميع، ففيه إجابة لما سأله مع بيان أنها عهد، و عهده تعالى لا ينال الظالمين.

قوله تعالى: لا ينال عهدي الظالمين، في التعبير إشارة إلى غاية بعد الظالمين عن ساحة العهد الإلهي، فهي من الاستعارة بالكناية.

بحث روائي

في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): أن الله عز و جل اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، و أن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، و أن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، و أن الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما، فلما جمع له الأشياء قال: «إني جاعلك للناس إماما» قال (عليه السلام): فمن عظمها في عين إبراهيم قال: و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين قال: لا يكون السفيه إمام التقي.

أقول: و روي هذا المعنى أيضا عنه بطريق آخر و عن الباقر (عليه السلام) بطريق آخر، و رواه المفيد عن الصادق (عليه السلام).

قوله: إن الله اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، يستفاد ذلك من قوله تعالى: «و لقد آتينا إبراهيم رشده من قبل و كنا به عالمين - إلى قوله - من الشاهدين»: الأنبياء - 56، و هو اتخاذ بالعبودية في أول أمر إبراهيم.

و اعلم أن اتخاذه تعالى أحدا من الناس عبدا غير كونه في نفسه عبدا، فإن العبدية من لوازم الإيجاد و الخلقة، لا ينفك عن مخلوق ذي فهم و شعور، و لا يقبل الجعل و الاتخاذ و هو كون الإنسان مثلا مملوك الوجود لربه، مخلوقا مصنوعا له، سواء جرى في حياته على ما يستدعيه مملوكيته الذاتية، و استسلم لربوبية ربه العزيز، أو لم يجر على ذلك، قال تعالى: «إن كل من في السموات و الأرض إلا آتي الرحمن عبدا»: مريم - 94، و إن كان إذا لم يجر على رسوم العبودية و سنن الرقية استكبارا في الأرض و عتوا كان من الحري أن لا يسمى عبدا بالنظر إلى الغايات، فإن العبد هو الذي أسلم وجهه لربه، و أعطاه تدبير نفسه، فينبغي أن لا يسمى بالعبد إلا من كان عبدا في نفسه و عبدا في عمله، فهو العبد حقيقة، قال تعالى: «و عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا»: الفرقان - 63.

و عليهذا فاتخاذه تعالى إنسانا عبدا - و هو قبول كونه عبدا و الإقبال عليه بالربوبية - هو الولاية، و هو تولي أمره كما يتولى الرب أمر عبده، و العبودية مفتاح للولاية، كما يدل عليه قوله تعالى: «قل إن وليي الله الذي نزل الكتاب، و هو يتولى الصالحين»: الأعراف - 196، أي اللائقين للولاية، فإنه تعالى سمى النبي في آيات من كتابه بالعبد، قال تعالى: «الذي أنزل على عبده الكتاب»: الكهف - 1، و قال تعالى: «ينزل على عبده آيات بينات»: الحديد - 9 و قال تعالى: «قام عبد الله يدعوه»: الجن - 19، فقد ظهر أن الاتخاذ للعبودية هو الولاية.

و قوله (عليه السلام): و أن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، الفرق بين النبي و الرسول على ما يظهر من الروايات المروية عن أئمة أهل البيت: أن النبي هو الذي يرى في المنام ما يوحى به إليه، و الرسول هو الذي يشاهد الملك فيكلمه، و الذي يظهر من قصص إبراهيم هو هذا الترتيب، قال تعالى: «و اذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع، و لا يبصر، و لا يغني عنك شيئا»: مريم - 42، فظاهر الآية أنه (عليه السلام) كان صديقا نبيا حين يخاطب أباه بذلك، فيكون هذا تصديقا لما أخبر به إبراهيم (عليه السلام) في أول وروده على قومه: «إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين»: الزخرف - 27، و قال تعالى: «و لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام»: هود - 69، و القصة - و هي تتضمن مشاهدة الملك و تكليمه - واقعة في حال كبر إبراهيم (عليه السلام) بعد ما فارق أباه و قومه.

و قوله (عليه السلام): إن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، يستفاد ذلك من قوله تعالى: «و اتبع ملة إبراهيم حنيفا، و اتخذ الله إبراهيم خليلا»: النساء - 125، فإن ظاهره أنه إنما اتخذه خليلا لهذه الملة الحنيفية التي شرعها بأمر ربه إذ المقام مقام بيان شرف ملة إبراهيم الحنيف، التي تشرف بسببها إبراهيم (عليه السلام) بالخلة و الخليل أخص من الصديق فإن أحد المتحابين يسمى صديقا إذا صدق في معاشرته و مصاحبته ثم يصير خليلا إذا قصر حوائجه على صديقه، و الخلة الفقر و الحاجة.

و قوله (عليه السلام): و أن الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما، إلخ يظهر معناه مما تقدم من البيان.

و قوله: قال لا يكون السفيه إمام التقي إشارة إلى قوله تعالى، «و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه و لقد اصطفيناه في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين»: البقرة - 131، فقد سمى الله سبحانه الرغبة عن ملة إبراهيم و هو الظلم سفها، و قابلها بالاصطفاء، و فسر الاصطفاء بالإسلام، كما يظهر بالتدبر في قوله: «إذ قال له ربه أسلم» ثم جعل الإسلام و التقوى واحدا أو في مجرى واحد في قوله: «اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون»: آل عمران - 102 فافهم ذلك.

و عن المفيد عن درست و هشام عنهم (عليهم السلام) قال: قد كان إبراهيم نبيا و ليس بإمام، حتى قال الله تبارك و تعالى: «إني جاعلك للناس إماما قال و من ذريتي» فقال الله تبارك و تعالى: لا ينال عهدي الظالمين، من عبد صنما أو وثنا أو مثالا، لا يكون إماما.

أقول: و قد ظهر معناه مما مر.

و في أمالي الشيخ، مسندا، و عن مناقب ابن المغازلي مرفوعا عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في الآية عن قول الله لإبراهيم: من سجد لصنم دوني لا أجعله إماما. قال (عليه السلام) و انتهت الدعوة إلي و إلى أخي علي، لم يسجد أحدنا لصنم قط و في الدر المنثور،: أخرج وكيع و ابن مردويه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن النبي: في قوله: «لا ينال عهدي الظالمين» قال: لا طاعة إلا في المعروف.

و في الدر المنثور، أيضا: أخرج عبد بن حميد عن عمران بن حصين سمعت النبي يقول: لا طاعة لمخلوق في معصية الله.

أقول: معانيها ظاهرة مما مر.

و في تفسير العياشي، بأسانيد عن صفوان الجمال قال: كنا بمكة فجرى الحديث في قول الله: «و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن» قال: فأتمهن بمحمد و علي و الأئمة من ولد علي في قول الله: «ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم».

أقول: و الرواية مبنية على كون المراد بالكلمة الإمامة كما فسرت بها في قوله تعالى: «فإنه سيهدين فجعلها كلمة باقية في عقبه» الآية فيكون معنى الآية: و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات» هن إمامته، و إمامة إسحاق و ذريته، و أتمهن بإمامة محمد، و الأئمة من أهل بيته من ولد إسمعيل ثم بين الأمر بقوله: قال إني جاعلك للناس إماما إلى آخر الآية.


وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

بيان

قوله تعالى: و إذ جعلنا البيت مثابة للناس و أمنا إشارة إلى تشريع الحج و الأمن في البيت، و المثابة هي المرجع، من ثاب يثوب إذا رجع.

قوله تعالى: «و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى كأنه عطف على قوله: جعلنا البيت مثابة، بحسب المعنى، فإن قوله: جعلنا البيت مثابة، لما كان إشارة إلى التشريع كان المعنى و إذ قلنا للناس ثوبوا إلى البيت و حجوا إليه، و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، و ربما قيل إن الكلام على تقدير القول، و التقدير: و قلنا اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، و المصلى اسم مكان من الصلاة بمعنى الدعاء أي اتخذوا من مقامه (عليه السلام) مكانا للدعاء و الظاهر أن قوله: جعلنا البيت مثابة إلخ بمنزلة التوطئة أشير به إلى مناط تشريع الصلاة و لذا لم يقل: و صلوا، في مقام إبراهيم، بل قال: و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فلم يعلق الأمر بالصلاة في المقام، بل علق على اتخاذ المصلى منه.

قوله تعالى: و عهدنا إلى إبراهيم و إسمعيل أن طهرا، العهد هو الأمر و التطهير إما تخليص البيت لعبادة الطائفين، و العاكفين، و المصلين، و نسكهم فيكون من الاستعارة بالكناية، و أصل المعنى: أن خلصا بيتي لعبادة العباد، و ذلك تطهير و إما تنظيفه من الأقذار و الكثافات الطارئة من عدم مبالات الناس، و الركع السجود جمعا راكع و ساجد و كان المراد به المصلون.

قوله تعالى: و إذ قال إبراهيم رب اجعل، هذا دعاء دعا به إبراهيم يسأل به الأمن على أهل مكة و الرزق و قد أجيبت دعوته، و حاشا لله سبحانه أن ينقل في كلامه دعاء لا يستجيبه و لا يرده في كلامه الحق فيشتمل كلامه على هجاء لغو لغا به لاغ جاهل، و قد قال تعالى: «و الحق أقول»: ص - 84، و قال تعالى: «إنه لقول فصل و ما هو بالهزل»: الطارق - 14.

و قد نقل القرآن العظيم عن هذا النبي الكريم دعوات كثيرة دعا بها و سألها ربه كدعائه لنفسه في بادىء أمره، و دعائه عند مهاجرته إلى سورية و دعائه و مسألته بقاء الذكر الخير، و دعائه لنفسه و ذريته و لوالديه و للمؤمنين و المؤمنات، و دعائه لأهل مكة بعد بناء البيت، و دعائه و مسألته بعثة النبي من ذريته.

و من دعواته و مسائله التي تجسم آماله و تشخص مجاهداته و مساعيه في جنب الله و فضائل نفسه المقدسة، و بالجملة تعرف موقعه و زلفاه من الله عز اسمه، و سائر قصصه و ما مدحه به ربه، يستنبط شرح حياته الشريفة، و سنتعرض للميسور من ذلك في سورة الأنعام.

قوله تعالى: من آمن منهم، لما سأل (عليه السلام) لبلد مكة الأمن، ثم سأل لأهله أن يرزقوا من الثمرات، استشعر: أن الأهل سيكون منهم مؤمنون، و كافرون و دعاؤه للأهل بالرزق يعم الكافر و المؤمن، و قد تبرأ من الكافرين و ما يعبدونه، قال تعالى «فلما تبين له أنه عدو لله تبرء منه»: التوبة - 114، فشهد تعالى له: بالبراءة و التبري عن كل عدو لله، حتى أبيه، و لذلك لما استشعر ما استشعره من عموم دعوته قيدها بقوله من آمن منهم - و هو يعلم أن رزقهم من الثمرات لا يتم من دون شركة الكافرين على ما يحكم به ناموس الحياة الدنيوية الاجتماعية - غير أنه خص مسألته - و الله أعلم بما يحكم لسائر عباده، و يريد في حقهم، فأجيب (عليه السلام) بما يشمل المؤمن و الكافر، و و فيه بيان أن المستجاب من دعوته ما يجري على حكم العادة و قانون الطبيعة من غير خرق للعادة، و إبطال لظاهر حكم الطبيعة، و لم يقل: و ارزق من آمن من أهله من الثمرات لأن المطلوب استيهاب الكرامة للبلد لكرامة البيت المحرم، و لا ثمرة تحصل في واد غير ذي زرع، وقع فيه البيت، و لو لا ذلك لم يعمر البلد، و لا وجد أهلا يسكنونه.

قوله تعالى: و من كفر فأمتعه قليلا، قرىء فأمتعه من باب الإفعال و التفعيل و الإمتاع و التمتيع بمعنى واحد.

قوله تعالى: ثم اضطره إلى عذاب النار إلخ، فيه إشارة إلى مزيد إكرام البيت و تطييب لنفس إبراهيم (عليه السلام)، كأنه قيل: ما سألته من إكرام البيت برزق المؤمنين من أهل هذا البلد استجبته و زيادة، و لا يغتر الكافر بذلك أن له كرامة على الله، و إنما ذلك إكرام لهذا البلد، و إجابة لدعوتك بأزيد مما سألته، فسوف يضطر إلى عذاب النار، و بئس المصير.

قوله تعالى: و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسمعيل، القواعد جمع قاعدة و هي ما قعد من البناء على الأرض، و استقر عليه الباقي، و رفع القواعد من المجاز بعد ما يوضع عليها منها، و نسبة الرفع المتعلق بالمجموع إلى القواعد وحدها.

و في قوله تعالى: من البيت تلميح إلى هذه العناية المجازية.

قوله تعالى: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، دعاء لإبراهيم و إسمعيل، و ليس على تقدير القول، أو ما يشبهه، و المعنى يقولان: ربنا تقبل منا إلخ، بل هو في الحقيقة حكاية المقول نفسه، فإن قوله: يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسمعيل حكاية الحال الماضية، فهما يمثلان بذلك تمثيلا كأنهما يشاهدان و هما مشتغلان بالرفع، و السامع يراهما على حالهما ذلك ثم يسمع دعاءهما بألفاظهما من غير وساطة المتكلم المشير إلى موقفهما و عملهما، و هذا كثير في القرآن، و هو من أجمل السياقات القرآنية - و كلها جميل - و فيه من تمثيل القصة و تقريبه إلى الحس ما لا يوجد و لا شيء من نوع بداعته في التقبل بمثل القول و نحوه.

و في عدم ذكر متعلق التقبل - و هو بناء البيت - تواضع في مقام العبودية، و استحقار لما عملا به و المعنى ربنا تقبل منا هذا العمل اليسير إنك أنت السميع لدعوتنا، العليم بما نويناه في قلوبنا.

قوله تعالى: ربنا و اجعلنا مسلمين لك، و من ذريتنا أمة مسلمة لك، من البديهي أن الإسلام على ما تداول بيننا من لفظه، و يتبادر إلى أذهاننا من معناه أول مراتب العبودية، و به يمتاز المنتحل من غيره، و هو الأخذ بظاهر الاعتقادات و الأعمال الدينية، أعم من الإيمان و النفاق، و إبراهيم (عليه السلام) - و هو النبي الرسول أحد الخمسة أولي العزم، صاحب الملة الحنيفية - أجل من أن يتصور في حقه أن لا يكون قد ناله إلى هذا الحين، و كذا ابنه إسمعيل رسول الله و ذبيحه، أو يكونا قد نالاه و لكن لم يعلما بذلك، أو يكونا علما بذلك و أرادا البقاء على ذلك، و هما في ما هما فيه من القربى و الزلفى، و المقام مقام الدعوة عند بناء البيت المحرم، و هما أعلم بمن يسألانه، و أنه من هو، و ما شأنه، على أن هذا الإسلام من الأمور الاختيارية التي يتعلق بها الأمر و النهي كما قال تعالى: «إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين»: البقرة - 131، و لا معنى لنسبة ما هو كذلك إلى الله سبحانه أو مسألة ما هو فعل اختياري للإنسان من حيث هو كذلك من غير عناية يصح معها ذلك.

فهذا الإسلام المسئول غير ما هو المتداول المتبادر عندنا منه، فإن الإسلام مراتب و الدليل على أنه ذو مراتب قوله تعالى: «إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت» الآية حيث يأمرهم إبراهيم بالإسلام و قد كان مسلما، فالمراد بهذا الإسلام المطلوب غير ما كان عنده من الإسلام الموجود، و لهذا نظائر في القرآن.

فهذا الإسلام هو الذي سنفسره من معناه، و هو تمام العبودية و تسليم العبد كل ما له إلى ربه، و هو إن كان معنى اختياريا للإنسان من طريق مقدماته إلا أنه إذا أضيف إلى الإنسان العادي و حاله القلبي المتعارف كان غير اختياري بمعنى كونه غير ممكن النيل له - و حاله حاله - كسائر مقامات الولاية و مراحله العالية، و كسائر معارج الكمال البعيدة عن حال الإنسان المتعارف المتوسط الحال بواسطة مقدماته الشاقة، و لهذا يمكن أن يعد أمرا إلهيا خارجا عن اختيار الإنسان، و يسأل من الله سبحانه أن يفيض به، و أن يجعل الإنسان متصفا به.

على أن هنا نظرا أدق من ذلك، و هو أن الذي ينسب إلى الإنسان و يعد اختياريا له، هو الأفعال، و أما الصفات و الملكات الحاصلة من تكرر صدورها فليست اختيارية بحسب الحقيقة، فمن الجائز أو الواجب أن ينسب إليه تعالى، و خاصة إذا كانت من الحسنات و الخيرات التي نسبتها إليه تعالى، أولى من نسبتها إلى الإنسان، و على ذلك جرى ديدن القرآن، كما في قوله تعالى: «رب اجعلني مقيم الصلوة و من ذريتي»: إبراهيم - 40، و قوله تعالى: «و ألحقني بالصالحين»: الشعراء - 83، و قوله تعالى: «رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي، و على والدي و أن أعمل صالحا ترضيه»: النمل - 18، و قوله تعالى: «ربنا و اجعلنا مسلمين لك» الآية، فقد ظهر أن المراد بالإسلام غير المعنى الذي يشير إليه قوله تعالى: «قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لما يدخل الإيمان في قلوبكم»: الحجرات - 14، بل معنى أرقى و أعلى منه سيجيء بيانه.

قوله تعالى: و أرنا مناسكنا و تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، يدل على ما مر من معنى الإسلام أيضا، فإن المناسك جمع منسك بمعنى العبادة، كما في قوله تعالى: «و لكل أمة جعلنا منسكا»: الحج - 34، أو بمعنى المتعبد، أعني الفعل المأتي به عبادة و إضافة المصدر يفيد التحقق، فالمراد بمناسكنا هي الأفعال العبادية الصادرة منهما و الأعمال التي يعملانها دون الأفعال، و الأعمال التي يراد صدورها منهما، فليس قوله: أرنا بمعنى علمنا أو وفقنا، بل التسديد بآرائه حقيقة الفعل الصادر منهما، كما أشرنا إليه في قوله تعالى: «و أوحينا إليهم فعل الخيرات، و إقام الصلوة و إيتاء الزكوة»: الأنبياء - 73، و سنبينه في محله: أن هذا الوحي تسديد في الفعل، لا تعليم للتكليف المطلوب، و كأنه إليه الإشارة بقوله تعالى: «و اذكر عبادنا إبراهيم، و إسحاق، و يعقوب، أولي الأيدي و الأبصار. إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار»: ص - 46.

فقد تبين أن المراد بالإسلام و البصيرة في العبادة، غير المعنى الشائع المتعارف، و كذلك المراد بقوله تعالى: و تب علينا، لأن إبراهيم و إسماعيل كانا نبيين معصومين بعصمة الله تعالى، لا يصدر عنهما ذنب حتى يصح توبتهما منه، كتوبتنا من المعاصي الصادرة عنا.

فإن قلت: كل ما ذكر من معنى الإسلام و إراءة المناسك و التوبة مما يليق بشأن إبراهيم و إسمعيل (عليهما السلام)، لا يلزم أن يكون هو مراده في حق ذريته فإنه لم يشرك ذريته معه و مع ابنه إسماعيل إلا في دعوة الإسلام و قد سأل لهم الإسلام بلفظ آخر في جملة أخرى، فقال: و من ذريتنا أمة مسلمة لك و لم يقل: و اجعلنا و من ذريتنا مسلمين، أو ما يؤدي معناه فما المانع أن يكون مراده من الإسلام ما يعم جميع مراتبه حتى ظاهر الإسلام، فإن الظاهر من الإسلام أيضا له آثار جميلة، و غايات نفيسة في المجتمع الإنساني، يصح أن يكون بذلك بغية لإبراهيم (عليه السلام) يطلبها من ربه كما كان كذلك عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث اكتفى (صلى الله عليه وآله وسلم) من الإسلام بظاهر الشهادتين الذي به يحقن الدماء، و يجوز التزويج، و يملك الميراث، و على هذا يكون المراد بالإسلام في قوله تعالى: ربنا و اجعلنا مسلمين لك، ما يليق بشأن إبراهيم و إسماعيل، و في قوله: و من ذريتنا أمة مسلمة لك، ما هو اللائق بشأن الأمة التي فيها المن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 5:21 am

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)

بيان

قوله تعالى: و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، الرغبة إذا عديت بعن أفادت معنى الإعراض و النفرة، و إذا عديت بفي أفادت: معنى الشوق و الميل، و سفه يأتي متعديا و لازما، و لذلك ذكر بعضهم أن قوله: نفسه مفعول لقوله: سفه، و ذكر آخرون أنه تمييز لا مفعول، و المعنى على أي حال: أن الإعراض عن ملة إبراهيم من حماقة النفس، و عدم تمييزها ما ينفعها مما يضرها و من هذه الآية يستفاد معنى ما ورد في الحديث: أن العقل ما عبد به الرحمن.

قوله تعالى: و لقد اصطفيناه في الدنيا، الاصطفاء أخذ صفوة الشيء و تمييزه عن غيره إذا اختلطا، و ينطبق هذا المعنى بالنظر إلى مقامات الولاية على خلوص العبودية و هو أن يجري العبد في جميع شئونه على ما يقتضيه مملوكيته و عبوديته من التسليم الصرف لربه، و هو التحقق بالدين في جميع الشئون فإن الدين لا يشتمل إلا على مواد العبودية في أمور الدنيا و الآخرة و تسليم ما يرضاه الله لعبده في جميع أموره كما قال الله تعالى: «إن الدين عند الله الإسلام»: آل عمران - 19، فظهر: أن مقام الاصطفاء هو مقام الإسلام بعينه و يشهد بذلك قوله تعالى: «إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين» الآية فإن الظاهر أن الظرف متعلق بقوله: اصطفيناه، فيكون المعنى أن اصطفاءه إنما كان حين قال له ربه: أسلم، فأسلم لله رب العالمين فقوله تعالى: إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين، بمنزلة التفسير لقوله: اصطفيناه.

و في الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: إذ قال له ربه أسلم، و لم يقل إذ قلنا له أسلم، و التفات آخر من الخطاب إلى الغيبة في المحكي من قول إبراهيم: قال أسلمت لرب العالمين، و لم يقل: قال أسلمت لك أما الأول، فالنكتة فيه الإشارة إلى أنه كان سرا استسر به ربه إذ أسره إليه فيما خلى به معه فإن للسامع المخاطب اتصالا بالمتكلم فإذا غاب المتكلم عن صفة حضوره انقطع المخاطب عن مقامه و كان بينه و بين ما للمتكلم من الشأن و القصة ستر مضروب، فأفاد أن القصة من مسامرات الأنس و خصائص الخلوة.

و أما الثاني فلأن قوله تعالى: إذ قال له ربه، يفيد معنى الاختصاص باللطف و الاسترسال في المسارة لكن أدب الحضور كان يقتضي من إبراهيم و هو عبد عليه طابع الذلة و التواضع أن لا يسترسل، و لا يعد نفسه مختصا بكرامة القرب متشرفا بحظيرة الأنس، بل يراها واحدا من العبيد الأذلاء المربوبين، فيسلم لرب يستكين إليه جميع العالمين فيقول: أسلمت لرب العالمين.

و الإسلام و التسليم و الاستسلام بمعنى واحد، من السلم، و أحد الشيئين إذا كان بالنسبة إلى الآخر بحال لا يعصيه و لا يدفعه فقد أسلم و سلم و استسلم له، قال تعالى «بلى من أسلم وجهه لله»: البقرة - 112، و قال تعالى: «وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفا مسلما»: الأنعام - 79، و وجه الشيء ما يواجهك به، و هو بالنسبة إليه تعالى تمام وجود الشيء، فإسلام الإنسان له تعالى هو وصف الانقياد و القبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكم تكويني، من قدر و قضاء، أو تشريعي من أمر أو نهي أو غير ذلك، و من هنا كان له مراتب بحسب ترتب الواردات بمراتبها.

الأولى: من مراتب الإسلام، القبول لظواهر الأوامر و النواهي بتلقي الشهادتين لسانا، سواء وافقه القلب، أو خالفه، قال تعالى: «قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لما يدخل الإيمان في قلوبكم»: الحجرات - 14، و يتعقب الإسلام بهذا المعنى أول مراتب الإيمان و هو الإذعان القلبي بمضمون الشهادتين إجمالا و يلزمه العمل في غالب الفروع.

الثانية: ما يلي الإيمان بالمرتبة الأولى، و هو التسليم و الانقياد القلبي لجل الاعتقادات الحقة التفصيلية و ما يتبعها من الأعمال الصالحة و إن أمكن التخطي في بعض الموارد، قال الله تعالى في وصف المتقين: «الذين آمنوا بآياتنا و كانوا مسلمين»: الزخرف - 69، و قال أيضا: «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة»: البقرة - 208، فمن الإسلام ما يتأخر عن الإيمان محققا فهو غير المرتبة الأولى من الإسلام، و يتعقب هذا الإسلام المرتبة الثانية من الإيمان و هو الاعتقاد التفصيلي بالحقائق الدينية، قال تعالى: «إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا و جاهدوا في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم أولئك هم الصادقون»: الحجرات - 15، و قال أيضا: «يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله و رسوله، و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم»: الصف - 11، و فيه إرشاد المؤمنين إلى الإيمان، فالإيمان غير الإيمان.

الثالثة: ما يلي الإيمان بالمرتبة الثانية فإن النفس إذا أنست بالإيمان المذكور و تخلقت بأخلاقه تمكنت منها و انقادت لها سائر القوى البهيمية و السبعية، و بالجملة القوى المائلة إلى هوسات الدنيا و زخارفها الفانية الداثرة، و صار الإنسان يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، و لم يجد في باطنه و سره ما لا ينقاد إلى أمره و نهيه أو يسخط من قضائه و قدره، قال الله سبحانه: «فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما»: النساء - 65، و يتعقب هذه المرتبة من الإسلام المرتبة الثالثة من الإيمان، قال الله تعالى «قد أفلح المؤمنون» إلى أن قال: «و الذين هم عن اللغو معرضون»: المؤمنون - 3، و منه قوله تعالى: «إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين» إلى غير ذلك، و ربما عدت المرتبتان الثانية و الثالثة مرتبة واحدة.

و الأخلاق الفاضلة من الرضاء و التسليم، و الحسبة و الصبر في الله، و تمام الزهد و الورع، و الحب و البغض في الله، من لوازم هذه المرتبة.

الرابعة: ما يلي، المرتبة الثالثة من الإيمان فإن حال الإنسان و هو في المرتبة السابقة مع ربه حال العبد المملوك مع مولاه، إذ كان قائما بوظيفة عبوديته حق القيام، و هو التسليم الصرف لما يريده المولى أو يحبه و يرتضيه، و الأمر في ملك رب العالمين لخلقه أعظم من ذلك و أعظم و إنه حقيقة الملك الذي لا استقلال دونه لشيء من الأشياء لا ذاتا و لا صفة، و لا فعلا على ما يليق بكبريائه جلت كبرياؤه.

فالإنسان - و هو في المرتبة السابقة من التسليم - ربما أخذته العناية الربانية فأشهدت له أن الملك لله وحده لا يملك شيء سواه لنفسه شيئا إلا به لا رب سواه، و هذا معنى وهبي، و إفاضة إلهية لا تأثير لإرادة الإنسان فيه، و لعل قوله تعالى: ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك، و أرنا مناسكنا، الآية، إشارة إلى هذه المرتبة من الإسلام فإن قوله تعالى: إذ قال له ربه أسلم، قال، أسلمت لرب العالمين الآية ظاهره أنه أمر تشريعي لا تكويني، فإبراهيم كان مسلما باختياره، إجابة لدعوة ربه و امتثالا لأمره، و قد كان هذا من الأوامر المتوجهة إليه (عليه السلام) في مبادىء حاله، فسؤاله في أواخر عمره مع ابنه إسماعيل الإسلام و إراءة المناسك سؤال لأمر ليس زمامه بيده أو سؤال لثبات على أمر ليس بيده فالإسلام المسئول في الآية هو هذه المرتبة من الإسلام و يتعقب الإسلام بهذا المعنى المرتبة الرابعة من الإيمان و هو استيعاب هذا الحال لجميع الأحوال و الأفعال، قال تعالى: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، الذين آمنوا و كانوا يتقون»: يونس - 62، فإن هؤلاء المؤمنين المذكورين في الآية يجب أن يكونوا على يقين من أن لا استقلال لشيء دون الله، و لا تأثير لسبب إلا بإذن الله حتى لا يحزنوا من مكروه واقع، و لا يخافوا محذورا محتملا، و إلا فلا معنى لكونهم بحيث، لا يخوفهم شيء، و لا يحزنهم أمر، فهذا النوع من الإيمان بعد الإسلام المذكور فافهم.

قوله تعالى: و إنه في الآخرة لمن الصالحين، الصلاح، و هو اللياقة بوجه ربما نسب في كلامه إلى عمل الإنسان و ربما نسب إلى نفسه و ذاته، قال تعالى: «فليعمل عملا صالحا»: الكهف - 110، و قال تعالى: «و أنكحوا الأيامى منكم و الصالحين من عبادكم و إمائكم»: النور - 32. و صلاح العمل و إن لم يرد به تفسير بين من كلامه تعالى غير أنه نسب إليه من الآثار ما يتضح به معناه.

فمنها: أنه صالح لوجه الله، قال تعالى: «صبروا ابتغاء وجه ربهم»: الرعد - 22، و قال تعالى: «و ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله»: البقرة - 272.

و منها: أنه صالح لأن يثاب عليه، قال تعالى: «ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحا»: القصص - 80.

و منها: أنه يرفع الكلم الطيب الصاعد إلى الله سبحانه قال تعالى: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه»: فاطر - 10، فيستفاد من هذه الآثار المنسوبة إليه أن صلاح العمل معنى تهيؤه و لياقته لأن يلبس لباس الكرامة و يكون عونا و ممدا لصعود الكلام الطيب إليه تعالى، قال تعالى: «و لكن يناله التقوى منكم»: الحج - 37، و قال تعالى: «و كلا نمد هؤلاء، و هؤلاء من عطاء ربك، و ما كان عطاء ربك محظورا»: الإسراء - 20، فعطاؤه تعالى بمنزلة الصورة، و صلاح العمل بمنزلة المادة.

و أما صلاح النفس و الذات فقد قال تعالى: «و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين، و الصديقين، و الشهداء و الصالحين، و حسن أولئك رفيقا»: النساء - 69، و قال تعالى: «و أدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين»: الأنبياء - 86، و قال تعالى حكاية عن سليمان: «و أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين»: النمل - 19، و قال تعالى: «و لوطا آتيناه حكما و علما إلى قوله و أدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين»: الأنبياء - 75، و ليس المراد الصلاح لمطلق الرحمة العامة الإلهية الواسعة لكل شيء و لا الخاصة بالمؤمنين على ما يفيده قوله تعالى: «و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون»: الأعراف - 156، إذ هؤلاء القوم و هم الصالحون، طائفة خاصة من المؤمنين المتقين، و من الرحمة ما يختص ببعض دون، بعض قال تعالى «يختص برحمته من يشاء»: البقرة - 105 و ليس المراد أيضا مطلق كرامة، الولاية و هو تولي الحق سبحانه أمر عبده، فإن الصالحين و إن شرفوا بذلك، و كانوا من الأولياء المكرمين على ما بيناه سابقا في قوله تعالى: «اهدنا الصراط المستقيم»: فاتحة الكتاب - 6 و سيجيء في تفسير الآية لكن هذه أعني الولاية صفة مشتركة بينهم و بين النبيين، و الصديقين، و الشهداء فلا يستقيم إذن عدهم طائفة خاصة في قبالهم.

نعم الأثر الخاص بالصلاح هو الإدخال في الرحمة، و هو الأمن العام من العذاب كما ورد المعنيان معا في الجنة، قال تعالى: «فيدخلهم ربهم في رحمته»: الجاثية - 30، أي في الجنة، و قال تعالى: «يدعون فيها بكل فاكهة آمنين»: الدخان - 55 أي في الجنة.

و أنت إذا تدبرت قوله تعالى: «و أدخلناه في رحمتنا»: الأنبياء - 75 و قوله: «و كلا جعلنا صالحين»: الأنبياء - 72 حيث نسب الفعل إلى نفسه تعالى لا إلى العبد - ثم تأملت أنه تعالى قصر الأجر و الشكر على ما بحذاء العمل و السعي قضيت بأن الصلاح الذاتي كرامة ليست بحذاء العمل و الإرادة و ربما تبين به معنى قوله تعالى: «لهم ما يشاءون فيها» - و هو ما بالعمل - و قوله: «و لدينا مزيد» - و هو أمر غير ما بالعمل على ما سيجيء بيانه إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: «لهم ما يشاءون فيها»: ق - 35.

ثم إنك إذا تأملت حال إبراهيم و مكانته في أنه كان نبيا مرسلا و أحد أولي العزم من الأنبياء، و أنه إمام، و أنه مقتدى عدة ممن بعده من الأنبياء و المرسلين و أنه من الصالحين بنص قوله تعالى: «و كلا جعلنا صالحين»: الأنبياء - 72، الظاهر في الصلاح المعجل على أن من هو دونه في الفضل من الأنبياء أكرم بهذا الصلاح المعجل و هو (عليه السلام) مع ذلك كله يسأل اللحوق بالصالحين الظاهر في أن هناك قوما من الصالحين سبقوه و هو يسأل اللحوق بهم فيما سبقوه إليه، و أجيب بذلك في الآخرة كما يحكيه الله تعالى في ثلاثة مواضع من كلامه حيث قال تعالى: «و لقد اصطفيناه في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين»: البقرة - 130، و قال تعالى: «و آتيناه أجره في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين»: العنكبوت - 27، و قال تعالى: «و آتيناه في الدنيا حسنة و إنه في الآخرة لمن الصالحين»: النحل - 122، فإذا تأملت ذلك حق التأمل قضيت بأن الصلاح ذو مراتب بعضها فوق بعض و لم تستبعد لو قرع سمعك أن إبراهيم (عليه السلام) سأل اللحوق بمحمد « (صلى الله عليه وآله وسلم)» و آله الطاهرين (عليهم السلام) فأجيب إلى ذلك في الآخرة لا في الدنيا فإنه (عليه السلام) يسأل اللحوق بالصالحين، و محمد « (صلى الله عليه وآله وسلم)» يدعيه لنفسه.

قال تعالى: «قل إن وليي الله الذي نزل الكتاب بالحق و هو يتولى الصالحين»: الأعراف - 196 فإن ظاهر الآية أن رسول الله « (صلى الله عليه وآله وسلم)» يدعي لنفسه الولاية فالظاهر منه أن رسول الله « (صلى الله عليه وآله وسلم)» هو المتحقق بالصلاح الذي يدعيه بموجب الآية لنفسه و إبراهيم كان يسأل الله اللحوق بعده من الصالحين يسبقونه في الصلاح فهو هو.

قوله تعالى: و وصى بها إبراهيم بنيه، أي وصى بالملة.

قوله تعالى: فلا تموتن، النهي عن الموت و هو أمر غير اختياري للإنسان، و التكليف إنما يتعلق بأمر اختياري إنما هو لرجوعه إلى أمر يتعلق بالاختيار، و التقدير احذروا أن يغتالكم الموت في غير حال الإسلام، أي داوموا و الزموا الإسلام لئلا يقع موتكم إلا في هذا الحال، و في الآية إشارة إلى أن الدين هو الإسلام كما قال تعالى: «إن الدين عند الله الإسلام»: آل عمران - 19.

قوله تعالى: و إله آبائك إبراهيم و إسمعيل و إسحق، في الكلام إطلاق لفظ الأب على الجد و العم و الوالد من غير مصحح للتغليب، و حجة فيما سيأتي إن شاء الله تعالى في خطاب إبراهيم لآزر بالأب.

قوله تعالى: إلها واحدا، في هذا الإيجاز بعد الإطناب بقوله: إلهك و إله آبائك «إلخ» دفع لإمكان إبهام اللفظ أن يكون إلهه غير إله آبائه على نحو ما يتخذه الوثنيون من الآلهة الكثيرة.

قوله تعالى: و نحن له مسلمون، بيان للعبادة و أنها ليست عبادة كيفما اتفقت بل عبادة على نهج الإسلام و في الكلام جملة أن دين إبراهيم هو الإسلام و الموروث منه في بني إبراهيم كإسحق و يعقوب و إسمعيل، و في بني إسرائيل، و في بني إسمعيل من آل إبراهيم جميعا هو الإسلام لا غير، و هو الذي أتى به إبراهيم من ربه فلا حجة لأحد في تركه و الدعوة إلى غيره.

بحث روائي

في الكافي، عن سماعة عن الصادق (عليه السلام): الإيمان من الإسلام بمنزلة الكعبة الحرام من الحرم قد يكون في الحرم و لا يكون في الكعبة و لا يكون في الكعبة حتى يكون في الحرم.

و فيه، عن سماعة أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله و التصديق برسول الله، به حقنت الدماء و عليه جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة الناس، و الإيمان الهدى و ما يثبت في القلوب من صفة الإسلام.

أقول: و في هذا المضمون روايات أخر و هي تدل على ما مر بيانه من المرتبة الأولى من الإسلام و الإيمان.

و فيه، عن البرقي عن علي (عليه السلام): قال الإسلام هو التسليم و التسليم هو اليقين، و فيه، عن كاهل عن الصادق: لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة، و حجوا البيت، و صاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله إلا صنع بخلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين الحديث.

أقول: و الحديثان يشيران إلى المرتبة الثالثة من الإسلام و الإيمان.

و في البحار، عن إرشاد الديلمي، و ذكر سندين لهذا الحديث، و هو من أحاديث المعراج و فيه: قال الله سبحانه: يا أحمد هل تدري أي عيش أهنى و أي حياة أبقى؟ قال: اللهم لا، قال: أما العيش الهنيء فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذكري و لا ينسى نعمتي، و لا يجهل حقي، يطلب رضائي في ليله و نهاره، و أما الحياة الباقية، فهي التي يعمل لنفسه حتى تهون عليه الدنيا، و تصغر في عينه، و تعظم الآخرة عنده، و يؤثر هواي على هواه و يبتغي مرضاتي، و يعظم حق نعمتي، و يذكر عملي به، و يراقبني بالليل و النهار عند كل سيئة أو معصية، و ينقي قلبه عن كل ما أكره، و يبغض الشيطان و وساوسه، و لا يجعل لإبليس على قلبه سلطانا و سبيلا، فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبا حتى أجعل قلبه و فراغه و اشتغاله و همه و حديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبتي من خلقي و أفتح عين قلبه و سمعه، حتى يسمع بقلبه و ينظر بقلبه إلى جلالي و عظمتي، و أضيق عليه الدنيا، و أبغض إليه ما فيها من اللذات، و أحذره من الدنيا و ما فيها كما يحذر الراعي على غنمه مراتع الهلكة، فإذا كان هكذا يفر من الناس فرارا، و ينقل من دار الفناء إلى دار البقاء، و من دار الشيطان إلى دار الرحمن، يا أحمد و لأزيننه بالهيبة و العظمة فهذا هو العيش الهنيء و الحياة الباقية، و هذا مقام الراضين فمن عمل برضاي ألزمه ثلاث خصال أعرفه شكرا لا يخالطه الجهل، و ذكرا لا يخالطه النسيان، و محبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين، فإذا أحبني أحببته و أفتح عين قلبه إلى جلالي، و لا أخفي عليه خاصة خلقي و أناجيه في ظلم الليل و نور النهار، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين، و مجالسته معهم، و أسمعه كلامي و كلام ملائكتي و أعرفه السر الذي سترته عن خلقي، و ألبسه الحياء، حتى يستحيي منه الخلق كلهم، و يمشي على الأرض مغفورا له، و أجعل قلبه واعيا و بصيرا و لا أخفي عليه شيئا من جنة و لا نار، و أعرفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول و الشدة و ما أحاسب به الأغنياء و الفقراء و الجهال و العلماء، و أنومه في قبره، و أنزل عليه منكرا و نكيرا حتى يسألاه، و لا يرى غم الموت، و ظلمة القبر و اللحد، و هول المطلع، ثم أنصب له ميزانه، و أنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشورا، ثم لا أجعل بيني و بينه و ترجمانا فهذه صفات المحبين» يا أحمد اجعل همك هما واحدا و اجعل لسانك لسانا واحدا و اجعل بدنك حيا لا يغفل أبدا من يغفل عني لم أبال في أي واد هلك.

و في البحار، عن الكافي، و المعاني، و نوادر الراوندي، بأسانيد مختلفة عن الصادق و الكاظم (عليهما السلام) و اللفظ المنقول هاهنا للكافي قال: استقبل رسول الله: حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني؟ فقال: يا رسول الله مؤمن حقا، فقال له رسول الله: لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك؟ فقال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، و أظمأت هواجري، و كأني أنظر إلى عرش ربي و قد وضع للحساب، و كأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة و كأني أسمع عواء أهل النار في النار، فقال رسول الله « (صلى الله عليه وآله وسلم)»: عبد نور الله قلبه أبصرت فأثبت.

أقول: و الروايتان تحومان حوم المرتبة الرابعة من الإسلام و الإيمان المذكورتين و في خصوصيات معناهما روايات كثيرة متفرقة سنورد جملة منها في تضاعيف الكتاب إن شاء الله تعالى و الآيات تؤيدها على ما سيجيء بيانها، و اعلم أن لكل مرتبة من مراتب الإسلام و الإيمان معنى من الكفر و الشرك يقابله، و من المعلوم أيضا أن الإسلام و الإيمان كلما دق معناهما و لطف مسلكهما، صعب التخلص مما يقابلهما من معنى الكفر أو الشرك، و من المعلوم أيضا أن كل مرتبة من مراتب الإسلام و الإيمان الدانية، لا ينافي الكفر أو الشرك من المرتبة العالية، و ظهور آثارهما فيها، و هذان أصلان.

و يتفرع عليهما: أن للآيات القرآنية بواطن تنطبق على موارد لا تنطبق عليها ظواهرها و ليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و لدينا مزيد، قال (عليه السلام) النظر إلى رحمة الله.

و في المجمع، عن النبي « (صلى الله عليه وآله وسلم)»: يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

أقول: و الروايتان قد اتضح معناهما عند بيان معنى الصلاح، و الله الهادي.

و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت الآية عن الباقر (عليه السلام) أنها جرت في القائم.

أقول قال: في الصافي:، لعل مراده أنها في قائم آل محمد فكل قائم منهم يقول: ذلك حين موته لبنيه، و يجيبونه بما أجابوا به.


وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (141)


بيان

قوله تعالى: و قالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، لما بين تعالى أن الدين الحق الذي كان عليه أولاد إبراهيم من إسماعيل و إسحاق و يعقوب و أولاده كان هو الإسلام الذي كان عليه إبراهيم حنيفا، استنتج من ذلك أن الاختلافات و الانشعابات التي يدعو إليها فرق المنتحلين من اليهود و النصارى، أمور اخترعتها هوساتهم، و لعبت بها أيديهم لكونهم في شقاق، فتقطعوا بذلك طوائف و أحزابا دينية، و صبغوا دين الله سبحانه - و هو دين التوحيد و دين الوحدة، بصبغة الأهواء و الأغراض و المطامع، مع أن الدين واحد كما أن الإله المعبود بالدين واحد و هو دين إبراهيم، و به فليتمسك المسلمون و ليتركوا شقاق أهل الكتاب.

فإن من طبيعة هذه الحياة الأرضية الدنيوية التغير و التحول في عين الجري و الاستمرار كنفس الطبيعة التي هي كالمادة لها و يوجب ذلك أن تتغير الرسوم و الآداب و الشعائر القومية بين طوائف الملل و شعباتها، و ربما يوجب ذلك تغييرا و انحرافا في المراسم الدينية، و ربما يوجب دخول ما ليس من الدين في الدين، أو خروج ما هو منه و الأغراض و الغايات الدنيوية ربما تحل محل الأغراض الدينية الإلهية و هي بلية الدين، و عند ذلك ينصبغ الدين بصبغة القومية فيدعو إلى هدف دون هدفه الأصلي و يؤدب الناس غير أدبه الحقيقي، فلا يلبث حتى يعود المنكر و هو ما ليس من الدين معروفا يتعصب له الناس لموافقته هوساتهم و شهواتهم و المعروف منكرا ليس له حام يحميه و لا واق يقيه و يئول الأمر إلى ما نشاهده اليوم من... و بالجملة فقوله تعالى: و قالوا كونوا هودا أو نصارى، إجمال تفصيل معناه و قالت اليهود كونوا هودا تهتدوا، و قالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا، كل ذلك لتشعبهم و شقاقهم.

قوله تعالى: قل بل ملة إبراهيم حنيفا و ما كان من المشركين، جواب عن قولهم أي قل، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا فإنها الملة الواحدة التي كان عليها جميع أنبيائكم، إبراهيم، فمن دونه، و ما كان صاحب هذه الملة و هو إبراهيم من المشركين و لو كان في ملته هذه الانشعابات، و هي الضمائم التي ضمها إليها المبتدعون، من الاختلافات لكان مشركا بذلك، فإن ما ليس من دين الله لا يدعو إلى الله سبحانه، بل إلى غيره و هو الشرك، فهذا دين التوحيد الذي لا يشتمل على ما ليس من عند الله تعالى.

قوله تعالى: قولوا آمنا بالله و ما أنزل إلينا، لما حكى ما يأمره به اليهود و النصارى من اتباع مذهبهم، ذكر ما هو عنده من الحق و الحق يقول و هو الشهادة على الإيمان بالله، و الإيمان بما عند الأنبياء، من غير فرق بينهم، و هو الإسلام و خص الإيمان بالله بالذكر و قدمه و أخرجه من بين ما أنزل على الأنبياء لأن الإيمان بالله فطري، لا يحتاج إلى بينة النبوة، و دليل الرسالة.

ثم ذكر سبحانه ما أنزل إلينا و هو القرآن أو المعارف القرآنية و ما أنزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب، ثم ذكر ما أوتي موسى و عيسى و خصهما بالذكر لأن المخاطبة مع اليهود و النصارى و هم يدعون إليهما فقط ثم ذكر ما أوتي النبيون من ربهم، ليشمل الشهادة جميع الأنبياء فيستقيم قوله بعد ذلك: لا نفرق بين أحد منهم.

و اختلاف التعبير في الكلام، حيث عبر عما عندنا و عند إبراهيم و إسحاق و يعقوب بالإنزال و عما عند موسى و عيسى و النبيين بالإيتاء و هو الإعطاء، لعل الوجه فيه أن الأصل في التعبير هو الإيتاء، كما قال تعالى بعد ذكر إبراهيم، و من بعده و من قبله من الأنبياء في سورة الأنعام: «أولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة»:، الأنعام - 89، لكن لفظ الإيتاء ليس بصريح في الوحي و الإنزال كما قال تعالى: «و لقد آتينا لقمان الحكمة»: لقمان - 12، و قال: «و لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة»: الجاثية - 16، و لما كان كل من اليهود و النصارى يعدون إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط من أهل ملتهم، فاليهود من اليهود، و النصارى من النصارى، و اعتقادهم أن الملة الحق من النصرانية، أو اليهودية، هي ما أوتيه موسى و عيسى، فلو كان قيل: و ما أوتي إبراهيم و إسماعيل لم يكن بصريح في كونهم بأشخاصهم صاحب ملة بالوحي و الإنزال و احتمل أن يكون ما أوتوه، هو الذي أوتيه موسى و عيسى (عليهما السلام) نسب إليهم بحكم التبعية كما نسب إيتاؤه إلى بني إسرائيل فلذلك خص إبراهيم و من عطف عليه باستعمال لفظ الإنزال، و أما النبيون قبل إبراهيم فليس لهم فيهم كلام حتى يوهم قوله: و ما أوتي النبيون شيئا يجب دفعه.

قوله تعالى: و الأسباط، الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل و السبط كالقبيلة الجماعة يجتمعون على أب واحد، و قد كانوا اثنتي عشرة أسباطا أمما و كل واحدة منهم تنتهي إلى واحد من أولاد يعقوب و كانوا اثني عشر، فخلف كل واحد منهم أمة من الناس.

فإن كان المراد بالأسباط الأمم و الأقوام فنسبة الإنزال إليهم لاشتمالهم على أنبياء من سبطهم، و إن كان المراد بالأسباط الأشخاص كانوا أنبياء أنزل إليهم الوحي و ليسوا بإخوة يوسف لعدم كونهم أنبياء، و نظير الآية قوله تعالى: «و أوحينا إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط و عيسى»: النساء - 163.

قوله تعالى: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا، الإتيان بلفظ المثل مع كون أصل المعنى، فإن آمنوا بما آمنتم به، لقطع عرق الخصام و الجدال، فإنه لو قيل لهم أن آمنوا بما آمنا به أمكن أن يقولوا كما قالوا، بل نؤمن بما أنزل علينا و نكفر بما وراءه، لكن لو قيل لهم، إنا آمنا بما لا يشتمل إلا على الحق فآمنوا أنتم بما يشتمل على الحق مثله، لم يجدوا طريقا للمراء و المكابرة، فإن الذي بيدهم لا يشتمل على صفوة الحق.

قوله تعالى: في شقاق، الشقاق النفاق و المنازعة و المشاجرة و الافتراق.

قوله تعالى: فسيكفيكهم الله، وعد لرسول الله بالنصرة عليهم، و قد أنجز وعده و سيتم هذه النعمة للأمة الإسلامية إذا شاء، و اعلم: أن الآية معترضة بين الآيتين السابقة و اللاحقة.

قوله تعالى: صبغة الله و من أحسن من الله صبغة، الصبغة بناء نوع من الصبغ أي هذا الإيمان المذكور صبغة إلهية لنا، و هي أحسن الصبغ لا صبغة اليهودية و النصرانية بالتفرق في الدين، و عدم إقامته.

قوله تعالى: و نحن له عابدون، في موضع الحال، و هو كبيان العلة لقوله: صبغة الله و من أحسن.

قوله تعالى: قل أ تحاجوننا في الله، إنكار لمحاجة أهل الكتاب، المسلمين في الله سبحانه و قد بين وجه الإنكار، و كون محاجتهم لغوا و باطلا، بقوله و هو ربنا و ربكم و لنا أعمالنا و لكم أعمالكم و نحن له مخلصون، و بيانه: أن محاجة كل تابعين في متبوعهما و مخاصمتهما فيه إنما تكون لأحد أمور ثلاثة: إما لاختصاص كل من التابعين بمتبوع دون متبوع الآخر، فيريدان بالمحاجة كل تفضيل متبوعه و ربه على الآخر، كالمحاجة بين وثني و مسلم، و إما لكون كل واحد منهما أو أحدهما و يريد مزيد الاختصاص به، و إبطال نسبة رفيقه، أو قربه أو ما يشبه ذلك، بعد كون المتبوع واحدا، و إما لكون أحدهما ذا خصائص و خصال لا ينبغي أن ينتسب إلى هذا المتبوع و فعاله ذاك الفعال، و خصاله تلك الخصال لكونه موجبا، لهتكه أو سقوطه أو غير، ذلك فهذه علل المحاجة و المخاصمة بين كل تابعين، و المسلمون و أهل الكتاب إنما يعبدون إلها واحدا، و أعمال كل من الطائفتين لا تزاحم الأخرى شيئا و المسلمون مخلصون في دينهم لله، فلا سبب يمكن أن يتشبث به أهل الكتاب في محاجتهم، و لذلك أنكر عليهم محاجتهم أولا ثم نفى واحدا واحدا من أسبابها الثلاثة، ثانيا.

قوله تعالى: أم تقولون إن إبراهيم إلى قوله كانوا هودا أو نصارى، و هو قول كل من الفريقين، أن إبراهيم و من ذكر بعده منهم، و لازم ذلك كونهم هودا أو نصارى أو قولهم صريحا أنهم كانوا هودا أو نصارى، كما يفيده ظاهر قوله تعالى «يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم و ما أنزلت التوراة و الإنجيل إلا من بعده أ فلا تعقلون»: آل عمران - 65.

قوله تعالى: قل أ أنتم أعلم أم الله، فإن الله أخبرنا و أخبركم في الكتاب أن موسى و عيسى و كتابيهما بعد إبراهيم و من ذكر معه.

قوله تعالى: و من أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، أي كتم ما تحمل شهادة أن الله أخبر بكون تشريع اليهودية أو النصرانية بعد إبراهيم و من ذكر معه، فالشهادة المذكورة في الآية، شهادة تحمل، أو المعنى كتم شهادة الله على كون هؤلاء قبل التوراة و الإنجيل، فالشهادة شهادة أداء، المتعين هو المعنى الأول.

قوله تعالى: تلك أمة قد خلت، أي أن الغور في الأشخاص و أنهم ممن كانوا لا ينفع حالكم، و لا يضركم السكوت عن المحاجة و المجادلة فيهم، و الواجب عليكم الاشتغال بما تسألون غدا عنه، و تكرار الآية مرتين لكونهم يفرطون في هذه المحاجة التي لا تنفع لحالهم شيئا، و خصوصا مع علمهم بأن إبراهيم كان قبل اليهودية و النصرانية، و إلا فالبحث عن حال الأنبياء، و الرسل بما ينفع البحث فيه كمزايا رسالاتهم و فضائل نفوسهم الشريفة مما ندب إليه القرآن حيث يقص قصصهم و يأمر بالتدبر فيها.

بحث روائي

في تفسير العياشي،: في قوله تعالى قل: بل ملة إبراهيم حنيفا الآية، عن الصادق (عليه السلام) قال إن الحنيفية في الإسلام.

و عن الباقر (عليه السلام): ما أبقت الحنيفية شيئا، حتى أن منها قص الشارب و قلم الأظفار و الختان.

و في تفسير القمي،: أنزل الله على إبراهيم الحنيفية، و هي الطهارة، و هي عشرة: خمسة في الرأس و خمسة في البدن، فأما التي في الرأس فأخذ الشارب و إعفاء اللحى و طم الشعر و السواك و الخلال، و ما التي في البدن فأخذ الشعر من البدن و الختان و قلم الأظفار و الغسل من الجنابة، و الطهور بالماء و هي الحنيفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ و لا تنسخ إلى يوم القيامة.

أقول: طم الشعر جزه، و توفيره و في معنى الرواية أو ما يقرب منه أحاديث كثيرة جدا روتها الفريقان في كتبهم.

و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى، قولوا آمنا بالله الآية، قال إنما عنى بها عليا و فاطمة و الحسن و الحسين و جرت بعدهم في الأئمة الحديث.

أقول: و يستفاد ذلك من وقوع الخطاب في ذيل دعوة إبراهيم و من ذريتنا أمة مسلمة لك الآية و لا ينافي ذلك توجيه الخطاب إلى عامة المسلمين و كونهم مكلفين بذلك، فإن لهذه الخطابات عموما و خصوصا بحسب مراتب معناها على ما مر في الكلام على الإسلام و الإيمان و مراتبهما.

و في تفسير القمي، عن أحدهما، و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى صبغة الله الآية، قال الصبغة هي الإسلام.

أقول: و هو الظاهر من سياق الآيات.

و في الكافي، و المعاني، عن الصادق (عليه السلام) قال: صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق.

أقول: و هو من باطن الآية على ما سنبين معناه و نبين أيضا معنى الولاية و معنى الميثاق إن شاء الله العزيز.



عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151)


بيان

الآيات مترتبة متسقة منتظمة في سياقها على ما يعطيه التدبر فيها و هي تنبىء عن جعل الكعبة قبلة للمسلمين فلا يصغى إلى قول من يقول إن فيها تقدما و تأخرا أو إن فيها ناسخا و منسوخا، و ربما رووا فيها شيئا من الروايات، و لا يعبأ بشيء منها بعد مخالفتها لظاهر الآيات.

قوله تعالى: سيقول السفهاء من الناس ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، هذا تمهيد ثانيا لما سيأمر تعالى به من اتخاذ الكعبة قبلة و تعليم للجواب عما سيعترض به السفهاء من الناس و هم اليهود تعصبا لقبلتهم التي هي بيت المقدس و مشركوا العرب الراصدون لكل أمر جديد يحتمل الجدال و الخصام، و قد مهد لذلك أولا بما ذكره الله تعالى من قصص إبراهيم و أنواع كرامته على الله سبحانه و كرامة ابنه إسماعيل و دعوتهما للكعبة و مكة و للنبي و الأمة المسلمة و بنائهما البيت و الأمر بتطهيره للعبادة، و من المعلوم أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من أعظم الحوادث الدينية و أهم التشريعات التي قوبل به الناس بعد هجرة النبي إلى المدينة و أخذ الإسلام في تحقيق أصوله و نشر معارفه و بث حقائقه، فما كانت اليهود و غيرهم تسكت و تستريح في مقابل هذا التشريع، لأنهم كانوا يرون أنه يبطل واحدا من أعظم مفاخرهم الدينية و هو القبلة و اتباع غيرهم لهم فيها و تقدمهم على من دونهم في هذا الشعار الديني، على أن ذلك تقدم باهر في دين المسلمين، لجمعه وجوههم في عباداتهم و مناسكهم الدينية إلى نقطة واحدة يخلصهم من تفرق الوجوه في الظاهر و شتات الكلمة في الباطن و استقبال الكعبة أشد تأثيرا و أقوى من أمثال الطهارة و الدعاء و غيرهما في نفوس المسلمين، عند اليهود و مشركي العرب و خاصة عند اليهود كما يشهد به قصصهم المقتصة في القرآن، فقد كانوا أمة لا يرون لغير المحسوس من عالم الطبيعة أصالة و لا لغير الحس وقعا، إذا جاءهم حكم من أحكام الله معنوي قبلوه من غير تكلم عليه و إذا جاءهم أمر من ربهم صوري متعلق بالمحسوس من الطبيعة كالقتال و الهجرة و السجدة و خضوع القول و غيرها قابلوه بالإنكار و قاوموا عليه و دونه أشد المقاومة.

و بالجملة فقد أخبر الله سبحانه عما سيعترضون به على تحويل القبلة و علم رسوله ما ينبغي أن يجابوا و يقطع به قولهم.

أما اعتراضهم: فهو أن التحول عن قبلة شرعها الله سبحانه للماضين من أنبيائه إلى بيت، ما كان به شيء من هذا الشرف الذاتي ما وجهه؟ فإن كان بأمر من الله فإن الله هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه و ينسخ ما شرعه، و اليهود ما كانت تعتقد النسخ كما تقدم في آية النسخ و إن كان بغير أمر الله ففيه الانحراف عن مستقيم الصراط و الخروج من الهداية إلى الضلال و هو تعالى و إن لم يذكر في كلامه هذا الاعتراض إلا أن ما أجاب به يلوح ذلك.

و أما الجواب: فهو أن جعل بيت من البيوت كالكعبة أو بناء من الأبنية أو الأجسام كبيت المقدس، أو الحجر الواقع فيه قبلة ليس لاقتضاء ذاتي منه يستحيل التعدي عنه أو عدم إجابة اقتضائه حتى يكون البيت المقدس في كونه قبلة لا يتغير حكمه و لا يجوز إلغاؤه، بل جميع الأجسام و الأبنية و جميع الجهات التي يمكن أن يتوجه إليه الإنسان في أنها لا تقتضي حكما و لا يستوجب تشريعا على السواء و كلها لله يحكم فيها ما يشاء و كيف يشاء و متى يشاء، و ما حكم به من حكم فهو لهداية الناس على حسب ما يريد من صلاحهم و كمالهم الفردي و النوعي، فلا يحكم إلا ليهدي به و لا يهدي إلا إلى ما هو صراط مستقيم إلى كمال القوم و صلاحهم.

قوله تعالى: سيقول السفهاء من الناس، أراد بهم اليهود و المشركين من العرب و لذلك عبر عنهم بالناس و إنما سفههم لعدم استقامة فطرتهم و ثقوب رأيهم في أمر التشريع، و السفاهة عدم استقامة العقل و تزلزل الرأي.

قوله تعالى: ما وليهم، تولية الشيء أو المكان جعله قدام الوجه و أمامه كالاستقبال، قال تعالى فلنولينك قبلة ترضيها، الآية و التولية عن الشيء صرف الوجه عنه كالاستدبار و نحوه، و المعنى ما الذي صرفهم أو صرف وجههم عن القبلة التي كانوا عليها و هو بيت المقدس الذي كان يصلي إليه النبي و المسلمون أيام إقامته بمكة و عدة شهور بعد هجرته إلى المدينة و إنما نسبوا القبلة إلى المسلمين مع أن اليهود أقدم في الصلاة إليها ليكون أوقع في إيجاد التعجب و أوجب للاعتراض، و إنما قيل ما وليهم عن قبلتهم و لم يقل ما ولى النبي و المسلمين لما ذكرنا من الوجه، فلو قيل ما ولى النبي و المسلمين عن قبلة اليهود لم يكن التعجب واقعا موقعه و كان الجواب عنه ظاهرا لكل سامع بأدنى تنبه.

قوله تعالى: قل لله المشرق و المغرب، اقتصر من بين الجهات بهاتين لكونهما هما المعنيتين لسائر الجهات الأصلية و الفرعية كالشمال و الجنوب و ما بين كل جهتين من الجهات الأربعة الأصلية، و المشرق و المغرب جهتان إضافيتان تتعينان بشروق الشمس أو النجوم و غروبهما، يعمان جميع نقاط الأرض غير نقطتين موهومتين هما نقطتا الشمال و الجنوب الحقيقيتان، و لعل هذا هو الوجه في وضع المشرق و المغرب موضع الجهات.

قوله تعالى: يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، تنكير الصراط لأن الصراط يختلف باختلاف الأمم في استعداداتها للهداية إلى الكمال و السعادة.

قوله تعالى: و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا، الظاهر أن المراد كما سنحول القبلة لكم لنهديكم إلى صراط مستقيم كذلك جعلناكم أمة وسطا، و قيل إن المعنى و مثل هذا الجعل العجيب جعلناكم أمة وسطا و هو كما ترى، و أما المراد بكونهم أمة وسطا شهداء على الناس فالوسط هو المتخلل بين الطرفين لا إلى هذا الطرف و لا إلى ذاك الطرف، و هذه الأمة بالنسبة إلى الناس - و هم أهل الكتاب و المشركون - على هذا الوصف فإن بعضهم - و هم المشركون و الوثنيون - إلى تقوية جانب الجسم محضا لا يريدون إلا الحياة الدنيا و الاستكمال بملاذها و زخارفها و زينتها، لا يرجون بعثا و لا نشورا، و لا يعبئون بشيء من الفضائل المعنوية و الروحية، و بعضهم كالنصارى إلى تقوية جانب الروح لا يدعون إلا إلى الرهبانية و رفض الكمالات الجسمية التي أظهرها الله تعالى في مظاهر هذه النشأة المادية لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لأجله الإنسان، فهؤلاء أصحاب الروح أبطلوا النتيجة بإبطال سببها و أولئك أصحاب الجسم أبطلوا النتيجة بالوقوف على سببها و الجمود عليها، لكن الله سبحانه جعل هذه الأمة وسطا بأن جعل لهم دينا يهدي منتحليه إلى سواء الطريق وسط الطرفين لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء بل يقوي كلا من الجانبين - جانب الجسم و جانب الروح - على ما يليق به و يندب إلى جمع الفضيلتين فإن الإنسان مجموع الروح و الجسم لا روح محضا و لا جسم محضا، و محتاج في حياته السعيدة إلى جمع كلا الكمالين و السعادتين المادية و المعنوية، فهذه الأمة هي الوسط العدل الذي به يقاس و يوزن كل من طرفي الإفراط و التفريط فهي الشهيدة على سائر الناس الواقعة في الأطراف و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو المثال الأكمل من هذه الأمة - هو شهيد على نفس الأمة فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) ميزان يوزن به حال الآحاد من الأمة، و الأمة ميزان يوزن به حال الناس و مرجع يرجع إليه طرفا الإفراط و التفريط، هذا ما قرره بعض المفسرين في معنى الآية، و هو في نفسه معنى صحيح لا يخلو عن دقة إلا أنه غير منطبق على لفظ الآية فإن كون الأمة وسطا إنما يصحح كونها مرجعا يرجع إليه الطرفان، و ميزانا يوزن به الجانبان لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين، أو يشاهد الطرفين، فلا تناسب بين الوسطية بذاك المعنى و الشهادة و هو ظاهر، على أنه لا وجه حينئذ للتعرض بكون رسول الله شهيدا على الأمة إذ لا يترتب شهادة الرسول على الأمة على جعل الأمة وسطا، كما يترتب الغاية على المغيا و الغرض على ذيه.

على أن هذه الشهادة المذكورة في الآية، حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه، و اللائح من موارد ذكرها معنى غير هذا المعنى، قال تعالى «فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا»: النساء - 41، و قال تعالى «و يوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا و لا هم يستعتبون»: النحل - 84 «و قال تعالى و وضع الكتاب و جيء بالنبيين و الشهداء»: الزمر - 69، و الشهادة فيها مطلقة، و ظاهر الجميع على إطلاقها هو الشهادة على أعمال الأمم، و على تبليغ الرسل أيضا، كما يومىء إليه قوله تعالى «و لنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين»: الأعراف - 6، و هذه الشهادة و إن كانت في الآخرة يوم القيامة لكن تحملها في الدنيا على ما يعطيه قوله تعالى - حكاية عن عيسى (عليه السلام) - «و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم و أنت على كل شيء شهيد»: المائدة - 117 و قوله تعالى «و يوم القيمة يكون عليهم شهيدا»: النساء - 159، و من الواضح أن هذه الحواس العادية التي فينا، و القوى المتعلقة بها منا لا تتحمل إلا صور الأفعال و الأعمال فقط، و ذلك التحمل أيضا إنما يكون في شيء يكون موجودا حاضرا عند الحس لا معدوما و لا غائبا عنه و أما حقائق الأعمال و المعاني النفسانية من الكفر و الإيمان و الفوز و الخسران، و بالجملة كل خفي عن الحس و مستبطن عند الإنسان - و هي التي تكسب القلوب، و عليه يدور حساب رب العالمين يوم تبلى السرائر كما قال تعالى «و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم»: البقرة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 5:30 am

سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151)

و انطبق على ذلك قبلة المحراب أحسن الانطباق و بدت بذلك كرامة باهرة للنبي في قبلته التي وجه وجهه إليها و هو في الصلاة، و ذكر أن جبرئيل أخذ بيده و حول وجهه إلى الكعبة، صدق الله و رسوله.

ثم استخرج بعده المهندس الفاضل الزعيم عبد الرزاق البغائري رحمة الله عليه قبلة أكثر بقاع الأرض و نشر فيها رسالة في معرفة القبلة، و هي جداول يذكر فيها ألف و خمسمائة بقعة من بقاع الأرض، و بذلك تمت النعمة في تشخيص القبلة.

و أما الجهة الثانية: و هي الجهة المغناطيسية، فإنهم وجدوا أن القطبين المغناطيسيين في الكرة الأرضية، غير منطبقين على القطبين الجغرافيين منها، فإن القطب المغناطيسي الشمالي مثلا على أنه متغير بمرور الزمان، بينه و بين القطب الجغرافيائي الشمالي ما يقرب من ألف ميل، و على هذا فالحك لا يشخص القطب الجنوبي الجغرافي بعينه، بل ربما بلغ التفاوت إلى ما لا يتسامح فيه، و قد أنهض هذا المهندس الرياضي الفاضل الزعيم حسين علي رزمآرا في هذه الأيام و هي سنة 1332 هجرية شمسية على حل هذه المعضلة، و استخراج مقدار التفاوت بين القطبين الجغرافي و المغناطيسي بحسب النقاط المختلفة، و تشخيص انحراف القبلة من القطب المغناطيسي فيما يقرب من ألف بقعة من بقاع الأرض، و اختراع حك يتضمن التقريب القريب من التحقيق في تشخيص القبلة، و ها هو اليوم دائر معمول - شكر الله سعيه -.

بحث اجتماعي

المتأمل في شئون الاجتماع الإنساني، و الناظر في الخواص و الآثار التي يتعقبها هذا الأمر المسمى بالاجتماع من جهة أنه اجتماع لا يشك في أن هذا الاجتماع إنما كونته ثم شعبته و بسطته إلى شعبه و أطرافه الطبيعة الإنسانية، لما استشعرت بإلهام من الله سبحانه بجهات حاجتها في البقاء و الاستكمال إلى أفعال اجتماعية فتلتجىء إلى الاجتماع و تلزمها لتوفق إلى أفعالها و حركاتها و سكناتها في مهد تربية الاجتماع و بمعونته.

ثم استشعرت و ألهمت بعلوم صور ذهنية و إدراكات توقعها.

على المادة، و على حوائجها فيها و على أفعالها، و جهات أفعالها تكون هي الوصلة و الرابطة بينها و بين أفعالها و حوائجها كاعتقاد الحسن و القبح، و ما يجب، و ما ينبغي، و سائر الأصول الاجتماعية من الرئاسة و المرءوسية و الملك و الاختصاص، و المعاملات المشتركة و المختصة، و سائر القواعد و النواميس العمومية و الآداب و الرسوم القومية التي لا تخلو عن التحول و الاختلاف باختلاف الأقوام و المناطق و الأعصار، فجميع هذه المعاني و القواعد المستقرة عليها من صنع الطبيعة الإنسانية بإلهام من الله سبحانه، تلطفت بها طبيعة الإنسان، لتمثل بها ما تعتقدها و تريدها من المعاني في الخارج، ثم تتحرك إليها بالعمل، و الفعل و الترك، و الاستكمال.

و التوجه العبادي إلى الله سبحانه، و هو المنزه عن شئون المادة، و المقدس عن تعلق الحس المادي إذا أريد أن يتجاوز حد القلب و الضمير، و تنزل على موطن الأفعال - و هي لا تدور إلا بين الماديات - لم يكن في ذلك بد و مخلص من أن يكون على سبيل التمثيل بأن يلاحظ التوجهات القلبية على اختلاف خصوصياتها، ثم تمثل في الفعل بما يناسبها من هيئات الأفعال و أشكالها، كالسجدة يراد بها التذلل، و الركوع يراد به التعظيم، و الطواف يراد به تفدية النفس، و القيام يراد به التكبير، و الوضوء و الغسل يراد بهما الطهارة للحضور و نحو ذلك.

و لا شك أن التوجه إلى المعبود، و استقباله من العبد في عبوديته روح عبادته، التي لولاها لم يكن لها حياة و لا كينونة، و إلى تمثيله تحتاج العبادة في كمالها و ثباتها و استقرار تحققها.

و قد كان الوثنيون، و عبدة الكواكب و سائر الأجسام من الإنسان و غيره يستقبلون معبوداتهم و آلهتهم، و يتوجهون إليهم بالأبدان في أمكنة متقاربة.

لكن دين الأنبياء و نخص بالذكر من بينها دين الإسلام الذي يصدقها جميعا وضع الكعبة قبلة، و أمر باستقبالها في الصلاة، التي لا يعذر فيها مسلم، أينما كان من أقطار الأرض و آفاقها، و نهى عن استقبالها و استدبارها في حالات و ندب إلى ذلك في أخرى فاحتفظ على قلب الإنسان بالتوجه إلى بيت الله، و أن لا ينسى ربه في خلوته و جلوته، و قيامه و قعوده، و منامه و يقظته، و نسكه و عبادته حتى في أخس حالاته و أرداها فهذا بالنظر إلى الفرد.

و أما بالنظر إلى الاجتماع، فالأمر أعجب و الأثر أجلى و أوقع فقد جمع الناس على اختلاف أزمنتهم و أمكنتهم على التوجه إلى نقطة واحدة، يمثل بذلك وحدتهم الفكرية و ارتباط جامعتهم، و التيام قلوبهم، و هذا ألطف روح يمكن أن تنفذ في جميع شئون الأفراد في حيويتها المادية و المعنوية، تعطي من الاجتماع أرقاه، و من الوحدة أوفاها و أقواها، خص الله تعالى بها عباده المسلمين، و حفظ به وحدة دينهم، و شوكة جمعهم، حتى بعد أن تحزبوا أحزابا، و افترقوا مذاهب و طرائق قددا، لا يجتمع منهم اثنان على رأي، نشكر الله تعالى على آلائه


فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ (152)

بيان

لما امتن الله تعالى على النبي و المسلمين، بإرسال النبي الكريم منهم إليهم نعمة لا تقدر بقدر و منحة على منحة - و هو ذكر منه لهم - إذ لم ينسهم في هدايتهم إلى مستقيم الصراط، و سوقهم إلى أقصى الكمال، و زيادة على ذلك، و هو جعل القبلة، الذي فيه كمال دينهم، و توحيد عبادتهم، و تقويم فضيلتهم الدينية و الاجتماعية فرع على ذلك دعوتهم إلى ذكره و شكره، ليذكرهم بنعمته على ذكرهم إياه بعبوديته و طاعته، و يزيدهم على شكرهم لنعمته و عدم كفرانهم، و قد قال تعالى «و اذكر ربك إذا نسيت و قل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا»: الكهف - 24.

و قال تعالى «لإن شكرتم لأزيدنكم»: إبراهيم - 7، و الآيتان جميعا نازلتان قبل آيات القبلة من سورة البقرة.

ثم إن الذكر ربما قابل الغفلة كقوله تعالى «و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا»: الكهف - 28.

و هي انتفاء العلم بالعلم، مع وجود أصل العلم، فالذكر خلافه، و هو العلم بالعلم، و ربما قابل النسيان و هو زوال صورة العلم عن خزانة الذهن، فالذكر خلافه، و منه قوله تعالى «و اذكر ربك إذا نسيت» الآية.

و هو حينئذ كالنسيان معنى ذو آثار و خواص تتفرع عليه، و لذلك ربما أطلق الذكر كالنسيان في موارد تتحقق فيها آثارهما و إن لم تتحقق أنفسهما، فإنك إذا لم تنصر صديقك - و أنت تعلم حاجته إلى نصرك فقد نسيته، و الحال أنك تذكره، و كذلك الذكر.

و الظاهر أن إطلاق الذكر على الذكر اللفظي من هذا القبيل، فإن التكلم عن الشيء من آثار ذكره قلبا، قال تعالى «قل سأتلوا عليكم منه ذكرا»: الكهف - 83.

و نظائره كثيرة، و لو كان الذكر اللفظي أيضا ذكرا حقيقة فهو من مراتب الذكر، لأنه مقصور عليه و منحصر فيه، و بالجملة: الذكر له مراتب كما قال تعالى «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»: الرعد - 28، و قال «و اذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول»: الأعراف - 205، و قال تعالى «فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا: البقرة - 200، فالشدة إنما يتصف به المعنى دون اللفظ، و قال تعالى «و اذكر ربك إذا نسيت و قل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا»: الكهف - 24.

و ذيل هذه الآية تدل على الأمر برجاء ما هو أعلى منزلة مما هو فيه، فيئول المعنى إلى أنك إذا تنزلت من مرتبة من ذكره إلى مرتبة هي دونها، و هو النسيان، فاذكر ربك و ارج بذلك ما هو أقرب طريقا و أعلى منزلة، فينتج أن الذكر القلبي ذو مراتب في نفسه، و بذلك يتبين صحة قول القائل: إن الذكر حضور المعنى عند النفس، فإن الحضور ذو مراتب.

و لو كان لقوله تعالى: فاذكروني - و هو فعل متعلق بياء المتكلم حقيقة من دون تجوز أفاد ذلك، أن للإنسان سنخا آخر من العلم غير هذا العلم المعهود عندنا الذي هو حصول صورة المعلوم و مفهومه عند العالم، إذ كلما فرض من هذا القبيل فهو تحديد و توصيف للمعلوم من العالم، و قد تقدست ساحته سبحانه عن توصيف الواصفين، قال تعالى «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين»: الصافات - 160، و قال: «و لا يحيطون به علما»: طه - 110، و سيجيء بعض ما يتعلق بالمقام في الكلام على الآيتين إن شاء الله.

بحث روائي

تكاثرت الأخبار في فضل الذكر من طرق العامة و الخاصة، فقد روي: بطرق مختلفة: أن ذكر الله حسن على كل حال.

و في عدة الداعي، قال: و روي: أن رسول الله قد خرج على أصحابه، فقال: ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: يا رسول الله و ما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر اغدوا و روحوا و اذكروا، و من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد الله من نفسه، و اعلموا: أن خير أعمالكم عند مليككم و أزكاها و أرفعها في درجاتكم، و خير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني، و قال تعالى: فاذكروني أذكركم بنعمتي، اذكروني بالطاعة و العبادة أذكركم بالنعم و الإحسان و الراحة و الرضوان.

و في المحاسن، و دعوات الراوندي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى يقول: من شغل بذكري عن مسألتي، أعطيه أفضل ما أعطي من سألني.

و في المعاني، عن الحسين البزاز قال: قال: لي أبو عبد الله (عليه السلام) أ لا أحدثك بأشد ما فرض الله على خلقه؟ قلت: بلى قال، إنصاف الناس من نفسك، و مواساتك لأخيك، و ذكر الله في كل موطن، أما إني لا أقول: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر، و إن كان هذا من ذاك، و لكن ذكر الله في كل موطن، إذا هجمت على طاعته أو معصيته.

أقول: و هذا المعنى مروي بطرق كثيرة عن النبي، و أهل بيته (عليهم السلام)، و في بعضها و هو قول الله: الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون الآية.

و في عدة الداعي، عن النبي، قال: قال سبحانه: إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي، نقلت شهوته في مسألتي و مناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك و أراد أن يسهو حلت بينه و بين أن يسهو، أولئك أوليائي حقا، أولئك الأبطال حقا، أولئك الذين إذا أردت أن أهلك أهل الأرض عقوبة زويتها عنهم من أجل أولئك الأبطال.

و في المحاسن، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال الله تعالى: ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في خلاء أذكرك في خلاء، اذكرني في ملإ أذكرك في ملإ خير من ملإك، و قال: ما من عبد يذكر الله في ملإ من الناس إلا ذكره الله في ملإ من الملائكة.

أقول: و قد روي هذا المعنى بطرق كثيرة في كتب الفريقين.

و في الدر المنثور، أخرج الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: قال: رسول الله،: من أعطي أربعا أعطي أربعا، و تفسير ذلك في كتاب الله من أعطي الذكر ذكره الله، لأن الله يقول: اذكروني أذكركم، و من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، لأن الله يقول: ادعوني أستجب لكم، و من أعطي الشكر أعطي الزيادة، لأن الله يقول: لئن شكرتم لأزيدنكم، و من أعطي الاستغفار أعطي المغفرة لأن الله يقول: استغفروا ربكم إنه كان غفارا.

و في الدر المنثور، أيضا أخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر و البيهقي في شعب الإيمان عن خالد بن أبي عمران، قال: قال: رسول الله:، من أطاع الله فقد ذكر الله، و إن قلت صلاته و صيامه و تلاوته للقرآن، و من عصى الله فقد نسي الله، و إن كثرت صلاته و صيامه و تلاوته للقرآن.

أقول: في الحديث إشارة إلى أن المعصية لا تتحقق من العبد إلا بالغفلة و النسيان فإن الإنسان لو ذكر ما حقيقة معصيته و ما لها من الأثر لم يقدم على معصيته، حتى أن من يعصي الله و لا يبالي إذا ذكر عند ذلك بالله، و لا يعتني بمقام ربه هو طاغ جاهل بمقام ربه و علو كبريائه و كيفية إحاطته، و إلى ذلك تشير أيضا رواية أخرى، رواها الدر المنثور، عن أبي هند الداري، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي و من ذكرني و هو مطيع فحق علي أن أذكره بمغفرتي، و من ذكرني و هو عاص فحق علي أن أذكره بمقت الحديث، و ما اشتمل عليه هذا الحديث من الذكر عند المعصية هو الذي تسميه الآية و سائر الأخبار بالنسيان لعدم ترتب آثار الذكر عليه، و للكلام بقايا سيجيء شطر منها.


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

بيان

خمس آيات متحدة السياق، متسقة الجمل، ملتئمة المعاني، يسوق أولها إلى آخرها و يرجع آخرها إلى أولها، و هذا يكشف عن كونها نازلة دفعة غير متفرقة، و سياقها ينادي بأنها نزلت قبيل الأمر بالقتال و تشريع حكم الجهاد، ففيه ذكر من بلاء سيقبل على المؤمنين، و مصيبة ستصيبهم، و لا كل بلاء و مصيبة، بل البلاء العمومي الذي ليس بعادي الوقوع مستمر الحدوث، فإن نوع الإنسان كسائر الأنواع الموجودة في هذه النشأة الطبيعية لا يخلو في أفراده من حوادث جزئية يختل بها نظام الفرد في حياته الشخصية: من موت و مرض و خوف و جوع و غم و حرمان، سنة الله التي جرت في عباده و خلقه، فالدار دار التزاحم، و النشأة نشأة التبدل و التحول، و لن تجد لسنة الله تحويلا و لن تجد لسنة الله تبديلا.

و البلاء الفردي و إن كان شاقا على الشخص المبتلى بذلك، مكروها، لكن ليس مهولا مهيبا تلك المهابة التي تتراءى بها البلايا و المحن العامة، فإن الفرد يستمد في قوة تعقله و عزمه و ثبات نفسه من قوى سائر الأفراد، و أما البلايا العامة الشاملة فإنها تسلب الشعور العمومي و جملة الرأي و الحزم و التدبير من الهيأة المجتمعة، و يختل به نظام الحياة منهم، فيتضاعف الخوف و تتراكم الوحشة و يضطرب عندها العقل و الشعور و تبطل العزيمة و الثبات، فالبلاء العام و المحنة الشاملة أشق و أمر، و هو الذي تلوح له الآيات.

و لا كل بلاء عام كالوباء و القحط بل بلاء عام قربتهم منها أنفسهم، فإنهم أخذوا دين التوحيد، و أجابوا دعوة الحق، و تخالفهم فيه الدنيا و خاصة قومهم، و ما لهؤلاء هم إلا إطفاء نور الله، و استيصال كلمة العدل، و إبطال دعوة الحق، و لا وسيلة تحسم مادة النزاع و تقطع الخلاف غير القتال، فسائر الوسائل كإقامة الحجة و بث الفتنة، و إلقاء الوسوسة و الريبة و غيرها صارت بعد عقيمة غير منتجة، فالحجة مع النبي و الوسوسة و الفتنة و الدسيسة ما كانت تؤثر أثرا تطمئن إليه أعداء الدين فلم يكن عندهم وسيلة إلا القتال و الاستعانة به على سد سبيل الحق، و إطفاء نور الدين اللامع المشرق.

هذا من جانب الكفر، و الأمر من جانب الدين أوضح، فلم يكن إلى نشر كلمة التوحيد، و بث دين الحق، و حكم العدل، و قطع دابر الباطل وسيلة إلا القتال، فإن التجارب الممتدة من لدن كان الإنسان نازلا في هذه الدار يعطي أن الحق إنما يؤثر إذا أميط الباطل، و لن يماط إلا بضرب من أعمال القدرة و القوة.

و بالجملة ففي الآيات تلويح إلى إقبال هذه المحنة بذكر القتل في سبيل الله، و توصيفه بوصف لا يبقى فيه معه جهة مكروهة، و لا صفة سوء، و هو أنه ليس بموت بل حياة، و أي حياة! فالآيات تستنهض المؤمنين على القتال، و تخبرهم أن أمامهم بلاء و محنة لن تنالوا مدارج المعالي، و صلاة ربهم و رحمته، و الاهتداء بهدايته إلا بالصبر عليها، و تحمل مشاقها، و يعلمهم ما يستعينون به عليها، و هو الصبر و الصلاة، أما الصبر: فهو وحدة الوقاية من الجزع و اختلال أمر التدبير، و أما الصلاة: فهي توجه إلى الرب، و انقطاع إلى من بيده الأمر، و أن القوة لله جميعا.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر و الصلوة إن الله مع الصابرين الآية، قد تقدم جملة من الكلام في الصبر و الصلاة في تفسير قوله: «و استعينوا بالصبر و الصلوة و إنها لكبيرة إلا على الخاشعين»: البقرة - 45 و الصبر من أعظم الملكات و الأحوال التي يمدحها القرآن، و يكرر الأمر به حتى بلغ قريبا من سبعين موضعا من القرآن حتى قيل فيه: «إن ذلك من عزم الأمور»: لقمان - 17، و قيل: «و ما يلقيها إلا الذين صبروا و ما يلقيها إلا ذو حظ عظيم»: فصلت - 35، و قيل: «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب»: الزمر - 10.

و الصلاة: من أعظم العبادات التي يحث عليها في القرآن حتى قيل فيها: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر»: العنكبوت - 45، و ما أوصى الله في كتابه بوصايا إلا كانت الصلاة رأسها و أولها.

ثم وصف سبحانه الصبر بأن الله مع الصابرين المتصفين بالصبر، و إنما لم يصف الصلاة، كما في قوله تعالى: و استعينوا بالصبر و الصلوة و إنها لكبيرة الآية، لأن المقام في هذه الآيات، مقام ملاقات الأهوال، و مقارعة الأبطال، فالاهتمام بأمر الصبر أنسب بخلاف الآية السابقة، فلذلك قيل: إن الله مع الصابرين، و هذه المعية غير المعية التي يدل عليه قوله تعالى: «و هو معكم أينما كنتم»: الحديد - 4، فإنها معية الإحاطة و القيمومة، بخلاف المعية مع الصابرين، فإنها معية إعانة فالصبر مفتاح الفرج.

قوله تعالى: و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء و لكن لا تشعرون الآية، ربما يقال: إن الخطاب مع المؤمنين الذين آمنوا بالله و رسوله و اليوم الآخر و أذعنوا بالحياة الآخرة، و لا يتصور منهم القول ببطلان الإنسان بالموت، بعد ما أجابوا دعوة الحق و سمعوا شيئا كثيرا من الآيات الناطقة بالمعاد، مضافا إلى أن الآية إنما تثبت الحياة بعد الموت في جماعة مخصوصين، و هم الشهداء المقتولون في سبيل الله، في مقابل غيرهم من المؤمنين، و جميع الكفار، مع أن حكم الحياة بعد الموت عام شامل للجميع فالمراد بالحياة بقاء الاسم، و الذكر الجميل على مر الدهور، و بذلك فسره جمع من المفسرين.

و يرده أولا: أن كون هذه حياة إنما هو في الوهم فقط دون الخارج، فهي حياة تخيلية ليس لها في الحقيقة إلا الاسم، و مثل هذا الموضوع الوهمي لا يليق بكلامه، و هو تعالى يدعو إلى، الحق و يقول: «فما ذا بعد الحق إلا الضلال»: يونس - 32، و أما الذي سأله إبراهيم في قوله «و اجعل لي لسان صدق في الآخرين»: الشعراء - 84، فإنما يريد به بقاء دعوته الحقة، و لسانه الصادق بعده، لا حسن ثنائه و جميل ذكره بعده فحسب.

نعم هذا القول الباطل، و الوهم الكاذب إنما يليق بحال الماديين، و أصحاب الطبيعة، فإنهم اعتقدوا: مادية النفوس و بطلانها بالموت و نفوا الحياة الآخرة ثم أحسوا باحتياج الإنسان بالفطرة إلى القول ببقاء النفوس و تأثرها بالسعادة و الشقاء، بعد موتها في معالي أمور، لا تخلو في الارتقاء إليها من التفدية و التضحية، لا سيما في عظائم العزائم التي يموت و يقتل فيها أقوام ليحيا و يعيش آخرون، و لو كان كل من مات فقد فات لم يكن داع للإنسان و خاصة إذا اعتقد بالموت و الفوت أن يبطل ذاته ليبقى ذات آخرين، و لا باعث له أن يحرم على نفسه لذة الاستمتاع من جميع ما يقدر عليه بالجور ليتمتع آخرون بالعدل، فالعاقل لا يعطي شيئا إلا و يأخذ بدله و أما الإعطاء من غير بدل، و الترك من غير أخذ، كالموت في سبيل حياة الغير، و الحرمان في طريق تمتع الغير فالفطرة الإنسانية تأباه، فلما استشعروا بذلك دعاهم جبر هذا النقص إلى وضع هذه الأوهام الكاذبة، التي ليس لها موطن إلا عرصة الخيال و حظيرة الوهم، قالوا إن الإنسان الحر من رق الأوهام و الخرافات يجب عليه أن يفدي بنفسه وطنه، أو كل ما فيه شرفه، لينال الحياة الدائمة بحسن الذكر و جميل الثناء، و يجب عليه أن يحرم على نفسه بعض تمتعاته في الاجتماع ليناله الآخرون، ليستقيم أمر الاجتماع و الحضارة، و يتم العدل الاجتماعي فينال بذلك حياة الشرف و العلاء.

و ليت شعري إذا لم يكن إنسان، و بطل هذا التركيب المادي، و بطل بذلك جميع خواصه، و من جملتها الحياة و الشعور، فمن هو الذي ينال هذه الحياة و هذا الشرف؟ و من الذي يدركه و يلتذ به؟ فهل هذا إلا خرافة؟.

و ثانيا: أن ذيل الآية - و هو قوله تعالى: و لكن لا تشعرون، - لا يناسب هذا المعنى، بل كان المناسب له أن يقال: بل أحياء ببقاء ذكرهم الجميل، و ثناء الناس عليهم بعدهم، لأنه المناسب لمقام التسلية و تطييب النفس.

و ثالثا: أن نظيرة هذه الآية - و هي تفسرها - وصف حياتهم بعد القتل بما ينافي هذا المعنى، قال تعالى: «و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون»: آل عمران - 196، إلى آخر الآيات و معلوم أن هذه الحياة حياة خارجية حقيقية ليست بتقديرية.

و رابعا: أن الجهل بهذه الحياة التي بعد الموت ليس بكل البعيد من بعض المسلمين في أواسط عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الذي هو نص غير قابل للتأويل إنما هو البعث للقيامة، و أما ما بين الموت إلى الحشر - و هي الحياة البرزخية - فهي و إن كانت من جملة ما بينه القرآن من المعارف الحقة، لكنها ليست من ضروريات القرآن، و المسلمون غير مجمعين عليه بل ينكره بعضهم حتى اليوم ممن يعتقد كون النفس غير مجردة عن المادة و أن الإنسان يبطل وجوده بالموت و انحلال التركيب، ثم يبعثه الله إلى القضاء يوم القيامة، فيمكن أن يكون المراد بيان حياة الشهداء في البرزخ لمكان جهل بعض المؤمنين بذلك، و إن علم به آخرون.

و بالجملة: المراد بالحياة في الآية الحياة الحقيقية دون التقديرية، و قد عد الله سبحانه حياة الكافر بعد موته هلاكا و بوارا في مواضع من كلامه، كقوله تعالى: «و أحلوا قومهم دار البوار»: إبراهيم - 28، إلى غير ذلك من الآيات، فالحياة حياة السعادة، و الإحياء بهذه الحياة المؤمنون خاصة كما قال: «و أن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون»: العنكبوت - 64، و إنما لم يعلموا، لأن حواسهم مقصورة على إدراك خواص الحياة في المادة الدنيوية، و أما ما وراءها فإذا لم يدركوه لم يفرقوا بينه و بين الفناء فتوهموه فناء، و ما توهمه الوهم مشترك بين المؤمن و الكافر في الدنيا، فلذلك قال: في هذه الآية، بل أحياء و لكن لا تشعرون أي: بحواسكم، كما قال في الآية الأخرى: لهي الحيوان لو كانوا يعلمون، أي باليقين كما قال تعالى: «كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم»: التكاثر - 6.

فمعنى الآية - و الله أعلم - و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، و لا تعتقدوا فيهم الفناء و البطلان كما يفيده لفظ الموت عندكم، و مقابلته مع الحياة، و كما يعين على هذا القول حواسكم فليسوا بأموات بمعنى البطلان، بل أحياء و لكن حواسكم لا تنال ذلك و لا تشعر به، و إلقاء هذا القول على المؤمنين - مع أنهم جميعا أو أكثرهم عالمون ببقاء حياة الإنسان بعد الموت، و عدم بطلان ذاته - إنما هو لإيقاظهم و تنبيههم بما هو معلوم عندهم، يرتفع بالالتفات إليه الحرج عن صدورهم، و الاضطراب و القلق عن قلوبهم إذا أصابتهم مصيبة القتل، فإنه لا يبقى مع ذلك من آثار القتل عند أولياء القتيل إلا مفارقة في أيام قلائل في الدنيا و هو هين في قبال مرضاة الله سبحانه و ما ناله القتيل من الحياة الطيبة، و النعمة المقيمة، و رضوان من الله أكبر، و هذا نظير خطاب النبي بمثل قوله تعالى: الحق من ربك فلا تكونن من الممترين الآية، مع أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أول الموقنين بآيات ربه، و لكنه كلام كني به عن وضوح المطلب، و ظهوره بحيث لا يقبل أي خطور نفساني لخلافه.

نشأة البرزخ

فالآية تدل دلالة واضحة على حياة الإنسان البرزخية، كالآية النظيرة لها و هي قوله: «و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون»: آل عمران - 169، و الآيات في ذلك كثيرة.

و من أعجب الأمر ما ذكره بعض الناس في الآية: أنها نزلت في شهداء بدر، فهي مخصوصة بهم فقط، لا تتعداهم إلى غيرهم هذا، و لقد أحسن بعض المحققين: من المفسرين في تفسير قوله: و استعينوا بالصبر و الصلاة الآية، إذ سئل الله تعالى الصبر على تحمل أمثال هذه الأقاويل.

و ليت شعري ما ذا يقصده هؤلاء بقولهم هذا؟ و على أي صفة يتصورون حياة شهداء بدر بعد قتلهم مع قولهم: بانعدام الإنسان بعد الموت و القتل، و انحلال تركيبه و بطلانه؟ أ هو على سبيل الإعجاز: باختصاصهم من الله بكرامة لم يكرم بها النبي الأكرم و سائر الأنبياء و المرسلين و الأولياء المقربين، إذ خصهم الله ببقاء وجودهم بعد الانعدام، فليس ذلك بإعجاز بل إيجاد محال ضروري الاستحالة، و لا إعجاز في محال، و لو جاز عند العقل إبطال هذا الحكم على بداهتها لم يستقم حكم ضروري فما دونه؟ أم هو على نحو الاستثناء في حكم الحس بأن يكون الحس مخطئا في أمر هؤلاء الشهداء؟ فهم أحياء يرزقون بالأكل و الشرب و سائر التمتعات - و هم غائبون عن الحس - و ما ناله الحس من أمرهم بالقتل و قطع الأعضاء و سقوط الحس و انحلال التركيب فقد أخطأ في ذلك من رأس، فلو جاز على الحس أمثال هذه الأغلاط فيصيب في شيء و يغلط في آخر من غير مخصص بطل الوثوق به على الإطلاق، و لو كان المخصص هو الإرادة الإلهية احتاج تعلقها إلى مخصص آخر، و الإشكال - و هو عدم الوثوق بالإدراك على حاله، فكان من الجائز أن نجد ما ليس بواقع واقعا و الواقع ليس بواقع، و كيف يرضى عاقل أن يتفوه بمثل ذلك؟ و هل هو إلا سفسطة؟.

و قد سلك هؤلاء في قولهم هذا مسلك العامة من المحدثين، حيث يرون أن الأمور الغائبة عن حواسنا مما يدل عليه الظواهر الدينية من الكتاب و السنة، كالملائكة و أرواح المؤمنين و سائر ما هو من هذا القبيل موجودات مادية طبيعية، و أجسام لطيفة تقبل الحلول و النفوذ في الأجسام الكثيفة، على صورة الإنسان و نحوه، يفعل جميع الأفعال الإنسانية مثلا، و لها أمثال القوى التي لنا غير أنها ليست محكومة بأحكام الطبيعة: من التغير و التبدل و التركيب و انحلاله، و الحياة و الموت الطبيعيتين، فإذا شاء الله تعالى ظهورها ظهرت لحواسنا، و إذا لم يشأ أو شاء أن لا تظهر لم تظهر، مشية خالصة من غير مخصص في ناحية الحواس، أو تلك الأشياء.

و هذا القول منهم مبني على إنكار العلية و المعلولية بين الأشياء، و لو صحت هذه الأمنية الكاذبة بطلت جميع الحقائق العقلية، و الأحكام العلمية، فضلا عن المعارف الدينية و لم تصل النوبة إلى أجسامهم اللطيفة المكرمة التي لا تصل إليها يد التأثير و التأثر المادي الطبيعي، و هو ظاهر.

فقد تبين بما مر: أن الآية دالة على الحياة البرزخية، و هي المسماة بعالم القبر، عالم متوسط بين الموت و القيامة، ينعم فيه الميت أو يعذب حتى تقوم القيامة.

و من الآيات الدالة عليه - و هي نظيرة لهذه الآية الشريفة - قوله تعالى: «و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتيهم الله من فضله و يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم و لا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله و فضل و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين»: آل عمران - 171، و قد مر تقريب دلالة الآية على المطلوب، و لو تدبر القائل باختصاص هذه الآيات بشهداء بدر في متن الآيات لوجد أن سياقها يفيد اشتراك سائر المؤمنين معهم في الحياة، و التنعم بعد الموت.

و من الآيات قوله تعالى: «حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون»: المؤمنون - 100، و الآية ظاهرة الدلالة على أن هناك حياة متوسطة بين حياتهم الدنيوية و حياتهم بعد البعث، و سيجيء تمام الكلام في الآية إن شاء الله تعالى.

و من الآيات قوله تعالى: «و قال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا نزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم و عتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة» و من المعلوم أن المراد به أول ما يرونهم و هو يوم الموت كما تدل عليه آيات أخر «لا بشرى يومئذ للمجرمين و يقولون حجرا محجورا. و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا. أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا و أحسن مقيلا. و يوم تشقق السماء بالغمام و هو يوم القيامة و نزل الملائكة تنزيلا. الملك يومئذ الحق للرحمن و كان يوما على الكافرين عسيرا: الفرقان - 26، و دلالتها ظاهرة.

و سيأتي تفصيل القول فيها في محله إن شاء الله تعالى.

و من الآيات قوله تعالى: «قالوا ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل»: المؤمن - 11، فهنا إلى يوم البعث - و هو يوم قولهم هذا - إماتتان و إحيائان، و لن تستقيم المعنى إلا بإثبات البرزخ، فيكون إماتة و إحياء في البرزخ و إحياء في يوم القيامة، و لو كان أحد الإحيائين في الدنيا و الآخر في الآخرة لم يكن هناك إلا إماتة واحدة من غير ثانية، و قد مر كلام يتعلق بالمقام في قوله تعالى: «كيف تكفرون بالله و كنتم أمواتا فأحياكم»: البقرة - 28 فارجع.

و من الآيات قوله تعالى: «و حاق بآل فرعون سوء العذاب النار. يعرضون عليها غدوا و عشيا و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب»: المؤمن - 46، إذ من المعلوم أن يوم القيامة لا بكرة فيه و لا عشي فهو يوم غير اليوم.

و الآيات التي تستفاد منها هذه الحقيقة القرآنية، أو تومىء إليها كثيرة، كقوله تعالى: «تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم و لهم عذاب أليم»: النحل - 63، إلى غير ذلك.

تجرد النفس

و يتبين بالتدبر في الآية، و سائر الآيات التي ذكرناها حقيقة أخرى أوسع من ذلك، و هي تجرد النفس، بمعنى كونها أمرا وراء البدن و حكمها غير حكم البدن و سائر التركيبات الجسمية، لها نحو اتحاد بالبدن تدبرها بالشعور و الإرادة و سائر الصفات الإدراكية، و التدبر في الآيات السابقة الذكر يجلي هذا المعنى فإنها تفيد أن الإنسان بشخصه ليس بالبدن، لا يموت بموت البدن، و لا يفنى بفنائه، و انحلال تركيبه و تبدد أجزائه، و أنه يبقى بعد فناء البدن في عيش هنيء دائم، و نعيم مقيم، أو في شقاء لازم، و عذاب أليم، و أن سعادته في هذه العيشة، و شقاءه فيها مرتبطة بسنخ ملكاته و أعماله، لا بالجهات الجسمانية و الأحكام الاجتماعية.

فهذه معان تعطيها هذه الآيات الشريفة، و واضح أنها أحكام تغاير الأحكام الجسمانية، و تتنافى الخواص المادية الدنيوية من جميع جهاتها، فالنفس الإنسانية غير البدن.

و مما يدل عليه من الآيات قوله تعالى: «الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى»: الزمر - 42، و التوفي و الاستيفاء هو أخذ الحق بتمامه و كماله، و ما تشتمل عليه الآية: من الأخذ و الإمساك و الإرسال ظاهر في المغايرة بين النفس و البدن.

و من الآيات قوله تعالى: «و قالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون»: السجدة - 11، ذكر سبحانه شبهة من شبهات الكفار المنكرين للمعاد، و هو أنا بعد الموت و انحلال تركيب أبداننا تتفرق أعضاؤنا، و تبدد أجزاؤنا، و تتبدل صورنا فنضل في الأرض، و يفقدنا حواس المدركين، فكيف يمكن أن نقع ثانيا في خلق جديد؟ و هذا استبعاد محض، و قد لقن تعالى على رسوله: الجواب عنه، بقوله: قل: يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم الآية، و حاصل الجواب أن هناك ملكا موكلا بكم هو يتوفاكم و يأخذكم، و لا يدعكم تضلوا و أنتم في قبضته و حفاظته، و ما تضل في الأرض إنما هو أبدانكم لا نفوسكم التي هي المدلول عليها بلفظ كم فإنه يتوفاكم.

و من الآيات قوله تعالى: «و نفخ فيه من روحه» الآية: السجدة - 9، ذكره في خلق الإنسان ثم قال تعالى: «يسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي»: الإسراء - 85، فأفاد أن الروح من سنخ أمره، ثم عرف الأمر في قوله تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء»: يس - 83 فأفاد أن الروح من الملكوت، و أنها كلمة كن ثم عرف الأمر بتوصيفه بوصف آخر بقوله: «و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر»: القمر - 50، و التعبير بقوله: كلمح بالبصر يعطي أن الأمر الذي هو كلمة كن موجود دفعي الوجود غير تدريجية، فهو يوجد من غير اشتراط وجوده و تقييده بزمان أو مكان، و من هنا يتبين أن الأمر - و منه الروح شيء غير جسماني و لا مادي فإن، الموجودات المادية الجسمانية من أحكامها العامة أنها تدريجية الوجود، مقيدة بالزمان و المكان، فالروح التي للإنسان ليست بمادية جسمانية، و إن كان لها تعلق بها.

و هناك آيات تكشف عن كيفية هذا التعلق، فقد قال تعالى: «منها خلقناكم»: طه - 55، و قال تعالى: «خلق الإنسان من صلصال كالفخار»: الرحمن - 14 و قال تعالى «و بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين»: السجدة - 8، ثم قال: سبحانه و تعالى «و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين»: المؤمنون - 14، فأفاد أن الإنسان لم يكن إلا جسما طبيعيا يتوارد عليه صور مختلفة متبدلة، ثم أنشأ الله هذا الذي هو جسم جامد خامد خلقا آخر ذا شعور و إرادة، يفعل أفعالا: من الشعور و الإرادة و الفكر و التصرف في الأكوان، و التدبير في أمور العالم بالنقل و التبديل و التحويل إلى غير ذلك مما لا يصدر عن الأجسام و الجسمانيات، فلا هي جسمانية، و لا موضوعها الفاعل لها.

فالنفس بالنسبة إلى الجسم الذي ينتهي أمره إلى إنشائها - و هو البدن الذي تنشأ منه النفس - بمنزلة الثمرة من الشجرة و الضوء من الدهن بوجه بعيد، و بهذا يتضح كيفية تعلقها بالبدن ابتداعا، ثم بالموت تنقطع العلقة، و تبطل المسكة، فهي في أول وجودها عين البدن، ثم تمتاز بالإنشاء منه، ثم تستقل عنه بالكلية فهذا ما تفيده الآيات الشريفة المذكورة بظهورها: و هناك آيات كثيرة تفيد هذه الحقيقة بالإيماء و التلويح، يعثر عليها المتدبر البصير، و الله الهادي.

قوله تعالى: و لنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات، لما أمرهم الله بالاستعانة بالصبر و الصلاة، و نهاهم عن القول بموت من يقتل منهم في سبيل الله بل هم أحياء بين لهم السبب الذي من أجله خاطبهم بما خاطب، و هو أنهم سيبتلون بما لا يتمهد لهم المعالي و لا يصفو لهم الأمر في الحياة الشريفة، و الدين الحنيف إلا به، و هو الحرب و القتال، لا يدور رحى النصر و الظفر على مرادهم إلا أن يتحصنوا بهذين الحصنين و يتأيدوا بهاتين القوتين، و هما الصبر و الظفر، و يضيفوا إلى ذلك ثالثا و هو خصلة ما حفظها قوم إلا ظفروا بأقصى مرادهم و حازوا الغاية القصوى من كمالهم، و اشتد بأسهم و طابت نفسهم، و هو الإيمان بأن القتيل منهم غير ميت و لا فقيد، و أن سعيهم بالمال و النفس غير ضائع و لا باطل، فإن قتلوا عدوهم فهم على الحياة، و قد أبادوا عدوهم و ما كان يريده من حكومة الجور و الباطل عليهم - و إن قتلهم عدوهم فهم على الحياة - و لم يتحكم الجور و الباطل عليهم، فلهم إحدى الحسنيين على أي حال.

و عامة الشدائد التي يأتي بها هو الخوف و الجوع و نقص الأموال و الأنفس فذكرها الله تعالى، و أما الثمرات فالظاهر أنها الأولاد، فإن تأثير الحرب في قلة النسل بموت الرجال و الشبان أظهر من تأثيره في نقص ثمرات الأشجار، و ربما قيل: إن المراد ثمرات النخيل، و هي التمر و المراد بالأموال غيرها و هي الدواب من الإبل و الغنم.

قوله تعالى: و بشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله و إنا إليه راجعون، أعاد ذكر الصابرين ليبشرهم أولا، و يبين كيفية الصبر بتعليم ما هو الصبر الجميل ثانيا، و يظهر به حق الأمر الذي يقضي بوجوب الصبر - و هو ملكه تعالى للإنسان - ثالثا، و يبين جزاءه العام - و هو الصلاة و الرحمة و الاهتداء - رابعا فأمر تعالى نبيه أولا بتبشيرهم، و لم يذكر متعلق البشارة لتفخيم أمره فإنها من الله سبحانه فلا تكون إلا خيرا و جميلا، و قد ضمنها رب العزة، ثم بين أن الصابرين هم الذين يقولون: كذا و كذا عند إصابة المصيبة، و هي الواقعة التي تصيب الإنسان، و لا يستعمل لفظ المصيبة إلا في النازلة المكروهة، و من المعلوم أن ليس المراد بالقول مجرد التلفظ بالجملة من غير حضور معناها بالبال، و لا مجرد الإخطار من غير تحقق بحقيقة معناها، و هي أن الإنسان مملوك لله بحقيقة الملك، و أن مرجعه إلى الله سبحانه و به يتحقق أحسن الصبر الذي يقطع منابت الجزع و الأسف، و يغسل رين الغفلة.

بيانه أن وجود الإنسان و جميع ما يتبع وجوده، من قواه و أفعاله قائم الذات بالله الذي هو فاطره و موجده فهو قائم به مفتقر و مستند إليه في جميع أحواله من حدوث و بقاء غير مستقل دونه، فلربه التصرف فيه كيف شاء و ليس للإنسان من الأمر شيء إذ لا استقلال له بوجه أصلا فله الملك في وجوده و قواه و أفعاله حقيقة.

ثم إنه تعالى ملكه بالإذن نسبة ذاته، و من هناك يقال: للإنسان وجود، و كذا نسبة قواه و أفعاله و من هناك يقال: للإنسان قوى كالسمع و البصر، و يقال: للإنسان أفعال كالمشي و النطق، و الأكل و الشرب، و لو لا الإذن الإلهي لم يملك الإنسان و لا غيره من المخلوقات نسبة من هذه النسب الظاهرة، لعدم استقلال في وجودها من دون الله أصلا.

و قد أخبر سبحانه: أن الأشياء سيعود إلى حالها قبل الإذن و لا يبقى ملك إلا لله وحده، قال تعالى: «لمن الملك اليوم. لله الواحد القهار»: المؤمن - 16، و فيه رجوع الإنسان بجميع ما له و معه إلى الله سبحانه.

فهناك ملك حقيقي هو لله سبحانه لا شريك له فيه، لا الإنسان و لا غيره، و ملك ظاهري صوري كملك الإنسان نفسه و ولده و ماله و غير ذلك و هو لله سبحانه حقيقة، و للإنسان بتمليكه تعالى في الظاهر مجازا، فإذا تذكر الإنسان حقيقة ملكه تعالى، و نسبه إلى نفسه فوجد نفسه ملكا طلقا لربه، و تذكر أيضا أن الملك الظاهري فيما بين الإنسان و من جملتها ملك نفسه لنفسه و ماله و ولده سيبطل فيعود راجعا إلى ربه وجد أنه بالآخرة لا يملك شيئا أصلا لا حقيقة و لا مجازا، و إذا كان كذلك لم يكن معنى للتأثر عن المصائب الموجبة للتأثر عند إصابتها، فإن التأثر إنما يكون من جهة فقد الإنسان شيئا مما يملكه، حتى يفرح بوجدانه، و يحزن بفقدانه، و أما إذا أذعن و اعتقد أنه لا يملك شيئا لم يتأثر و لم يحزن، و كيف يتأثر من يؤمن بأن الله له الملك وحده يتصرف في ملكه كيف يشاء؟.

الأخلاق

اعلم أن إصلاح أخلاق النفس و ملكاتها في جانبي العلم و العمل، و اكتساب الأخلاق الفاضلة، و إزالة الأخلاق الرذيلة إنما هو بتكرار الأعمال الصالحة المناسبة لها و مزاولتها، و المداومة عليها، حتى تثبت في النفس من الموارد الجزئية علوم جزئية، و تتراكم و تنتقش في النفس انتقاشا متعذر الزوال أو متعسرها، مثلا إذا أراد الإنسان إزالة صفة الجبن و اقتناء ملكة الشجاعة كان عليه أن يكرر الورود في الشدائد و المهاول التي تزلزل القلوب و تقلقل الأحشاء، و كلما ورد في مورد منها و شاهد أنه كان يمكنه الورود فيه و أدرك لذة الإقدام و شناعة الفرار و التحذر انتقشت نفسه بذلك انتقاشا بعد انتقاش حتى تثبت فيها ملكة الشجاعة، و حصول هذه الملكة العلمية و إن لم يكن في نفسه بالاختيار لكنه بالمقدمات الموصلة إليه كما عرفت اختياري كسبي.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن الطريق إلى تهذيب الأخلاق و اكتساب الفاضلة منها أحد مسلكين: المسلك الأول: تهذيبها بالغايات الصالحة الدنيوية، و العلوم و الآراء المحمودة عند الناس كما يقال: إن العفة و قناعة الإنسان بما عنده و الكف عما عند الناس توجب العزة و العظمة في أعين الناس و الجاه عند العامة، و إن الشره يوجب الخصاصة و الفقر، و إن الطمع يوجب ذلة النفس المنيعة، و إن العلم يوجب إقبال العامة و العزة و الوجاهة و الأنس عند الخاصة، و إن العلم بصر يتقي به الإنسان كل مكروه، و يدرك كل محبوب و إن الجهل عمى، و إن العلم يحفظك و أنت تحفظ المال، و إن الشجاعة ثبات يمنع النفس عن التلون و الحمد من الناس على أي تقدير سواء غلب الإنسان أو غلب عليه بخلاف الجبن و التهور، و إن العدالة راحة النفس عن الهمم المؤذية، و هي الحياة بعد الموت ببقاء الاسم و حسن الذكر و جميل الثناء و المحبة في القلوب.

و هذا هو المسلك المعهود الذي رتب عليه علم الأخلاق، و المأثور من بحث الأقدمين من يونان و غيرهم فيه.

و لم يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بناؤه على انتخاب الممدوح عند عامة الناس عن المذموم عندهم، و الأخذ بما يستحسنه الاجتماع و ترك ما يستقبحه، نعم ربما جرى عليه كلامه تعالى فيما يرجع بالحقيقة إلى ثواب أخروي أو عقاب أخروي كقوله تعالى: «و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة»: البقرة - 150 دعا سبحانه إلى العزم و الثبات، و علله بقوله: لئلا يكون، و كقوله تعالى: «و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا»: الأنفال - 46، دعا سبحانه إلى الصبر و علله بأن تركه و إيجاد النزاع يوجب الفشل و ذهاب الريح و جرأة العدو، و قوله تعالى «و لمن صبر و غفر إن ذلك لمن عزم الأمور»: الشورى - 43، دعا إلى الصبر و العفو، و علله بالعزم و الإعظام.

المسلك الثاني: الغايات الأخروية، و قد كثر ذكرها في كلامه تعالى كقوله سبحانه «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة»: التوبة - 111، و قوله تعالى: «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب»: الزمر - 10، و قوله تعالى: «إن الظالمين لهم عذاب أليم»: إبراهيم - 22، و قوله تعالى: «الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور و الذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات»: البقرة - 257، و أمثالها كثيرة على اختلاف فنونها.

و يلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات كقوله تعالى: «ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير» فإن الآية دعت إلى ترك الأسى و الفرح بأن الذي أصابكم ما كان ليخطئكم و ما أخطأكم ما كان ليصيبكم لاستناد الحوادث إلى قضاء مقضي و قدر مقدر، فالأسى و الفرح لغو لا ينبغي صدوره من مؤمن يؤمن بالله الذي بيده أزمة الأمور كما يشير إليه قوله تعالى: «ما
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 5:31 am


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

بحث روائي في البرزخ و حياة الروح بعد الموت

في تفسير القمي، عن سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من الدنيا، و أول يوم من الآخرة مثل له ماله و ولده و عمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: و الله إني كنت عليك لحريصا شحيحا، فما لي عندك؟ فيقول: خذ مني كفنك، ثم يلتفت إلى ولده فيقول: و الله إني كنت لكم لمحبا، و إني كنت عليكم لحاميا، فما ذا لي عندكم؟ فيقولون: نؤديك إلى حفرتك و نواريك فيها، ثم يلتفت إلى عمله فيقول: و الله إني كنت فيك لزاهدا، و إنك كنت علي لثقيلا، فما ذا عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، و يوم حشرك، حتى أعرض أنا و أنت على ربك، فإن كان لله وليا أتاه أطيب الناس ريحا و أحسنهم منظرا، و أزينهم رياشا، فيقول: بشر بروح من الله و ريحان و جنة نعيم، قد قدمت خير مقدم، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح أرتحل من الدنيا إلى الجنة، و إنه ليعرف غاسله، و يناشد حامله أن يعجله فإذا دخل قبره أتاه ملكان، و هما فتانا القبر، يحبران أشعارهما، و يحبران الأرض بأنيابهما، و أصواتهما كالرعد القاصف، و أبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربك، و من نبيك؟ و ما دينك؟ فيقول: الله ربي، و محمد نبيي، و الإسلام ديني، فيقولان: ثبتك الله فيما تحب و ترضى، و هو قول الله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا الآية، فيفسحان له في قبره مد بصره، و يفتحان له بابا إلى الجنة و يقولان: نم قرير العين نوم الشاب الناعم، و هو قوله: أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا و أحسن مقيلا. و إذا كان لربه عدوا فإنه يأتيه أقبح خلق الله رياشا، و أنتنه ريحا، فيقول له أبشر بنزل من حميم، و تصلية جحيم، و إنه ليعرف غاسله، و يناشد حامله أن يحبسه، فإذا أدخل قبره أتياه ممتحنا القبر، فألقيا عنه أكفانه ثم قالا له، من ربك؟ و من نبيك؟ و ما دينك؟ فيقول: لا أدري فيقولان له: ما دريت و لا هديت، فيضربانه بمرزبة ضربة ما خلق الله دابة إلا و تذعر لها ما خلا الثقلان، ثم يفتحان له بابا إلى النار، ثم يقولان له: نم بشر حال، فيبوء من الضيق مثل ما فيه القنا من الزج، حتى أن دماغه يخرج من بين ظفره و لحمه، و يسلط الله عليه حيات الأرض و عقاربها و هوامها تنهشه حتى يبعثه الله من قبره، و إنه ليتمنى قيام الساعة مما هو فيه من الشر.

و في منتخب البصائر، عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا يسأل في القبر إلا من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا فقلت له: فسائر الناس؟ فقال: يلهى عنهم.

و في أمالي الشيخ عن ابن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: ما يقول الناس في أرواح المؤمنين بعد موتهم؟ قلت: يقولون في حواصل طيور خضر، فقال: سبحان الله، المؤمن أكرم على الله من ذلك! إذا كان ذلك أتاه رسول الله و علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهما السلام)، و معهم ملائكة الله عز و جل المقربون، فإن أنطق الله لسانه بالشهادة له بالتوحيد، و للنبي بالنبوة و الولاية لأهل البيت، شهد على ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهما السلام) و الملائكة المقربون معهم و إن اعتقل لسانه خص الله نبيه بعلم ما في قلبه من ذلك، فشهد به، و شهد على شهادة النبي: علي و فاطمة و الحسن و الحسين على جماعتهم من الله أفضل السلام و من حضر معهم من الملائكة فإذا قبضه الله إليه صير تلك الروح إلى الجنة، في صورة كصورته، فيأكلون و يشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا.

و في المحاسن، عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذكر الأرواح، أرواح المؤمنين فقال: يلتقون، قلت: يلتقون؟ قال: نعم يتساءلون و يتعارفون حتى إذا رأيته قلت: فلان.

و في الكافي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب، و يستر عنه ما يكره، و إن الكافر ليزور أهله، فيرى ما يكره و يستر عنه ما يحب، قال: منهم من يزور كل جمعة، و منهم من يزور على قدر عمله.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): أن الأرواح في صفة الأجساد في شجر من الجنة، تعارف و تساءل، فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول: دعوها، فإنها قد أقبلت من هول عظيم ثم يسألونها ما فعل فلان، و ما فعل فلان فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، و إن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى هوى.

أقول: و الروايات في باب البرزخ كثيرة، و إنما نقلنا ما فيه جوامع معنى البرزخ، و في المعاني المنقولة روايات مستفيضة كثيرة، و فيها دلالة على نشأة مجردة عن المادة.

بحث فلسفي

هل النفس مجردة عن المادة؟ و نعني بالنفس ما يحكي عنه كل واحد منا بقوله، أنا و بتجردها عدم كونها أمرا ماديا ذا انقسام و زمان و مكان.

إنا لا نشك في أنا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه: بأنا، و لا نشك أن كل إنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حينا من أحيان حياتنا و شعورنا، و ليس هو شيئا من أعضائنا، و أجزاء بدننا التي نشعر بها بالحس أو بنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة من البصر و اللمس و نحو ذلك، و أعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحس و التجربة.

فإنا ربما نغفل عن كل واحد منها و عن كل مجموع منها حتى عن مجموعها التام الذي نسميه بالبدن، و لا نغفل قط عن المشهود الذي نعبر عنه: بأنا، فهو غير البدن و غير أجزائه.

و أيضا لو كان هو البدن أو شيئا من أعضائه أو أجزائه: أو خاصة من الخواص الموجود فيها - و هي جميعا مادية، و من حكم المادة التغير التدريجي و قبول الانقسام و التجزي - لكان ماديا متغيرا و قابلا للانقسام و ليس كذلك فإن كل أحد إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لنفسه، و ذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أول شعوره بنفسه وجده معنى مشهودا واحدا باقيا على حاله من غير أدنى تعدد و تغير، كما يجد بدنه، و أجزاء بدنه و الخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة، في مادتها و شكلها، و سائر أحوالها و صورها، و كذا وجده معنى بسيطا غير قابل للانقسام و التجزي، كما يجد البدن و أجزاءه و خواصه - و كل مادة و أمر مادي كذلك - فليست النفس هي البدن، و لا جزءا من أجزائه، و لا خاصة من خواصه، سواء أدركناه بشيء من الحواس أو بنحو من الاستدلال، أو لم ندرك، فإنها جميعا مادية كيفما فرضت، و من حكم المادة التغير، و قبول الانقسام، و المفروض أن ليس في مشهودنا المسمى بالنفس شيء من هذه الأحكام فليست النفس بمادية بوجه.

و أيضا هذا الذي نشاهده نشاهده أمرا واحدا بسيطا ليس فيه كثرة من الأجزاء و لا خليط من خارج بل هو واحد صرف فكل إنسان يشاهد ذلك من نفسه و يرى أنه هو و ليس بغيره فهذا المشهود أمر مستقل في نفسه، لا ينطبق عليه حد المادة و لا يوجد فيه شيء من أحكامها اللازمة، فهو جوهر مجرد عن المادة، متعلق بالبدن نحو تعلق يوجب اتحادا ما له بالبدن و هو التعلق التدبيري و هو المطلوب.

و قد أنكر تجرد النفس جميع الماديين، و جمع من الإلهيين من المتكلمين، و الظاهريين من المحدثين، و استدلوا على ذلك، و ردوا ما ذكر من البرهان بما لا يخلو عن تكلف من غير طائل.

قال الماديون: إن الأبحاث العلمية على تقدمها و بلوغها اليوم إلى غاية الدقة في فحصها و تجسسها لم تجد خاصة من الخواص البدنية إلا وجدت علتها المادية، و لم تجد أثرا روحيا لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى تحكم بسببها بوجود روح مجردة.

قالوا: و سلسلة الأعصاب تؤدي الإدراكات إلى العضو المركزي و هو الجزء الدماغي على التوالي و في نهاية السرعة، ففيه مجموعة متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزاؤها و لا يدرك بطلان بعضها، و قيام الآخر مقامه، و هذا الواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها، و نحكي عنها بأنا، فالذي نرى أنه غير جميع أعضائنا صحيح إلا أنه لا يثبت أنه غير البدن و غير خواصه، بل هو مجموعة متحدة من جهة التوالي و التوارد لا نغفل عنه، فإن لازم الغفلة عنه على ما تبين بطلان الأعصاب و وقوفها عن أفعالها و هو الموت، و الذي نرى أنه ثابت، صحيح لكنه لا من جهة ثباته و عدم تغيره في نفسه بل الأمر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الإدراكية و سرعة ورودها، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب و يخرج من جانب بما يساويه و هو مملوء دائما، فما فيه من الماء يجده الحس واحدا ثابتا، و هو بحسب الواقع لا واحد و لا ثابت، و كذا يجد عكس الإنسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحدا ثابتا و ليس واحدا ثابتا بل هو كثير متغير تدريجا بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه، و على هذا النحو وجود الثبات و الوحدة و الشخصية التي نرى في النفس.

قالوا: فالنفس التي يقام البرهان على تجردها من طريق المشاهدة الباطنية هي في الحقيقة مجموعة من خواص طبيعية، و هي الإدراكات العصبية التي هي نتائج حاصلة من التأثير و التأثر المتقابلين بين جزء المادة الخارجية، و جزء المركب العصبي، و وحدتها وحدة اجتماعية لا وحدة واقعية حقيقية.

أقول: أما قولهم: إن الأبحاث العلمية المبتنية على الحس و التجربة لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح، و لا وجدت حكما من الأحكام غير قابل التعليل إلا بها فهو كلام حق لا ريب فيه لكنه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي أقيم البرهان على وجودها، فإن العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة و خواص المادة إنما تقدر على تحصيل خواص موضوعها الذي هو المادة، و إثبات ما هو من سنخها، و كذا الخواص و الأدوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب المادي إنما لها أن تحكم في الأمور المادية، و أما ما وراء المادة و الطبيعة، فليس لها أن تحكم فيها نفيا و لا إثباتا، و غاية ما يشعر البحث المادي به هو عدم الوجدان، و عدم الوجدان غير عدم الوجود، و ليس من شأنه كما عرفت أن يجد ما بين المادة التي هي موضوعها، و لا بين أحكام المادة و خواصها التي هي نتائج بحثها أمرا مجردا خارجا عن سنخ المادة و حكم الطبيعة.

و الذي جرأهم على هذا النفي زعمهم أن المثبتين لهذه النفس المجردة إنما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيوية من وظائف الأعضاء و لم يقدروا على تعليلها العلمي، فأثبتوا النفس المجردة لتكون موضوعا مبدأ لهذه الأفاعيل، فلما حصل العلم اليوم على عللها الطبيعية لم يبق وجه للقول بها، و نظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.

و هو اشتباه فاسد فإن المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك و لم يسندوا بعض الأفاعيل البدنية إلى البدن فيما علله ظاهرة، و بعضها إلى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنية بلا واسطة و إلى النفس بواسطتها، و إنما أسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن البتة و هو علم الإنسان بنفسه و مشاهدته ذاته كما مر.

و أما قولهم: إن الإنية المشهودة للإنسان على صفة الوحدة هي عدة من الإدراكات العصبية الواردة على المركز على التوالي و في نهاية السرعة - و لها وحدة اجتماعية - فكلام لا محصل له و لا ينطبق عليه الشهود النفساني البتة، و كأنهم ذهلوا عن شهودهم النفساني فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسية إلى الدماغ و اشتغلوا بالبحث عما يلزم ذلك من الآثار التالية و ليت شعري إذا فرض أن هناك أمورا كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها البتة، و هذه الأمور الكثيرة التي هي الإدراكات أمور مادية ليس وراءها شيء آخر إلا نفسها، و أن الأمر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الإدراكات الكثيرة، فمن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره؟ و من أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عيانا؟ و الذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبه بالهزل منه بالجد فإن الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدة و إنما وحدتها في الحس أو الخيال كالدار الواحدة و الخط الواحد مثلا، لا في نفسه، و المفروض في محل كلامنا أن الإدراكات و الشعورات الكثيرة في نفسها هي شعور واحد عند نفسها، فلازم قولهم إن هذه الإدراكات في نفسها كثيرة لا ترجع إلى وحدة أصلا، و هي بعينها شعور واحد نفساني واقعا، و ليس هناك أمر آخر له هذه الإدراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة كما يدرك الحاسة أو الخيال المحسوسات أو المتخيلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعية، فإن المفروض أن مجموع الإدراكات الكثيرة في نفسها نفس الإدراك النفساني الواحد في نفسه، و لو قيل: إن المدرك هاهنا الجزء الدماغي يدرك الإدراكات الكثيرة على نعت الوحدة كان الإشكال بحاله، فإن المفروض أن إدراك الجزء الدماغي نفس هذه الإدراكات الكثيرة المتعاقبة بعينها، لا أن للجزء الدماغي قوة إدراك تتعلق بهذه الإدراكات كتعلق القوى الحسية بمعلوماتها الخارجية و انتزاعها منها صورا حسية، فافهم ذلك.

و الكلام في كيفية حصول الثبات و البساطة في هذا المشهود الذي هو متغير متجز في نفسه كالكلام في حصول وحدته.

مع أن هذا الفرض أيضا - أعني أن يكون الإدراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورة بشعور دماغي على نعت الوحدة - نفسه فرض غير صحيح، فما شأن الدماغ و القوة التي فيه، و الشعور الذي لها، و المعلوم الذي عندها، و هي جميعا أمور مادية، و من شأن المادة و المادي الكثرة، و التغير، و قبول الانقسام، و ليس في هذه الصورة العلمية شيء من هذه الأوصاف و النعوت، و ليس غير المادة و المادي هناك شيء؟.

و قولهم: إن الأمر يشتبه على الحس أو القوة المدركة، فيدرك الكثير المتجزي المتغير واحدا بسيطا ثابتا غلط واضح، فإن الغلط و الاشتباه من الأمور النسبية التي تحصل بالمقايسة و النسبة، لا من الأمور النفسية، مثال ذلك أنا نشاهد الأجرام العظيمة السماوية صغيرة كالنقاط البيض، و نغلط في مشاهدتنا هذه، على ما تبينه البراهين العلمية، و كثير من مشاهدات حواسنا إلا أن هذه الأغلاط إنما تحصل و توجد إذا قايسنا ما عند الحس مما في الخارج من واقع هذه المشهودات، و أما ما عند الحس في نفسه فهو أمر واقعي كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطا البتة.

و الأمر فيما نحن فيه من هذا القبيل فإن حواسنا و قوانا المدركة إذا وجدت الأمور الكثيرة المتغيرة المتجزية على صفة الوحدة و الثبات و البساطة كانت القوى المدركة غالطة في إدراكها مشتبهة في معلومها بالقياس إلى المعلوم الذي في الخارج و أما هذه الصورة العلمية الموجودة عند القوة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها البتة، و لا يمكن أن يقال للأمر الذي هذا شأنه: أنه مادي لفقده أوصاف المادة العامة.

فقد تحصل من جميع ما ذكرنا أن الحجة التي أوردها الماديون من طريق الحس و التجربة إنما ينتج عدم الوجدان، و قد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود و هو مدعاهم مكان عدم الوجدان، و ما صوروه لتقرير الشهود النفساني المثبت لوجود أمر واحد بسيط ثابت تصوير فاسد لا يوافق، لا الأصول المادية المسلمة بالحس و التجربة، و لا واقع الأمر الذي هو عليه في نفسه.

و أما ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد في أمر النفس و هو أنه الحالة المتحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحية، من الإدراك و الإرادة و الرضا و الحب و غيرها المنتجة لحالة متحدة مؤلفة فلا كلام لنا فيه، فإن لكل باحث أن يفترض موضوعا و يضعه موضوعا لبحثه، و إنما الكلام فيه من حيث وجوده و عدمه في الخارج و الواقع مع قطع النظر عن فرض الفارض و عدمه، و هو البحث الفلسفي كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.

و قال قوم آخرون من نفاة تجرد النفس من المليين: إن الذي يتحصل من الأمور المربوطة بحياة الإنسان كالتشريح و الفيزيولوجي أن هذه الخواص الروحية الحيوية تستند إلى جراثيم الحياة و السلولات التي هي الأصول في حياة الإنسان و سائر الحيوان، و تتعلق بها، فالروح خاصة و أثر مخصوص فيها لكل واحد منها أرواح متعددة فالذي يسميه الإنسان روحا لنفسه و يحكي عنه بأنا مجموعة متكونة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد و الاجتماع، و من المعلوم أن هذه الكيفيات الحيوية و الخواص الروحية تبطل بموت الجراثيم و السلولات و تفسد بفسادها فلا معنى للروح الواحدة المجردة الباقية بعد فناء التركيب البدني غاية الأمر أن الأصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي لما لم تف بكشف رموز الحياة كان لنا أن نقول: إن العلل الطبيعية لا تفي بإيجاد الروح فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، و أما الاستدلال على تجرد النفس من جهة العقل محضا فشيء لا يقبله و لا يصغي إليه العلوم اليوم لعدم اعتمادها على غير الحس و التجربة، هذا.

أقول: و أنت خبير بأن جميع ما أوردناه على حجة الماديين وارد على هذه الحجة المختلقة من غير فرق و نزيدها أنها مخدوشة أولا: بأن عدم وفاء الأصول العلمية المكتشفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروح و الحياة لا ينتج عدم وفائها أبدا و لا عدم انتهاء هذه الخواص إلى العلل المادية في نفس الأمر على جهل منا، فهل هذا إلا مغالطة وضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم؟.

و ثانيا: بأن استناد بعض حوادث العالم - و هي الحوادث المادية - إلى المادة، و بعضها الآخر و هي الحوادث الحيوية إلى أمر وراء المادة - و هو الصانع - قول بأصلين في الإيجاد، و لا يرتضيه المادي و لا الإلهي، و جميع أدلة التوحيد يبطله.

و هنا إشكالات أخر أوردوها على تجرد النفس مذكورة في الكتب الفلسفية و الكلامية غير أن جميعها ناشئة عن عدم التأمل و الإمعان فيما مر من البرهان، و عدم التثبت في تعقل الغرض منه، و لذلك أضربنا عن إيرادها، و الكلام عليها، فمن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى مظانها، و الله الهادي.

بحث أخلاقي

علم الأخلاق و هو الفن الباحث عن الملكات الإنسانية المتعلقة بقواه النباتية و الحيوانية و الإنسانية، و تميز الفضائل منها من الرذائل ليستكمل الإنسان التحلي و الاتصاف بها سعادته العلمية، فيصدر عنه من الأفعال ما يجلب الحمد العام و الثناء الجميل من المجتمع الإنساني يظفر ببحثه أن الأخلاق الإنسانية تنتهي إلى قوى عامة ثلاثة فيه هي الباعثة للنفس على اتخاذ العلوم العملية التي تستند و تنتهي إليها أفعال النوع و تهيئتها و تعبيتها عنده، و هي القوى الثلاث: الشهوية و الغضبية و النطقية الفكرية، فإن جميع الأعمال و الأفعال الصادرة عن الإنسان إما من قبيل الأفعال المنسوبة إلى جلب المنفعة كالأكل و الشرب و اللبس و غيرها، و إما من الأفعال المنسوبة إلى دفع المضرة كدفاع الإنسان عن نفسه و عرضه و ماله و نحو ذلك، و هذه الأفعال هي الصادرة عن المبدأ الغضبي كما أن القسم السابق عليها صادر عن المبدأ الشهوي، و إما من الأعمال المنسوبة إلى التصور و التصديق الفكري، كتأليف القياس و إقامة الحجة و غير ذلك، و هذه الأفعال صادرة عن القوة النطقية الفكرية، و لما كانت ذات الإنسان كالمؤلفة المركبة من هذه القوى الثلاث التي باتحادها و حصول الوحدة التركيبية منها يصدر أفعال خاصة نوعية، و يبلغ الإنسان سعادته التي من أجلها جعل هذا التركيب، فمن الواجب لهذا النوع أن لا يدع قوة من هذه القوى الثلاث تسلك مسلك الإفراط أو التفريط، و تميل عن حاق الوسط إلى طرفي الزيادة و النقيصة، فإن في ذلك خروج جزء المركب عن المقدار المأخوذ منه في جعل أصل التركيب و في ذلك خروج المركب عن كونه ذاك المركب و لازمه بطلان غاية التركيب التي هي سعادة النوع.

و حد الاعتدال في القوة الشهوية - و هي استعمالها على ما ينبغي كما و كيفا - يسمى عفة، و الجانبان في الإفراط و التفريط الشره و الخمود، و حد الاعتدال في القوة الغضبية هي الشجاعة، و الجانبان التهور و الجبن، و حد الاعتدال في القوة الفكرية تسمى حكمة، و الجانبان الجربزة و البلادة، و تحصل في النفس من اجتماع هذه الملكات ملكة رابعة هي كالمزاج من الممتزج، و هي التي تسمى عدالة، و هي إعطاء كل ذي حق من القوى حقه، و وضعه في موضعه الذي ينبغي له، و الجانبان فيها الظلم و الانظلام.

فهذه أصول الأخلاق الفاضلة أعني: العفة و الشجاعة و الحكمة و العدالة، و لكل منها فروع ناشئة منها راجعة بحسب التحليل إليها، نسبتها إلى الأصول المذكورة كنسبة النوع إلى الجنس، كالجود و السخاء، و القناعة و الشكر، و الصبر و الشهامة

و الجرأة و الحياء، و الغيرة و النصيحة، و الكرامة و التواضع، و غيرها، هي فروع الأخلاق الفاضلة المضبوطة في كتب الأخلاق و هاك شجرة تبين أصولها و تفرع فروعها و علم الأخلاق يبين حد كل واحد منها و يميزها من جانبيها في الإفراط و التفريط، ثم يبين أنها حسنة جميلة ثم يشير إلى كيفية اتخاذها ملكة في النفس من طريقي العلم و العمل أعني الإذعان بأنها حسنة جميلة، و تكرار العمل بها حتى تصير هيئة راسخة في النفس.

مثاله أن يقال: إن الجبن إنما يحصل من تمكن الخوف من النفس، و الخوف إنما يكون من أمر ممكن الوقوع و عدم الوقوع، و المساوي الطرفين يقبح ترجيح أحد طرفيه على الآخر من غير مرجح و الإنسان العاقل لا ينبغي له ذلك فلا ينبغي للإنسان أن يخاف.

فإذا لقن الإنسان نفسه هذا القول ثم كرر الإقدام و الورود في المخاوف و المهاول زالت عنه رذيلة الخوف، و هكذا الأمر في غيره من الرذائل و الفضائل.

فهذا ما يقتضيه المسلك الأول على ما تقدم في البيان و خلاصته إصلاح النفس و تعديل ملكاتها لغرض الصفة المحمودة و الثناء الجميل.

و نظيره ما يقتضيه المسلك الثاني، و هو مسلك الأنبياء و أرباب الشرائع، و إنما التفاوت من حيث الغرض و الغاية، فإن غاية الاستكمال الخلقي في المسلك الأول الفضيلة المحمودة عند الناس و الثناء الجميل منهم، و غايته في المسلك الثاني السعادة الحقيقية للإنسان و هو استكمال الإيمان بالله و آياته، و الخبر الأخروي و هي سعادة و كمال في الواقع لا عند الناس فقط، و مع ذلك فالمسلكان يشتركان في أن الغاية القصوى و الغرض فيها الفضيلة الإنسانية من حيث العمل.

و أما المسلك الثالث المتقدم بيانه فيفارق الأولين بأن الغرض فيه ابتغاء وجه الله لا اقتناء الفضيلة الإنسانية و لذلك ربما اختلف المقاصد التي فيه مع ما في المسلكين الأولين فربما كان الاعتدال الخلقي فيه غير الاعتدال الذي فيهما و على هذا القياس، بيان ذلك أن العبد إذا أخذ إيمانه في الاشتداد و الإزدياد انجذبت نفسه إلى التفكير في ناحية ربه، و استحضار أسمائه الحسنى، و صفاته الجميلة المنزهة عن النقص و الشين و لا تزال تزيد نفسه انجذابا، و تترقى مراقبة حتى صار يعبد الله كأنه يراه و أن ربه يراه، و يتجلى له في مجالي الجذبة و المراقبة و الحب فيأخذ الحب في الاشتداد لأن الإنسان مفطور على حب الجميل، و قد قال تعالى: «و الذين آمنوا أشد حبا لله»: البقرة - 165، و صار يتبع الرسول في جميع حركاته و سكناته لأن حب الشيء يوجب حب آثاره، و الرسول من آثاره و آياته كما أن العالم أيضا آثاره و آياته تعالى، و لا يزال يشتد هذا الحب ثم يشتد حتى ينقطع إليه من كل شيء، و لا يحب إلا ربه، و لا يخضع قلبه إلا لوجهه فإن هذا العبد لا يعثر بشيء، و لا يقف على شيء و عنده شيء من الجمال و الحسن إلا وجد أن ما عنده أنموذج يحكي ما عنده من كمال لا ينفد و جمال لا يتناهى و حسن لا يحد، فله الحسن و الجمال و الكمال و البهاء، و كل ما كان لغيره فهو له، لأن كل ما سواه آية له ليس له إلا ذلك، و الآية لا نفسية لها، و إنما هي حكاية تحكي صاحبها و هذا العبد قد استولى سلطان الحب على قلبه، و لا يزال يستولي، و لا ينظر إلى شيء إلا لأنه آية من آيات ربه، و بالجملة فينقطع حبه عن كل شيء إلى ربه، فلا يحب شيئا إلا لله سبحانه و في الله سبحانه.

و حينئذ يتبدل نحو إدراكه و عمله فلا يرى شيئا إلا و يرى الله سبحانه قبله و معه، و تسقط الأشياء عنده من حيز الاستقلال فما عنده من صور العلم و الإدراك غير ما عند الناس لأنهم إنما ينظرون إلى كل شيء من وراء حجاب الاستقلال بخلافه، هذا من جهة العلم، و كذلك الأمر من جهة العمل فإنه إذا كان لا يحب إلا لله فلا يريد شيئا إلا لله و ابتغاء وجهه الكريم، و لا يطلب و لا يقصد و لا يرجو و لا يخاف، و لا يختار، و لا يترك، و لا ييأس، و لا يستوحش، و لا يرضى، و لا يسخط إلا لله و في الله فيختلف أغراضه مع ما للناس من الأغراض و تتبدل غاية أفعاله فإنه قد كان إلى هذا الحين يختار الفعل و يقصد الكمال لأنه فضيلة إنسانية، و يحذر الفعل أو الخلق لأنه رذيلة إنسانية.

و أما الآن فإنما يريد وجه ربه، و لا هم له في فضيلة و لا رذيلة، و لا شغل له بثناء جميل، و ذكر محمود، و لا التفات له إلى دنيا أو آخرة أو جنة أو نار، و إنما همه ربه، و زاده ذل عبوديته، و دليله حبه.

روت لي أحاديث الغرام صبابة.

بإسنادها عن جيرة العلم الفرد.

و حدثني مر النسيم عن الصبا.

عن الدوح عن وادي الغضا عن ربى نجد.

عن الدمع عن عيني القريح عن الجوى.

عن الحزن عن قلبي الجريح عن الوجد.

بأن غرامي و الهوى قد تحالفا.

على تلفي حتى أوسد في لحدي.

و هذا البيان الذي أوردناه و إن آثرنا فيه الإجمال و الاختصار لكنك إن أجدت فيه التأمل وجدته كافيا في المطلوب و تبين أن هذا المسلك الثالث يرتفع فيه موضوع الفضيلة و الرذيلة، و يتبدل فيه الغاية و الغرض أعني الفضيلة الإنسانية إلى غرض واحد، و هو وجه الله، و ربما اختلف نظر هذا المسلك مع غيره فصار ما هو معدود في غيره فضيلة رذيلة فيه و بالعكس.

بقي هنا شيء و هو أن هاهنا نظرية أخرى في الأخلاق تغاير ما تقدم، و ربما عد مسلكا آخر، و هي أن الأخلاق تختلف أصولا و فروعا باختلاف الاجتماعات المدنية لاختلاف الحسن و القبح من غير أن يرجع إلى أصل ثابت قائم على ساق، و قد ادعي أنها نتيجة النظرية المعروفة بنظرية التحول و التكامل في المادة.

قالوا: إن الاجتماع الإنساني مولود جميع الاحتياجات الوجودية التي يريد الإنسان أن يرفعها بالاجتماع، و يتوسل بذلك، إلى بقاء وجود الاجتماع الذي يراه بقاء وجود شخصه، و حيث إن الطبيعة محكومة لقانون التحول و التكامل كان الاجتماع أيضا متغيرا في نفسه، و متوجها في كل حين إلى ما هو أكمل و أرقى، و الحسن و القبح و هما موافقة العمل لغاية الاجتماع أعني الكمال و عدم موافقته له - لا معنى لبقائهما على حال واحد، و جمودهما على نهج فارد، فلا حسن مطلقا، و لا قبح مطلقا، بل هما دائما نسبيان مختلفان باختلاف الاجتماعات بحسب الأمكنة و الأزمنة، و إذا كان الحسن و القبح نسبيين متحولين وجب التغير في الأخلاق، و التبدل في الفضائل و الرذائل و من هنا يستنتج أن الأخلاق تابعة للمرام القومي الذي هو وسيلة إلى نيل الكمال المدني و الغاية الاجتماعية، لتبعية الحسن و القبح لذلك فما كان به التقدم و الوصول إلى الغاية و الغرض كان هو الفضيلة و فيه الحسن، و ما كان يدعو إلى الوقوف و الارتجاع كان هو الرذيلة، و على هذا فربما كان الكذب و الافتراء و الفحشاء و الشقاوة و القساوة و السرقة و الوقاحة حسنة و فضيلة إذا وقعت في طريق المرام الاجتماعي، و الصدق و العفة و الرحمة رذيلة قبيحة إذا أوجب الحرمان عن المطلوب، هذه خلاصة هذه النظرية العجيبة التي ذهبت إليها الاشتراكيون من الماديين، و النظرية غير حديثة، على ما زعموا، فقد كان الكلبيون من قدماء - اليونان - على ما ينقل على هذه المسلك، و كذا المزدكيون و هم أتباع مزدك الذي ظهر بإيران على عهد كسرى و دعا إلى الاشتراك كان عملهم على ذلك، و يعهد من بعض القبائل الوحشية بإفريقية و غيرهم.

و كيف كان فهو مسلك فاسد و الحجة التي أقيمت على هذه النظرية فاسدة من حيث البناء و المبنى معا.

توضيح ذلك: أنا نجد كل موجود من هذه الموجودات العينية الخارجية يصحب شخصية تلازمه، و يلزمها أن لا يكون الموجود بسببه عين الموجود الآخر و يفارقه في الوجود، كما أن وجود زيد يصحب شخصية و نوع وحدة لا يمكن معها أن يكون عين عمرو، فزيد شخص واحد، و عمرو شخص آخر، و هما شخصان اثنان، لا شخص واحد، فهذه حقيقة لا شك فيها و هذا غير ما نقول: إن عالم المادة موجود ذو حقيقة واحدة شخصية فلا ينبغي أن يشتبه الأمر.

و ينتج ذلك: أن الوجود الخارجي عين الشخصية، لكن المفاهيم الذهنية يخالف الموجود الخارجي في هذا الحكم فإن المعنى كيف ما كان يجوز العقل أن يصدق على أكثر من مصداق واحد كمفهوم الإنسان و مفهوم الإنسان الطويل، و مفهوم هذا الإنسان القائم أمامنا، و أما تقسيم المنطقيين المفهوم إلى الكلي و الجزئي، و كذا تقسيمهم الجزئي إلى الإضافي و الحقيقي فإنما هو تقسيم بالإضافة و النسبة، إما نسبة أحد المفهومين إلى الآخر و إما نسبته إلى الخارج، و هذا الوصف الذي في المفاهيم - و هو جواز الانطباق على أكثر من واحد - ربما نسميه بالإطلاق كما نسمي مقابله بالشخصية أو الوحدة.

ثم الموجود الخارجي و نعني به الموجود المادي خاصة لما كان واقعا تحت قانون التغير و الحركة العمومية كان لا محالة ذا امتداد منقسما إلى حدود و قطعات، كل قطعة منها تغاير القطعة الأخرى مما تقدم عليها أو تأخر عنها، و مع ذلك فهي مرتبطة بها بوجودها، إذ لو لا ذلك لم يصدق معنى التغير و التبدل لأن أحد شيئين إذا عدم من أصله، و الآخر وجد من أصله لم يكن ذلك تبدل هذا من ذاك، بل التبدل الذي يلازم كل حركة إنما يتحقق بوجود قدر مشترك في الحالين جميعا.

و من هنا يظهر أن الحركة أمر واحد بشخصه يتكثر بحسب الإضافة إلى الحدود، فيتعين بكل نسبة قطعة تغاير القطعة الأخرى، و أما نفس الحركة فسيلان و جريان واحد شخصي، و نحن ربما سمينا هذا الوصف في الحركة إطلاقا في مقابل النسب التي لها إلى كل حد حد، فنقول: الحركة المطلقة بمعنى قطع النظر عن إضافتها إلى الحدود.

و من هنا يظهر أن المطلق بالمعنى الثاني أمر واقعي موجود في الخارج، بخلاف المطلق بالمعنى الأول فإن الإطلاق بهذا المعنى وصف ذهني لموجود ذهني، هذا.

ثم إنا لا نشك أن الإنسان موجود طبيعي ذو أفراد و أحكام و خواص و أن الذي توجده الخلقة هو الفرد من أفراد الإنسان دون مجموع الأفراد أعني الاجتماع الإنساني إلا أن الخلقة لما أحست بنقص وجوده، و احتياجه إلى استكمالات لا تتم له وحدة، جهزه بأدوات و قوى تلائم سعيه للاستكمال في ظرف الاجتماع و ضمن الأفراد المجتمعين، فطبيعة الإنسان الفرد مقصود للخلقة أولا و بالذات و الاجتماع مقصود لها ثانيا و بالتبع.

و أما حقيقة أمر الإنساني مع هذا الاجتماع الذي تقتضيه و تتحرك إليه الطبيعة الإنسانية إن صح إطلاق الاقتضاء و العلية و التحرك في مورد الاجتماع حقيقة فإن الفرد من الإنسان موجود شخصي واحد بالمعنى الذي تقدم من شخصيته و وحدته، و هو مع ذلك واقع في الحركة، متبدل متحول إلى الكمال، و من هنا كان كل قطعة من قطعات وجوده المتبدل مغايرة لغيرها من القطعات، و هو مع ذلك ذو طبيعة سيالة مطلقة محفوظة في مراحل التغيرات واحدة شخصية، و هذه الطبيعة الموجودة في الفرد محفوظة بالتوالد و التناسل و اشتقاق الفرد من الفرد - و هي التي نعبر عنها بالطبيعة النوعية - فإنها محفوظة بالأفراد و إن تبدلت و عرض لها الفساد و الكون، بمثل البيان الذي مر في خصوص الطبيعة الفردية، فالطبيعة الشخصية موجودة متوجهة إلى الكمال الفردي، و الطبيعة النوعية موجودة مطلقة متوجهة إلى الكمال.

و هذا الاستكمال النوعي لا شك في وجوده و تحققه في نظام الطبيعة، و هو الذي نعتمد عليه في قولنا: إن النوع الإنساني مثلا متوجه إلى الكمال، و إن الإنسان اليوم أكمل وجودا من الإنسان الأولى، و كذا ما تحكم به فرضية تحول الأنواع، فلولا أن هناك طبيعة نوعية خارجية محفوظة في الأفراد أو الأنواع مثلا لم يكن هذا الكلام إلا كلاما شعريا.

و الكلام في الاجتماع الشخصي القائم بين أفراد قوم أو في عصر أو في محيط، و نوع الاجتماع القائم بنوع الإنسان المستمر باستمراره و المتحول بتحوله لو صح أن الاجتماع كالإنسان المجتمع حال خارجي لطبيعة خارجية! نظير القول في طبيعة الإنسان الشخصية و النوعية في التقييد و الإطلاق.

فالاجتماع متحرك متبدل بحركة الإنسان و تبدله و له وحدة من بادىء الحركة إلى أين توجه بوجود مطلق - و هذا الواحد المتغير بواسطة نسبته و إضافته إلى كل حد حد تصير قطعة قطعة، و كل قطعة شخص واحد من أشخاص الاجتماع، و أشخاص الاجتماع مستندة في وجودها إلى أشخاص الإنسان، كما أن مطلق الاجتماع بالمعنى الذي تقدم مستند إلى مطلق الطبيعة الإنسانية، فإن حكم الشخص شخص الحكم و فرده، و حكم المطلق مطلق الحكم لا كلي الحكم، فلسنا نعني الإطلاق المفهومي فلا تغفل و نحن لا نشك أن الفرد من الإنسان و هو واحد له حكم واحد باق ببقائه، إلا أنه متبدل بتبدلات جزئية بتبع التبدلات الطارئة على موضوعه الذي هو الإنسان فمن أحكام الإنسان الطبيعي أنه يتغذى و يفعل بالإرادة و يحس و يتفكر - و هو موجود مع الإنسان و باق - ببقائه و إن تبدل طبق تبدله في نفسه، و كذلك الكلام في أحكام مطلق الإنسان الموجود بوجود أفراده.

و لما كان الاجتماع من أحكام الطبيعة الإنسانية و خواصها فمطلق الاجتماع نعني به الاجتماع المستمر الذي أوجدته الطبيعة الإنسانية المستمرة من حين وجد الإنسان الفرد إلى يومنا هذا من خواص النوع الإنساني المطلق، موجود معه باق ببقائه، و أحكام الاجتماع التي أوجدها و اقتضاها هي مع الاجتماع موجودة بوجوده، باقية ببقائه، و إن تبدلت بتبدلات جزئية مع انحفاظ الأصل مثل نوعها، و حينئذ صح لنا أن نقول: إن هناك أحكاما اجتماعية باقية غير متغيرة، كوجود مطلق الحسن و القبح، كما أن نفس الاجتماع المطلق كذلك، بمعنى أن الاجتماع لا ينقلب إلى غير الاجتماع كالانفراد و إن تبدل اجتماع خاص إلى آخر خاص، و الحسن المطلق و الخاص كالاجتماع المطلق و الخاص بعينه.

ثم إنا نرى أن الفرد من الإنسان يحتاج في وجوده و بقائه إلى كمالات و منافع يجب له أن يجتلبها و يضمها إلى نفسه، و الدليل على هذا الوجوب احتياجه في جهات وجوده و تجهيز الخلقة له بما يقوى به على ذلك، كجهاز التغذي و جهاز التناسل مثلا، فعلى الإنسان أن يقدم عليه، و ليس له أن لا يقدم قطعا بالتفريط فإنه يناقض دليل الوجوب الذي ذكرناه، و ليس له أن يقدم في باب من أبواب الحاجة بما يزيد على اللازم بالإفراط، مثل أن يأكل حتى يموت، أو يمرض، أو يتعطل عن سائر قواه الفعالة، بل عليه أن يتوسط في جلب كل كمال أو منفعة، و هذا التوسط هي العفة، و طرفاه الشره و الخمود، و كذلك نرى الفرد في وجوده و بقائه متوسطا بين نواقص و أضداد و مضار لوجوده يجب عليه أن يدفعها، و الدليل عليه الاحتياج و التجهيز في نفسه فيجب عليه المقاومة و الدفاع على ما ينبغي من التوسط، من غير إفراط يضاد سائر تجهيزاته أو تفريط يضاد الاحتياج و التجهيز المربوطين، و هذا التوسط هي الشجاعة، و طرفاها التهور و الجبن و نظير الكلام جار في العلم و مقابليه أعني الجربزة و البلادة، و في العدالة و مقابليها و هما الظلم و الانظلام.

فهذه أربع ملكات و فضائل يستدعيه الطبيعة الفردية المجهزة بأدواتها: العفة و الشجاعة، و الحكمة، و العدالة - و هي كلها حسنة - لأن معنى الحسن الملاءمة لغاية الشيء و كماله و سعادته، و هي جميعا ملاءمة مناسبة لسعادة الفرد بالدليل الذي تقدم ذكره، و مقابلاتها رذائل قبيحة، و إذا كان الفرد من الإنسان بطبيعته و في نفسه على هذا الوصف فهو في ظرف الاجتماع أيضا على هذا الوصف، و كيف يمكن أن يبطل الاجتماع - و هو من أحكام هذه الطبيعة - سائر أحكامها الوجودية؟ و هل هو إلا تناقض الطبيعة الواحدة، و ليس حقيقة الاجتماع إلا تعاون الأفراد في تسهيل الطريق إلى استكمال طبائعهم و بلوغها إلى غاية أمنيتها؟.

و إذا كان الفرد من الإنسان في نفسه و في ظرف الاجتماع على هذا الوصف، فنوع الإنسان في اجتماعه النوعي أيضا كذلك، فنوع الإنسان في اجتماعه يستكمل بالدفاع بقدر ما لا يفسد الاجتماع و باجتلاب المنافع بقدر ما لا يفسد الاجتماع، و بالعلم بقدر ما لا يفسد الاجتماع، و بالعدالة الاجتماعية - و هي إعطاء كل ذي حق حقه، و بلوغه حظه الذي يليق به دون الظلم و الانظلام - و كل هذه الخصال الأربع فضائل بحكم الاجتماع المطلق يقضي الاجتماع الإنساني بحسنها المطلق و يعد مقابلاتها رذائل و يقضي بقبحها.

فقد تبين بهذا البيان: أن في الاجتماع المستمر الإنساني حسنا و قبحا لا يخلو عنهما قط و أن أصول الأخلاق الأربعة فضائل حسنة دائما، و مقابلاتها رذائل قبيحة دائما، و الطبيعة الإنسانية الاجتماعية تقضي بذلك، و إذا كان الأمر في الأصول على هذا النحو فالفروع المنتهية بحسب التحليل إليها حكمها في القبول ذلك، و إن كان ربما يقع اختلاف ما في مصاديقها من جهة الانطباق على ما سنشير إليه.

إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك وجه سقوط ما نقلنا من قولهم من أمر الأخلاق و هاك بيانه.

أما قولهم: إن الحسن و القبح المطلقين غير موجودين، بل الموجود منهما النسبي من الحسن و القبح و هو متغير مختلف باختلاف المناطق و الأزمنة و الاجتماعات، فهو مغالطة ناشئة من الخلط بين الإطلاق المفهومي بمعنى الكلية و الإطلاق الوجودي بمعنى استمرار الوجود، فالحسن و القبح المطلقان الكليان غير موجودين في الخارج لوصف الكلية و الإطلاق، لكنهما ليسا هما الموجبين لما نقصده من النتيجة، و أما الحسن و القبح المطلقان المستمران بمعنى استمرارهما حكمين للاجتماع ما دام الاجتماع مستمرا باستمرار الطبيعة فهما كذلك، فإن غاية الاجتماع سعادة النوع، و لا يمكن موافقة جميع الأفعال الممكنة و المفروضة للاجتماع كيف ما، فرض فهناك أفعال موافقة و مخالفة دائما فهناك حسن و قبح دائما.

و على هذا فكيف يمكن أن يفرض اجتماع كيف ما فرض و لا يعتقد أهله أن من الواجب أن يعطى كل ذي حق حقه أو أن جلب المنافع بقدر ما ينبغي واجب أو أن الدفاع عن مصالح الاجتماع بقدر ما ينبغي لازم أو أن العلم الذي يتميز به منافع الإنسان من غيرها فضيلة حسنة؟ و هذه هي العدالة و العفة، و الشجاعة، و الحكمة التي ذكرنا أن الاجتماع الإنساني كيف ما فرض لا يحكم إلا بحسنها و كونها فضائل إنسانية، و كذا كيف يتيسر لاجتماع أن لا يحكم بوجوب الانقباض و الانفعال عن التظاهر بالقبيح الشنيع، و هو الحياء من شعب العفة أو لا يحكم بوجوب السخط و تغير النفس في هتك المقدسات و هضم الحقوق، و هو الغيرة من شعب الشجاعة، أو لا يحكم بوجوب الاقتصار على ما للإنسان من الحقوق الاجتماعية، و هو القناعة أو لا يحكم بوجوب حفظ النفس في موقعها الاجتماعي من غير دحض الناس و تحقيرهم بالاستكبار و البغي بغير الحق، و هو التواضع؟ و هكذا الأمر في كل واحد واحد من فروع الفضائل.

و أما ما يزعمونه من اختلاف الأنظار في الاجتماعات المختلفة في خصوص الفضائل و صيرورة الخلق الواحد فضيلة عند قوم رذيلة عند آخرين في أمثلة جزئية فليس من جهة اختلاف النظر في الحكم الاجتماعي بأن يعتقد قوم بوجوب اتباع الفضيلة الحسنة و آخرون بعدم وجوبه بل من جهة الاختلاف في انطباق الحكم على المصداق و عدم انطباقه مثل أن الاجتماعات التي كانت تديرها الحكومات المستبدة كانت ترى لعرش الملك الاختيار التام في أن يفعل ما يشاء، و يحكم ما يريد، و ليس ذلك لسوء ظنهم بالعدالة بل لاعتقادهم بأنه من حقوق السلطنة و الملك فلم يكن ذلك ظلما من مقام السلطنة بل إيفاء بحقوقه الحقة بزعمهم.

و مثل أن العلم كان يعير به الملوك في بعض الاجتماعات، كما يحكى عن ملة فرنسا في القرون الوسطى، و لم يكن ذلك لتحقيرهم فضيلة العلم، بل لزعمهم أن العلم بالسياسة و فنون إدارة الحكومة يضاد المشاغل السلطانية.

و مثل أن عفة النساء بمعنى حفظ البضع من غير الزوج، و كذا الحياء من النساء و كذا الغيرة من رجالهن، و كذا عدة من الفضائل كالقناعة و التواضع أخلاق لا يذعن بفضلها في بعض الاجتماعات، لكن ذلك منهم لأن اجتماعهم الخاص لا يعدها مصاديق للعفة و الحياء و الغيرة و القناعة و التواضع، لا لأن هذه الفضائل ليست فضائل عندهم.

و الدليل على ذلك وجود أصلها عندهم، فهم يمدحون عفة الحاكم في حكمه و القاضي في قضائه، و يمدحون الاستحياء من مخالفة القوانين، و يمدحون الغيرة للدفاع عن الاستقلال و الحضارة و عن جميع مقدساتهم، و يمدحون القناعة بما عينه القانون من الحقوق لهم، و يمدحون التواضع لأئمتهم و هداتهم في الاجتماع.

و أما قولهم: بدوران الأخلاق في حسنها مدار موافقتها لغاية المرام الاجتماعي و استنتاجهم ذلك من دوران حسنها مدار موافقة غاية الاجتماع ففيه مغالطة واضحة فإن المراد بالاجتماع الهيئة الحاصلة من عمل مجموع القوانين التي قررتها الطبيعة بين الأفراد المجتمعين و لا محالة تكون موصلة إلى سعادتهم لو لا الإخلال بانتظامها و جريها، و لا محالة لها أحكام: من الحسن و القبح و الفضيلة و الرذيلة، و المراد بالمرام مجموع الفرضيات التي وضعت لإيجاد اجتماع على هيئة جديدة بتحميلها على الأفراد المجتمعين، أعني أن الاجتماع و المرام الاجتماعي متغايران بالفعلية و القوة، و التحقق و فرض التحقق، فكيف يصير حكم أحدهما عين حكم الآخر، و كيف يكون الحسن و القبح، و الفضيلة و الرذيلة التي عينها الاجتماع العام باقتضاء من الطبيعة الإنسانية متبدلة إلى ما حكم به المرام الذي ليس إلا فرضا من فارض؟.

و لو قيل: أن لا حكم للاجتماع العام الطبيعي من نفسه بل الحكم للمرام، و خاصة إذا كانت فرضية متلائمة لسعادة الأفراد عاد الكلام السابق في الحسن و القبح، و الفضيلة و الرذيلة، و أنها تنتهي بالآخرة إلى اقتضاء مستمر من الطبيعة.

على أن هاهنا محذورا آخر و هو أن الحسن و القبح و سائر الأحكام الاجتماعية - و هي التي تعتمد عليها الحجة الاجتماعية و تتألف منها الاستدلالات - لو كانت تابعة للمرام، و من الممكن بل الواقع تحقق مرامات مختلفة متناقضة متباينة أدى ذلك إلى ارتفاع الحجة المشتركة المقبولة عند عامة الاجتماعات، و لم يكن التقدم و النجاح حينئذ إلا للقدرة و التحكم، و كيف يمكن أن يقال: إن الطبيعة الإنسانية ساقت أفرادها إلى حياة اجتماعية لا تفاهم بين أجزائها و لا حكم يجمعها إلا حكم مبطل لنفس الاجتماع؟ و هل هذا إلا تناقض شنيع في حكم الطبيعة و اقتضائها الوجودي؟.

بحث روائي آخر في متفرقات متعلقة بما تقدم

عن الباقر (عليه السلام) قال: أتى رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إني راغب نشيط في الجهاد. قال: فجاهد في سبيل الله فإنك إن تقتل كنت حيا عند الله مرزوقا و إن مت فقد وقع أجرك على الله الحديث.

يتبع...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 5:34 am

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): و إن مت إلخ إشارة إلى قوله تعالى: «و من يخرج من بيته مهاجرا إلى الله و رسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله»: النساء - 100، و فيه دلالة على أن الخروج إلى الجهاد مهاجرة إلى الله و رسوله.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في إسماعيل النبي الذي سماه الله سبحانه صادق الوعد، قال (عليه السلام) إنما سمي صادق الوعد لأنه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسماه الله عز و جل صادق الوعد، ثم إن الرجل أتاه بعد ذلك الوقت فقال له إسماعيل: ما زلت منتظرا لك الحديث.

أقول: و هذا أمر ربما يحكم العقل العادي بكونه منحرفا عن جادة الاعتدال مع أن الله سبحانه جعله منقبة له (عليه السلام) حتى عظم قدره و رفع ذكره بقوله: «و اذكر في الكتاب إسمعيل إنه كان صادق الوعد و كان رسولا نبيا و كان يأمر أهله بالصلوة و الزكوة و كان عند ربه مرضيا»: مريم - 55، فليس ذلك إلا أن الميزان الذي وزن به هذا العمل غير الميزان الذي بيد العقل العادي، فللعقل العادي تربية بتدبيره و لله سبحانه تربية لأوليائه بتأييده، و كلمة الله هي العليا، و نظائر هذه القضية كثيرة مروية منقولة عن النبي و الأئمة و الأولياء.

فإن قلت: كيف يمكن مخالفة الشرع مع العقل في ما للعقل إليه سبيل.

قلت: أما حكم العقل في ما له إليه سبيل ففي محله، لكنه يحتاج إلى موضوع يقع عليه حكمه، و قد عرفت في ما تقدم أن أمثال هذه العلوم في المسلك الثالث الذي ذكرناه لا تبقي للعقل موضوعا يحكم فيه و عليه، و هذا سبيل المعارف الإلهية و الظاهر أن إسماعيل النبي (عليه السلام) كان أطلق القول بوعده بأن قال: أنتظرك هاهنا حتى تعود إلي ثم التزم على إطلاق قوله صونا لنفسه عن نقض العهد و الكذب في الوعد و حفظا لما ألقى الله في روعه و أجراه على لسانه، و قد روي نظيره عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه كان عند المسجد الحرام فوعده بعض أصحابه بالرجوع إليه و وعده النبي بانتظاره حتى يرجع فذهب في شأنه و لم يرجع، فانتظره النبي ثلاثة أيام في مكانه الذي وعده حتى مر به الرجل بعد الثلاثة، و هو جالس ينتظر و الرجل قد نسي الوعد، الحديث.

و في الخصائص، للسيد الرضي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: و قد سمع رجلا يقول: إنا لله و إنا إليه راجعون يا هذا إن قولنا: إنا لله إقرار منا بالملك، و إنا إليه راجعون إقرار منا بالهلاك. أقول: و قد اتضح معناه بما تقدم و رواه في الكافي، مفصلا.

و في الكافي،: عن إسحاق بن عمار و عبد الله بن سنان، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله عز و جل: إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا فمن أقرضني فيها قرضا أعطيته بكل واحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف، و من لم يقرضني قرضا و أخذت منه شيئا قسرا أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها عني، ثم قال أبو عبد الله: قول الله: الذين إذا أصابتهم مصيبة - قالوا إنا لله و إنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم، فهذه واحدة من ثلاث خصال، و رحمة اثنتان، و أولئك هم المهتدون ثلاث، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا.

أقول: و الرواية مروية لطرق أخرى متقاربة و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): الصلاة من الله رحمة، و من الملائكة التزكية، و من الناس دعاء.

أقول: و في معناه عدة روايات أخر، و بين هذه الرواية و ما تقدمها تناف ظاهرا حيث إن الرواية السابقة تعد الصلاة غير الرحمة، و يساعد عليه ظاهر قوله عليهم صلوات من ربهم و رحمة، و هذه الرواية تعدها رحمة و يرتفع التنافي بالرجوع إلى ما تقدم من البيان.


إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)


بيان

الصفا و المروة موضعان بمكة يأتي الحجاج بينهما بعمل السعي، و هما جبلان مسافة بينهما سبعمائة و ستون ذراعا و نصف ذراع على ما قيل، و أصل الصفا في اللغة الحجر الصلب الأملس، و أصل المروة الحجر الصلب، و الشعائر جمع شعيرة، و هي العلامة، و منه المشعر، و منه قولنا: أشعر، الهدي أي أعلمه، و الحج هو القصد بعد القصد، أي القصد المكرر، و هو في اصطلاح الشرع العمل المعهود بين المسلمين، و الاعتمار الزيارة و أصله العمارة لأن الديار تعمر بالزيارة، و هو في اصطلاح الشرع زيارة البيت بالطريق المعهود، و الجناح الميل عن الحق و العدل، و يراد به الإثم، فيئول نفي الجناح إلى التجويز، و التطوف من الطواف، و هو الدوران حول الشيء، و هو السير الذي ينتهي آخره إلى أوله، و منه يعلم أن ليس من اللازم كونه حول شيء، و إنما ذلك من مصاديقه الظاهرة و على هذا المعنى أطلق التطوف في الآية، فإن المراد به السعي و هو قطع ما بين الصفا و المروة من المسافة سبع مرات متوالية، و التطوع من الطوع بمعنى الطاعة، و قيل: إن التطوع يفارق الإطاعة في أنه يستعمل في المندوب خاصة، بخلاف الإطاعة و لعل ذلك - لو صح هذا القول - بعناية أن العمل الواجب لكونه إلزاميا كأنه ليس بمأتي به طوعا، بخلاف المأتي من المندوب فإنه على الطوع من غير شائبة، و هذا تلطف عنائي و إلا فأصل الطوع يقابل الكره و لا ينافي الأمر الإلزامي.

قال تعالى: «قال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها»: فصلت - 11، و أصل باب التفعل الأخذ لنفسه، كقولنا: تميز أي أخذ يميز، و تعلم الشيء أي أخذ يعلمه، و تطوع خيرا أي أخذ يأتي بالخير بطوعه، فلا دليل من جهة اللغة على اختصاص التطوع بالامتثال الندبي إلا أن توجبه العناية العرفية المذكورة.

فقوله تعالى: إن الصفا و المروة من شعائر الله إلى قوله: يطوف بهما يشير إلى كون المكانين معلمين بعلامة الله سبحانه، يدلان بذلك عليه، و يذكرانه تعالى و اختصاصهما بكونهما من الشعائر دون بقية الأشياء جميعا يدل على أن المراد بالشعائر ليست الشعائر التكوينية بل هما شعيرتان بجعله تعالى إياهما معبدين يعبد فيهما، فهما يذكران الله سبحانه، فكونهما شعيرتين يدل على أنه تعالى قد شرع فيهما عبادة متعلقة بهما، و تفريع قوله: «فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما» إنما هو للإيذان بأصل تشريع السعي بين الصفا و المروة، لا لإفادة الندب، و لو كان المراد إفادة الندب كان الأنسب بسياق الكلام أن يمدح التطوف، لا أن ينفي ذمه، فإن حاصل المعنى أنه لما كان الصفا و المروة معبدين و منسكين من معابد الله فلا يضركم أن تعبدوه فيهما، و هذا لسان التشريع، و لو كان المراد إفادة الندب كان الأنسب أن يفاد أن الصفا و المروة لما كانا من شعائر الله فإن الله يحب السعي بينهما - و هو ظاهر - و التعبير بأمثال هذا القول الذي لا يفيد وحدة الإلزام في مقام التشريع شائع في القرآن، و كقوله تعالى في الجهاد: «ذلكم خير لكم»: الصف - 11، و في الصوم «و أن تصوموا خير لكم»: البقرة - 184، و في القصر «فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة»: النساء - 101.

قوله تعالى: و من تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم، إن كان معطوفا على مدخول فاء التفريع في قوله تعالى: فمن حج البيت أو اعتمر، كان كالتعليل لتشريع التطوف بمعنى آخر أعم من العلة الخاصة التي تبين بقوله: إن الصفا و المروة، و كان المراد بالتطوع مطلق الإطاعة لا الإطاعة المندوبة، و إن كان استينافا بالعطف إلى أول الآية كان مسوقا لإفادة محبوبية التطوف في نفسه إن كان المراد بتطوع الخير هو التطوف أو مسوقا لإفادة محبوبية الحج و العمرة إن كان هما المراد بتطوع الخير هذا.

و الشاكر و العليم اسمان من أسماء الله الحسنى، و الشكر هو مقابلة من أحسن إليه إحسان المحسن بإظهاره لسانا أو عملا كمن ينعم إليه المنعم بالمال فيجازيه بالثناء الجميل الدال على نعمته أو باستعمال المال في ما يرتضيه، و يكشف عن إنعامه، و الله سبحانه و إن كان محسنا قديم الإحسان و منه كل الإحسان لا يد لأحد عنده حتى يستوجبه الشكر إلا أنه جل ثناؤه عد الأعمال الصالحة التي هي في الحقيقة إحسانه إلى عباده إحسانا من العبد إليه، فجازاه بالشكر و الإحسان و هو إحسان على إحسان قال تعالى: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان»: الرحمن - 60، و قال تعالى: «إن هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا»: الدهر - 22، فإطلاق الشاكر عليه تعالى على حقيقة معنى الكلمة من غير مجاز.

بحث روائي

في تفسير العياشي،: عن بعض أصحابنا عن الصادق (عليه السلام): سألته: عن السعي بين الصفا و المروة فريضة هي أم سنة؟ قال: فريضة، قلت: أ ليس الله يقول: فلا جناح عليه أن يطوف بهما؟ قال: كان ذلك في عمرة القضاء، و ذلك أن رسول الله كان شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الأصنام قال: فأنزل الله، إن الصفا و المروة من شعائر الله - فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما، أي و الأصنام عليها: أقول: و عن الكافي، ما يقرب منه.

و في الكافي، أيضا عن الصادق (عليه السلام): في حديث حج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): بعد ما طاف بالبيت و صلى ركعتيه قال: (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الصفا و المروة من شعائر الله فابدأ بما بدأ الله عز و جل، و إن المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا و المروة شيء صنعه المشركون فأنزل الله إن الصفا و المروة من شعائر الله - فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما.

أقول: و لا تنافي بين الروايتين في شأن النزول، و هو ظاهر، و قوله (عليه السلام) في الرواية فابدأ بما بدأ الله ملاك التشريع، و قد مضى في حديث هاجر و سعيها سبع مرات بين الصفا و المروة أن السنة جرت بذلك.

و في الدر المنثور،: عن عامر الشعبي قال: كان وثن بالصفا يدعى إساف، و وثن بالمروة يدعى نائلة فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما و يمسحون الوثنين فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: يا رسول الله إن الصفا و المروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين، و ليس الطواف بهما من الشعائر، فأنزل الله: إن الصفا و المروة الآية فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه، و أثبت المروة من جهة الصنم الذي كان عليه موثبا.

أقول: و قد روى الفريقان في المعاني السابقة روايات كثيرة.

و مقتضى جميع هذه الروايات أن الآية نزلت في تشريع السعي في سنة حج فيها المسلمون، و سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة، و من هنا يستنتج أن الآية غير متحدة السياق مع ما قبلها من آيات القبلة فإنها نزلت في السنة الثانية من الهجرة كما تقدم، و مع الآيات التي في مفتتح السورة، فإنها نزلت في السنة الأولى من الهجرة فللآيات سياقات متعددة كثيرة، لا سياق واحد.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 5:37 am

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (162)

بيان

قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى، الظاهر و الله أعلم - أن المراد بالهدى ما تضمنه الدين الإلهي من المعارف و الأحكام الذي يهدي تابعيه إلى السعادة، و بالبينات الآيات و الحجج التي هي بينات و أدلة و شواهد على الحق الذي هو الهدى، فالبينات في كلامه تعالى وصف خاص بالآيات النازلة، و على هذا يكون المراد بالكتمان و هو الإخفاء - أعم من كتمان أصل الآية، و عدم إظهاره للناس، أو كتمان دلالته بالتأويل أو صرف الدلالة بالتوجيه، كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه لهم، و ما يعلم به الناس يؤولونه بصرفه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: من بعد ما بيناه للناس، أفاد أن كتمانهم إنما هو بعد البيان و التبين للناس، لا لهم فقط، و ذلك أن التبين لكل شخص شخص من أشخاص الناس أمر لا يحتمله النظام الموجود المعهود في هذا العالم، لا في الوحي فقط، بل في كل إعلام عمومي و تبيين مطلق، بل إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة و إلى بعض آخرين بواسطتهم، بتبليغ الحاضر الغائب، و العالم الجاهل، فالعالم يعد من وسائط البلوغ و أدواته، كاللسان و الكلام: فإذا بين الخبر للعالم المأخوذ عليه الميثاق بعلمه مع غيره من المشافهين فقد بين الناس، فكتمان العالم علمه هذا كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم و هو السبب الوحيد الذي عده الله سبحانه سببا لاختلاف الناس في الدين و تفرقهم في سبل الهداية و الضلالة، و إلا فالدين فطري تقبله الفطرة و تخضع له القوة المميزة بعد ما بين لها، قال تعالى «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون»: الروم - 30، فالدين فطري على الخلقة لا يدفعه الفطرة أبدا لو ظهر لها ظهورا ما بالصفاء من القلب، كما في الأنبياء، أو ببيان قولي، و لا محالة ينتهي هذا الثاني إلى ذلك الأول فافهم ذلك.

و لذلك جمع في الآية بين كون الدين فطريا على الخلقة و بين عدم العلم به فقال: فطرة الله التي فطر الناس عليها، و قال: لكن أكثر الناس لا يعلمون، و قال تعالى: «و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم»: البقرة - 213، فأفاد أن الاختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب إنما هو ناش عن بغي العلماء الحاملين له، فالاختلافات الدينية و الانحراف عن جادة الصواب معلول بغي العلماء بالإخفاء و التأويل و التحريف، و ظلمهم، حتى أن الله عرف الظلم بذلك يوم القيامة كما قال: «فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا»: الأعراف - 44، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

فقد تبين أن الآية مبتنية على الآية أعني، أن قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب الآية، مبتنية على قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم الآية، و مشيرة إلى جزاء هذا البغي بذيلها و هو قوله: أولئك يلعنهم الله إلخ.

قوله تعالى: أولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون، بيان لجزاء بغي الكاتمين لما أنزله الله من الآيات و الهدى، و هو اللعن من الله، و اللعن من كل لاعن، و قد كرر اللعن لأن اللعن مختلف فإنه من الله التبعيد من الرحمة و السعادة و من اللاعنين سؤاله من الله، و قد أطلق اللعن منه و من اللاعنين و أطلق اللاعنين، و هو يدل على توجيه كل اللعن من كل لاعن إليهم و الاعتبار يساعد عليه فإن الذي يقصده لاعن بلعنه هو البعد عن السعادة، و لا سعادة بحسب الحقيقة، إلا السعادة الحقيقية الدينية، و هذه السعادة لما كانت مبينة من جانب الله، مقبولة عند الفطرة، فلا يحرم عنها محروم إلا بالرد و الجحود، و كل هذا الحرمان إنما هو لمن علم بها و جحدها عن علم دون من لا يعلم بها و لم تبين له، و قد أخذ الميثاق على العلماء أن يبثوا علمهم و ينشروا ما عندهم من الآيات و الهدى، فإذا كتموه و كفوا عن بثه فقد جحدوه فأولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون، و يشهد لما ذكرنا الآية الآتية: إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار - إلى قوله أجمعين الآية فإن الظاهر أن قوله: إن للتعليل أو لتأكيد مضمون هذه الآية، بتكرار ما هو في مضمونها و معناها و هو قوله: الذين كفروا و ماتوا و هم كفار.

قوله تعالى: إلا الذين تابوا و أصلحوا و بينوا الآية استثناء من الآية السابقة، و المراد بتقييد توبتهم بالتبين أن يتبين أمرهم و يتظاهروا بالتوبة، و لازم ذلك أن يبينوا ما كتموه للناس و أنهم كانوا كاتمين و إلا فلم يتوبوا بعد لأنهم كاتمون بعد بكتمان أنهم كانوا كاتمين.

قوله تعالى: إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار، كناية عن إصرارهم على كفرهم و عنادهم و تعنتهم في قبول الحق فإن من لا يدين بدين الحق لا لعناد و استكبار بل لعدم تبينه له ليس بكافر بحسب الحقيقة، بل مستضعف، أمره إلى الله، و يشهد بذلك تقييد كفر الكافرين في غالب الآيات و التكذيب و خاصة في آيات هبوط آدم المشتملة على أول تشريع شرع لنوع الإنسان، قال تعالى: «قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى» إلى قوله - «و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»: البقرة - 39، فالمراد بالذين كفروا في الآية هم المكذبون المعاندون - و هم الكاتمون لما أنزل الله - و جازاهم الله تعالى بقوله: أولئك عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين، و هذا حكم من الله سبحانه أن يلحق بهم كل لعن لعن به ملك من الملائكة أو أحد من الناس جميعا من غير استثناء، فهؤلاء سبيلهم سبيل الشيطان، إذ قال الله سبحانه فيه: «و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين»: الحجر - 35، فجعل جميع اللعن عليه فهؤلاء - و هم العلماء الكاتمون لعلمهم - شركاء الشيطان في اللعن العام المطلق و نظراؤه فيه، فما أشد لحن هذه الآية و أعظم أمرها! و سيجيء في الكلام على قوله تعالى: «ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم»: الأنفال - 37، ما يتعلق بهذا المقام إن شاء الله العزيز.

قوله تعالى: خالدين فيها، أي في اللعنة و قوله: لا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينظرون، في تبديل السياق بوضع العذاب موضع اللعنة دلالة على أن اللعنة تتبدل عليهم عذابا.

و اعلم أن في هذه الآيات موارد من الالتفات، فقد التفت في الآية الأولى من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: أولئك يلعنهم الله، لأن المقام مقام تشديد السخط، و السخط يشتد إذا عظم اسم من ينسب إليه أو وصفه - و لا أعظم من الله سبحانه - فنسب إليه اللعن ليبلغ في الشدة كل مبلغ، ثم التفت في الآية الثانية من الغيبة إلى التكلم وحده بقوله: فأولئك أتوب عليهم و أنا التواب الرحيم، للدلالة على كمال الرحمة و الرأفة، بإلقاء كل نعت و طرح كل صفة و تصدى الأمر بنفسه تعالى و تقدس، فليست الرأفة و الحنان المستفادة من هذه الجملة كالتي يستفاد من قولنا مثلا: فأولئك يتوب الله عليهم أو يتوب ربهم عليهم، ثم التفت في الآية الثالثة من التكلم وحده إلى الغيبة بقوله: أولئك عليهم لعنة الله، و الوجه فيه نظير ما ذكرناه في الالتفات الواقع في الآية الأولى.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن بعض أصحابنا عن الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن قول الله عز و جل: إن الذين يكتمون الآية، قال: نحن نعنى بها و الله المستعان إن الواحد منا إذا صارت إليه لم يكن له أو لم يسعه إلا أن يبين للناس من يكون بعده.

و عن الباقر (عليه السلام)،: في الآية، قال: يعني بذلك نحن، و الله المستعان.

و عن محمد بن مسلم قال (عليه السلام): هم أهل الكتاب.

أقول: كل ذلك من قبيل الجري و الانطباق، و إلا فالآية مطلقة.

و في بعض الروايات عن علي (عليه السلام): تفسيره بالعلماء إذا فسدوا.

و في المجمع، عن النبي: في الآية، قال: من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، و هو قوله: أولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون.

أقول: و الخبران يؤيدان ما قدمناه.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و يلعنهم اللاعنون، قال: نحن هم، و قد قالوا: هوام الأرض.

أقول: هو إشارة إلى ما يفيده قوله تعالى: «و يقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين»: هود - 18، فإنهم الأشهاد المأذونون في الكلام يوم القيامة، و القائلون صوابا، و قوله: و قالوا: هوام الأرض، هو منقول عن المفسرين كمجاهد و عكرمة و غيرهما، و ربما نسب في بعض الروايات إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى، في علي.

أقول: و هو من قبيل الجري و الانطباق.


وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

بيان

الآيات متحدة متسقة ذات نظم واحد - و هي تذكر التوحيد - و تقيم عليه البرهان و تذكر الشرك و ما ينتهي إليه أمره.

قوله تعالى: و إلهكم إله واحد، قد مر معنى الإله في الكلام على البسملة من سورة الحمد في أول الكتاب، و أما الوحدة فمفهومها من المفاهيم البديهية التي لا نحتاج في تصورها إلى معرف يدلنا عليها، و الشيء ربما يتصف بالوحدة من حيث وصف من أوصافه، كرجل واحد، و عالم واحد، و شاعر واحد، فيدل به على أن الصفة التي فيه لا تقبل الشركة و لا تعرضها الكثرة، فإن الرجولية التي في زيد مثلا - و هو رجل واحد - ليست منقسمة بينه و بين غيره، بخلاف ما في زيد و عمرو مثلا - و هما رجلان - فإنه منقسم بين اثنين كثير بهما، فزيد من جهة هذه الصفة - و هي الرجولية - واحد لا يقبل الكثرة، و إن كان من جهة هذه الصفة و غيرها من الصفات كعلمه، و قدرته، و حياته، و نحوها ليس بواحد بل كثير حقيقة، و الله سبحانه واحد، من جهة أن الصفة التي لا يشاركه فيها غيره، كالألوهية فهو واحد في الألوهية، لا يشاركه فيها غيره تعالى، و العلم و القدرة و الحياة، فله علم لا كالعلوم و قدرة و حياة لا كقدرة غيره و حياته، و واحد من جهة أن الصفات التي له لا تتكثر و لا تتعدد إلا مفهوما فقط، فعلمه و قدرته و حياته جميعها شيء واحد هو ذاته، ليس شيء منها غير الآخر بل هو تعالى يعلم بقدرته و يقدر بحياته و حي بعلمه، لا كمثل غيره في تعدد الصفات عينا و مفهوما، و ربما يتصف الشيء بالوحدة من جهة ذاته، و هو عدم التكثر و التجزي في الذات بذاته، فلا تتجزى إلى جزء و جزء، و إلى ذات و اسم و هكذا، و هذه الوحدة هي المسماة بأحدية الذات، و يدل على هذا المعنى بلفظ أحد، الذي لا يقع في الكلام من غير تقييد بالإضافة إلا إذا وقع في حيز النفي أو النهي أو ما في معناهما كقولنا ما جاءني أحد، فيرتفع بذلك أصل الذات سواء كان واحدا أو كثيرا، لأن الوحدة مأخوذة في أصل الذات لا في وصف من أوصافه بخلاف قولنا: ما جاءني واحد فإن هذا القول لا يكذب بمجيء اثنين أو أزيد لأن الوحدة مأخوذة في صفة الجائي و هو الرجولية في رجل واحد مثلا فاحتفظ بهذا الإجمال حتى نشرحه تمام الشرح في قوله تعالى: «قل هو الله أحد»: الإخلاص - 1، إن شاء الله تعالى.

و بالجملة فقوله: و إلهكم إله واحد، تفيد بجملته اختصاص الألوهية بالله عز اسمه، و وحدته فيها وحدة تليق بساحة قدسه تبارك و تعالى، و ذلك أن لفظ الواحد بحسب المتفاهم عند هؤلاء المخاطبين لا يدل على أزيد من مفهوم الوحدة العامة التي تقبل الانطباق على أنواع مختلفة لا يليق بالله سبحانه إلا بعضها فهناك وحدة عددية و وحدة نوعية و وحدة جنسية و غير ذلك، فيذهب وهم كل من المخاطبين إلى ما يعتقده و يراه من المعنى، و لو كان قيل: و الله إله واحد، لم يكن فيه توحيد لأن أرباب الشرك يرون أنه تعالى إله واحد، كما أن كل واحد من آلهتهم إله واحد، و لو كان قيل: و إلهكم واحد لم يكن فيه نص على التوحيد، لإمكان أن يذهب الوهم إلى أنه واحد في النوع، و هو الألوهية، نظير ما يقال في تعداد أنواع الحيوان: الفرس واحد، و البغل واحد، مع كون كل منهما متعددا في العدد، لكن لما قيل: و إلهكم إله واحد فأثبت معنى إله واحد - و هو في مقابل إلهين اثنين و آلهة كثيرة - على قوله: إلهكم كان نصا في التوحيد بقصر أصل الألوهية على واحد من الآلهة التي اعتقدوا بها.

قوله تعالى: لا إله إلا هو، جيء به لتأكيد نصوصية الجملة السابقة في التوحيد و نفي كل توهم أو تأويل يمكن أن يتعلق بها، و النفي فيه نفي الجنس، و المراد بالإله ما يصدق عليه الإله حقيقة و واقعا، و حينئذ فيصح أن يكون الخبر المحذوف هو موجود أو كائن، أو نحوهما، و التقدير لا إله بالحقيقة و الحق بموجود، و حيث كان لفظة الجلالة مرفوعا لا منصوبا فلفظ إلا ليس للاستثناء، بل وصف بمعنى غير، و المعنى لا إله غير الله بموجود.

فقد تبين أن الجملة أعني قوله: لا إله إلا هو، مسوقة لنفي غير الله من الآلهة الموهومة المتخيلة لا لنفي غير الله و إثبات وجود الله سبحانه، كما توهمه كثيرون، و يشهد بذلك أن المقام إنما يحتاج إلى النفي فقط، ليكون تثبيتا لوحدته في الألوهية لا الإثبات و النفي معا، على أن القرآن الشريف يعد أصل وجوده تبارك و تعالى بديهيا لا يتوقف في التصديق العقلي به، و إنما يعني عنايته بإثبات الصفات، كالوحدة، و الفاطرية، و العلم، و القدرة، و غير ذلك.

و ربما يستشكل تقدير الخبر لفظ الموجود أو ما بمعناه أنه يثبت نفي وجود إله غير الله لا نفي إمكانه، فيجاب عنه بأنه لا معنى لفرض موجود ممكن مساوي الوجود و العدم ينتهي إليه وجود جميع الموجودات بالفعل و جميع شئونها، و ربما يجاب عنه بتقدير حق، و المعنى لا معبود حق إلا هو.

قوله تعالى: الرحمن الرحيم، قد مر الكلام في معناهما في تفسير البسملة من سورة الفاتحة و بذكر الاسمين يتم معنى الربوبية، فإليه تعالى ينتهي كل عطية عامة، بمقتضى رحمانيته، و كل عطية خاصة واقعة في طريق الهداية و السعادة الأخروية بمقتضى رحيميته.

قوله تعالى: إن في خلق السموات و الأرض إلى آخر الآية، السياق كما مر في أول البيان يدل على أن الآية مسوقة للدلالة و البرهنة على ما تضمنته الآية السابقة أعني قوله تعالى: و إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الآية، فإن الآية تنحل بحسب المعنى إلى أن لكل شيء من هذه الأشياء إلها، و أن إله الجميع واحد و أن هذا الإله الواحد هو إلهكم، و أنه رحمن مفيض للرحمة العامة، و أنه رحيم يسوق إلى سعادة الغاية و هي سعادة الآخرة فهذه - حقائق حقة و، في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار إلى آخر ما ذكر في الآية آيات دالة عليها عند قوم يعقلون.

و لو كان المراد إقامة الحجة على وجود إله الإنسان أو أن إله الإنسان واحد لما كان الجميع إلا آية واحدة دالة على ذلك من طريق اتصال التدبير، و لكان حق الكلام في الآية السابقة أن يقال: و إلهكم واحد لا إله إلا هو، فالآية مسوق للدلالة على الحجة على وجود الإله و على وحدته بمعنى أن إله غير الإنسان من النظام الكبير واحد و أن ذلك بعينه إله الإنسان.

و إجمال الدلالة أن هذه السماوات التي قد علتنا و أظلتنا على ما فيها من بدائع الخلقة، و الأرض التي قد أقلتنا و حملتنا مع عجيب أمرها و سائر ما فيها من غرائب التحولات و التقلبات كاختلاف الليل و النهار، و الفلك الجارية، و الأمطار النازلة، و الرياح المصرفة، و السحب المسخرة أمور مفتقرة في نفسها إلى صانع موجد، فلكل منها إله موجد و هذا هو الحجة الأولى.

ثم إن هذه الأجرام الجوية المختلفة بالصغر و الكبر و البعد و القرب و قد وجد الواحد في الصغر على ما بلغه الفحص العلمي ما يعادل:.

0033 000 000 000 000 000 000 000 / 0 من سانتيمتر مكعب و الواحد في الكبر ما يعادل الملايين من حجم الأرض و هو كرة يعادل قطرها 9000 ميلا تقريبا، و اكتشف من المسافة بين جرمين علويين ما يقرب من ثلاثة ملايين سنة نورية، و السنة النورية من المسافة تعدل:.

365 * 24 * 60 * 60 * 300000 كيلومتر تقريبا، فانظر إلى هذه الأرقام التي تدهش اللب و تبهت الفكر و اقض ما أنت قاض في غرابة الأمر و بداعته تفعل البعض منها في البعض، و تنفعل البعض منها عن البعض أينما كانت و كيفما كانت بالجاذبة العامة، و إفاضة النور و الحرارة و تحيا بذلك سنة الحركة العامة و الزمان العمومي، و هذا نظام عام دائم تحت قانون ثابت، حتى أن النسبية العمومية القاضية بالتغير في قوانين الحركة في العالم الجسماني لا تتجافى عن الاعتراف بأن التغيير العمومي أيضا محكوم قانون آخر ثابت في التغير و التحول، ثم إن هذه الحركة و التحول العمومي تتصور في كل جزء من أجزاء العالم بصورة خاصة كما بين الشمس التي لعالمنا مع منظومتها ثم تزيد ضيقا في الدائرة كما في أرضنا مع ما يختص بها من الحوادث و الأجرام، كالقمر و الليل و النهار، و الرياح و السحب و الأمطار، ثم تتضيق الدائرة، كما في المكونات الأرضية: من المعادن و النبات و الحيوان و سائر التراكيب، ثم في كل نوع من أنواعها، ثم تتضيق الدائرة حتى تصل النوبة إلى العناصر، ثم إلى الذرات، ثم إلى أجزاء الذرات حتى تصل إلى آخر ما انتهى الفحص العلمي الميسور للإنسان إلى هذا اليوم، و هي الإلكترون، و البروتون، و يوجد هناك نظير المنظومات الشمسية جرم مركزي و أشياء يدور حولها دوران الكواكب على مداراتها التي حول شمسها و سبحها في أفلاكها.

ففي أي موقف من هذه المواقف وقف الإنسان شاهد نظاما عجيبا ذا تحولات و تغيرات، يحفظ بها أصل عالمه، و تحيا بها سنة إلهية لا تنفد عجائبه، و لا تنتهي غرائبه، لا استثناء في جريها و إن كان واحدا، و لا اتفاق في طيها و إن كان نادرا شاردا، لا يدرك ساحلها و لا يقطع مراحلها، و كلما ركبت عدة منها أخذا من الدقيق إلى الجليل وجدتها لا تزيد على عالم واحد، ذا نظام واحد و تدبير متصل حتى ينتهي الأمر إلى ما انتهى إليه توسع العلم إلى اليوم بالحس المسلح و الأرصاد الدقيقة، و كلما حللتها و جزيتها راجعا من الكل إلى الجزء حتى تنتهي إلى مثل المليكول وجدته لا تفقد من العالم الواحد شيئا ذا نظام واحد و تدبير متصل، على أن كل اثنين من هذه الموجودات متغاير الواحدين ذاتا و حكما شخصا.

فالعالم شيء واحد و التدبير متصل، و جميع الأجزاء مسخرة تحت نظام واحد و إن كثرت و اختلفت أحكامها، و عنت الوجوه للحي القيوم، فإله العالم الموجد له و المدبر لأمره واحد و هذا هو البرهان الثاني.

ثم إن الإنسان الذي هو موجود أرضي يحيا في الأرض و يعيش في الأرض ثم يموت و يرجع إلى الأرض لا يفتقر في شيء من وجوده و بقائه إلى أزيد من هذا النظام الكلي الذي لمجموع هذا العالم المتصل تدبيره، الواحد نظامه، فهذه الأجرام العلوية في إنارتها و تسخينها، و هذه الأرض في اختلاف ليلها و نهارها و رياحها و سحبها و أمطارها و منافعها التي تجري من قطر إلى قطر من رزق و متاع هي التي يحتاج إليها الإنسان في حاجته المادية و تدبير وجوده و بقائه - و الله من ورائهم محيط - فإلهها الموجد لها المدبر لأمرها هو إله الإنسان الموجد له و المدبر لأمره و هذا هو البرهان الثالث.

ثم إن هذا الإله هو الذي يعطي كلا ما يحتاج إليه في سعادته الوجودية و ما يحتاج إليه في سعادته في غايته و آخرته لو كان له سعادة أخروية غائية فإن الآخرة عقبى هذه الدار، و كيف يمكن أن يدبر عاقبة الأمر غير الذي يدبر نفس الأمر؟ و هذا هو البرهان على الاسمين الرحمن الرحيم.

و عند هذا تم تعليل الآية الأولى بالثانية و في تصدير الآية بلفظة، إن الدالة على التعليل إشارة إلى ذلك - و الله العالم -.

فقوله تعالى: إن في خلق السموات و الأرض، إشارة إلى ذوات الأجرام العلوية و الأرض بما تشتمل عليه تراكيبها من بدائع الخلق و عجائب الصنع، من صور تقوم بها أسماؤها، و مواد تتألف منها ذواتها، و تحول بعضها إلى بعض، و نقص أو زيادة تطرؤها، و تركب أو تحلل يعرضها، كما قال: «أ و لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها»: الرعد - 41، و قال: «أ و لم ير الذين كفروا أن السموات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما و جعلنا من الماء كل شيء حي»: الأنبياء - 30.

قوله تعالى: و اختلاف الليل و النهار، و هو النقيصة و الزيادة و الطول و القصر العارضان لهما من جهة اجتماع عاملين من العوامل الطبيعية، و هي الحركة اليومية التي للأرض على مركزها و هي ترسم الليل و النهار بمواجهة نصف الكرة و أزيد بقليل دائما مع الشمس فتكتسب النور و تمص الحرارة، و يسمى النهار، و استتار الشمس عن النصف الآخر و أنقص بقليل فيدخل تحت الظل المخروطي و تبقى مظلما و تسمى الليل، و لا يزالان يدوران حول الأرض، و العامل الآخر ميل سطح الدائرة الإستوائية أو المعدل عن سطح المدار الأرضي في الحركة الانتقالية إلى الشمال و الجنوب، و هو الذي يوجب ميل الشمس من المعدل إلى الشمال أو الجنوب الراسم للفصول، و هذا يوجب استواء الليل و النهار في منطقة خط الإستواء و في القطبين، أما القطبان فلهما في كل سنة شمسية تامة يوم و ليلة واحدة كل منهما يعدل نصف السنة، و الليل في قطب الشمال نهار في قطب الجنوب و بالعكس، و أما النقطة الاستوائية فلها في كل سنة شمسية ثلاثمائة و خمس و ستون ليلا و نهارا تقريبا و النهار و الليل فيها متساويان، و أما بقية المناطق فيختلف النهار و الليل فيها عددا و في الطول و القصر بحسب القرب من النقطة الاستوائية و من القطبين، و هذا كله مشروح مبين في العلوم المربوطة بها.

و هذا الاختلاف هو الموجب لاختلاف ورود الضوء و الحرارة، و هو الموجب لاختلاف العوامل الموجبة لاختلاف حدوث التراكيب الأرضية و التحولات في كينونتها مما ينتفع باختلافها الإنسان انتفاعات مختلفة.

قوله تعالى: و الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، و الفلك هو السفينة يطلق على الواحد و الجمع، و الفلك و الفلكة كالتمر و التمرة و المراد بما ينفع الناس المتاع و الرزق تنقلها من ساحل إلى ساحل و من قطر من أقطار الأرض إلى قطر آخر.

و في عد الفلك في طي الموجودات و الحوادث الطبيعية التي لا دخل لاختيار الإنسان فيها كالسماء و الأرض و اختلاف الليل و النهار دلالة على أنها أيضا تنتهي مثلها إلى صنع الله سبحانه في الطبيعة فإن نسبة الفعل إلى الإنسان بحسب الدقة لا تزيد على نسبة الفعل إلى سبب من الأسباب الطبيعية، و الاختيار الذي يتبجح به الإنسان لا يجعله سببا تاما مستقلا غير مفتقر إلى إرادة الله سبحانه و لا يجعله أقل احتياجا إليه تعالى بالنسبة إلى سائر الأسباب الطبيعية، فلا فرق من حيث الاحتياج إلى إرادة الله سبحانه بين أن يفعل قوة طبيعية في مادة، فتوجد بالفعل و الانفعال و التحريك و التركيب و التحليل صورة من الصور كصورة الحجارة مثلا و بين أن يفعل الإنسان، بالتحريك و التقريب و التبعيد في المادة صورة من الصور كصورة السفينة مثلا في أن الجميع تنتهي إلى صنع الله و إيجاده لا يستقل شيء مستغنيا عنه تعالى في ذاته و فعله.

فالفلك أيضا مثل سائر الموجودات الطبيعية تفتقر إلى الإله في وجودها و تفتقر إلى الإله في تدبير أمرها من غير فرق، و قد أشار تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله: «و الله خلقكم و ما تعملون»: الصافات - 96، حيث حكاه من إبراهيم فيما قاله لقومه في خصوص الأصنام التي اتخذوها آلهة فإن من المعلوم أن الصنم ليس إلا موجودا صناعيا كالفلك التي تجري في البحر، و قال تعالى: «و له الجوار المنشئات في البحر كالأعلام»: الرحمن - 24، فعدها ملكا لنفسه، و قال تعالى: «و سخر لكم الفلك لتجري في البحر بإذنه»: إبراهيم - 32، فعد تدبير أمرها راجعا إليه.

كلام في استناد مصنوعات الإنسان إلى الله سبحانه

فما أغفل هؤلاء الذين يعدون الصناعيات من الأشياء التي يعملها الإنسان مصنوعة مخلوقة للإنسان مقطوعة النسبة عن إله العالم عز اسمه مستندين إلى أنها مخلوقة لإرادة الإنسان و اختياره.

فطائفة منهم - و هم أصحاب المادة من المنكرين لوجود الصانع - زعموا أن حجة المليين في إثبات الصانع: أنهم وجدوا في الطبيعة حوادث و موجودات جهلوا عللها المادية و لزمهم من جهة القول بعموم قانون العلية و المعلولية في الأشياء و الحوادث أن يحكموا بوجود عللها - و هي مجهولة لهم بعد - فأنتج ذلك القول بأن لهذه الحوادث المجهولة العلة علة مجهولة الكنه هي وراء عالم الطبيعة و هو الله سبحانه فالقول بأن الصانع موجود فرضية أوجب افتراضها ما وجده الإنسان الأولي من الحوادث المادية المجهولة العلل كالحوادث الجوية و كثير من الحوادث الأرضية المجهولة العلل، و ما وجده من الحوادث و الخواص الروحية التي لم يكشف العلوم عن عللها المادية حتى اليوم.

قالوا: و قد وفق العلوم في تقدمها الحديث لحل المشكل في الحوادث المادية و كشفت عن عللها فأبطلت من هذه الفرضية أحد ركنيها و هو احتياج الحوادث المادية المجهولة العلل إلى علل ورائها، و بقي الركن الآخر و هو احتياج الحوادث الروحية إلى عللها، و انتهاؤها إلى علة مجردة، و تقدم البحث في الكيمياء الآلي جديدا يعدنا وعدا حسنا أن سيطلع الإنسان على علل الروح و يقدر على صنعه الجراثيم الحيوية و تركيب أي موجود روحي و إيجاد أي خاصة روحية، و عند ذلك ينهدم أساس الفرضية المذكورة و يخلق الإنسان في الطبيعة أي موجود شاء من الروحيات كما يخلق اليوم أي شيء شاء من الطبيعيات، و قد كان قبل اليوم لا يرضى أن ينسب الخلق إلا إلى علة مفروضة فيما وراء الطبيعة، حمله على افتراضها الجهل بعلل الحوادث، هذا ما ذكروه.

و هؤلاء المساكين لو أفاقوا قليلا من سكرة الغفلة و الغرور لرأوا أن الإلهيين من أول ما أذعنوا بوجود إله للعالم - و لن يوجد له أول - أثبتوا هذه العلة الموجدة لجميع العالم، و بين أجزائه حوادث معلومة العلل - و فيها حوادث مجهولة العلل - و المجموع من حيث المجموع مفتقر عندهم إلى علة خارجة، فما يثبته أولئك غير ما ينفيه هؤلاء.

فالمثبتون - و لم يقدر البحث و التاريخ على تعيين مبدإ لظهورهم في تاريخ حياة النوع الإنساني - أثبتوا لجميع العالم صانعا واحدا أو كثيرا و إن كان القرآن يثبت تقدم دين التوحيد على الوثنية، و قد بين ذلك الدكتور ماكس موللر الألماني المستشرق صاحب التقدم في حل الرموز السنسكريتية و هم حتى الإنسان الأولي منهم يشاهدون العلل في بعض الحوادث المادية، فإثباتهم، إلها صانعا لجميع العالم استنادا إلى قانون العلية العام ليس لأجل أن يستريحوا في مورد الحوادث المجهولة العلل حتى ينتج ذلك القول باحتياج بعض العالم إلى الإله و استغناء البعض الآخر عنه، بل لإذعانهم بأن هذا العالم المؤلف من سلسلة علل و معلولات طبيعية بمجموعها و وحدانيتها لا يستغني عن الحاجة إلى علة فوق العلل تتكي عليها جميع التأثيرات و التأثرات الجارية بين أجزائه، فإثبات هذه العلة العالية لا يبطل قانون العلية العام الجاري بين أجزاء العالم أنفسها، و لا وجود العلل المادية في موارد المعلولات المادية تغني عن استناد الجميع إلى علة عالية خارجة من سلسلتها، و ليس معنى الخروج وقوف العلة في رأس السلسلة، بل إحاطتها بها من كل جهة مفروضة.

و من عجيب المناقضة في كلام هؤلاء أنهم قائلون في الحوادث - و من جملتها الأفعال الإنسانية - بالجبر المطلق فما من فعل و لا حادث غيره إلا و هو معلول جبري لعلل عندهم، و هم مع ذلك يزعمون أن الإنسان لو خلق إنسانا آخر كان غير منته إلى علة العالم لو فرض له علة.

و هذا المعنى الذي قلنا - على لطفه و دقته و إن لم يقدر على تقريره الفهم العامي الساذج لكنه موجود على الإجمال في أذهانهم حيث قالوا باستناد جميع العالم بأجمعه إلى الإله الصانع - و فيه العلل و المعلولات فهذا - أولا.

ثم إن البراهين العقلية التي أقامها الإلهيون من الحكماء الباحثين أقاموها بعد إثبات عموم العلية و بنوا فيها على وجوب انتهاء العلل الممكنة إلى علة واجبة الوجود، و استمروا على هذا المسلك من البحث منذ ألوف من السنين من أقدم عهود الفلسفة إلى يومنا هذا، و لم يرتابوا في استناد المعلولات التي معها عللها الطبيعية الممكنة إلى علة واجبة، فليس استنادهم إلى العلة الواجبة لأجل الجهل بالعلة الطبيعية، و في المعلولات المجهولة العلل كما يتوهمه هؤلاء، و هذا ثانيا.

ثم إن القرآن المثبت لتوحيد الإله إنما يثبته مع تقرير جريان قانون العلية العام بين أجزاء العالم، و تسليم استناد كل حادث إلى علة خاصة به، و تصديق ما يحكم به العقل السليم في ذلك، فإنه يسند الأفعال الطبيعية إلى موضوعاتها و فواعلها الطبيعية و ينسب إلى الإنسان أفعاله الاختيارية في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها، ثم ينسب الجميع إلى الله سبحانه من غير استثناء، قال تعالى: «الله خالق كل شيء»: الزمر - 62، و قال تعالى: «ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو»: المؤمن - 62، و قال تعالى: «ألا له الخلق و الأمر»: الأعراف - 54، و قال تعالى: «له ما في السموات و ما في الأرض»: طه - 5، فكل ما صدق عليه اسم شيء فهو مخلوق لله منسوب إليه على ما يليق بساحة قدسه و كماله، و قد جمع في آيات أخر بين الإثباتين جميعا فنسب الفعل إلى فاعله و إلى الله سبحانه معا كقوله تعالى: «و الله خلقكم و ما تعملون»: الصافات - 96، فنسب أعمال الناس إليهم و نسب خلق أنفسهم و أعمالهم إليه تعالى، و قال تعالى: «و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى»: الأنفال - 17، فنسب الرمي إلى رسول الله و نفاه عنه و نسبه إلى الله تعالى إلى غير ذلك.

و من هذا الباب آيات أخر تجمع بين الإثباتين بطريق عام كقوله تعالى: «و خلق كل شيء فقدره تقديرا»: الفرقان - 2، و قال تعالى: «إنا كل شيء خلقناه بقدر - إلى أن قال - و كل صغير و كبير مستطر»: القمر - 53، و قال تعالى: «قد جعل الله لكل شيء قدرا»: الطلاق - 3، و قال تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر - 21، فإن تقدير كل شيء هو جعله محدودا بحدود العلل المادية و الشرائط الزمانية و المكانية.

و بالجملة فكون إثبات وجود الإله الواحد في القرآن على أساس إثبات العلية و المعلولية بين جميع أجزاء العالم، ثم استناد الجميع إلى الإله الفاطر الصانع للكل مما لا يعتريه شك و لا ريب لا كما يزعمه هؤلاء من إسناد البعض إلى الله و إسناد الآخر إلى علله المادية المعلومة، و هذا ثالثا.

نعم حملهم على هذا الزعم ما تلقوه: من جمع من أرباب النحل الباحثين عن هذه المسألة و أمثالها في فلسفة عامية كانت تنشرها الكنيسة في القرون الوسطى.

أو يعتمد عليها الضعفاء من متكلمي الأديان الأخرى و كانت مؤلفه من مسائل محرفة ما هي بالمسائل، و احتجاجات و استدلالات واهية فاقدة لاستقامة النظر، فهؤلاء لما أرادوا بيان دعواهم الحق الذي يقضي بصحته إجمالا عقولهم و نقله من الإجمال إلى التفصيل دفعهم ضعف التعقل و الفكر إلى غير الطريق فعمموا الدعوى، و توسعوا في الدليل، فحكموا باستناد كل معلول مجهول العلة إلى الله سبحانه من غير واسطة، و نفوا حاجة الأفعال الاختيارية إلى علة موجبة، أو احتياج الإنسان في صدور فعله الاختياري إلى الإله تعالى، و استقلاله في فعله، و قد مر البحث عن قولهم في الكلام على قوله تعالى: «و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة - 26، و نورد هاهنا بعض ما فيه من الكلام.

و طائفة منهم - و هم بعض المحدثين و المتكلمين من ظاهريي المسلمين و جمع من غيرهم - لم يقدروا أن يتعقلوا معنى صحيحا لإسناد أفعال الإنسان الاختيارية إلى الله سبحانه على ما يليق بالمقام الربوبي فنفوا استناد مصنوعات الإنسان إليه سبحانه، و بالخصوص فيما وضعه للمعصية خاصة كالخمر و آلات اللهو و القمار و غير ذلك، و قد قال تعالى: «إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه»: المائدة - 90.

و معلوم أن ما عده الله سبحانه عملا للشيطان لا يجوز أن ينسب إليه.

و قد مر فيما تقدم ما يظهر به بطلان هذا التوهم نقلا و عقلا، فالأفعال الاختيارية كما أن لها انتسابا إلى الله سبحانه على ما يليق به تعالى كذلك نتائجها و هي الأمور الصناعية التي يصنعها الإنسان لداعي رفع الحوائج الحيوية.

على أن الأنصاب الواقعة في الآية السابقة هي الأصنام و التماثيل المنصوبة المعبودة التي ذكر الله سبحانه أنها مخلوقة له في قوله: «و الله خلقكم و ما تعملون»، الآية و من هاهنا يظهر أن فيها جهات مختلفة من النسب ينسب من بعضها إلى الله سبحانه و هي طبيعة وجودها مع قطع النظر عن وصف المعصية المتعلق بها، فإن الصنم ليس بحسب الحقيقة إلا حجرا أو فلزا عليه شكل خاص و ليس فيه ما يوجب نفي انتسابه إلى موجد كل شيء، و أما أنه صنم معبود دون الله سبحانه فهذه هي الجهة التي يجب نفيها عنه تعالى و نسبتها إلى عمل غيره من شيطان أو إنسان، و كذا حكم غيره من حيث انتسابه إليه تعالى و إلى غيره.

فقد تبين من جميع ما مر أن الأمور الصناعية منتسبة إلى الخلقة كاستناد الأمور الطبيعية من غير فرق، نعم يدور الأمر في الانتساب إلى الخلقة مدار حظ الشيء من الوجود فافهم ذلك.

قوله تعالى: و ما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الأرض بعد موتها و بث فيها من كل دابة، فإن حقيقته عناصر مختلفة يحملها ماء البحار و غيره ثم يتكاثف بخارا متصاعدا حاملا للحرارة حتى ينتهي إلى زمهرير الهواء فيتبدل ماء متقاطرا على صورة المطر أو يجمد ثانيا فيصير ثلجا أو بردا فينزل لثقله إلى الأرض فتشربه و تحيا به أو تخزنه فيخرج على صورة ينابيع في الأرض بها حياة كل شيء فالماء النازل من السماء حادث من الحوادث الوجودية جار على نظام متقن غاية الإتقان من غير انتقاض و استثناء و يستند إليه انتشاء النبات و تكون الحيوان من كل نوع.

و هو من جهة تحدده بما يحفه من حوادث العالم طولا و عرضا تصير معها جميعا شيئا واحدا لا يستغني عن موجد يوجده و علة تظهره فله إله واحد، و من جهة أنه مما يستند إليه وجود الإنسان حدوثا و بقاء يدل على كون إلهه هو إله الإنسان.

قوله تعالى: و تصريف الرياح، و هو توجيهها من جانب إلى جانب بعوامل طبيعية مختلفة، و الأغلب فيها أن الأشعة النورية الواقعة على الهواء من الشمس تتبدل حرارة فيه فيعرضه اللطافة و الخفة لأن الحرارة من عواملها فلا يقدر على حمل ما يعلوه أو يجاوره من الهواء البارد الثقيل فينحدر عليه فيدفعه بشدة فيجري الهواء اللطيف إلى خلاف سمت الدفع و هو الريح، و من منافعه تلقيح النبات و دفع الكثافات البخارية، و العفونات المتصاعدة، و سوق السحب الماطرة و غيرها، ففيه حياة النبات و الحيوان و الإنسان.

و هو في وجوده يدل على الإله و في التيامه مع سائر الموجودات و اتحاده معها كما مر يدل على إله واحد للعالم، و في وقوعه طريقا إلى وجود الإنسان و بقائه يدل على أن إله الإنسان و غيره واحد.

قوله تعالى: و السحاب المسخر بين السماء و الأرض، السحاب البخار المتكاثف الذي منه الأمطار و هو ضباب بالفتح ما لم ينفصل من الأرض فإذا انفصل و علا سمي سحابا و غيما و غماما و غير ذلك، و التسخير قهر الشيء و تذليله في عمله، و السحاب مسخر مقهور في سيره و إمطاره بالريح و البرودة و غيرهما المسلطة عليه بإذن الله، و الكلام في كون السحاب آية نظير الكلام في غيره مما عد معه.

و اعلم: أن اختلاف الليل و النهار و الماء النازل من السماء و الرياح المصرفة و السحاب المسخر جمل الحوادث العامة التي منها يتألف نظام التكوين في الأرضيات من المركبات النباتية و الحيوانية و غيرهما فهذه الآية كالتفصيل بوجه لإجمال قوله تعالى: «و بارك فيها و قدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين»: فصلت - 10.

قوله تعالى: لآيات لقوم يعقلون، العقل - و هو مصدر عقل يعقل إدراك الشيء و فهمه التام، و منه العقل اسم لما يميز به الإنسان بين الصلاح و الفساد و بين الحق و الباطل و الصدق و الكذب و هو نفس الإنسان المدرك و ليس بقوة من قواه التي هي كالفروع للنفس كالقوة الحافظة و الباصرة و غيرهما.

قوله تعالى: و من الناس من يتخذ من دون الله أندادا، الند كالمثل وزنا و معنى، و لم يقل من يتخذ لله أندادا كما عبر بذلك في سائر الموارد كقوله تعالى: «فلا تجعلوا لله أندادا»: البقرة - 22، و قوله تعالى: «و جعلوا لله أندادا»: إبراهيم - 30، و غير ذلك لأن المقام مسبوق بالحصر في قوله: و إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الآية، فكأن من اتخذ لله أندادا قد نقض الحصر من غير مجوز و اتخذ من يعلم أنه ليس بإله إلها اتباعا للهوى و تهوينا لحكم عقله و لذلك نكره تحقيرا لشأنه، فقال و من الناس من يتخذ من دون الله أندادا.

قوله تعالى: يحبونهم كحب الله و الذين آمنوا أشد حبا لله، و في التعبير بلفظ يحبونهم دلالة على أن المراد بالأنداد ليس هو الأصنام فقط بل يشمل الملائكة، و أفرادا من الإنسان الذين اتخذوهم أربابا من دون الله تعالى بل يعم كل مطاع من دون الله من غير أن يأذن الله في إطاعته كما يشهد به ما في ذيل الآيات من قوله: «إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا»: البقرة - 166، و كما قال تعالى: «و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله»: آل عمران - 64، و قال تعالى: «اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله»: التوبة - 31، و في الآية دليل على أن الحب يتعلق بالله تعالى حقيقة خلافا لمن قال: إن الحب - و هو وصف شهواني - يتعلق بالأجسام و الجسمانيات، و لا يتعلق به سبحانه حقيقة و إن معنى ما ورد من الحب له الإطاعة بالايتمار بالأمر و الانتهاء عن النهي تجوزا كقوله تعالى: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله»: آل عمران - 31.

و الآية حجة عليهم فإن قوله تعالى: أشد حبا لله يدل على أن حبه تعالى يقبل الاشتداد، و هو في المؤمنين أشد منه في المتخذين لله أندادا، و لو كان المراد بالحب هو الإطاعة مجازا كان المعنى و الذين آمنوا أطوع لله و لم يستقم معنى التفضيل لأن طاعة غيرهم ليست بطاعة عند الله سبحانه فالمراد بالحب معناه الحقيقي.

و يدل عليه أيضا قوله تعالى: «قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم - إلى قوله - أحب إليكم من الله و رسوله»: التوبة - 25، فإنه ظاهر في أن الحب المتعلق بالله و الحب المتعلق برسوله و الحب المتعلق بالآباء و الأبناء و الأموال و غيرها جميعا من سنخ واحد لمكان قوله أحب إليكم، و أفعل التفضيل يقتضي اشتراك المفضل و المفضل عليه في أصل المعنى و اختلافهما من حيث الزيادة و النقصان.

ثم إن الآية ذم المتخذين للأنداد بقوله: يحبونهم كحب الله ثم مدح المؤمنين بأنهم أشد حبا لله سبحانه فدل التقابل بين الفريقين على أن ذمهم إنما هو لتوزيعهم المحبة الإلهية بين الله و بين الأنداد الذين اتخذوهم أندادا.

و هذا و إن كان بظاهره يمكن أن يستشعر منه أنهم لو وضعوا له سبحانه سهما أكثر لم يذموا على ذلك لكن ذيل الآية ينفي ذلك فإن قوله: إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا، و قوله: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا و رأوا العذاب و تقطعت بهم الأسباب، و قوله: كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، يشهد بأن الذم لم يتوجه إلى الحب من حيث إنه حب بل من جهة لازمه الذي هو الاتباع و كان هذا الاتباع منهم لهم لزعمهم أن لهم قوة يتقوون بها لجلب محبوب أو دفع مكروه عن أنفسهم فتركوا بذلك اتباع الحق من أصله أو في بعض الأمر، و ليس من اتبع الله في بعض أمره دون بعض بمتبع له و حينئذ يندفع الاستشعار المذكور، و يظهر أن هذا الحب يجب أن لا يكون لله فيه سهيم و إلا فهو الشرك و اشتداد هذا الحب ملازم لانحصار التبعية من أمر الله، و لذلك مدح المؤمنين بذلك في قوله و الذين آمنوا أشد حبا لله.

و إذ كان هذا المدح و الذم متعلقا بالحب من جهة أثره الذي هو الاتباع فلو كان الحب للغير بتعقيب إطاعة الله تعالى في أمره و نهيه لكون الغير يدعو إلى طاعته تعالى - ليس له شأن دون ذلك - لم يتوجه إليه ذم البتة كما قال تعالى: «قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم - إلى قوله - أحب إليكم من الله و رسوله»: التوبة - 24، فقرر لرسوله حبا كما قرره لنفسه لأن حبه (عليه السلام) حب الله تعالى فإن أثره و هو الاتباع عين اتباع الله تعالى فإن الله سبحانه هو الداعي إلى إطاعة رسوله و الأمر باتباعه، قال تعالى: «و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله»: النساء - 64، و قال تعالى: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله» و كذلك اتباع كل من يهتدي إلى الله باتباعه كعالم يهدي بعلمه أو آية تعين بدلالته و قرآن يقرب بقراءته و نحو ذلك فإنها كلها محبوبة بحب الله و اتباعها طاعة تعد مقربة إليه.

فقد بان بهذا البيان أن من أحب شيئا من دون الله ابتغاء قوة فيه فاتبعه في تسبيبه إلى حاجة ينالها منه أو اتبعه بإطاعته في شيء لم يأمر الله به فقد اتخذ من دون الله أندادا و سيريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، و أن المؤمنين هم الذين لا يحبون إلا الله و لا يبتغون قوة إلا من عند الله و لا يتبعون غير ما هو من أمر الله و نهيه فأولئك هم المخلصون لله دينا.

و بان أيضا أن حب من حبه من حب الله و اتباعه اتباع الله كالنبي و آله و العلماء بالله، و كتاب الله و سنة نبيه و كل ما يذكر الله بوجه إخلاص لله ليس من الشرك المذموم في شيء، و التقرب بحبه و اتباعه تقرب إلى الله، و تعظيمه بما يعد تعظيما من تقوى الله، قال تعالى: «و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب»: الحج - 32 و الشعائر هي العلامات الدالة، و لم يقيد بشيء مثل الصفا و المروة و غير ذلك، فكل ما هو من شعائر الله و آياته و علاماته المذكرة له فتعظيمه من تقوى الله و يشمله جميع الآيات الآمرة بالتقوى.

نعم لا يخفى لذي مسكة أن إعطاء الاستقلال لهذه الشعائر و الآيات في قبال الله و اعتقاد أنها تملك لنفسها أو غيرها نفعا أو ضرا أو موتا أو حياة أو نشورا إخراج لها عن كونها شعائر و آيات و إدخال لها في حظيرة الألوهية و شرك بالله العظيم، و العياذ بالله تعالى.

قوله تعالى: و لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا و أن الله شديد العقاب، ظاهر السياق أن قوله: إذ مفعول يرى، و أن قوله: إن القوة لله إلى آخر الآية، بيان للعذاب، و لو للتمني.

و المعنى ليتهم يرون في الدنيا يوما يشاهدون فيه العذاب فيشاهدون أن القوة لله جميعا و قد أخطئوا في إعطاء شيء منه لأندادهم و أن الله شديد في عذابه، و إذاقته عاقبة هذا الخطأ فالمراد بالعذاب في الآية - على ما يبينه ما يتلوه - مشاهدتهم الخطأ في اتخاذهم أندادا يتوهم قوة فيه و مشاهدة عاقبة هذا الخطأ و يؤيده الآيتان التاليتان: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا فلم يصل من المتبوعين إلى تابعيهم نفع كانوا يتوقعونه و رأوا العذاب و تقطعت بهم الأسباب فلم يبق تأثير لشيء دون الله، و قال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة، و هو تمني الرجوع إلى الدنيا فنتبرأ منهم أي من الأنداد المتبوعين في الدنيا كما تبرءوا منا في الآخرة، كذلك يريهم الله أي الذين ظلموا باتخاذ الأنداد أعمالهم، و هي حبهم و اتباعهم لهم في الدنيا حالكونها حسرات عليهم و ما هم بخارجين من النار.

قوله تعالى: و ما هم بخارجين من النار، فيه حجة على القائل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 5:42 am


تابع
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)


بحث فلسفي آخر

مسألة انقطاع العذاب و الخلود مما اختلف فيه أنظار الباحثين من حيث النظر العقلي و من جهة الظواهر اللفظية.

و الذي يمكن أن يقال: أما من جهة الظواهر، فالكتاب نص في الخلود، قال تعالى: «و ما هم بخارجين من النار» الآية و السنة من طرق أئمة أهل البيت مستفيضة فيه، و قد ورد من غير طريقهم أخبار في الانقطاع و نفي الخلود، و هي مطروحة بمخالفة الكتاب.

و أما من جهة العقل فقد ذكرنا فيما تقدم من البحث في ذيل قوله تعالى: «و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا»: البقرة - 48، أن الاستدلال على خصوصيات ما جاء به الشرع في المعاد بالمقدمات الكلية العقلية غير مقدور لنا لأن العقل لا ينال الجزئيات، و السبيل فيه تصديق ما جاء به النبي الصادق من طريق الوحي للبرهان على صدقه.

و أما النعمة و العذاب العقليان الطارئان على النفس من جهة تجردها و تخلقها بأخلاق و ملكات فاضلة أو ردية أو اكتسائها و تلبسها بأحوال حسنة جميلة أو قبيحة فقد عرفت أن هذه الأحوال و الملكات تظهر للنفس بما لها من صورة القبح أو الحسن فتنعم بما هي حسنة منها إن كانت ذاتها سعيدة و تعذب بما هي قبيحة مشوهة منها، سواء كانت ذاتها سعيدة أو شقية.

و أن ما كانت من هذه الصور صورا غير راسخة للنفس و غير ملائمة لذاتها فإنها ستزول لأن القسر لا يكون دائميا و لا أكثريا، و هذه النفس هي النفس السعيدة ذاتا و عليها هيآت شقية ردية ممكنة الزوال عنها كالنفس المؤمنة المجرمة، و هذا كله ظاهر.

و أما الهيآت الردية التي رسخت في النفس حتى صارت صورا أو كالصور الجديدة تعطي للشيء نوعية جديدة كالإنسان البخيل الذي صار البخل صورة لإنسانيته كما صار النطق لحيوانيته الصائرة به نوعا جديدا تحت الحيوان فالإنسان البخيل أيضا نوع جديد تحت الإنسان، فمن المعلوم أن هذا النوع نوع مجرد في نفسه دائمي الوجود، و جميع ما كان يصدر عنه بالقسر حال عدم الرسوخ فيعذب به و يذوق وبال أمره فهي تصدر عن هذا النوع بإذن الله من غير قسر إلا أنها لما كانت صادرة عن نوعيته من غير قسر فهي دائمة من غير زوال بخلاف ما لو كانت حاصلة بالقسر، و مثل هذا الإنسان المعذب بلوازم ملكاته من وجه مثل من ابتلي بمرض الماليخوليا أو الكابوس المستمر فإنه لا يزال يصدر عن قوة تخيله صور هائلة أو مشوهة يعذب بها و هو نفسه هو الذي يوجدها من غير قسر قاسر و لو لم تكن ملائمة لطبعه المريض ما أوجدها فهو و إن لم تكن متألما من حيث انتهاء الصدور إليه نفسه لكنه معذب بها من حيث إن العذاب ما يفر منه الإنسان إذا لم يبتل به بعد و يحب التخلص عنه إذا ابتلي به و هذا الحد يصدق على الأمور المشوهة و الصور غير الجميلة التي تستقبل الإنسان الشقي في دار آخرته، فقد بان أن العذاب خالد غير منقطع عن الإنسان الشقي الذي لذاته شقوة لازمة.

و قد استشكل هاهنا بإشكالات واضحة السقوط بينة الفساد: مثل أن الله سبحانه ذو رحمة واسعة غير متناهية فكيف يسع رحمته أن يخلق من مصيره إلى عذاب خالد لا يقوم له شيء؟.

و مثل أن العذاب إنما يكون عذابا إذا لم يلائم الطبع فيكون قسرا و لا معنى للقسر الدائم فكيف يصح وجود عذاب دائم؟.

و مثل أن العبد لم يذنب إلا ذنبا منقطع الآخر فكيف يجازى بعذاب دائم؟.

و مثل أن أهل الشقاء لا يقصر خدمتهم لنظام التكوين عن خدمات أهل السعادة.

و لولاهم لم تتحقق سعادة لسعيد فما هو الموجب لوقوعهم في عذاب مخلد؟.

و مثل أن العذاب للمتخلف عن أوامر الله و نواهيه انتقام و لا يكون الانتقام إلا لجبر النقص الذي أورده العاصي الظالم على المنتقم المقتدر، و لا يجوز ذلك على الله تعالى فهو الغني المطلق فكيف يجوز منه العذاب و خاصة العذاب المخلد؟.

فهذه و أمثالها وجوه من الإشكال أوردوها على خلود العذاب و عدم انقطاعه.

و أنت بالإحاطة بما بيناه من معنى خلود العذاب تعرف أنها ساقطة من رأس، فإن العذاب الخالد أثر و خاصة لصورة الشقاء الذي لزمت الإنسان الشقي فتصور ذاته بها بعد تمامية الاستعداد الشديد الذي حصل في ذاته القابلة لها بواسطة الأحوال العارضة لها المنتهية إلى اختياره، و اشتداد الاستعداد التام هو الذي يوجب في جميع الحوادث إفاضة الصورة المناسبة لسنخ الاستعداد، فكما لا يجوز السؤال عن علة تحقق الأفعال الإنسانية بعد ورود الصورة الإنسانية على المادة لوجود العلة التي هي الصورة الإنسانية كذلك لا معنى للسؤال عن لمية ترتب آثار الشقاء اللازم، و منها العذاب المخلد بعد تحقق صورة الشقاء اللازم، المنتهية إلى الاختيار فإنها آثارها و خواصها فبطلت السؤالات جميعا، فهذا هو الجواب الإجمالي عنها.

و أما تفصيلا: فالجواب عن الأول: أن الرحمة فيه تعالى ليس بمعنى رقة القلب و الإشفاق و التأثر الباطني فإنها تستلزم المادة - تعالى عن ذلك -، بل معناها العطية و الإفاضة لما يناسب الاستعداد التام الحاصل في القابل، فإن المستعد بالاستعداد التام الشديد يحب ما يستعد له و يطلبه و يسأله بلسان استعداده فيفاض عليه ما يطلبه و يسأله، و الرحمة رحمتان: رحمة عامة، و هي إعطاء ما يستعد له الشيء و يشتاقه في صراط الوجود و الكينونة، و رحمة خاصة، و هي إعطاء ما يستعد الشيء في صراط الهداية إلى التوحيد و سعادة القرب و إعطاء صورة الشقاء اللازم الذي أثره العذاب الدائم للإنسان المستعد له باستعداده الشديد لا ينافي الرحمة العامة بل هو منها، و أما الرحمة الخاصة فلا معنى لشمولها لمن هو خارج عن صراطها، فقول القائل: إن العذاب الدائم ينافي الرحمة إن أراد به الرحمة العامة فليس كذلك بل هو من الرحمة العامة، و إن أراد به الرحمة الخاصة فليس كذلك لكونه ليس موردا لها، على أن الإشكال لو تم لجرى في العذاب المنقطع أيضا حتى أنواع العذاب الدنيوي، و هو ظاهر.

و الجواب عن الثاني: أنه ينبغي أن يحرر معنى عدم ملاءمة الطبع فإنه تارة بمعنى عدم السنخية بين الموضوع و الأثر الموجود عنده و هو الفعل القسري الذي يصدر عن قسر القاسر و يقابله الأثر الملائم الذي يصدر عن طبع الشيء إذا اقترن به آفات ثم رسخت فيه فصارت صورة في الشيء و عاد الشيء يطلبه بهذا الوجود و هو في عين الحال لا يحبه كما مثلنا فيه من مثال الماليخوليائي فهذه الآثار ملائمة لذاته من حيث صدورها عن طبعه الشقي الخبيث، و الآثار الصادرة عن الطباع ملائمة، و هي بعينها عذاب لصدق حد العذاب عليها لكون الشيء لا يرتضيها فهي غير مرضية من حيث الذوق و الوجدان في عين كونها مرضية من حيث الصدور.

و الجواب عن الثالث: أن العذاب في الحقيقة ترتب أثر غير مرضي على موضوعه الثابت حقيقة، و هو صورة الشقاء فهذا الأثر معلول الصورة الحاصلة بعد تحقق علل معدة، و هي المخالفات المحدودة، و ليس معلولا لتلك العلل المعدة المحدودة حتى يلزم تأثير المتناهي أثرا غير متناه و هو محال، و نظيره أن عللا معدة و مقربات معدودة محدودة أوجبت أن تتصور المادة بالصورة الإنسانية فيصير إنسانا يصدر عنه آثار الإنسانية المعلولة للصورة المذكورة، و لا معنى لأن يسأل و يقال: إن الآثار الإنسانية الصادرة عن الإنسان بعد الموت صدورا دائميا سرمديا لحصول معدات محدودة مقطوعة الأمر للمادة فكيف صارت مجموع منقطع الآخر من العلل سببا لصدور الآثار المذكورة و بقائها مع الإنسان دائما لأن علتها الفاعلة - و هي الصورة الإنسانية - موجودة معها دائما على الفرض، فكما لا معنى لهذا السؤال لا معنى لذلك أيضا.

و الجواب عن الرابع: أن الخدمة و العبودية أيضا مثل الرحمة على قسمين: عبودية عامة، و هو الخضوع و الانفعال الوجودي عن مبدإ الوجود، و عبودية خاصة و هو الخضوع و الانقياد في صراط الهداية إلى التوحيد، و لكل من القسمين جزاء يناسبه و أثر يترتب عليه و يخصه من الرحمة، فالعبودية العامة في نظام التكوين جزاؤه الرحمة العامة، و النعمة الدائمة و العذاب الدائم كلاهما من الرحمة العامة، و العبودية الخاصة جزاؤه الرحمة الخاصة، و هي النعمة و الجنة و هو ظاهر، على أن هذا الإشكال لو تم لورد في مورد العذاب المنقطع الأخروي بل الدنيوي أيضا.

و الجواب عن الخامس: أن العذاب الدائم مستند إلى صورة الشقاء الذي في الإنسان كما عرفت، و إلى الله سبحانه بالمعنى الذي يقال: في كل موجود: أنه مستند إليه تعالى لا بمعنى الانتقام و تشفي الصدر المستحيل عليه تعالى، نعم الانتقام بمعنى الجزاء الشاق و الأثر السيىء الذي يجزي به المولى عبده في مقابل تعديه عن طور العبودية، و خروجه عن ساحة الانقياد إلى عرصة التمرد و المخالفة مما يصدق فيه تعالى لكن لا يستلزم كون العذاب انتقاما بهذا المعنى إشكالا البتة.

على أن هذا الإشكال أيضا لو تم لورد في مورد العذاب الموقت المنقطع في الآخرة بل في الدنيا أيضا.

بحث قرآني و روائي متمم للبحث السابق

اعلم أن هذا الطريق من الاستدلال على رد الشبهة المذكورة مما استعمل في الكتاب و السنة أيضا، قال تعالى: «من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصليها مذموما مدحورا، و من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا»: إسراء - 20، فالآية كما ترى يجعل العذاب و الشكر كليهما من العطية و الرحمة و تجعل تحقق كل منهما مرتبطة بإرادة العبد و سعيه و هذا بعينه الطريق الذي سلكناه في أصل المسألة و دفع الإشكالات عنها و هناك آيات أخر في هذا المعنى سنتكلم فيها في مواردها، إن شاء الله تعالى.


يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171)

بيان

قوله تعالى: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا إلى آخر الآيتين، الحلال مقابل الحرام الممنوع اقتحامه، و الحل مقابل الحرمة، و الحل مقابل حرم، و الحل مقابل العقد، و هو في جميع موارد استعماله يعطي معنى حرية الشيء في فعله و أثره، و الطيب - مقابل الخبيث - ما يلائم النفس و الشيء، كالطيب من القول لملاءمته السمع، و الطيب من العطر يلائم الشامة، و الطيب من المكان يلائم حال المتمكن فيه.

و الخطوات بضمتين جمع خطوة، و هي ما بين القدمين للماشي، و قرىء خطوات بفتحتين و هي جمع خطوة و هي المرة، و خطوات الشيطان هي الأمور التي نسبته إلى غرض الشيطان - و هو الإغواء بالشرك - نسبة خطوات الماشي إلى مقصده و غرضه، فهي الأمور التي هي مقدمات للشرك و البعد من الله سبحانه، و الأمر هو تحميل الآمر إرادة نفسه على المأمور ليأتي ما يريده، و الأمر من الشيطان وسوسته و تحميله ما يريده من الإنسان عليه بإخطاره في قلبه و تزيينه في نظره و السوء ما ينافره الإنسان و يستقبحه بنظر الاجتماع فإذا جاوز حده و تعدى طوره كان فحشاء و لذلك سمي الزنا بالفحشاء و هو مصدر كالسراء و الضراء.

و قد عمم تعالى الخطاب لجميع الناس لأن الحكم الذي يقرعه سمعهم و يبينه لهم مما يبتلى به الكل، أما المشركون: فقد كان عندهم أمور مما حرموه على أنفسهم افتراء على الله كما روي أن ثقيفا و خزاعة و بني عامر بن صعصعة و بني مدلج كانوا قد حرموا على أنفسهم أشياء من الحرث و الأنعام و البحيرة و السائبة و الوصيلة، هذا في العرب، و في غيرهم أيضا يوجد أشياء كثيرة من هذا القبيل، و أما المؤمنون: فربما كان يبقى بعد الإسلام بينهم أمور خرافية طبق ناموس توارث الأخلاق و الآداب القومية و السنن المنسوخة بنواسخ غير تدريجية كالأديان و القوانين و غيرهما فإن كل طريقة جديدة دينية أو دنيوية إذا نزلت بدار قوم فإنما تتوجه أول ما تتوجه إلى أصول الطريقة القديمة و أعراقها فتقطعه فإن دامت على حياتها و قوتها - و ذلك بحسن التربية و حسن القبول - أماتت الفروع و قطعت الأذناب و إلا فاختلطت بقايا من القديمة بالحديثة و التأمت بها و صارت كالمركب النباتي، ما هو بهذا و لا ذاك.

فأمر تعالى الناس أن يأكلوا مما في الأرض، و الأكل هو البلع عن مضغ و ربما يكنى بالأكل عن مطلق التصرف في الأموال لكون الأكل هو الأصل في أفعال الإنسان و الركن في حياته كما قال تعالى: «و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض»: النساء - 29، و الآية لا تأبى الحمل على هذا المعنى الوسيع لإطلاقها، و المعنى كلوا و تصرفوا و تمتعوا مما في الأرض من النعم الإلهية التي هيأته لكم طبيعة الأرض بإذن الله و تسخيره أكلا حلالا طيبا، أي لا يمنعكم عن أكله أو التصرف فيه مانع من قبل طبائعكم و طبيعة الأرض، كالذي لا يقبل بطبعه الأكل، أو الطبع لا يقبل أكله، و لا تنفر طبائعكم عن أكله مما يقبل الطبع أكله لكن ينافره و يأبى عنه السليقة كالأكل الذي توسل إليه بوسيلة غير جائزة.

فقوله تعالى: كلوا مما في الأرض حلالا طيبا، يفيد الإباحة العامة من غير تقييد و اشتراط فيه إلا أن قوله و لا تتبعوا خطوات الشيطان، إلخ يفيد: أن هاهنا أمورا تسمى خطوات الشيطان - متعلقة بهذا الأكل الحلال الطيب - إما كف عن الأكل اتباعا للشيطان، و إما إقدام عليه اتباعا للشيطان، ثم ذكر ضابط ما يتبع فيه الشيطان بأنه سوء و فحشاء، و قول ما لا يعلم على الله سبحانه و إذا كان الكف غير جائز إلا برضى من الله تعالى فالفعل أيضا كذلك فليس الأكل مما في الأرض حلالا طيبا إلا أن يأذن الله تعالى و يشرعه و قد شرعه بهذه الآية و نظائرها و لا يمنع عنه بنهي أو ردع كما سيأتي من قوله تعالى: «إنما حرم عليكم الميتة و الدم» الآية فرجع معنى الآية - و الله أعلم - إلى نحو قولنا كلوا مما في الأرض من نعم الله المخلوقة لكم فقد جعله الله لكم حلالا طيبا و لا تتركوا بعضا منها كفا و امتناعا فيكون سوء و فحشاء و قولا بغير علم أي تشريعا ليس لكم ذلك و هو اتباع خطوات الشيطان.

فالآية تدل أولا: على عموم الحلية في جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل فإن لله سبحانه المنع فيما له الإذن فيه.

و ثانيا: على أن الامتناع مما أحله الله من غير دليل علمي تشريع محرم.

و ثالثا: على أن المراد من اتباع خطوات الشيطان التعبد لله بما لم يأذن في التعبد بذلك فإنه لم ينه عن المشي و السلوك لكن عن المشي الذي يضع فيه الإنسان قدمه موضع قدم الشيطان فينطبق مشيته على مشيته فيكون متبعا لخطواته، و من هنا يعلم أن عموم التعليل، و هو قوله إنما يأمركم «إلخ» و إن اقتضى المنع عن الاقتحام في فعل بغير علم كما يقتضي المنع عن الامتناع بغير علم لكنه ليس بمراد في الخطاب فإنه ليس من اتباع خطوات الشيطان و إن كان اتباعا للشيطان.

قوله تعالى: إنما يأمركم بالسوء و الفحشاء و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون، السوء و الفحشاء يكونان في الفعل، و في مقابله القول، و بذلك يظهر: أن ما يأمر به الشيطان ينحصر في الفعل الذي هو سوء و فحشاء، و القول الذي هو قول بغير علم.

قوله تعالى: و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا، الإلفاء الوجدان أي وجدنا عليه آباءنا، و الآية تشهد بما استفدناه من الآية السابقة في معنى خطوات الشيطان.

قوله تعالى: أ و لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا و لا يهتدون، جواب عن قولهم، و بيانه أنه قول بغير علم و لا تبين، و ينافيه صريح العقل فإن قولهم: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، قول مطلق أي نتبع آباءنا على أي حال و على أي وصف كانوا، حتى لو لم يعلموا شيئا و لم يهتدوا و نقول ما فعلوه حق، و هذا هو القول بغير علم، و يؤدي إلى القول بما لا يقول به عاقل لو تنبه له و لو كانوا اتبعوا آباءهم فيما علموه و اهتدوا فيه و هم يعلمون: أنهم علموا و اهتدوا فيه لم يكن من قبيل الاهتداء بغير علم.

و من هنا: يعلم أن قوله تعالى: لا يعقلون شيئا و لا يهتدون، ليس واردا مورد المبالغة نظرا إلى أن سلب مطلق العلم عن آبائهم مع كونهم يعلمون أشياء كثيرة في حياتهم لا يحتمل إلا المبالغة.

و ذلك أن الكلام مسوق سوق الفرض بإبداء تقدير لا يقول بجواز الاتباع فيه قائل ليبطل به إطلاق قولهم نتبع ما ألفينا عليه آباءنا و هو ظاهر.

قوله تعالى: و مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء، المثل هو الكلام السائر و المثل هو الوصف كقوله تعالى: «انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا»: الفرقان - 9، و النعيق صوت الراعي لغنمه زجرا يقال: نعق الراعي بالغنم ينعق نعيقا إذا صاح بها زجرا، و النداء مصدر نادى ينادي مناداة، و هو أخص من الدعاء ففيه معنى الجهر بالصوت و نحوه بخلاف الدعاء، و المعنى - و الله أعلم - و مثلك في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق من البهائم بما لا يسمع من نعيقه إلا دعاء و نداء ما، فينزجر بمجرد قرع الصوت سمعه من غير أن يعقل شيئا فهم صم لا يسمعون كلاما يفيدهم، و بكم لا يتكلمون بما يفيد معنى، و عمي لا يبصرون شيئا فهم لا يعقلون شيئا لأن الطرق المؤدية إلى التعقل مسدودة عليهم.

و من ذلك يظهر أن في الكلام قلبا أو عناية أخرى يعود إليه فإن المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى إلا أن الأوصاف الثلاثة التي استنتج و استخرج من المثل و ذكرت بعده، و هي قوله: صم بكم عمي فهم لا يعقلون، لما كانت أوصافا للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحق استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذين كفروا لا إلى رسول الله تعالى فأنتج ما أشبه القلب.

بحث روائي

في التهذيب، عن عبد الرحمن، قال: سألت أبا عبد الله عن رجل حلف أن ينحر ولده قال: ذلك من خطوات الشيطان.

و عن منصور بن حازم أيضا قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): أ ما سمعت بطارق إن طارقا كان نخاسا بالمدينة فأتى أبا جعفر فقال يا أبا جعفر إني حلفت بالطلاق و العتاق و النذر؟ فقال له يا طارق إن هذا من خطوات الشيطان.

و في تفسير العياشي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كل يمين بغير الله فهو من خطوات الشيطان.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إذا حلف الرجل على شيء و الذي حلف عليه إتيانه خير من تركه فليأت الذي هو خير و لا كفارة له، و إنما ذلك من خطوات الشيطان.

أقول: و الأحاديث كما ترى مبنية على كون المراد من خطوات الشيطان الأعمال التي يتقرب بها و ليست بمقربة لعدم العبرة بها شرعا كما ذكرناه في البيان السابق نعم في خصوص الطلاق و نحوه وجه آخر للبطلان و هو التعليق المنافي للإنشاء، و المسألة فقهية، و المراد باليمين بغير الله هو اليمين الذي يترتب عليه أثر اليمين الشرعي أو القسم بما لم يقسم به الله و لم يثبت له كرامة شيئا.

و في المجمع، عن الباقر: في قوله تعالى: و مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق الآية، قال: أي مثلهم في دعائك إياهم إلى الإيمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم و إنما تسمع الصوت.

بحث أخلاقي و اجتماعي

الآراء و العقائد التي يتخذها الإنسان إما نظرية لا تعلق لها بالعمل من غير واسطة كالمسائل المتعلقة بالرياضيات و الطبيعيات و ما وراء الطبيعة، و إما عملية متعلقة بالعمل بلا واسطة كالمسائل المتعلقة بما ينبغي فعله و ما لا ينبغي، و السبيل في القسم الأول هو اتباع العلم و اليقين المنتهي إلى برهان أو حس، و في القسم الثاني اتباع ما يوصل إلى الخير الذي فيه سعادة الإنسان أو النافع فيها، و اجتناب ما ينتهي إلى شقائه أو يضره في سعادته، و أما الاعتقاد بما لا علم له بكونه حقا في القسم الأول، و الاعتقاد بما لا يعلم كونه خيرا أو شرا فهو اعتقاد خرافي.

و الإنسان لما كانت آراؤه منتهية إلى اقتضاء الفطرة الباحثة عن علل الأشياء و الطبيعة الباعثة له إلى الاستكمال بما هو كماله حقيقة فإنه لا تخضع نفسه إلى الرأي الخرافي المأخوذ على العمياء و جهلا إلا أن العواطف النفسانية و الإحساسات الباطنية التي تثيرها الخيال - و عمدتها الخوف و الرجاء - ربما أوجبت له القول بالخرافة من جهة أن الخيال يصور له صورا يستصحب خوفا أو رجاء فيحفظها إحساس الخوف أو الرجاء، و لا يدعها تغيب عن النفس الخائفة أو الراجية، كما أن الإنسان إذا أحل واديا - و هو وحده بلا أنيس و الليل داج مظلم و البصر حاسر عن الإدراك - فلا مؤمن يؤمنه بتميز المخاطر من غيرها بضياء و نحوه فترى أن خياله يصور له كل شبح يتراءى له غولا مهيبا يقصده بالإهلاك أو روحا من الأرواح، و ربما صور له حركة و ذهابا و إيابا و صعودا في السماء و نزولا إلى الأرض، و أشكالا و تماثيل ثم لا يزال الخيال يكرر له هذا الشبه المجعول كلما ذكره و حاله حاله من الخوف، ثم ربما نقله لغيره فأوجد فيه حالا نظير حاله و لا يزال ينتشر - و هو موضوع خرافي لا ينتهي إلى حقيقة -.

و ربما هيج الخيال حسن الدفاع من الإنسان أن يضع أعمالا لدفع شر هذا الموجود الموهوم و يحث غيره على العمل بها للأمن من شره فيذهب سنة خرافية.

و لم يزل الإنسان منذ أقدم أعصار حياته مبتلى بآراء خرافية حتى اليوم و ليس كما يظن من أنها من خصائص الشرقيين فهي موجودة بين الغربيين مثلهم لو لم يكونوا أحرص عليها منهم.

و لا يزال الخواص من الإنسان - و هم العلماء - يحتالون في إمحاء رسوم هذه الخرافات المتمكنة في نفوس العامة من الناس بلطائف حيلهم التي توجب تنبه العامة و تيقظهم في أمرها، و قد أعيا الداء الطبيب فإن الإنسان لا يخلو من التقليد و الاتباع في الآراء النظرية و المعلومات الحقيقية من جانب، و من الإحساسات و العواطف النفسانية من جانب آخر، و ناهيك في ذلك أن العلاج لم ينجح إلى اليوم.

و أعجب من الجميع ما يراه في ذلك أهل الحضارة و علماء الطبيعة اليوم! فقد ذكروا أن العلم اليوم يبنى أساسه على الحس و التجربة و يدفع ما دون ذلك، و المدنية و الحضارة تبنى أساسه على استكمال الاجتماع في كل كمال ميسور ما استيسر، و بنوا التربية على ذلك.

مع أن ذلك - و هو عجيب - نفسه من اتباع الخرافة فإن علوم الطبيعة إنما تبحث عن خواص الطبيعة و تثبتها لموضوعاتها، و بعبارة أخرى هذه العلوم المادية إنما تكشف دائما عن خبايا خواص المادة، و أما ما وراء ذلك فلا سبيل لها إلى نفيه و إبطاله فالاعتقاد بانتفاء ما لا تناله الحس و التجربة من غير دليل من أظهر الخرافات.

و كذلك بناء المدنية على استكمال الاجتماع المذكور فإن هذا الاستكمال و النيل بالسعادة الاجتماعية ربما يستلزم حرمان بعض الأفراد من سعادته الحيوية الفردية كتحمل القتل و التفدية في الدفاع عن الوطن أو القانون أو المرام، و المحرومية من سعادة الشخص لأجل وقاية حريم الاجتماع فهذه الحرمانات لا يقدم فيها الإنسان إلا عن عقيدة الاستكمال، و أن يراها كمالات - و ليست كمالات لنفسه - بل عدم و حرمان لها، و إنما هي كمالات - لو كانت كمالات - للمجتمع من حيث هو مجتمع و إنما يريد الإنسان الاجتماع لأجل نفسه لا نفسه لأجل الاجتماع، و لذلك كله ما احتالت هذه الاجتماعات لأفرادها فلقنوهم أن الإنسان يكتسب بالتفدية ذكرا جميلا و اسما باقيا على الفخر دائما و هو الحياة الدائمة، و هذه خرافة، و أي حياة بعد البطلان و الفناء غير أنا نسميه حياة، تسمية ليس وراءها شيء؟.

و مثلها القول: إن الإنسان يجب له تحمل مر القانون و الصبر على الحرمان في بعض ما يشتهيه نفسه ليتحفظ به الاجتماع فينال كماله في الباقي فيعتقد أن كمال الاجتماع كماله، و هذه خرافة، فإن كمال الاجتماع إنما هو كماله فيما يتطابق الكمالان و أما غير ذلك فلا فأي موجب على فرد بالنسبة إلى كماله أو اجتماع قوم بالنسبة إلى اجتماع الدنيا إذا قدر على نيل ما يبتغيه من آماله و لو بالجور و فاق في القوة و الاستطاعة من غير مقاوم يقاومه أن يعتقد أن كمال الاجتماع كماله و الذكر الجميل فخارة؟ كما أن أقوياء الأمم لا يزالون على الانتفاع من حياة الأمم الضعيفة، فلا يجدون منهم موطئا إلا وطئوه، و لا منالا إلا نالوه، و لا نسمة إلا استرقوه و استعبدوه، و هل ذلك إلا علاجا لمزمن الداء بالإفناء؟.

و أما ما سلكه القرآن في ذلك فهو أمره باتباع ما أنزل الله و النهي عن القول بغير علم، هذا في النظر، و أما في العمل فأمره بابتغاء ما عند الله فيه فإن كان مطابقا لما يشتهيه النفس كان فيه سعادة الدنيا و الآخرة و إن كان فيه حرمانها، فعند الله عظيم الأجر، و ما عند الله خير و أبقى.

و الذي يقوله أصحاب الحس: أن اتباع الدين تقليد يمنع عنه العلم و أنه من خرافات العهد الثاني من العهود الأربعة المارة على نوع الإنسان و هي عهد الأساطير و عهد المذهب و عهد الفلسفة و عهد العلم، و هو الذي عليه البشر اليوم من اتباع العلم و رفض الخرافات فهو قول بغير علم و رأي خرافي.

أما إن اتباع الدين تقليد فيبطله: أن الدين مجموع مركب من معارف المبدأ و المعاد، و من قوانين اجتماعية من العبادات و المعاملات مأخوذة من طريق الوحي و النبوة الثابت صدقه بالبرهان و المجموعة من الأخبار التي أخبر بها الصادق صادقة و اتباعها اتباع للعلم لأن المفروض العلم بصدق مخبرها بالبرهان، و قد مر في البحث التالي لقوله تعالى «و إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة»: البقرة - 67، كلام في التقليد فارجع.

و من العجيب أن هذا القول قول من ليس بيده في أصول الحياة و سنن الاجتماع: من مأكله و مشربه و ملبسه و منكحه و مسكنه و غير ذلك إلا التقليد على العمى و اتباع الهوى من غير تثبت و تبين، نعم اختلقوا للتقليد اسما آخر و هو اتباع السنة الذي ترتضيه الدنيا الراقية فصار التقليد بذلك ممحو الاسم ثابت الرسم، مهجور اللفظ، مأنوس المعنى، و كان ألق دلوك في الدلاء شعارا علميا و رقيا مدنيا و عاد و لا تتبع الهوى فيضلك تقليدا دينيا و قولا خرافيا.

و أما تقسيمهم سير الحياة الإنسانية إلى أربعة عهود فما بأيدينا من تاريخ الدين و الفلسفة يكذبه فإن طلوع دين إبراهيم إنما كان بعد عهد الفلسفة بالهند و مصر و كلدان و دين عيسى بعد فلسفة يونان و كذا دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - و هو الإسلام - كان بعد فلسفة يونان و إسكندرية، و بالجملة غاية أوج الفلسفة كانت قبل بلوغ الدين أوجه.

و قد مر فيما مر أن دين التوحيد يتقدم في عهده على جميع الأديان الأخر.

و الذي يرتضيه القرآن من تقسيم تاريخ الإنسان هو تقسيمه إلى عهد السذاجة و وحدة الأمم و عهد الحس و المادة، و سيجيء بيانه في الكلام على قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين»: البقرة - 213.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 5:44 am

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

بيان

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم، خطاب خاص بالمؤمنين بعد الخطاب السابق للناس فهو من قبيل انتزاع الخطاب من الخطاب، كأنه انصراف عن خطاب جماعة ممن لا يقبل النصح و لا يصغي إلى القول، و التفات إلى من يستجيب الداعي لإيمانه به، و التفاوت الموجود بين الخطابين ناش من تفاوت المخاطبين، فإن المؤمنين بالله لما كان يتوقع منهم القبول بدل قوله: ما في الأرض حلالا طيبا من قوله: طيبات ما رزقناكم، و كان ذلك وسيلة إلى أن يطلب منهم الشكر لله وحده لكونهم موحدين لا يعبدون إلا الله سبحانه، و لذلك بعينه قيل: ما رزقناكم و لم يقل: ما رزقتم أو ما في الأرض و نحوه، لما فيه من الإيماء أو الدلالة على كونه تعالى معروفا لهم قريبا منهم حنينا رءوفا بهم، و الظاهر أن يكون قوله: من طيبات ما رزقناكم، من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف لا من قبيل قيام الصفة مقام الموصوف فإن المعنى على الأول كلوا من رزقنا الذي كله طيب، و هو المناسب لمعنى التقرب و التحنن الذي يلوح من المقام، و المعنى على الثاني كلوا من طيب الرزق لا من خبيثه، و هو بعيد المناسبة عن المقام الذي هو مقام رفع الحظر، و النهي عن الامتناع عن بعض ما رزقهم الله سبحانه تشريعا من عند أنفسهم و قولا بغير علم.

قوله تعالى: و اشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون، لم يقل و اشكروا لنا بل اشكروا لله ليكون أدل على الأمر بالتوحيد و لذلك أيضا قيل: إن كنتم إياه تعبدون فدل على الحصر و القصر و لم يقل إن كنتم تعبدونه.

قوله تعالى: إنما حرم عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل به لغير الله، الإهلال لغير الله هو الذبح لغيره كالأصنام.

قوله تعالى: فمن اضطر غير باغ و لا عاد، أي غير ظالم و لا متجاوز حده، و هما حالان عاملهما الاضطرار فيكون المعنى فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر من المنهيات اضطرارا في حال عدم بغيه و عدم عدوه فلا ذنب له في الأكل، و أما لو اضطر في حال البغي و العدو كأن يكونا هما الموجبين للاضطرار فلا يجوز له ذلك، و قوله تعالى: إن الله غفور رحيم، دليل على أن التجوز تخفيف و رخصة منه تعالى للمؤمنين و إلا فمناط النهي موجود في صورة الاضطرار أيضا.

قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، تعريض لأهل الكتاب إذ عندهم شيء كثير من المحللات الطيبة التي حرمها كبراؤهم و رؤساؤهم في العبادات و غيرها - و عندهم الكتاب الذي لا يقضي فيه بالتحريم - و لم يكتموا ما كتموه إلا حفظا لما يدر عليهم من رزق الرئاسة و أبهة المقام و الجاه و المال.

و في الآية من الدلالة على تجسم الأعمال و تحقق نتائجها ما لا يخفى فإنه تعالى ذكر أولا أن اختيارهم الثمن القليل على ما أنزل الله هو أكل النار في بطونهم ثم بدل اختيار الكتمان و أخذ الثمن على بيان ما أنزل الله في الآية التالية من اختيار الضلالة على الهدى ثم من اختيار العذاب على المغفرة ثم ختمها بقوله: فما أصبرهم على النار، و الذي كان منهم ظاهرا هو الإدامة للكتمان و البقاء عليها فافهم.

بحث روائي

في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى فمن اضطر غير باغ و لا عاد الآية، قال: الباغي باغي الصيد، و العادي السارق ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها، هي حرام عليهما ليس هي عليهما كما هي على المسلمين و ليس لهما أن يقصرا في الصلاة.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: الباغي الظالم، و العادي الغاصب.

و عن حماد عنه (عليه السلام) قال: الباغي الخارج على الإمام و العادي اللص.

و في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام) و أبي عبد الله (عليه السلام): غير باغ على إمام المسلمين و لا عاد بالمعصية طريق المحقين.

أقول: و الجميع من قبيل عد المصاديق، و هي تؤيد المعنى الذي استفدناه من ظاهر اللفظ.

و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: فما أصبرهم على النار الآية، قال: ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيرهم إلى النار.

و في المجمع، عن علي بن إبراهيم عن الصادق (عليه السلام) قال: ما أجرأهم على النار.

و عن الصادق (عليه السلام): ما أعملهم بأعمال أهل النار.

أقول: و الروايات قريبة المعاني ففي الأولى تفسير الصبر على النار بالصبر على سبب النار، و في الثانية تفسير الصبر على النار بالجرأة عليها و هي لازمة للصبر، و في الثالثة تفسير الصبر على النار بالعمل بما يعمل به أهل النار و مرجعه إلى معنى الرواية الأولى.



لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

بيان

قيل: كثر الجدال و الخصام بين الناس بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة و طالت المشاجرة فنزلت الآية.

قوله تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب، البر بالكسر التوسع من الخير و الإحسان، و البر بالفتح صفة مشبهة منه، و القبل بالكسر فالفتح الجهة و منه القبلة و هي النوع من الجهة، و ذوو القربى الأقرباء، و اليتامى جمع يتيم و هو الذي لا والد له، و المساكين جمع مسكين و هو أسوأ حالا من الفقير، و ابن السبيل المنقطع عن أهله، و الرقاب جمع رقبة و هي رقبة العبد، و البأساء مصدر كالبؤس و هو الشدة و الفقر، و الضراء مصدر كالضر و هو أن يتضرر الإنسان بمرض أو جرح أو ذهاب مال أو موت ولد، و البأس شدة الحرب.

قوله تعالى: و لكن البر من آمن بالله، عدل عن تعريف البر بالكسر إلى تعريف البر بالفتح ليكون بيانا و تعريفا للرجال مع تضمنه لشرح وصفهم و إيماء إلى أنه لا أثر للمفهوم الخالي عن المصداق و لا فضل فيه، و هذا دأب القرآن في جميع بياناته فإنه يبين المقامات و يشرح الأحوال بتعريف رجالها من غير أن يقنع ببيان المفهوم فحسب.

و بالجملة قوله و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر، تعريف للأبرار و بيان لحقيقة حالهم، و قد عرفهم أولا في جميع المراتب الثلاث من الاعتقاد و الأعمال و الأخلاق بقوله: من آمن بالله و ثانيا بقوله: أولئك الذين صدقوا و ثالثا بقوله: و أولئك هم المتقون.

فأما ما عرفهم به أولا فابتدأ فيه بقوله تعالى: من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين، و هذا جامع لجميع المعارف الحقة التي يريد الله سبحانه من عباده الإيمان بها، و المراد بهذا الإيمان الإيمان التام الذي لا يتخلف عنه أثره، لا في القلب بعروض شك أو اضطراب أو اعتراض أو سخط في شيء مما يصيبه مما لا ترتضيه النفس، و لا في خلق و لا في عمل، و الدليل على أن المراد به ذلك قوله في ذيل الآية أولئك الذين صدقوا فقد أطلق الصدق و لم يقيده بشيء من أعمال القلب و الجوارح فهم مؤمنون حقا صادقون في إيمانهم كما قال تعالى: «فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما: النساء 68 و حينئذ ينطبق حالهم على المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان التي مر بيانها في ذيل قوله تعالى إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت: البقرة 131. ثم ذكر تعالى نبذا من أعمالهم بقوله: و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلوة و آتى الزكوة، فذكر الصلاة - و هي حكم عبادي - و قد قال تعالى: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر»: العنكبوت - 45، و قال: «و أقم الصلوة لذكري»: طه - 14، و ذكر الزكاة - و هي حكم مالي فيه صلاح المعاش - و ذكر قبلهما إيتاء المال و هو بث الخير و نشر الإحسان غير الواجب لرفع حوائج المحتاجين و إقامة صلبهم.

ثم ذكر سبحانه نبذا من جمل أخلاقهم بقوله: و الموفون بعدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء و الضراء و حين البأس، فالعهد هو الالتزام بشيء و العقد له - و قد أطلقه تعالى - و هو مع ذلك لا يشمل الإيمان و الالتزام بأحكامه كما توهمه بعضهم - لمكان قوله إذا عاهدوا، فإن الالتزام بالإيمان و لوازمه لا يقبل التقيد بوقت دون وقت - كما هو ظاهر - و لكنه يشتمل بإطلاقه كل وعد وعده الإنسان و كل قول قاله التزاما كقولنا: لأفعلن كذا و لأتركن، و كل عقد عقد به في المعاملات و المعاشرات و نحوها، و الصبر هو الثبات على الشدائد حين تهاجم المصائب أو مقارعة الأقران، و هذان الخلقان و إن لم يستوفيا جميع الأخلاق الفاضلة غير أنهما إذا تحققا تحقق ما دونهما، و الوفاء بالعهد و الصبر عند الشدائد خلقان يتعلق أحدهما بالسكون و الآخر بالحركة و هو الوفاء فالإتيان بهذين الوصفين من أوصافهم بمنزلة أن يقال: إنهم إذا قالوا قولا أقدموا عليه و لم يتجافوا عنه بالزوال.

و أما ما عرفهم به ثانيا بقوله: أولئك الذين صدقوا، فهو وصف جامع لجمل فضائل العلم و العمل فإن الصدق خلق يصاحب جميع الأخلاق من العفة و الشجاعة و الحكمة و العدالة و فروعها فإن الإنسان ليس له إلا الاعتقاد و القول و العمل، و إذا صدق تطابقت الثلاثة فلا يفعل إلا ما يقول و لا يقول إلا ما يعتقد، و الإنسان مفطور على قبول الحق و الخضوع له باطنا و إن أظهر خلافه ظاهرا فإذا أذعن بالحق و صدق فيه قال ما يعتقده و فعل ما يقوله و عند ذلك تم له الإيمان الخالص و الخلق الفاضل و العمل الصالح، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين»: التوبة - 120، و الحصر في قوله أولئك الذين صدقوا، يؤكد التعريف و بيان الحد، و المعنى - و الله أعلم - إذا أردت الذين صدقوا فأولئك هم الأبرار.

و أما ما عرفهم به ثالثا بقوله و أولئك هم المتقون، الحصر لبيان الكمال فإن البر و الصدق لو لم يتما لم يتم التقوى.

و الذي بينه تعالى في هذه الآية من الأوصاف الأبرار هي التي ذكرها في غيرها.

قال تعالى: «إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا - عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر و يخافون يوما كان شره مستطيرا - و يطعمون الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا - إنما نطعمكم لوجه الله - إلى أن قال - و جزاهم بما صبروا جنة و حريرا:» الدهر - 12، فقد ذكر فيها الإيمان بالله و اليوم الآخر و الإنفاق لوجه الله و الوفاء بالعهد و الصبر، و قال تعالى أيضا: «كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين و ما أدريك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون. إن الأبرار لفي نعيم - إلى أن قال - يسقون من رحيق مختوم - إلى أن قال - عينا يشرب بها المقربون»: المطففين - 28، بالتطبيق بين هذه الآيات و الآيات السابقة عليها يظهر حقيقة وصفهم و مآل أمرهم إذا تدبرت فيها، و قد وصفتهم الآيات بأنهم عباد الله و أنهم المقربون، و قد وصف الله سبحانه عباده فيما وصف بقوله: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان: الحجر - 42، و وصف المقربين بقوله: «و السابقون السابقون. أولئك المقربون في جنات النعيم»: الواقعة - 12، فهؤلاء هم السابقون في الدنيا إلى ربهم السابقون في الآخرة إلى نعيمه، و لو أدمت البحث عن حالهم فيما تعطيه الآيات لوجدت عجبا.

و قد بان مما مر أن الأبرار أهل المرتبة العالية من الإيمان، و هي المرتبة الرابعة على ما مر بيانه سابقا، قال تعالى: «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون»: الأنعام - 82.

قوله تعالى: و الصابرين في البأساء، منصوب على المدح إعظاما لأمر الصبر، و قد قيل إن الكلام إذا طال بذكر الوصف بعد الوصف فمذهبهم أن يعترضوا بين الأوصاف بالمدح و الذم، و اختلاف الإعراب بالرفع و النصب.

بحث روائي

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان.

أقول: و وجهه واضح بما بيناه، و قد نقل عن الزجاج و الفراء أنهما قالا: إن الآية مخصوصة بالأنبياء المعصومين لأن هذه الأشياء لا يأتيها بكليتها على حق الواجب فيها إلا الأنبياء انتهى، و هو ناش من عدم التدبر فيما تفيده الآيات و الخلط بين المقامات المعنوية، و قد أنزلت آيات سورة الدهر في أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و سماهم الله فيها أبرارا و ليسوا بأنبياء.

نعم خطرهم عظيم، و قد وصف الله حال أولي الألباب الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض، ثم ذكر مسألتهم أن يلحقهم الله بالأبرار، قال: «و توفنا مع الأبرار»: آل عمران - 193.

و في الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي عن أبي عامر الأشعري قال: قلت: يا رسول الله ما تمام البر، قال أن تعمل في السر ما تعمل في العلانية.

و في المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): ذوي القربى قرابة النبي.

أقول: و كأنه من قبيل عد المصداق بالنظر إلى آية القربى.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): الفقير الذي لا يسأل الناس و المسكين أجهد منه و البائس أجدهم.

و في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام): ابن السبيل، المنقطع به.

و في التهذيب، عن الصادق (عليه السلام): سئل عن مكاتب عجز عن مكاتبته و قد أدى بعضها، قال: (عليه السلام) يؤدي عنه من مال الصدقة فإن الله عز و جل يقول: و في الرقاب.

و في تفسير القمي،: في قوله: و الصابرين في البأساء و الضراء قال: (عليه السلام) في الجوع و العطش و الخوف، و في قوله و حين البأس قال: قال (عليه السلام)، عند القتال
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 5:47 am

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

بيان

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر، في توجيه الخطاب إلى المؤمنين خاصة إشارة إلى كون الحكم خاصا بالمسلمين، و أما غيرهم من أهل الذمة و غيرهم فالآية ساكتة عن ذلك.

و نسبة هذه الآية إلى قوله تعالى: «إن النفس بالنفس»: المائدة - 48، نسبة التفسير، فلا وجه لما ربما يقال، إن هذه الآية ناسخة لتلك الآية فلا يقتل حر بعبد و لا رجل بمرأة.

و بالجملة القصاص مصدر قاص يقاص من قص أثره إذا تبعه و منه القصاص لمن يحدث بالآثار و الحكايات كأنه يتبع آثار الماضين فتسمية القصاص بالقصاص لما فيه من متابعة الجاني في جنايته فيوقع عليه مثل ما أوقعه على غيره.

قوله تعالى: فمن عفي له من أخيه شيء، المراد بالموصول القاتل، و العفو للقاتل إنما يكون في حق القصاص فالمراد بالشيء هو الحق، و في تنكيره تعميم للحكم أي أي حق كان سواء كان تمام الحق أو بعضه كما إذا تعدد أولياء الدم فعفى بعضهم حقه للقاتل فلا قصاص حينئذ بل الدية، و في التعبير عن ولي الدم بالأخ إثارة لحس المحبة و الرأفة و تلويح إلى أن العفو أحب.

قوله تعالى: فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان، مبتدأ خبره محذوف أي فعليه أن يتبع القاتل في مطالبة الدية بمصاحبة المعروف، من الاتباع و على القاتل أن يؤدي الدية إلى أخيه ولي الدم بالإحسان من غير مماطلة فيها إيذاؤه.

قوله تعالى: ذلك تخفيف من ربكم و رحمة، أي الحكم بانتقال القصاص إلى الدية تخفيف من ربكم فلا يتغير فليس لولي الدم أن يقتص بعد العفو فيكون اعتداء فمن اعتدى فاقتص بعد العفو فله عذاب أليم.

قوله تعالى: و لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون، إشارة إلى حكمة التشريع، و دفع ما ربما يتوهم من تشريع العفو و الدية و بيان المزية و المصلحة التي في العفو و هو نشر الرحمة و إيثار الرأفة أن العفو أقرب إلى مصلحة الناس، و حاصله أن العفو و لو كان فيه ما فيه من التخفيف و الرحمة، لكن المصلحة العامة قائمة بالقصاص فإن الحياة لا يضمنها إلا القصاص دون العفو و الدية و لا كل شيء مما عداهما، يحكم بذلك الإنسان إذا كان ذا لب و قوله لعلكم تتقون، أي القتل و هو بمنزلة التعليل لتشريع القصاص.

و قد ذكروا: أن الجملة، أعني قوله تعالى: و لكم في القصاص حيوة الآية على اختصارها و إيجازها و قلة حروفها و سلاسة لفظها و صفاء تركيبها من أبلغ آيات القرآن في بيانها، و أسماها في بلاغتها فهي جامعة بين قوة الاستدلال و جمال المعنى و لطفه، و رقة الدلالة و ظهور المدلول، و قد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل و القصاص تعجبهم بلاغتها و جزالة أسلوبها و نظمها كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع و قولهم: أكثروا القتل ليقل القتل، و أعجب من الجميع عندهم قولهم: القتل أنفى للقتل غير أن الآية أنست الجميع و نفت الكل: و لكم في القصاص حيوة فإن الآية أقل حروفا و أسهل في التلفظ، و فيها تعريف القصاص و تنكير الحياة ليدل على أن النتيجة أوسع من القصاص و أعظم و هي مشتملة على بيان النتيجة و على بيان حقيقة المصلحة و هي الحياة، و هي متضمن حقيقة المعنى المفيد للغاية فإن القصاص هو المؤدي إلى الحياة دون القتل فإن من القتل ما يقع عدوانا ليس يؤدي إلى الحياة، و هي مشتملة على أشياء أخر غير القتل يؤدي إلى الحياة و هي أقسام القصاص في غير القتل، و هي مشتملة على معنى زائد آخر، و هو معنى المتابعة التي تدل عليها كلمة القصاص بخلاف قولهم القتل أنفى للقتل، و هي مع ذلك متضمنة للحث و الترغيب فإنها تدل على حياة مذخورة للناس مغفول عنها يملكونها فعليهم أن يأخذوا بها نظير ما تقول: لك في مكان كذا أو عند فلان مالا و ثروة، و هي ذلك تشير إلى أن القائل لا يريد بقوله هذا إلا حفظ منافعهم و رعاية مصلحتهم من غير عائد يعود إليه حيث قال: و لكم.

فهذه وجوه من لطائف ما تشتمل عليه هذه الآية، و ربما ذكر بعضهم وجوها أخرى يعثر عليه المراجع غير أن الآية كلما زدت فيه تدبرا زادتك في تجلياتها بجمالها و غلبتك بهور نورها - و كلمة الله هي العليا.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى الحر بالحر، قال: لا يقتل الحر بالعبد و لكن يضرب ضربا شديدا و يغرم دية العبد و إن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول أن يقتلوه أدوا نصف ديته إلى أولياء الرجل.

و في الكافي، عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام): قال سألته عن قول الله عز و جل فمن تصدق به فهو كفارة له، قال: يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا، و سألته عن قوله عز و جل: فمن عفي له من أخيه شيء - فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان، قال: ينبغي للذي له الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد صالحه على دية و ينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أداه إذا قدر على ما يعطيه و يؤدي إليه بإحسان، و سألته عن قول الله عز و جل: فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم، قال هو الرجل يقبل الدية أو يعفو أو يصالح ثم يعتدي فيقتل كما قال الله عز و جل. أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة.

بحث علمي

كانت العرب أوان نزول آية القصاص و قبله تعتقد القصاص بالقتل لكنها ما كانت تحده بحد و إنما يتبع ذلك قوة القبائل و ضعفها فربما قتل الرجل بالرجل و المرأة بالمرأة فسلك في القتل مسلك التساوي و ربما قتل العشرة بالواحد و الحر بالعبد و الرئيس بالمرءوس و ربما أبادت قبيلة قبيلة أخرى لواحد قتل منها.

و كانت اليهود تعتقد القصاص كما ورد في الفصل الحادي و العشرين و الثاني و العشرين من الخروج و الخامس و الثلاثين من العدد، و قد حكاه القرآن حيث قال تعالى: «و كتبنا لهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف و الأذن بالأذن و السن بالسن و الجروح قصاص»: المائدة - 45.

و كانت النصارى على ما يحكى لا ترى في مورد القتل إلا العفو و الدية، و سائر الشعوب و الأمم على اختلاف طبقاتهم ما كانت تخلو عن القصاص في القتل في الجملة و إن لم يضبطه ضابط تام حتى القرون الأخيرة.

و الإسلام سلك في ذلك مسلكا وسطا بين الإلغاء و الإثبات فأثبت القصاص و ألغى تعينه بل أجاز العفو و الدية ثم عدل القصاص بالمعادلة بين القاتل و المقتول، فالحر بالحر و العبد بالعبد و الأنثى بالأنثى.

و قد اعترض على القصاص مطلقا و على القصاص بالقتل خاصة بأن القوانين المدنية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جوازها و إجراءها بين البشر اليوم.

قالوا: إن القتل بالقتل مما يستهجنه الإنسان و ينفر عنه طبعه و يمنع عنه وجدانه إذا عرض عليه رحمة و خدمة للإنسانية، و قالوا: إذا كان القتل الأول فقدا لفرد فالقتل الثاني فقد على فقد، و قالوا: إن القتل بالقصاص من القسوة و حب الانتقام، و هذه صفة يجب أن تزاح عن الناس بالتربية العامة و يؤخذ في القاتل أيضا بعقوبة التربية، و ذلك إنما يكون بما دون القتل من السجن و الأعمال الشاقة، و قالوا: إن المجرم إنما يكون مجرما إذا كان مريض العقل فالواجب أن يوضع القاتل المجرم في المستشفيات العقلية و يعالج فيها، و قالوا: إن القوانين المدنية تتبع الاجتماع الموجود، و لما كان الاجتماع غير ثابت على حال واحد كانت القوانين كذلك فلا وجه لثبوت القصاص بين الاجتماع للأبد حتى الاجتماعات الراقية اليوم، و من اللازم أن يستفيد الاجتماع من وجود أفرادها ما استيسر، و من الممكن أن يعاقب المجرم بما دون القتل مما يعادل القتل من حيث الثمرة و النتيجة كحبس الأبد أو حبس مدة سنين و فيه الجمع بين الحقين حق المجتمع و حق أولياء الدم، فهذه الوجوه عمدة ما ذكره المنكرون لتشريع القصاص بالقتل.

و قد أجاب القرآن عن جميع هذه الوجوه بكلمة واحدة، و هي قوله تعالى: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا»: المائدة - 32.

بيان ذلك: أن القوانين الجارية بين أفراد الإنسان و إن كانت وضعية اعتبارية يراعى فيها مصالح الاجتماع الإنساني غير أن العلة العاملة فيها من أصلها هي الطبيعة الخارجية الإنسانية الداعية إلى تكميل نقصها و رفع حوائجها التكوينية، و هذه الواقعية الخارجية ليست هي العدد العارض على الإنسان و لا الهيأة الواحدة الاجتماعية فإنها نفسها من صنع الوجود الكوني الإنساني بل هي الإنسان و طبيعته و ليس بين الواحد من الإنسان و الألوف المجتمعة منه فرق في أن الجميع إنسان و وزن الواحد و الجميع واحد من حيث الوجود.

و هذه الطبيعة الوجودية تجهزت في نفسها بقوى و أدوات تدفع بها عن نفسها العدم لكونها مفطورة على حب الوجود، و تطرد كل ما يسلب عنه الحياة بأي وسيلة أمكنت و إلى أي غاية بلغت حتى القتل و الإعدام، و لذا لا تجد إنسانا لا تقضي فطرته بتجويز قتل من يريد قتله و لا ينتهي عنه إلا به، و هذه الأمم الراقية أنفسهم لا يتوقفون عن الحرب دفاعا عن استقلالهم و حريتهم و قوميتهم، فكيف بمن أراد قتل نفوسهم عن آخرها، و يدفعون عن بطلان القانون بالغا ما بلغ حتى بالقتل و يتوسلون إلى حفظ منافعهم بالحرب إذا لم يعالج الداء بغيرها، تلك الحرب التي فيها فناء الدنيا و هلاك الحرث و النسل و لا يزال ملل يتقدمون بالتسليحات و آخرون يتجهزون بما يجاوبهم، و ليس ذلك كله إلا رعاية لحال الاجتماع و حفظا لحياته و ليس الاجتماع إلا صنيعة من صنائع الطبيعة فما بال الطبيعة يجوز القتل الذريع و الإفناء و الإبادة لحفظ صنيعة من صنائعها، و هي الاجتماع المدني و لا تجوزها لحفظ حياة نفسها؟ و ما بالها تجوز قتل من يهم بالقتل و لم يفعل و لا تجوزه فيمن هم و فعل؟ و ما بال الطبيعة تقضي بالانعكاس في الوقائع التاريخية، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، و من يعمل مثقال ذرة شرا يره و لكل عمل عكس عمل في قانونها لكنها تعد القتل في مورد القتل ظلما و تنقض حكم نفسها.

على أن الإسلام لا يرى في الدنيا قيمة للإنسان يقوم بها و لا وزنا يوزن به إلا إذا كان على دين التوحيد فوزن الاجتماع الإنساني و وزن الموحد الواحد عنده سيان، فمن الواجب أن يكون حكمهما عنده واحدا، فمن قتل مؤمنا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر إزرائه و هتكه لشرف الحقيقة كما أن من قتل نفسا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر الطبيعة الوجودية، و أما الملل المتمدنة فلا يبالون بالدين و لو كانت شرافة الدين عندهم تعادل في قيمتها أو وزنها - فضلا عن التفوق - الاجتماع المدني في الفضل لحكموا فيه بما حكموا في ذلك.

على أن الإسلام يشرع للدنيا لا لقوم خاص و أمة معينة، و الملل الراقية إنما حكمت بما حكمت بعد ما أذعنت بتمام التربية في أفرادها و حسن صنيع حكوماتها و دلالة الإحصاء في مورد الجنايات و الفجائع على أن التربية الموجودة مؤثرة و أن الأمة في أثر تربيتهم متنفرة عن القتل و الفجيعة فلا تتفق بينهم إلا في الشذوذ و إذا اتفقت فهي ترتضي المجازاة بما دون القتل، و الإسلام لا يأبى عن تجويز هذه التربية و أثرها الذي هو العفو مع قيام أصل القصاص على ساق.

و يلوح إليه قوله تعالى: في آية القصاص فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان، فاللسان لسان التربية و إذا بلغ قوم إلى حيث أذعنوا بأن الفخر العمومي في العفو لم ينحرفوا عنه إلى مسلك الانتقام.

و أما غير هؤلاء الأمم فالأمر فيها على خلاف ذلك و الدليل عليه ما نشاهده من حال الناس و أرباب الفجيعة و الفساد فلا يخوفهم حبس و لا عمل شاق و لا بصدهم وعظ و نصح، و ما لهم من همة و لا ثبات على حق إنساني، و الحياة المعدة لهم في السجون أرفق و أعلى و أسنى مما لهم في أنفسهم من المعيشة الردية الشقية فلا يوحشهم لوم و لا ذم، و لا يدهشهم سجن و لا ضرب، و ما نشاهده أيضا من ازدياد عدد الفجائع في الإحصاءات يوما فيوما فالحكم العام الشامل للفريقين - و الأغلب منهما الثاني - لا يكون إلا القصاص و جواز العفو فلو رقت الأمة و ربيت تربية ناجحة أخذت بالعفو و الإسلام لا يألو جهده في التربية و لو لم يسلك إلا الانحطاط أو كفرت بأنعم ربها و فسقت، أخذ فيهم بالقصاص و يجوز معه العفو.

و أما ما ذكروه من حديث الرحمة و الرأفة بالإنسانية فما كل رأفة بمحمودة و لا كل رحمة فضيلة، فاستعمال الرحمة في مورد الجاني القسي و العاصي المتخلف المتمرد و المتعدي على النفس و العرض جفاء على صالح الأفراد، و في استعمالها المطلق اختلال النظام و هلاك الإنسانية و إبطال الفضيلة.

و أما ما ذكروه أنه من القسوة و حب الانتقام فالقول فيه كسابقه، فالانتقام للمظلوم من ظالمه استظهارا للعدل و الحق ليس بمذموم قبيح، و لا حب العدل من رذائل الصفات، على أن تشريع القصاص بالقتل غير ممحض في الانتقام بل فيه ملاك التربية العامة و سد باب الفساد.

و أما ما ذكروه من كون جناية القتل من الأمراض العقلية التي يجب أن يعالج في المستشفيات فهو من الأعذار و نعم العذر الموجبة لشيوع القتل و الفحشاء و نماء الجناية في الجامعة الإنسانية، و أي إنسان منا يحب القتل و الفساد علم أن ذلك فيه مرض عقلي و عذر مسموع يجب على الحكومة أن يعالجه بعناية و رأفة و أن القوة الحاكمة و التنفيذية تعتقد فيه ذلك لم يقدم معه كل يوم على قتل.

و أما ما ذكروه من لزوم الاستفادة من وجود المجرمين بمثل الأعمال الإجبارية و نحوها مع حبسهم و منعهم عن الورود في الاجتماع فلو كان حقا متكئا على حقيقة فما بالهم لا يقضون بمثله في موارد الإعدام القانوني التي توجد في جميع القوانين الدائرة اليوم بين الأمم؟ و ليس ذلك إلا للأهمية التي يرونها للإعدام في موارده، و قد مر أن الفرد و المجتمع في نظر الطبيعة من حيث الأهمية متساويان.


كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (182)

بيان

قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية، لسان الآية لسان الوجوب فإن الكتابة يستعمل في القرآن في مورد القطع و اللزوم و يؤيده ما في آخر الآية من قوله حقا، فإن الحق أيضا كالكتابة يقتضي معنى اللزوم لكن تقييد الحق بقوله على المتقين، مما يوهن الدلالة على الوجوب و العزيمة فإن الأنسب بالوجوب أن يقال: حقا على المؤمنين، و كيف كان فقد قيل إن الآية منسوخة بآية الإرث، و لو كان كذلك فالمنسوخ هو الفرض دون الندب و أصل المحبوبية و لعل تقييد الحق بالمتقين في الآية لإفادة هذا الغرض.

و المراد بالخير المال، و كأنه المال المعتد به، دون اليسير الذي لا يعبأ به و المراد بالمعروف هو المعروف المتداول من الصنيعة و الإحسان.

قوله تعالى: فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه، ضمير إثمه راجع إلى التبديل، و الباقي من الضمائر إلى الوصية بالمعروف، و هي مصدر يجوز فيه الوجهان و إنما قال على الذين يبدلونه، و لم يقل عليهم ليكون فيه دلالة على سبب الإثم و هو تبديل الوصية بالمعروف و ليستقيم تفريع الآية التالية عليه.

قوله تعالى: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه، الجنف هو الميل و الانحراف، و قيل: هو ميل القدمين إلى الخارج كما أن الحنف بالحاء المهملة انحرافهما إلى الداخل، و المراد على أي حال الميل إلى الإثم بقرينة الإثم و الآية تفريع على الآية السابقة عليها، و المعنى و الله أعلم فإنما إثم التبديل على الذين يبدلون الوصية بالمعروف، و يتفرع عليه: أن من خاف من وصية الموصي أن يكون وصيته بالإثم أو مائلا إليه فأصلح بينهم برده إلى ما لا إثم فيه فلا إثم عليه لأنه لم يبدل وصيته بالمعروف بل إنما بدل ما فيه إثم أو جنف.

بحث روائي

و في الكافي، و التهذيب، و تفسير العياشي، و اللفظ للأخير عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام): سألته عن الوصية تجوز للوارث؟ قال نعم ثم تلا هذه الآية إن ترك خيرا الوصية للوالدين و الأقربين.

و في تفسير العياشي، عن الصادق عن أبيه عن علي (عليه السلام) قال: من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية.

و في تفسير العياشي، أيضا عن الصادق (عليه السلام): في الآية قال: حق جعله الله في أموال الناس لصاحب هذا الأمر، قال قلت: لذلك حد محدود، قال: نعم، قلت: كم؟ قال: أدناه السدس و أكثره الثلث.

أقول: و روى هذا المعنى الصدوق أيضا في الفقيه، عنه (عليه السلام) و هو استفادة لطيفة من الآية بضم قوله تعالى: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين و المهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا»: الأحزاب - 6، فإن الآية هي الناسخة لحكم التوارث بالأخوة الذي كان في صدر الإسلام فقد نفت التوارث بالأخوة و أثبتته للقرابة ثم استثني ما فعل من معروف في حق الأولياء، و قد عدت النبي وليا و الطاهرين من ذريته أولياء لهم، و هذا المعروف المستثنى مورد قوله تعالى: إن ترك خيرا الوصية الآية - و هم قربى - فافهم.

و في تفسير العياشي، عن أحدهما (عليهما السلام): في قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر الآية، قال (عليه السلام) هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هي المواريث.

أقول: مقتضى الجمع بين الروايات السابقة و بين هذه الرواية أن المنسوخ من الآية.

هو الوجوب فقط فيبقى الاستحباب على حاله.

و في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله فمن خاف من موص جنفا أو إثما الآية، قال الجنف أن يكون على جهة الخطإ من حيث لا يدري أنه يجوز.

و في تفسير القمي، قال الصادق (عليه السلام): إذا الرجل أوصى بوصيته فلا يجوز للوصي أن يغير وصية يوصيها بل يمضيها على ما أوصى إلا أن يوصي بغير ما أمر الله فيعصي في الوصية و يظلم، فالموصى إليه جائز له أن يرده إلى الحق مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كله لبعض ورثته و يحرم بعضا فالوصي جائز له أن يرده إلى الحق و هو قوله جنفا أو إثما، و الجنف الميل إلى بعض ورثته دون بعض، و الإثم أن يأمر بعمارة بيوت النيران و اتخاذ المسكر فيحل للوصي أن لا يعمل بشيء من ذلك.

أقول: و بما في الرواية من معنى الجنف يظهر معنى قوله تعالى فأصلح بينهم فالمراد الإصلاح بين الورثة لوقوع النزاع بينهم من جهة جنف الموصي.

و في الكافي، عن محمد بن سوقة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه، قال نسختها التي بعدها قوله: فمن خاف من موص جنفا أو إثما - فأصلح بينهم فلا إثم عليه، قال: يعني الموصى إليه إن خاف جنفا من الموصي في ولده فيما أوصى به إليه فيما لا يرضى الله به من خلاف الحق فلا إثم عليه أي على الموصى إليه أن يبدله إلى الحق و إلى ما يرضى الله به من سبيل الحق.

أقول: هذا من تفسير الآية بالآية فإطلاق النسخ عليه ليس على الاصطلاح و قد مر أن النسخ في كلامهم ربما يطلق على غير ما اصطلح عليه الأصوليون.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 5:51 am

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

بيان

سياق الآيات الثلاث يدل أولا على أنها جميعا نازلة معا فإن قوله تعالى: أياما معدودات، في أول الآية الثانية ظرف متعلق بقوله: الصيام في الآية الأولى، و قوله تعالى: شهر رمضان، في الآية الثالثة إما خبر لمبتدإ محذوف و هو الضمير الراجع إلى قوله: أياما معدودات، و التقدير هي شهر رمضان أو مبتدأ لخبر محذوف، و التقدير شهر رمضان هو الذي كتب عليكم صيامه أو هو بدل من الصيام في قوله: كتب عليكم الصيام، في الآية الأولى و على أي تقدير هو بيان و إيضاح للأيام المعدودات التي كتب فيها الصيام فالآيات الثلاث جميعا كلام واحد مسوق لغرض واحد و هو بيان فرض صوم شهر رمضان.

و سياق الآيات يدل ثانيا على أن شطرا من الكلام الموضوع في هذه الآيات الثلاث بمنزلة التوطئة و التمهيد بالنسبة إلى شطر آخر، أعني: أن الآيتين الأوليين سرد الكلام فيهما ليكون كالمقدمة التي تساق لتسكين طيش النفوس و الحصول على اطمينانها و استقرارها عن القلق و الاضطراب، إذا كان غرض المتكلم بيان ما لا يؤمن فيه التخلف و التأبي عن القبول، لكون ما يأتي من الحكم أو الخبر ثقيلا شاقا بطبعه على المخاطب، و لذلك ترى الآيتين الأوليين تألف فيهما الكلام من جمل لا يخلو واحدة منها عن هداية ذهن المخاطب إلى تشريع صوم رمضان بإرفاق و ملاءمة، بذكر ما يرتفع معه الاستيحاش و الاضطراب، و يحصل به تطيب النفس، و تنكسر به سورة الجماح و الاستكبار، بالإشارة إلى أنواع من التخفيف و التسهيل، روعيت في تشريع هذا الحكم مع ما فيه من الخير العاجل و الآجل.

و لذلك لما ذكر كتابة الصيام عليهم بقوله: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام أردفه بقوله: كما كتب على الذين من قبلكم أي لا ينبغي لكم أن تستثقلوه و تستوحشوا من تشريعه في حقكم و كتابته عليكم فليس هذا الحكم بمقصور عليكم بل هو حكم مجعول في حق الأمم السابقة عليكم و لستم أنتم متفردين فيه، على أن في العمل بهذا الحكم رجاء ما تبتغون و تطلبونه بإيمانكم و هو التقوى التي هي خير زاد لمن آمن بالله و اليوم الآخر، و أنتم المؤمنون و هو قوله تعالى.

لعلكم تتقون، على أن هذا العمل الذي فيه رجاء التقوى لكم و لمن كان قبلكم لا يستوعب جميع أوقاتكم و لا أكثرها بل إنما هو في أيام قلائل معينة معدودة، و هو قوله تعالى: أياما معدودات، فإن في تنكير، أياما، دلالة على التحقير، و في التوصيف بالعدل إشعار بهوان الأمر كما في قوله تعالى: و شروه بثمن بخس دراهم معدودة: يوسف - 30، على أنا راعينا جانب من يشق عليه أصل الصيام كمن يطيق الصيام، فعليه أن يبدله من فدية لا تشقه و لا يستثقلها، و هو طعام مسكين و هو قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو على سفر إلى قوله، فدية طعام مسكين اه.

و إذا كان هذا العمل مشتملا على خيركم و مراعى فيه ما أمكن من التخفيف و التسهيل عليكم كان خيركم أن تأتوا به بالطوع و الرغبة من غير كره و تثاقل و تثبط، فإن من تطوع خيرا فهو خير له من أن يأتي به عن كره و هو قوله تعالى.

فمن تطوع خيرا فهو خير له إلخ، فالكلام الموضوع في الآيتين كما ترى توطئة و تمهيد لقوله تعالى في الآية الثالثة: فمن شهد منكم الشهر فليصمه إلخ، و علي هذا فقوله تعالى في الآية الأولى: كتب عليكم الصيام، إخبار عن تحقق الكتابة و ليس بإنشاء للحكم كما في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الآية:» البقرة - 178، و قوله تعالى «كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين و الأقربين»: البقرة - 180، فإن بين القصاص في القتلى و الوصية للوالدين و الأقربين و بين الصيام فرقا، و هو أن القصاص في القتلى أمر يوافق حس الانتقام الثائر في نفوس أولياء المقتولين و يلائم الشح الغريزي الذي في الطباع أن ترى القاتل حيا سالما يعيش و لا يعبأ بما جنى من القتل، و كذلك حس الشفقة و الرأفة بالرحم يدعو النفوس إلى الترحم على الوالدين و الأقربين، و خاصة عند الموت و الفراق الدائم، فهذان أعني القصاص، و الوصية حكمان مقبولان بالطبع عند الطباع، موافقان لما تقتضيها فلا يحتاج الإنباء عنها بإنشائها إلى تمهيد مقدمة و توطئة بيان بخلاف حكم الصيام، فإنه يلازم حرمان النفوس من أعظم مشتهياتها و معظم ما تميل إليها و هو الأكل و الشرب و الجماع، و لذلك فهو ثقيل على الطبع، كريه عند النفس، يحتاج في توجيه حكمه إلى المخاطبين، و هم عامة الناس من المكلفين إلى تمهيد و توطئة تطيب بها نفوسهم و تحن بسببها إلى قبوله و أخذه طباعهم، و لهذا السبب كان قوله: كتب عليكم القصاص اه، و قوله: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إنشاء للحكم من غير حاجة إلى تمهيد مقدمة بخلاف قوله: كتب عليكم الصيام فإنه إخبار عن الحكم و تمهيد لإنشائه بقوله: فمن شهد منكم، بمجموع ما في الآيتين من الفقرات السبع.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اه، الإتيان بهذا الخطاب لتذكيرهم بوصف فيهم و هو الإيمان، يجب عليهم إذا التفتوا إليه أن يقبلوا ما يواجههم ربهم به من الحكم و إن كان على خلاف مشتهياتهم و عاداتهم، و قد صدرت آية القصاص بذلك أيضا لما سمعت أن النصارى كانوا يرون العفو دون القصاص و إن كان سائر الطوائف من المليين و غيرهم يرون القصاص.

قوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم اه، الكتابة معروفة المعنى و يكنى به عن الفرض و العزيمة و القضاء الحتم كقوله: «كتب الله لأغلبن أنا و رسلي:» المجادلة - 21، و قوله تعالى: «و نكتب ما قدموا و آثارهم:» يس - 12 و قوله تعالى: «و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس»: المائدة - 45، و الصيام و الصوم في اللغة مصدران بمعنى الكف عن الفعل: كالصيام عن الأكل و الشرب و المباشرة و الكلام و المشي و غير ذلك، و ربما يقال: إنه الكف عما تشتهيه النفس و تتوق إليه خاصة ثم غلب استعماله في الشرع في الكف عن أمور مخصوصة، من طلوع الفجر إلى المغرب بالنية، و المراد بالذين من قبلكم الأمم الماضية ممن سبق ظهور الإسلام من أمم الأنبياء كأمة موسى و عيسى و غيرهم، فإن هذا المعنى هو المعهود من إطلاق هذه الكلمة في القرآن أينما أطلقت، و ليس قوله: كما كتب على الذين من قبلكم، في مقام الإطلاق من حيث الأشخاص و لا من حيث التنظير فلا يدل على أن جميع أمم الأنبياء كان مكتوبا عليهم الصوم من غير استثناء و لا على أن الصوم المكتوب عليهم هو الصوم الذي كتب علينا من حيث الوقت و الخصوصيات و الأوصاف، فالتنظير في الآية إنما هو من حيث أصل الصوم و الكف لا من حيث خصوصياته.

و المراد بالذين من قبلكم، الأمم السابقة من المليين في الجملة، و لم يعين القرآن من هم، غير أن ظاهر قوله: كما كتب، أن هؤلاء من أهل الملة و قد فرض عليهم ذلك، و لا يوجد في التوراة و الإنجيل الموجودين عند اليهود و النصارى ما يدل على وجوب الصوم و فرضه، بل الكتابان إنما يمدحانه و يعظمان أمره، لكنهم يصومون أياما معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة: كالصوم عن اللحم و الصوم عن اللبن و الصوم عن الأكل و الشرب، و في القرآن قصة صوم زكريا عن الكلام و كذا صوم مريم عن الكلام.

بل الصوم عبادة مأثورة عن غير المليين كما ينقل عن مصر القديم و يونان القديم و الرومانيين، و الوثنيون من الهند يصومون حتى اليوم، بل كونه عبادة قربية مما يهتدي إليه الإنسان بفطرته كما سيجيء.

و ربما يقال: إن المراد بالذين من قبلكم اليهود و النصارى أو السابقين من الأنبياء استنادا إلى روايات لا تخلو عن ضعف.

قوله تعالى: أياما معدودات، منصوب على الظرفية بتقدير، في، و متعلق بقوله: الصيام، و قد مر أن تنكير أيام و اتصافه بالعدد للدلالة على تحقير التكليف من حيث الكلفة و المشقة تشجيعا للمكلف، و قد مر أن قوله: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن «إلخ»، بيان للأيام فالمراد بالأيام المعدودات شهر رمضان.

و قد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالأيام المعدودات ثلاث أيام من كل شهر و صوم يوم عاشوراء، و قال بعضهم: و الثلاث الأيام هي الأيام البيض من كل شهر و صوم يوم عاشوراء فقد كان رسول الله و المسلمون يصومونها ثم نزل قوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن إلخ، فنسخ ذلك و استقر الفرض على صوم شهر رمضان، و استندوا في ذلك إلى روايات كثيرة من طرق أهل السنة و الجماعة لا تخلو في نفسها عن اختلاف و تعارض.

و الذي يظهر به بطلان هذا القول أولا: أن الصيام كما قيل: عبادة عامة شاملة، و لو كان الأمر كما يقولون لضبطه التاريخ و لم يختلف في ثبوته ثم في نسخة أحد و ليس كذلك، على أن لحوق يوم عاشوراء بالأيام الثلاث من كل شهر في وجوب الصوم أو استحبابه ككونه عيدا من الأعياد الإسلامية مما ابتدعه بنو أمية لعنهم الله حيث أبادوا فيه ذرية رسول الله و أهل بيته بقتل رجالهم و سبي نسائهم و ذراريهم و نهب أموالهم في وقعة الطف ثم تبركوا باليوم فاتخذوه عيدا و شرعوا صومه تبركا به و وضعوا له فضائل و بركات، و دسوا أحاديث تدل على أنه كان عيدا إسلاميا بل من الأعياد العامة التي كانت تعرفه عرب الجاهلية و اليهود و النصارى منذ بعث موسى و عيسى، و كل ذلك لم يكن، و ليس اليوم ذا شأن ملي حتى يصير عيدا مليا قوميا مثل النيروز أو المهرجان عند الفرس، و لا وقعت فيه واقعة فتح أو ظفر حتى يصير يوما إسلاميا كيوم المبعث و يوم مولد النبي، و لا هو ذو جهة دينية حتى يصير عيدا دينيا كمثل عيد الفطر و عيد الأضحى فما باله عزيزا بلا سبب؟.

و ثانيا: أن الآية الثالثة من الآيات أعني قوله: شهر رمضان إلخ، تأبى بسياقها أن تكون نازلة وحدها و ناسخا لما قبلها فإن ظاهر السياق أن قوله شهر رمضان خبر لمبتدإ محذوف أو مبتدأ لخبر محذوف كما مر ذكره فيكون بيانا للأيام المعدودات و يكون جميع الآيات الثلاث كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد و هو فرض صيام شهر رمضان، و أما جعل قوله: شهر رمضان مبتدأ خبره قوله: الذي أنزل فيه القرآن فإنه و إن أوجب استقلال الآية و صلاحيتها لأن تنزل وحدها غير أنها لا تصلح حينئذ لأن تكون ناسخة لما قبلها لعدم المنافات بينها و بين سابقتها، مع أن النسخ مشروط بالتنافي و التباين.

و أضعف من هذا القول قول آخرين - على ما يظهر منهم -: أن الآية الثانية أعني قوله تعالى: أياما معدودات إلخ، ناسخة للآية الأولى أعني قوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلخ، و ذلك أن الصوم كان مكتوبا على النصارى ثم زادوا فيه و نقصوا بعد عيسى (عليه السلام) حتى استقر على خمسين يوما، ثم شرعه الله في حق المسلمين بالآية الأولى فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الناس يصومونها في صدر الإسلام حتى نزل قوله تعالى: أياما معدودات إلخ، فنسخ الحكم و استقر الحكم على غيره.

و هذا القول أوهن من سابقه و أظهر بطلانا، و يرد عليه جميع ما يرد على سابقه من الإشكال، و كون الآية الثانية من متممات الآية الأولى أظهر و أجلى، و ما استند إليه القائل من الروايات أوضح مخالفة لظاهر القرآن و سياق الآية.

قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، الفاء للتفريع و الجملة متفرعة على قوله: كتب عليكم، و قوله: معدودات اه، أي إن الصيام مكتوب مفروض، و العدد مأخوذ في الفرض، و كما لا يرفع اليد عن أصل الفرض كذلك لا يرفع اليد عن العدد، فلو عرض عارض يوجب ارتفاع الحكم الفرض عن الأيام المعدودات التي هي أيام شهر رمضان كعارض المرض و السفر، فإنه لا يرفع اليد عن الصيام عدة من أيام أخر خارج شهر رمضان تساوي ما فات المكلف من الصيام عددا، و هذا هو الذي أشار تعالى إليه في الآية الثالثة بقوله: و لتكملوا العدة، فقوله تعالى: أياما معدودات، كما يفيد معنى التحقير كما مر يفيد كون العدد ركنا مأخوذا في الفرض و الحكم.

ثم إن المرض خلاف الصحة و السفر مأخوذ من السفر بمعنى الكشف كأن المسافر ينكشف لسفره عن داره التي يأوي إليها و يكن فيها، و كان قوله تعالى: أو على سفر، و لم يقل: مسافرا للإشارة إلى اعتبار فعليه التلبس حالا دون الماضي و المستقبل.

و قد قال قوم - و هم المعظم من علماء أهل السنة و الجماعة -: إن المدلول عليه بقوله تعالى: و من كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، هو الرخصة دون العزيمة فالمريض و المسافر مخيران بين الصيام و الإفطار، و قد عرفت أن ظاهر قوله تعالى: فعدة من أيام أخر هو عزيمة الإفطار دون الرخصة، و هو المروي عن أئمة أهل البيت، و هو مذهب جمع من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف و عمر بن الخطاب و عبد الله بن عمر و أبي هريرة و عروة بن الزبير، فهم محجوجون، بقوله تعالى: فعدة من أيام أخر.

و قد قدروا لذلك في الآية تقديرا فقالوا: إن التقدير فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر.

و يرد عليه أولا أن التقدير كما صرحوا به خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بقرينة و لا قرينة من نفس الكلام عليه.

و ثانيا: أن الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدل على الرخصة فإن المقام كما ذكروه مقام التشريع، و قولنا: فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر غاية ما يدل عليه أن الإفطار لا يقع معصية بل جائزا بالجواز بالمعنى الأعم من الوجوب و الاستحباب و الإباحة، و أما كونه جائزا بمعنى عدم كونه إلزاميا فلا دليل عليه من الكلام البتة بل الدليل على خلافه فإن بناء الكلام في مقام التشريع على عدم بيان ما يجب بيانه لا يليق بالمشرع الحكيم و هو ظاهر.

قوله تعالى: و على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، الإطاقة كما ذكره بعضهم صرف تمام الطاقة في الفعل، و لازمه وقوع الفعل بجهد و مشقة، و الفدية هي البدل و هي هنا بدل مالي و هو طعام مسكين أي طعام يشبع مسكينا جائعا من أوسط ما يطعم الإنسان، و حكم الفدية أيضا فرض كحكم القضاء في المريض و المسافر لمكان قوله: و على الذين، الظاهر في الوجوب التعييني دون الرخصة و التخيير.

و قد ذكر بعضهم: أن الجملة تفيد الرخصة ثم فسخت فهو سبحانه و تعالى خير المطيقين للصوم من الناس كلهم يعني القادرين على الصوم من الناس بين أن يصوموا و بين أن يفطروا و يكفروا عن كل يوم بطعام مسكين، لأن الناس كانوا يومئذ غير متعوذين بالصوم ثم نسخ ذلك بقوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، و قد ذكر بعض هؤلاء: أنه نسخ حكم غير العاجزين، و أما مثل الشيخ الهرم و الحامل و المرضع فبقي على حاله، من جواز الفدية.

و لعمري إنه ليس إلا لعبا بالقرآن و جعلا لآياته عضين، و أنت إذا تأملت الآيات الثلاث وجدتها كلاما موضوعا على غرض واحد ذا سياق واحد متسق الجمل رائق البيان، ثم إذا نزلت هذا الكلام على وحدته و اتساقه على ما يراه هذا القائل وجدته مختل السياق، متطارد الجمل يدفع بعضها بعضا، و ينقض آخره أوله، فتارة يقول كتب عليكم الصيام، و أخرى يقول: يجوز على القادرين منكم الإفطار و الفدية، و أخرى يقول: يجب عليكم جميعا الصيام إذا شهدتم الشهر، فينسخ حكم الفدية عن القادرين و يبقى حكم غير القادرين على حاله، و لم يكن في الآية حكم غير القادرين، اللهم إلا أن يقال: إن قوله: يطيقونه، كان دالا على القدرة قبل النسخ فصار يدل بعد النسخ على عدم القدرة، و بالجملة يجب على هذا أن يكون قوله: و على الذين يطيقونه في وسط الآيات ناسخا لقوله: كتب عليكم الصيام، في أولها لمكان التنافي، و يبقى الكلام في وجهه تقييده بالإطاقة من غير سبب ظاهر، ثم قوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه في آخر الآيات ناسخا لقوله: و على الذين يطيقونه في وسطها، و يبقى الكلام في وجه نسخه لحكم القادرين على الصيام فقط دون العاجزين، مع كون الناسخ مطلقا شاملا للقادر و العاجز جميعا، و كون المنسوخ غير شامل لحكم العاجز الذي يراد بقاؤه و هذا من أفحش الفساد.

و إذا أضفت إلى هذا النسخ بعد النسخ ما ذكروه من نسخ قوله: شهر رمضان إلخ لقوله: أياما معدودات إلخ، و نسخ قوله: أياما معدودات إلخ، لقوله: كتب عليكم الصيام، و تأملت معنى الآيات شاهدت عجبا.

قوله تعالى: فمن تطوع خيرا فهو خير له، التطوع تفعل من الطوع مقابل الكره و هو إتيان الفعل بالرضا و الرغبة، و معنى باب التفعل الأخذ و القبول فمعنى التطوع التلبس في إتيان الفعل بالرضا و الرغبة من غير كره و استثقال سواء كان فعلا إلزاميا أو غير إلزامي، و أما اختصاص التطوع استعمالا بالمستحبات و المندوبات فمما حدث بعد نزول القرآن بين المسلمين بعناية أن الفعل الذي يؤتى به بالطوع هو الندب و أما الواجب ففيه شوب كره لمكان الإلزام الذي فيه.

و بالجملة التطوع كما قيل: لا دلالة فيه مادة و هيئة على الندب و على هذا فالفاء للتفريع و الجملة متفرعة على المحصل من معنى الكلام السابق، و المعنى و الله أعلم: الصوم مكتوب عليكم مرعيا فيه خيركم و صلاحكم مع ما فيه من استقراركم في صف الأمم التي قبلكم، و التخفيف و التسهيل لكم فأتوا به طوعا لا كرها، فإن من أتى بالخير طوعا كان خيرا له من أن يأتي به كرها.

و من هنا يظهر: أن قوله: فمن تطوع خيرا من قبيل وضع السبب موضع المسبب أعني وضع كون التطوع بمطلق الخير خيرا مكان كون التطوع بالصوم خيرا نظير قوله تعالى: «قد نعلم إنك ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك و لكن الظالمين بآيات الله يجحدون» أي فاصبر و لا تحزن فإنهم لا يكذبونك.

و ربما يقال: إن الجملة أعني قوله تعالى: فمن تطوع خيرا فهو خير له، مرتبطة بالجملة التي تتلوها أعني قوله: و على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، و المعنى أن من تطوع خيرا من فدية طعام مسكين بأن يؤدي ما يزيد على طعام مسكين واحد بما يعادل فديتين لمسكينين أو لمسكين واحد كان خيرا له.

و يرد عليه: عدم الدليل على اختصاص التطوع بالمستحبات كما عرفت مع خفاء النكتة في التفريع، فإنه لا يظهر لتفرع التطوع بالزيادة على حكم الفدية وجه معقول، مع أن قوله: فمن تطوع خيرا، لا دلالة له على التطوع بالزيادة فإن التطوع بالخير غير التطوع بالزيادة.

قوله تعالى: و أن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون، جملة متممة لسابقتها، و المعنى بحسب التقدير - كما مر -: تطوعوا بالصوم المكتوب عليكم فإن التطوع بالخير خير و الصوم خير لكم، فالتطوع به خير على خير.

و ربما: يقال إن الجملة أعني قوله: و أن تصوموا خير لكم، خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض و الكتابة فإن ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك فيناسب الاستحباب دون الوجوب، و يحمل على رجحان الصوم و استحبابه على أصحاب الرخصة: من المريض و المسافر فيستحب عليهم اختيار الصوم على الإفطار و القضاء.

و يرد عليه: عدم الدليل عليه أولا، و اختلاف الجملتين أعني قوله: فمن كان منكم إلخ، و قوله: و أن تصوموا خير لكم، بالغيبة و الخطاب ثانيا، و أن الجملة الأولى مسوقة لبيان الترخيص و التخيير، بل ظاهر قوله: فعدة من أيام أخر، تعين الصوم في أيام أخر كما مر ثالثا، و أن الجملة الأولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حق المعذور لم يذكر الصوم و الإفطار حتى يكون قوله: و أن تصوموا خير لكم بيانا لأحد طرفي التخيير بل إنما ذكرت صوم شهر رمضان و صوم عدة من أيام أخر و حينئذ لا سبيل إلى استفادة ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره من مجرد قوله: و أن تصوموا خير لكم، من غير قرينة ظاهرة رابعا، و أن المقام ليس مقام بيان الحكم حتى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبيا بل المقام - كما مر سابقا - مقام ملاك التشريع و أن الحكم المشرع لا يخلو عن المصلحة و الخير و الحسن كما في قوله: «فتوبوا إلى بارئكم و اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم: البقرة - 54، و قوله تعالى: «فاسعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون:» الجمعة - 9، و قوله تعالى «تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون:» الصف - 11، و الآيات في ذلك كثيرة خامسا: قوله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى، شهر رمضان هو الشهر التاسع من الشهور القمرية العربية بين شعبان و شوال و لم يذكر اسم شيء من الشهور في القرآن إلا شهر رمضان.

و النزول هو الورود على المحل من العلو، و الفرق بين الإنزال و التنزيل أن الإنزال دفعي و التنزيل تدريجي، و القرآن اسم للكتاب المنزل على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتبار كونه مقروا كما قال تعالى: «إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون»: الزخرف - 3، و يطلق على مجموع الكتاب و على أبعاضه.

و الآية تدل على نزول القرآن في شهر رمضان، و قد قال تعالى: «و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا:، الإسراء - 106، و هو ظاهر في نزوله تدريجا في مجموع مدة الدعوة و هي ثلاث و عشرون سنة تقريبا، و المتواتر من التاريخ يدل على ذلك، و لذلك ربما استشكل عليه بالتنافي بين الآيتين.

و ربما أجيب عنه: بأنه نزل دفعة على سماء الدنيا في شهر رمضان ثم نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نجوما و على مكث في مدة ثلاث و عشرين سنة - مجموع مدة الدعوة - و هذا جواب مأخوذ من الروايات التي سننقل بعضها في البحث عن الروايات.

و قد أورد عليه: بأن تعقيب قوله تعالى: أنزل فيه القرآن بقوله: هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان، لا يساعد على ذلك إذ لا معنى لبقائه على وصف الهداية و الفرقان في السماء مدة سنين.

و أجيب: بأن كونه هاديا من شأنه أن يهدي من يحتاج إلى هدايته من الضلال، و فارقا إذا التبس حق بباطل لا ينافي بقاءه مدة على حال الشأنية من غير فعلية التأثير حتى يحل أجله و يحين حينه، و لهذا نظائر و أمثال في القوانين المدنية المنتظمة التي كلما حان حين مادة من موادها أجريت و خرجت من القوة إلى الفعل.

و الحق أن حكم القوانين و الدساتير غير حكم الخطابات التي لا يستقيم أن تتقدم على مقام التخاطب و لو زمانا يسيرا، و في القرآن آيات كثيرة من هذا القبيل كقوله تعالى: «قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها و تشتكي إلى الله و الله يسمع تحاوركما»: المجادلة - 1، و قوله تعالى: «و إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها و تركوك قائما»: الجمعة - 11، و قوله تعالى: «رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا»: الأحزاب - 23، على أن في القرآن ناسخا و منسوخا، و لا معنى لاجتماعهما في زمان بحسب النزول.

و ربما أجيب عن الإشكال: أن المراد من نزول القرآن في شهر رمضان أن أول ما نزل منه نزل فيه، و يرد عليه: أن المشهور عندهم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما بعث بالقرآن، و قد بعث اليوم السابع و العشرين من شهر رجب و بينه و بين رمضان أكثر من ثلاثين يوما و كيف يخلو البعثة في هذه المدة من نزول القرآن، على أن أول سورة اقرأ باسم ربك، يشهد على أنها أول سورة نزلت و أنها نزلت بمصاحبة البعثة، و كذا سورة المدثر تشهد أنها نزلت في أول الدعوة و كيف كان فمن المستبعد جدا أن تكون أول آية نزلت في شهر رمضان، على أن قوله تعالى: أنزل فيه القرآن، غير صريح الدلالة على أن المراد بالقرآن أول نازل منه و لا قرينة تدل عليه في الكلام فحمله عليه تفسير من غير دليل، و نظير هذه الآية قوله تعالى: «و الكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين»: الدخان - 3، و قوله: «إنا أنزلناه في ليلة القدر:» القدر - 1، فإن ظاهر هذه الآيات لا يلائم كون المراد من إنزال القرآن أول إنزاله أو إنزال أول بعض من أبعاضه و لا قرينة في الكلام تدل على ذلك.

و الذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب أمر آخر فإن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنما عبرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدال على الدفعة دون التنزيل كقوله تعالى: «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن:» البقرة - 185 و قوله تعالى: «حم. و الكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة»: الدخان - 3، و قوله تعالى: «إنا أنزلناه في ليلة القدر»: القدر - 1، و اعتبار الدفعة إما بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النازل منه كقوله تعالى: «كماء أنزلناه من السماء»: يونس - 24 فإن المطر إنما ينزل تدريجا لكن النظر هاهنا معطوف إلى أخذه مجموعا واحدا، و لذلك عبر عنه بالإنزال دون التنزيل، و كقوله تعالى: «كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته»: ص - 29، و إما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يقضى فيه بالتفرق و التفصيل و الانبساط و التدريج هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي و نازلا بالإنزال دون التنزيل... و هذا الاحتمال الثاني هو اللائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى: «كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير»: هود - 1، فإن هذا الإحكام مقابل التفصيل، و التفصيل هو جعله فصلا فصلا و قطعة قطعة فالإحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء و لا يتميز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء و لا فصول فيه، و الآية ناطقة بأن هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنما طرأ عليه بعد كونه محكما غير مفصل.

و أوضح منه قوله تعالى: «و لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى و رحمة لقوم يؤمنون، هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق:» الأعراف - 53، و قوله تعالى: و ما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله و لكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين - إلى أن قال: - بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله: يونس - 39 فإن الآيات الشريفة و خاصة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على أن التفصيل أمر طار على الكتاب فنفس الكتاب شيء و التفصيل الذي يعرضه شيء آخر، و أنهم إنما كذبوا بالتفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشيء يئول إليه هذا التفصيل و غافلين عنه، و سيظهر لهم يوم القيامة و يضطرون إلى علمه فلا ينفعهم الندم و لات حين مناص و فيها إشعار بأن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب.

و أوضح منه قوله تعالى: حم و الكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم: الزخرف - 4 فإنه ظاهر في أن هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربيا، و إنما ألبس لباس القراءة و العربية ليعقله الناس و إلا فإنه - و هو في أم الكتاب - عند الله، علي لا يصعد إليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل و فصل.

و في الآية تعريف للكتاب المبين و أنه أصل القرآن العربي المبين، و في هذا المساق أيضا قوله تعالى: فلا أقسم بمواقع النجوم و إنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين: الواقعة - 80، فإنه ظاهر في أن للقرآن موقعا هو في الكتاب المكنون لا يمسه هناك أحد إلا المطهرون من عباد الله و أن التنزيل بعده، و أما قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار و هو الذي عبر عنه في آيات الزخرف، بأم الكتاب، و في سورة البروج، باللوح المحفوظ، حيث قال تعالى: بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ: البروج - 22، و هذا اللوح إنما كان محفوظا لحفظه من ورود التغير عليه، و من المعلوم أن القرآن المنزل تدريجا لا يخلو عن ناسخ و منسوخ و عن التدريج الذي هو نحو من التبدل، فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن و حكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل، و إنما هذا بمنزلة اللباس لذاك.

ثم إن هذا المعنى أعني: كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين - و نحن نسميه بحقيقة الكتاب - بمنزلة اللباس من المتلبس و بمنزلة المثال من الحقيقة و بمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحح لأن يطلق القرآن أحيانا على أصل الكتاب كما في قوله تعالى: بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ، إلى غير ذلك و هذا الذي ذكرنا هو الموجب لأن يحمل قوله: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، و قوله: إنا أنزلناه في ليلة مباركة، و قوله.

إنا أنزلناه في ليلة القدر، على إنزال حقيقة الكتاب و الكتاب المبين إلى قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دفعة كما أنزل القرآن المفصل على قلبه تدريجا في مدة الدعوة النبوية.

و هذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى: «و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه»: طه - 114، و قوله تعالى: «لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه:» القيامة - 19، فإن الآيات ظاهرة في أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان له علم بما سينزل عليه فنهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي، و سيأتي توضيحه في المقام اللائق به - إن شاء الله تعالى -.

و بالجملة فإن المتدبر في الآيات القرآنية لا يجد مناصا عن الاعتراف بدلالتها: على كون هذا القرآن المنزل على النبي تدريجا متكئا على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامة أو تناولها أيدي الأفكار المتلوثة بألواث الهوسات و قذارات المادة، و أن تلك الحقيقة أنزلت على النبي إنزالا فعلمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه، و سيجيء بعض من الكلام المتعلق بهذا المعنى في البحث عن التأويل و التنزيل في قوله تعالى: «هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات:» آل عمران - 7 فهذا ما يهدي إليه التدبر و يدل عليه الآيات، نعم أرباب الحديث، و الغالب من المتكلمين و الحسيون من باحثي هذا العصر لما أنكروا أصالة ما وراء المادة المحسوسة اضطروا إلى حمل هذه الآيات و نظائرها كالدالة على كون القرآن هدى و رحمة و نورا و روحا و مواقع النجوم و كتابا مبينا، و في لوح محفوظ، و نازلا من عند الله، و في صحف مطهرة إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة و المجاز فعاد بذلك القرآن شعرا منثورا.

و لبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان: قال ما محصله: إنه لا ريب أن بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مقارنا لنزول أول ما نزل من القرآن و أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتبليغ و الإنذار، و لا ريب أن هذه الواقعة إنما وقعت بالليل لقوله تعالى: «إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين:» الدخان - 2، و لا ريب أن الليلة كانت من ليالي شهر رمضان لقوله تعالى: «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن:» البقرة - 185.

و جملة القرآن و إن لم تنزل في تلك الليلة لكن لما نزلت سورة الحمد فيها، و هي تشتمل على جمل معارف القرآن فكان كأن القرآن نزل فيها جميعا فصح أن يقال: أنزلناه في ليلة على أن القرآن يطلق على البعض كما يطلق على الكل بل يطلق القرآن على سائر الكتب السماوية أيضا كالتوراة و الإنجيل و الزبور باصطلاح القرآن قال: و ذلك: أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: اقرأ باسم ربك إلخ، نزل ليلة الخامس و العشرين من شهر رمضان، نزل و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قاصد دار خديجة في وسط الوادي يشاهد جبرائيل فأوحى إليه: قوله تعالى: اقرأ باسم ربك الذي خلق إلخ، و لما تلقى الوحي خطر بباله أن يسأله: كيف يذكر اسم ربه فتراءى له و علمه بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين إلى آخر سورة الحمد، ثم علمه كيفية الصلاة ثم غاب عن نظره فصحا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يجد مما كان يشاهده أثرا إلا ما كان عليه من التعب الذي عرضه من ضغطة جبرائيل حين الوحي فأخذ في طريقه و هو لا يعلم أنه رسول من الله إلى الناس، مأمور بهدايتهم ثم لما دخل البيت نام ليلته من شدة التعب فعاد إليه ملك الوحي صبيحة تلك الليلة و أوحى إليه قوله تعالى: «يا أيها المدثر قم فأنذر الآيات:» المدثر - 2.

قال: فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان و مصادفة بعثته لليلة القدر: و أما ما يوجد في بعض كتب الشيعة من أن البعثة كانت يوم السابع و العشرين من شهر رجب فهذه الأخبار على كونها لا توجد إلا في بعض كتب الشيعة التي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة مخالفة للكتاب كما عرفت.

قال «و هناك روايات أخرى في تأييد هذه الأخبار تدل على أن معنى نزول القرآن في شهر رمضان: أنه نزل فيه قبل بعثة النبي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور و أملاه جبرائيل هناك على الملائكة حتى ينزل بعد البعثة على رسول الله، و هذه أوهام خرافية دست في الأخبار مردودة أولا بمخالفة الكتاب، و ثانيا أن مراد القرآن باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة و بالبيت المعمور هو كرة الأرض لعمرانه بسكون الإنسان فيه، انتهى ملخصا.

و لست أدري أي جملة من جمل كلامه - على فساده بتمام أجزائه - تقبل الإصلاح حتى تنطبق على الحق و الحقية بوجه؟ فقد اتسع الخرق على الراتق.

ففيه أولا: أن هذا التقول العجيب الذي تقوله في البعثة و نزول القرآن أول ما نزل و أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل عليه: اقرأ باسم ربك، و هو في الطريق، ثم نزلت عليه سورة الحمد ثم علم الصلاة، ثم دخل البيت و نام تعبانا، ثم نزلت عليه سورة المدثر صبيحة الليلة فأمر بالتبليغ، كل ذلك تقول لا دليل عليه لا آية محكمة و لا سنة قائمة، و إنما هي قصة تخيلية لا توافق الكتاب و لا النقل على ما سيجيء.

و ثانيا: أنه ذكر أن من المسلم أن البعثة و نزول القرآن و الأمر بالتبليغ مقارنة زمانا ثم فسر ذلك بأن النبوة ابتدأت بنزول القرآن، و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيا غير رسول ليلة واحدة فقط ثم في صبيحة الليلة أعطي الرسالة بنزول سورة المدثر، و لا يسعه، أن يستند في ذلك إلى كتاب و لا سنة، و ليس من المسلم ذلك.

أما السنة فلأن لازم ما طعن به في جوامع الشيعة بتأخر تأليفها عن وقوع الواقعة عدم الاعتماد على شيء من جوامع الحديث مطلقا إذ لا شيء من كتب الحديث مما ألفته العامة أو الخاصة إلا و تأليفه متأخر عن عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرنين فصاعدا فهذا في السنة، و التاريخ - على خلوه من هذه التفاصيل - حاله أسوأ و الدس الذي رمي به الحديث متطرق إليه أيضا.

و أما الكتاب فقصور دلالته على ما ذكره أوضح و أجلى بل دلالته على خلاف ما ذكره و تكذيب ما تقوله ظاهرة فإن سورة اقرأ باسم ربك - و هي أول سورة نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما ذكره أهل النقل، و يشهد به الآيات الخمس التي في صدرها و لم يذكر أحد أنها نزلت قطعات و لا أقل من احتمال نزولها دفعة - مشتملة على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي بمرأى من القوم و أنه كان منهم من ينهاه عن الصلاة و يذكر أمره في نادي القوم و لا ندري كيف كانت هذه الصلاة التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتقرب بها إلى ربه في بادىء أمره إلا ما تشتمل عليه هذه السورة من أمر السجدة قال تعالى فيها: «أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أ رأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أ رأيت إن كذب و تولى أ لم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية:» العلق - 18، فالآيات كما ترى ظاهرة في أنه كان هناك من ينهى مصليا عن الصلاة، و يذكر أمره في النادي، و لا ينتهي عن فعاله، و قد كان هذا المصلي هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدليل قوله تعالى بعد ذلك: «كلا لا تطعه:» العلق - 19.

فقد دلت السورة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصلي قبل نزول أول سورة من القرآن، و قد كان على الهدى و ربما أمر بالتقوى، و هذا هو النبوة و لم يسم أمره ذلك إنذارا، فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيا و كان يصلي و لما ينزل عليه قرآن و لا نزلت بعد عليه سورة الحمد و لما يؤمر بالتبليغ.

و أما سورة الحمد فإنها نزلت بعد ذلك بزمان، و لو كان نزولها عقيب نزول سورة العلق بلا فصل عن خطور في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ذكره هذا الباحث لكان حق الكلام أن يقال: قل بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين إلخ، أو يقال: بسم الله الرحمن الرحيم قل: الحمد لله رب العالمين إلخ و لكان من الواجب أن يختم الكلام في قوله تعالى: مالك يوم الدين، لخروج بقية الآيات عن الغرض كما هو الأليق ببلاغة القرآن الشريف.

نعم وقع في سورة الحجر - و هي من السور المكية كما تدل عليه مضامين آياتها، و سيجيء بيانه - قوله تعالى: «و لقد آتيناك سبعا من المثاني و القرآن العظيم:» الحجر - 87.

و المراد بالسبع المثاني سورة الحمد و قد قوبل بها القرآن العظيم و فيه تمام التجليل لشأنها و التعظيم لخطرها لكنها لم تعد قرآنا بل سبعا من آيات القرآن و جزءا منه بدليل قوله تعالى: «كتابا متشابها مثاني الآية:» الزمر - 23.

و مع ذلك فاشتمال السورة على ذكر سورة الحمد يدل على سبق نزولها نزول سورة الحجر و السورة مشتملة أيضا على قوله تعالى: «فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزءين الآيات:» الحجر - 95، و يدل ذلك على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد كف عن الإنذار مدة ثم أمر به ثانيا بقوله تعالى: فاصدع.

و أما سورة المدثر و ما تشتمل عليه من قوله: قم فأنذر: المدثر - 2، فإن كانت السورة نازلة بتمامها دفعة كان حال هذه الآية قم فأنذر، حال قوله تعالى: فاصدع بما تؤمر الآية، لاشتمال هذه السورة أيضا على قوله تعالى: «ذرني و من خلقت وحيدا إلى آخر الآيات:» المدثر - 11، و هي قريبة المضمون من قوله في سورة الحجر: و أعرض عن المشركين إلخ، و إن كانت السورة نازلة نجوما فظاهر السياق أن صدرها قد نزل في بدء الرسالة.

و ثالثا: أن قوله: إن الروايات الدالة على نزول القرآن في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور جملة واحدة قبل البعثة ثم نزول الآيات نجوما على رسول الله أخبار مجعولة خرافية لمخالفتها الكتاب و عدم استقامة مضمونها، و أن المراد باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة و بالبيت المعمور كرة الأرض خطأ و فرية.

أما أولا: فلأنه لا شيء من ظاهر الكتاب يخالف هذه الأخبار على ما عرفت.

و أما ثانيا: فلأن الأخبار خالية عن كون النزول الجملي قبل البعثة بل الكلمة مما أضافها هو إلى مضمونها من غير تثبت.

و أما ثالثا: فلأن قوله: إن اللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة تفسير شنيع - و أنه أضحوكة - و ليت شعري: ما هو الوجه المصحح على قوله - لتسمية عالم الطبيعة في كلامه تعالى لوحا محفوظا؟ أ ذلك لكون هذا العالم محفوظا عن التغير و التحول؟ فهو عالم الحركات، سيال الذات، متغير الصفات! أو لكونه محفوظا عن الفساد تكوينا أو تشريعا؟ فالواقع خلافه! أو لكونه محفوظا عن اطلاع غير أهله عليه؟ كما يدل عليه: قوله تعالى: إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون:» الواقعة - 79، فإدراك المدركين فيه على السواء!.

و بعد اللتيا و التي: لم يأت هذا الباحث في توجيهه نزول القرآن في شهر رمضان بوجه محصل يقبله لفظ الآية، فإن حاصل توجيهه: أن معنى: أنزل فيه القرآن: كأنما أنزل فيه القرآن، و معنى: إنا أنزلناه في ليلة: كأنا أنزلناه في ليلة، و هذا شيء لا يحتمله اللغة و العرف لهذا السياق!.

و لو جاز لقائل أن يقول: نزل القرآن ليلة القدر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لنزول سورة الفاتحة المشتملة على جمل معارف القرآن جاز أن يقال: إن معنى نزول القرآن نزوله جملة واحدة، أي نزول إجمال معارفه على قلب رسول الله من غير مانع يمنع كما مر بيانه سابقا.

و في كلامه جهات أخرى من الفساد تركنا البحث عنها لخروجه عن غرضنا في المقام.

قوله تعالى: هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان، الناس، و هم الطبقة الدانية من الإنسان الذين سطح فهمهم المتوسط أنزل السطوح، يكثر إطلاق هذه الكلمة في حقهم، كما قال تعالى: «و لكن أكثر الناس لا يعلمون:» الروم - 30، و قال تعالى: «و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون:» العنكبوت - 43، و هؤلاء أهل التقليد لا يسعهم تمييز الأمور المعنوية بالبينة و البرهان، و لا فرق الحق من الباطل بالحجة إلا بمبين يبين لهم و هاد يهديهم، و القرآن هدى لهم و نعم الهدى، و أما الخاصة المستكملون في ناحيتي العلم و العمل، المستعدون للاقتباس من أنوار الهداية الإلهية و الركون إلى فرقان الحق فالقرآن بينات و شواهد من الهدى و الفرقان في حقهم فهو يهديهم إليه و يميز لهم الحق و يبين لهم كيف يميز، قال تعالى: «يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور و يهديهم إلى صراط مستقيم:» المائدة - 16.

و من هنا يظهر وجه التقابل بين الهدى و البينات من الهدى، و هو التقابل بين العام و الخاص فالهدى لبعض و البينات من الهدى لبعض آخر.

قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، الشهادة هي الحضور مع تحمل العلم من جهته، و شهادة الشهر إنما هو ببلوغه و العلم به، و يكون بالبعض كما يكون بالكل.

و أما كون المراد بشهود الشهر رؤية هلاله و كون الإنسان بالحضر مقابل السفر فلا دليل عليه إلا من طريق الملازمة في بعض الأوقات بحسب القرائن، و لا قرينة في الآية.

قوله تعالى: و من كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، إيراد هذه الجملة في الآية ثانيا ليس من قبيل التكرار للتأكيد و نحوه لما عرفت أن الآيتين السابقتين مع ما تشتملان عليه مسوقتان للتوطئة و التمهيد دون بيان الحكم و أن الحكم هو الذي بين في الآية الثالثة فلا تكرار.

قوله تعالى: يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر و لتكملوا العدة، كأنه بيان لمجموع حكم الاستثناء: و هو الإفطار في شهر رمضان لمكان نفي العسر، و صيام عدة من أيام أخر لمكان وجوب إكمال العدة، و اللام في قوله: لتكملوا العدة، للغاية، و هو عطف على قوله: يريد، لكونه مشتملا على معنى الغاية، و التقدير و إنما أمرناكم بالإفطار و القضاء لنخفف عنكم و لتكملوا العدة، و لعل إيراد قوله: و لتكملوا العدة هو الموجب لإسقاط معنى قوله: و على الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، عن هذه الآية مع تفهم حكمه بنفي العسر و ذكره في الآية السابقة.

يتبع...


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

قوله تعالى: و لتكبروا الله على ما هديكم و لعلكم تشكرون، ظاهر الجملتين على ما يشعر به لام الغاية أنهما لبيان الغاية غاية أصل الصيام دون حكم الاستثناء فإن تقييد قوله: شهر رمضان بقوله: الذي أنزل فيه القرآن إلى آخره مشعر بنوع من العلية و ارتباط فرض صيام شهر رمضان بنزول القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان فيعود معنى الغاية إلى أن التلبس بالصوم لإظهار كبريائه تعالى بما نزل عليهم القرآن و أعلن ربوبيته و عبوديتهم، و شكر له بما هداهم إلى الحق، و فرق لهم بكتابه بين الحق و الباطل.

و لما كان الصوم إنما يتصف بكونه شكرا لنعمه إذا كان مشتملا على حقيقة معنى الصوم و هو الإخلاص لله سبحانه في التنزه عن ألواث الطبيعة و الكف عن أعظم مشتهيات النفس بخلاف اتصافه بالتكبير لله فإن صورة الصوم و الكف سواء اشتمل على إخلاص النية أو لم يشتمل يدل على تكبيره تعالى و تعظيمه فرق بين التكبير و الشكر فقرن الشكر بكلمة الترجي دون التكبير فقال: و لتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون كما قال: في أول الآيات: لعلكم تتقون.

بحث روائي

في الحديث القدسي، قال الله تعالى: الصوم لي و أنا أجزي به.

أقول: و قد رواه الفريقان على اختلاف يسير، و الوجه في كون الصوم لله سبحانه أنه هو العبادة الوحيدة التي تألفت من النفي، و غيره كالصلاة و الحج و غيرهما متألف من الإثبات أو لا يخلو من الإثبات، و الفعل الوجودي لا يتمحض في إظهار عبودية العبد و لا ربوبية الرب سبحانه، لأنه لا يخلو عن شوب النقص المادي و آفة المحدودية و إثبات الإنية و يمكن أن يجعل لغيره تعالى نصيب فيه كما في موارد الرياء و السمعة و السجدة لغيره بخلاف النفي الذي يشتمل عليه الصوم بالتعا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 5:54 am

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

بيان

قوله تعالى: و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون و أرق أسلوب و أجمله فقد وضع أساسه على التكلم وحده دون الغيبة و نحوها، و فيه دلالة على كمال العناية بالأمر، ثم قوله: عبادي، و لم يقل: الناس و ما أشبهه يزيد في هذه العناية، ثم حذف الواسطة في الجواب حيث قال: فإني قريب و لم يقل فقل إنه قريب، ثم التأكيد بإن، ثم الإتيان بالصفة دون الفعل الدال على القرب ليدل على ثبوت القرب و دوامه، ثم الدلالة على تجدد الإجابة و استمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدال عليهما، ثم تقييده الجواب أعني قوله: أجيب دعوة الداع بقوله: إذا دعان، و هذا القيد لا يزيد على قوله: دعوة الداع المقيد به شيئا بل هو عينه، و فيه دلالة على أن دعوة الداع مجابة من غير شرط و قيد كقوله تعالى: «ادعوني أستجب لكم»: المؤمن - 60، فهذه سبع نكات في الآية تنبىء بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء و العناية بها، مع كون الآية قد كرر فيها - على إيجازها - ضمير المتكلم سبع مرات، و هي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف.

و الدعاء و الدعوة توجيه نظر المدعو نحو الداعي، و السؤال جلب فائدة أو در من المسئول يرفع به حاجة السائل بعد توجيه نظره، فالسؤال بمنزلة الغاية من الدعاء و هو المعنى الجامع لجميع موارد السؤال كالسؤال لرفع الجهل و السؤال بمعنى الحساب و السؤال بمعنى الاستدرار و غيره.

ثم إن العبودية كما مر سابقا هي المملوكية و لا كل مملوكية بل مملوكية الإنسان فالعبد هو من الإنسان أو كل ذي عقل و شعور كما في الملك المنسوب إليه تعالى.

و ملكه تعالى يغاير ملك غيره مغايرة الجد مع الدعوى و الحقيقة مع المجاز فإنه تعالى يملك عباده ملكا طلقا محيطا بهم لا يستقلون دونه في أنفسهم و لا ما يتبع أنفسهم من الصفات و الأفعال و سائر ما ينسب إليهم من الأزواج و الأولاد و المال و الجاه و غيرها، فكل ما يملكونه من جهة إضافته إليهم بنحو من الأنحاء كما في قولنا: نفسه، و بدنه، و سمعه، و بصره، و فعله، و أثره، و هي أقسام الملك بالطبع و الحقيقة و قولنا: زوجه و ماله و جاهه و حقه، - و هي أقسام الملك بالوضع و الاعتبار - إنما يملكونه بإذنه تعالى في استقرار النسبة بينهم و بين ما يملكون أيا ما كان و تمليكه فالله عز اسمه، هو الذي أضاف نفوسهم و أعيانهم إليهم و لو لم يشاء لم يضف فلم يكونوا من رأس، و هو الذي جعل لهم السمع و الأبصار و الأفئدة، و هو الذي خلق كل شيء و قدره تقديرا.

فهو سبحانه الحائل بين الشيء و نفسه، و هو الحائل بين الشيء و بين كل ما يقارنه: من ولد أو زوج أو صديق أو مال أو جاه أو حق فهو أقرب إلى خلقه من كل شيء مفروض فهو سبحانه قريب على الإطلاق كما قال تعالى: «و نحن أقرب إليه منكم و لكن لا تبصرون:» الواقعة - 85، و قال تعالى: «و نحن أقرب إليه من حبل الوريد»: ق - 16، «و قال تعالى إن الله يحول بين المرء و قلبه»: الأنفال - 24، و القلب هو النفس المدركة.

و بالجملة فملكه سبحانه لعباده ملكا حقيقيا و كونهم عبادا له هو الموجب لكونه تعالى قريبا منهم على الإطلاق و أقرب إليهم من كل شيء عند القياس و هذا الملك الموجب لجواز كل تصرف شاء كيفما شاء من غير دافع و لا مانع يقضي أن لله سبحانه أن يجيب أي دعاء دعا به أحد من خلقه و يرفع بالإعطاء و التصرف حاجته التي سأله فيها فإن الملك عام، و السلطان و الإحاطة واقعتان على جميع التقادير من غير تقيد بتقدير دون تقدير لا كما يقوله اليهود: إن الله لما خلق الأشياء و قدر التقادير تم الأمر، و خرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتمه من القضاء، فلا نسخ و لا بداء و لا استجابة لدعاء لأن الأمر مفروغ عنه، و لا كما يقوله جماعة من هذه الأمة: أن لا صنع لله في أفعال عباده و هم القدرية الذين سماهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مجوس هذه الأمة فيما رواه الفريقان من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): القدرية مجوس هذه الأمة.

بل الملك لله سبحانه على الإطلاق و لا يملك شيء شيئا إلا بتمليك منه سبحانه و إذن فما شاءه و ملكه و أذن في وقوعه، يقع، و ما لم يشأ و لم يملك و لم يأذن فيه لا يقع و إن بذل في طريق وقوعه كل جهد و عناية، قال تعالى: «يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني:» الفاطر - 15.

فقد تبين: أن قوله تعالى: و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، كما يشتمل على الحكم أعني إجابة الدعاء كذلك يشتمل على علله فكون الداعين عبادا لله تعالى هو الموجب لقربه منهم، و قربه منهم هو الموجب لإجابته المطلقة لدعائهم و إطلاق الإجابة يستلزم إطلاق الدعاء فكل دعاء دعي به فإنه مجيبه إلا أن هاهنا أمرا و هو أنه تعالى قيد قوله: أجيب دعوة الداع بقوله إذا دعان، و هذا القيد غير الزائد على نفس المقيد بشيء يدل على اشتراط الحقيقة دون التجوز و الشبه، فإن قولنا: أصغ إلى قول الناصح إذا نصحك أو أكرم العالم إذا كان عالما يدل على لزوم اتصافه بما يقتضيه حقيقة فالناصح إذا قصد النصح بقوله فهو الذي يجب الإصغاء إلى قوله و العالم إذا تحقق بعلمه و عمل بما علم كان هو الذي يجب إكرامه فقوله تعالى إذا دعان، يدل على أن وعد الإجابة المطلقة، إنما هو إذا كان الداعي داعيا بحسب الحقيقة مريدا بحسب العلم الفطري و الغريزي مواطئا لسانه قلبه، فإن حقيقة الدعاء و السؤال هو الذي يحمله القلب و يدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أدير صدقا أو كذبا جدا أو هزلا حقيقة أو مجازا، و لذلك ترى أنه تعالى عد ما لا عمل للسان فيه سؤالا، قال تعالى: «و آتاكم من كل ما سألتموه و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار:» إبراهيم - 34، فهم فيما لا يحصونها من النعم داعون سائلون و لم يسألوها بلسانهم الظاهر، بل بلسان فقرهم و استحقاقهم لسانا فطريا وجوديا، و قال تعالى: «يسأله من في السموات و الأرض كل يوم هو في شأن:» الرحمن - 29، و دلالته على ما ذكرنا أظهر و أوضح.

فالسؤال الفطري من الله سبحانه لا يتخطى الإجابة، فما لا يستجاب من الدعاء و لا يصادف الإجابة فقد فقد أحد أمرين و هما اللذان ذكرهما بقوله: دعوة الداع إذا دعان.

فإما أن يكون لم يتحقق هناك دعاء، و إنما التبس الأمر على الداعي التباسا كان يدعو الإنسان فيسأل ما لا يكون و هو جاهل بذلك أو ما لا يريده لو انكشف عليه حقيقة الأمر مثل أن يدعو و يسأل شفاء المريض لا إحياء الميت، و لو كان استمكنه و دعا بحياته كما كان يسأله الأنبياء لأعيدت حياته و لكنه على يأس من ذلك، أو يسأل ما لو علم بحقيقته لم يسأله فلا يستجاب له فيه.

و إما أن السؤال متحقق لكن لا من الله وحده كمن يسأل الله حاجة من حوائجه و قلبه متعلق بالأسباب العادية أو بأمور وهمية توهمها كافية في أمره أو مؤثرة في شأنه فلم يخلص الدعاء لله سبحانه فلم يسأل الله بالحقيقة فإن الله الذي يجيب الدعوات هو الذي لا شريك له في أمره، لا من يعمل بشركة الأسباب و الأوهام، فهاتان الطائفتان من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب و إن أخلصوه بلسانهم.

فهذا ملخص القول في الدعاء على ما تفيده الآية، و به يظهر معاني سائر الآيات النازلة في هذا الباب كقوله تعالى: «قل ما يعبؤ بكم ربي لو لا دعاؤكم»: الفرقان - 77 و قوله تعالى: «قل أ رأيتم إن أتيكم عذاب الله بغتة أو أتتكم الساعة أ غير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء و تنسون ما كنتم تشركون:» الأنعام - 41، و قوله تعالى: «قل من ينجيكم في ظلمات البر و البحر تدعونه تضرعا و خفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها و من كل كرب ثم أنتم تشركون: الأنعام - 64، فالآيات دالة على أن للإنسان دعاء غريزيا و سؤالا فطريا يسأل به ربه، غير أنه إذا كان في رخاء و رفاه تعلقت نفسه بالأسباب فأشركها لربه، فالتبس عليه الأمر و زعم أنه لا يدعو ربه و لا يسأل عنه، مع أنه لا يسأل غيره فإنه على الفطرة و لا تبديل لخلق الله تعالى، و لما وقع الشدة و طارت الأسباب عن تأثيرها و فقدت الشركاء و الشفعاء تبين له أن لا منجح لحاجته و لا مجيب لمسألته إلا الله، فعاد إلى توحيده الفطري و نسي كل سبب من الأسباب، و وجه وجهه نحو الرب الكريم فكشف شدته و قضى حاجته و أظله بالرخاء، ثم إذا تلبس به ثانيا عاد إلى ما كان عليه أولا من الشرك و النسيان.

و كقوله تعالى: «و قال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين:» المؤمن - 60، و الآية تدعو إلى الدعاء و تعد بالإجابة و تزيد على ذلك حيث تسمي الدعاء عبادة بقولها: عن عبادتي أي عن دعائي، بل تجعل مطلق العبادة دعاء حيث إنها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار و الوعيد بالنار إنما هو على ترك العبادة رأسا لا على ترك بعض أقسامه دون بعض فأصل العبادة دعاء فافهم ذلك.

و بذلك يظهر معنى آيات أخر من هذا الباب كقوله تعالى: «فادعوا الله مخلصين له الدين»: المؤمن - 14، و قوله تعالى: «و ادعوه خوفا و طمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين»: الأعراف - 56، و قوله تعالى: «و يدعوننا رغبا و رهبا و كانوا لنا خاشعين»: الأنبياء - 90، و قوله تعالى: «ادعوا ربكم تضرعا و خفية إنه لا يحب المعتدين»: الأعراف - 55، و قوله تعالى: «إذ نادى ربه نداء خفيا، إلى قوله، و لم أكن بدعائك رب شقيا»: مريم - 4، و قوله تعالى: «و يستجيب الذين آمنوا و عملوا الصالحات و يزيدهم من فضله:» الشورى - 26، إلى غير ذلك من الآيات المناسبة، و هي تشتمل على أركان الدعاء و آداب الداعي، و عمدتها الإخلاص في دعائه تعالى و هو مواطاة القلب اللسان و الانقطاع عن كل سبب دون الله و التعلق به تعالى، و يلحق به الخوف و الطمع و الرغبة و الرهبة و الخشوع و التضرع و الإصرار و الذكر و صالح العمل و الإيمان و أدب الحضور و غير ذلك مما تشتمل عليه الروايات.

قوله تعالى: فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي، تفريع على ما يدل عليه الجملة السابقة عليه بالالتزام: إن الله تعالى قريب من عباده، لا يحول بينه و بين دعائهم شيء، و هو ذو عناية بهم و بما يسألونه منه، فهو يدعوهم إلى دعائه، و صفته هذه الصفة، فليستجيبوا له في هذه الدعوة، و ليقبلوا إليه، و ليؤمنوا به في هذا النعت، و ليوقنوا بأنه قريب مجيب لعلهم يرشدون في دعائه.

بحث روائي

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواه الفريقان: الدعاء سلاح المؤمن، و في عدة الداعي، في الحديث القدسي: يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك و ملح عجينك. و في المكارم، عنه (عليه السلام): الدعاء أفضل من قراءة القرآن لأن الله عز و جل قال: «قل ما يعبؤ بكم ربي لو لا دعاؤكم»،: و روي ذلك عن الباقر و الصادق (عليهما السلام). و في عدة الداعي، في رواية محمد بن عجلان عن محمد بن عبيد الله بن علي بن الحسين عن ابن عمه الصادق عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه: و عزتي و جلالي لأقطعن أمل كل آمل أمل غيري بالإياس و لأكسونه ثوب المذلة في الناس و لأبعدنه من فرجي و فضلي، أ يأمل عبدي في الشدائد غيري، و الشدائد بيدي و يرجو سوائي و أنا الغني الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب و هي مغلقة، و بابي مفتوح لمن دعاني الحديث.

و في عدة الداعي، أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قال الله: ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السماوات و أسباب الأرض من دونه فإن سألني لم أعطه و إن دعاني لم أجبه، و ما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمنت السماوات و الأرض رزقه، فإن دعاني أجبته و إن سألني أعطيته و إن استغفرني غفرت له.

أقول: و ما اشتمل عليه الحديثان هو الإخلاص في الدعاء و ليس إبطالا لسببية الأسباب الوجودية التي جعلها الله تعالى وسائل متوسطة بين الأشياء و بين حوائجها الوجودية لا عللا فياضة مستقلة دون الله سبحانه، و للإنسان شعور باطني بذلك فإنه يشعر بفطرته أن لحاجته سببا معطيا لا يتخلف عنه فعله، و يشعر أيضا أن كل ما يتوجه إليه من الأسباب الظاهرية يمكن أن يتخلف عنه أثره فهو يشعر بأن المبدأ الذي يبتدىء عنه كل أمر، و الركن الذي يعتمد عليه و يركن إليه كل حاجة في تحققها و وجودها غير هذه الأسباب و لازم ذلك أن لا يركن الركون التام إلى شيء من هذه الأسباب بحيث ينقطع عن السبب الحقيقي و يعتصم بذلك السبب الظاهري، و الإنسان ينتقل إلى هذه الحقيقة بأدنى توجه و التفات فإذا سأل أو طلب شيئا من حوائجه فوقع ما طلبه كشف ذلك أنه سأل ربه و اتصل حاجته، التي شعر بها بشعوره الباطني من طريق الأسباب إلى ربه فاستفاض منه، و إذا طلب ذلك من سبب من الأسباب فليس ذلك من شعور فطري باطني و إنما هو أمر صوره له تخيله لعلل أوجبت هذا التخيل من غير شعور باطني بالحاجة، و هذا من الموارد التي يخالف فيها الباطن الظاهر.

و نظير ذلك: أن الإنسان كثيرا ما يحب شيئا و يهتم به حتى إذا وقع وجده ضارا بما هو أنفع منه و أهم و أحب فترك الأول و أخذ بالثاني، و ربما هرب من شيء حتى إذا صادفه وجده أنفع و خيرا مما كان يتحفظ به فأخذ الأول و ترك الثاني، فالصبي المريض إذا عرض عليه الدواء المر امتنع من شربه و أخذ بالبكاء و هو يريد الصحة، فهو بشعوره الباطني الفطري يسأل الصحة فيسأل الدواء و إن كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافه، فللإنسان في حياته نظام بحسب الفهم الفطري و الشعور الباطني و له نظام آخر بحسب تخيله و النظام الفطري لا يقع فيه خطاء و لا في سيره خبط، و أما النظام التخيلي فكثيرا ما يقع فيه الخطاء و السهو، فربما سأل الإنسان أو طلب بحسب الصورة الخيالية شيئا، و هو بهذا السؤال بعينه يسأل شيئا آخر أو خلافه، فعلى هذا ينبغي أن يقرر معنى الأحاديث، و هو اللائح من قول علي (عليه السلام) فيما سيأتي: أن العطية على قدر النية الحديث.

و في عدة الداعي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ادعوا الله و أنتم موقنون بالإجابة. و في الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي، فلا يظن بي إلا خيرا. أقول: و ذلك أن الدعاء مع اليأس أو التردد يكشف عن عدم السؤال في الحقيقة كما مر، و قد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون.

و في العدة، أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): افزعوا إلى الله في حوائجكم، و الجئوا إليه في ملماتكم، و تضرعوا إليه و ادعوه، فإن الدعاء مخ العبادة، و ما من مؤمن يدعو الله إلا استجاب فإما أن يعجله له في الدنيا أو يؤجل له في الآخرة، و إما أن يكفر له من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم. و في نهج البلاغة،: في وصية له (عليه السلام) لابنه الحسين (عليه السلام): ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه و استمطرت شئابيب رحمته، فلا يقنطنك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية، و ربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، و أجزل لعطاء الأمل، و ربما سألت الشيء فلا تؤتاه و أوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا أو صرف عنك لما هو خير لك، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، و ينفي عنك وباله، و المال لا يبقى لك و لا تبقى له. أقول: قوله: فإن العطية على قدر النية يريد (عليه السلام) به: أن الاستجابة تطابق الدعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره و حمله ظهر قلبه هو الذي يؤتاه، لا ما كشف عنه قوله و أظهره لفظه، فإن اللفظ ربما لا يطابق المعنى المطلوب كل المطابقة كما مر بيانه فهي أحسن جملة و أجمع كلمة لبيان الارتباط بين المسألة و الإجابة.

و قد بين (عليه السلام) بها عدة من الموارد التي يتراءى فيها تخلف الاستجابة عن الدعوة ظاهرا كالإبطاء في الإجابة، و تبديل المسئول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا، أو بما هو خير منه في الآخرة، أو صرفه إلى شيء آخر أصلح منه بحال السائل، فإن السائل ربما يسأل النعمة الهنيئة و لو أوتيها على الفور لم تكن هنيئة و على الرغبة فتبطىء إجابتها لأن السائل سأل النعمة الهنيئة فقد سأل الإجابة على بطء، و كذلك المؤمن المهتم بأمر دينه لو سأل ما فيه هلاك دينه و هو لا يعلم بذلك و يزعم أن فيه سعادته و إنما سعادته في آخرته فقد سأل في الحقيقة لآخرته لا دنياه فيستجاب لذلك فيها لا في الدنيا.

و في عدة الداعي، عن الباقر (عليه السلام): ما بسط عبد يده إلى الله عز و جل إلا استحيى الله أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضله و رحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه و وجهه، و في خبر آخر: على وجهه و صدره.

أقول: و قد روي في الدر المنثور، ما يقرب من هذا المعنى عن عدة من الصحابة كسلمان، و جابر، و عبد الله بن عمر، و أنس بن مالك، و ابن أبي مغيث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ثماني روايات، و في جميعها رفع اليدين في الدعاء فلا معنى لإنكار بعضهم رفع اليدين بالدعاء معللا بأنه من التجسم إذ رفع اليدين إلى السماء إيماء إلى أنه تعالى فيها - تعالى عن ذلك و تقدس -.

و هو قول فاسد، فإن حقيقة جميع العبادات البدنية هي تنزيل المعنى القلبي و التوجه الباطني إلى موطن الصورة، و إظهار الحقائق المتعالية عن المادة في قالب التجسم، كما هو ظاهر في الصلاة و الصوم و الحج و غير ذلك و أجزائها و شرائطها، و لو لا ذلك لم يستقم أمر العبادة البدنية، و منها الدعاء، و هو تمثيل التوجه القلبي و المسألة الباطنية بمثل السؤال الذي نعهده فيما بيننا من سؤال الفقير المسكين الداني من الغني المتعزز العالي حيث يرفع يديه بالبسط، و يسأل حاجته بالذلة و الضراعة، و قد روى الشيخ في المجالس و الأخبار مسندا عن محمد و زيد ابني علي بن الحسين عن أبيهما عن جدهما الحسين (عليهم السلام) عن النبي، و في عدة الداعي، مرسلا: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرفع يديه إذا ابتهل و دعا كما يستطعم المسكين. و في البحار، عن علي (عليه السلام): أنه سمع رجلا يقول اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، قال (عليه السلام): أراك تتعوذ من مالك و ولدك، يقول الله تعالى: «إنما أموالكم و أولادكم فتنة» و لكن قل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.

أقول: و هذا باب آخر في تشخيص معنى اللفظ و له نظائر في الروايات، و فيها: أن الحق في معنى كل لفظ هو الذي ورد منه في كلامه، و من هذا الباب ما ورد في الروايات في تفسير معنى الجزء و الكثير و غير ذلك.

و في عدة الداعي، عن الصادق (عليه السلام): أن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه. و في العدة، أيضا عن علي (عليه السلام): لا يقبل الله دعاء قلب لاه. أقول: و في هذا المعنى روايات أخر، و السر فيه عدم تحقق حقيقة الدعاء و المسألة في السهو و اللهو.

و في دعوات الراوندي،: في التوراة يقول الله عز و جل للعبد: إنك متى ظلمت تدعوني على عبد من عبيدي من أجل أنه ظلمك فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنك ظلمته فإن شئت أجبتك و أجبته فيك، و إن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة.

أقول: و ذلك أن من سأل شيئا لنفسه فقد رضي به و رضي بعين هذا الرضا بكل ما يماثله من جميع الجهات، فإذا دعا على من ظلمه بالانتقام فقد دعا عليه لأجل ظلمه فهو راض بالانتقام من الظالم، و إذا كان هو نفسه ظالما لغيره فقد دعا على نفسه بعين ما دعا لنفسه فإن رضي بالانتقام عن نفسه و لن يرضى أبدا عوقب بما يريده على غيره، و إن لم يرض بذلك لم يتحقق منه الدعاء حقيقة، قال تعالى: «و يدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير و كان الإنسان عجولا»: الإسراء - 11.

و في عدة الداعي،: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر: يا أبا ذر أ لا أعلمك كلمات ينفعك الله عز و جل بهن؟ قلت بلى يا رسول الله، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): احفظ الله يحفظك الله، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، و إذا سألت فاسأل الله، و إذا استعنت فاستعن بالله، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، و لو أن الخلق كلهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه.

أقول: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة: يعني ادع الله في الرخاء و لا تنسه حتى يستجيب دعاءك في الشدة و لا ينساك، و ذلك أن من نسي ربه في الرخاء فقد أذعن باستقلال الأسباب في الرخاء، ثم إذا دعا ربه في الشدة كان معنى عمله أنه يذعن بالربوبية في حال الشدة و على تقديرها، و ليس تعالى على هذه الصفة بل هو رب في كل حال و على جميع التقادير، فهو لم يدع ربه، و قد ورد هذا المعنى في بعض الروايات بلسان آخر، ففي مكارم الأخلاق، عن الصادق (عليه السلام): قال (عليه السلام): من تقدم في الدعاء استجيب له إذا نزل البلاء، و قيل: صوت معروف، و لم يحجب عن السماء، و من لم يتقدم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل البلاء و قالت الملائكة: إن ذا الصوت لا نعرفه الحديث، و هو المستفاد من إطلاق قوله تعالى: «نسوا الله فنسيهم:» التوبة - 67، و لا ينافي هذا ما ورد أن الدعاء لا يرد مع الانقطاع، فإن مطلق الشدة غير الانقطاع التام.

و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): و إذا سألت فاسأل الله و إذا استعنت فاستعن بالله، إرشاد إلى التعلق بالله في السؤال و الاستعانة بحسب الحقيقة فإن هذه الأسباب العادية التي بين أيدينا إنما سببيتها محدودة على ما قدر الله لها من الحد لا على ما يتراءى من استقلالها في التأثير بل ليس لها إلا الطريقية و الوساطة في الإيصال، و الأمر بيد الله تعالى، فإذن الواجب على العبد أن يتوجه في حوائجه إلى جناب العزة و باب الكبرياء و لا يركن إلى سبب بعد سبب، و إن كان أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها و هذه دعوة إلى عدم الاعتماد على الأسباب إلا بالله الذي أفاض عليها السببية لا أنها هداية إلى إلغاء الأسباب و الطلب من غير السبب فهو طمع فيما لا مطمع فيه، كيف و الداعي يريد ما يسأله بالقلب، و يسأل ما يريده باللسان و يستعين على ذلك بأركان وجوده و كل ذلك أسباب؟.

و اعتبر ذلك بالإنسان حيث يفعل ما يفعل بأدواته البدنية فيعطي ما يعطي بيده و يرى ما يرى ببصره و يسمع ما يسمع بأذنه فمن يسأل ربه بإلغاء الأسباب كان كمن سأل الإنسان أن يناوله شيئا من غير يد أو ينظر إليه من غير عين أو يستمع من غير أذن، و من ركن إلى سبب من دون الله سبحانه و تعالى كان كمن تعلق قلبه بيد الإنسان في إعطائه أو بعينه في نظرها أو بأذنه في سمعها و هو غافل معرض عن الإنسان الفاعل بذلك في الحقيقة فهو غافل مغفل، و ليس ذلك تقييدا للقدرة الإلهية غير المتناهية و لا سلبا للاختيار الواجبي، كما أن الانحصار الذي ذكرناه في الإنسان لا يوجب سلب القدرة و الاختيار عنه، لكون التحديد راجعا بالحقيقة إلى الفعل لا إلى الفاعل، إذ من الضروري أن الإنسان قادر على المناولة و الرؤية و السمع لكن المناولة لا يكون إلا باليد، و الرؤية و السمع هما اللذان يكونان بالعين و الأذن لا مطلقا، كذلك الواجب تعالى قادر على الإطلاق غير أن خصوصية الفعل يتوقف على توسط الأسباب فزيد مثلا و هو فعل لله هو الإنسان الذي ولده فلان و فلانة في زمان كذا و مكان كذا و عند وجود شرائط كذا و ارتفاع موانع كذا، لو تخلف واحد من هذه العلل و الشرائط لم يكن هو هو، فهو في إيجاده يتوقف على تحقق جميعها، و المتوقف هو الفعل دون الفاعل فافهم ذلك.

و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، تفريع على قوله: و إذا سألت فاسأل الله، من قبيل تعقيب المعلول بالعلة فهو بيان علة قوله: و إذا سألت، و سببه، و المعنى أن الحوادث مكتوبة مقدرة من عند الله تعالى لا تأثير لسبب من الأسباب فيها حقيقة، فلا تسأل غيره تعالى و لا تستعن بغيره تعالى، و أما هو تعالى: فسلطانه دائم و ملكه ثابت و مشيته نافذة و كل يوم هو في شأن، و لذلك عقب الجملة بقوله: و لو أن الخلق كلهم جهدوا إلخ.

و من أخبار الدعاء ما ورد عنهم مستفيضا: أن الدعاء من القدر.

أقول: و فيه جواب ما استشكله اليهود و غيرهم على الدعاء: أن الحاجة المدعو لها إما أن تكون مقضية مقدرة أو لا، و هي على الأول واجبة و على الثاني ممتنعة، و على أي حال لا معنى لتأثير الدعاء، و الجواب: أن فرض تقدير وجود الشيء لا يوجب استغناءه عن أسباب وجوده، و الدعاء من أسباب وجود الشيء فمع الدعاء يتحقق سبب من أسباب الوجود فيتحقق المسبب عن سببه، و هذا هو المراد بقولهم: إن الدعاء من القدر، و في هذا المعنى روايات أخر.

ففي البحار، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يرد القضاء إلا الدعاء. و عن الصادق (عليه السلام): الدعاء يرد القضاء بعد ما أبرم إبراما. و عن أبي الحسن موسى (عليه السلام): عليكم بالدعاء فإن الدعاء و الطلب إلى الله عز و جل يرد البلاء، و قد قدر و قضى فلم يبق إلا إمضاؤه فإذا دعي الله و سئل صرف البلاء صرفا. و عن الصادق (عليه السلام): أن الدعاء يرد القضاء المبرم و قد أبرم إبراما فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة و نجاح كل حاجة و لا ينال ما عند الله إلا بالدعاء فإنه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يفتح لصاحبه. أقول: و فيها إشارة إلى الإصرار و هو من محققات الدعاء، فإن كثرة الإتيان بالقصد يوجب صفاءه.

و عن إسماعيل بن همام عن أبي الحسن (عليه السلام): دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية.

أقول: و فيها إشارة إلى إخفاء الدعاء و إسراره فإنه أحفظ لإخلاص الطلب.

و في المكارم، عن الصادق (عليه السلام): لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلى على محمد و آل محمد.

و عن الصادق (عليه السلام) أيضا:، من قدم أربعين من المؤمنين ثم دعا استجيب له.

و عن الصادق (عليه السلام) أيضا: و قد قال له رجل من أصحابه إني لأجد آيتين في كتاب الله أطلبهما فلا أجدهما قال: فقال: و ما هما قلت: ادعوني أستجب لكم فندعوه فلا نرى إجابة، قال أ فترى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال فمه؟ قلت: لا أدري قال: لكني أخبرك من أطاع الله فيما أمر به ثم دعاه من جهة الدعاء أجابه، قلت: و ما جهة الدعاء؟ قال: تبدأ فتحمد الله و تمجده و تذكر نعمه عليك فتشكره ثم تصلي على محمد و آله ثم تذكر ذنوبك فتقر بها، ثم تستغفر منها فهذه جهة الدعاء، ثم قال: و ما الآية الأخرى؟ قلت: و ما أنفقتم من شيء فهو يخلفه و أراني أنفق و لا أرى خلفا، قال: أ فترى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال: فمه؟ قلت: لا أدري، قال: لو أن أحدكم اكتسب المال من حله و أنفق في حقه لم ينفق درهما إلا أخلف الله عليه.

أقول: و الوجه في هذه الأحاديث الواردة في آداب الدعاء ظاهرة فإنها تقرب العبد من حقيقة الدعاء و المسألة.

و في الدر المنثور، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله إذا أراد أن يستجيب لعبد أذن له في الدعاء.

و عن ابن عمر أيضا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، و في رواية: من فتح له في الدعاء منكم فتحت له أبواب الجنة.

أقول: و هذه المعنى مروي من طرق أئمة أهل البيت أيضا: من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، و معناه واضح مما مر.

و في الدر المنثور، أيضا عن معاذ بن جبل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال.

أقول: و ذلك أن الجهل بمقام الحق و سلطان الربوبية و الركون إلى الأسباب يوجب الإذعان بحقيقة التأثير للأسباب و قصر المعلولات على عللها المعهودة و أسبابها العادية حتى أن الإنسان ربما زال عن الإذعان بحقيقة التأثير للأسباب لكن يبقى الإذعان بتعين الطرق و وساطة الأسباب المتوسطة فإنا نرى أن الحركة و السير يوجب الاقتراب من المقصد ثم إذا زال منا الاعتقاد بحقيقة تأثير السير في الاقتراب اعتقدنا بأن السير واسطة و الله سبحانه و تعالى هو المؤثر هناك لكن يبقى الاعتقاد بتعين الوساطة و أنه لو لا السير لم يكن قرب و لا اقتراب، و بالجملة أن المسببات لا تتخلف عن أسبابها و إن لم يكن للأسباب إلا الوساطة دون التأثير، و هذا هو الذي لا يصدقه العلم بمقام الله سبحانه فإنه لا يلائم السلطنة التامة الإلهية، و هذا التوهم هو الذي أوجب أن نعتقد استحالة تخلف المسببات عن أسبابها العادية كالثقل و الانجذاب عن الجسم، و القرب عن الحركة، و الشبع عن الأكل، و الري عن الشرب، و هكذا، و قد مر في البحث عن الإعجاز أن ناموس العلية و المعلولية، و بعبارة أخرى توسط الأسباب بين الله سبحانه و بين مسبباتها حق لا مناص عنه لكنه لا يوجب قصر الحوادث على أسبابها العادية بل البحث العقلي النظري، و الكتاب و السنة تثبت أصل التوسط و تبطل الانحصار، نعم المحالات العقلية لا مطمع فيها.

إذا عرفت هذا علمت: أن العلم بالله يوجب الإذعان بأن ما ليس بمحال ذاتي من كل ما تحيله العادة فإن الدعاء مستجاب فيه كما أن العمدة من معجزات الأنبياء راجعة إلى استجابة الدعوة.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي يعلمون أني أقدر أن أعطيهم ما يسألوني.

و في المجمع، قال: و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال و ليؤمنوا بي أي و ليتحققوا أني قادر على إعطائهم ما سألوه لعلهم يرشدون، أي لعلهم يصيبون الحق، أي يهتدون إليه.


أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

بيان

قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، الإحلال بمعنى الإجازة، و أصله من الحل مقابل العقد، و الرفث هو التصريح بما يكنى عنه مما يستقبح ذكره، من الألفاظ التي لا تخلو عنها مباشرة النساء، و قد كني به هاهنا عن عمل الجماع و هو من أدب القرآن الكريم و كذا سائر الألفاظ المستعملة فيه في القرآن كالمباشرة و الدخول و المس و اللمس و الإتيان و القرب كلها ألفاظ مستعملة على طريق التكنية، و كذا لفظ الوطء و الجماع و غيرهما المستعملة في غير القرآن ألفاظ كنائية و إن أخرج كثرة الاستعمال بعضها من حد الكناية إلى التصريح، كما أن ألفاظ الفرج و الغائط بمعناهما المعروف اليوم من هذا القبيل، و تعدية الرفث بإلى لتضمينه معنى الإفضاء على ما قيل.

قوله تعالى: هن لباس لكم و أنتم لباس لهن، الظاهر من اللباس معناه المعروف و هو ما يستر به الإنسان بدنه، و الجملتان من قبيل الاستعارة فإن كلا من الزوجين يمنع صاحبه عن اتباع الفجور و إشاعته بين أفراد النوع فكان كل منهما لصاحبه لباسا يواري به سوأته و يستر به عورته.

و هذه استعارة لطيفة، و تزيد لطفا بانضمامها إلى قوله: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، فإن الإنسان يستر عورته عن غيره باللباس، و أما نفس اللباس فلا ستر عنه فكذا كل من الزوجين يتقي به صاحبه عن الرفث إلى غيره، و أما الرفث إليه فلا لأنه لباسه المتصل بنفسه المباشر له.

قوله تعالى: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم و عفا عنكم، الاختيان و الخيانة بمعنى، و فيه معنى النقص على ما قيل، و في قوله: أنكم تختانون، دلالة على معنى الاستمرار، فتدل الآية على أن هذه الخيانة كانت دائرة مستمرة بين المسلمين منذ شرع حكم الصيام فكانوا يعصون الله تعالى سرا بالخيانة لأنفسهم، و لو لم تكن هذه الخيانة منهم معصية لم ينزل التوبة و العفو، و هما و إن لم يكونا صريحين في سبق المعصية لكنهما، و خاصة إذا اجتمعا، ظاهران في ذلك.

و على هذا فالآية دالة على أن حكم الصيام كان قبل نزول الآية حرمة الجماع في ليلة الصيام، و الآية بنزولها شرعت الحلية و نسخت الحرمة كما ذكره جمع من المفسرين، و يشعر به أو يدل عليه قوله: أحل لكم، و قوله: كنتم تختانون، و قوله: فتاب عليكم و عفا عنكم، و قوله: فالآن باشروهن، إذ لو لا حرمة سابقة كان حق الكلام أن يقال: فلا جناح عليكم أن تباشروهن أو ما يؤدي هذا المعنى، و هو ظاهر.

و ربما يقال: إن الآية ليست بناسخة لعدم وجود حكم تحريمي في آيات الصوم بالنسبة إلى الجماع أو إلى الأكل و الشرب، بل الظاهر كما يشعر به بعض الروايات المروية من طرق أهل السنة و الجماعة، أن المسلمين لما نزل حكم فرض الصوم و سمعوا قوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم الآية، فهموا منه التساوي في الأحكام من جميع الجهات، و قد كانت النصارى كما قيل: إنما ينكحون و يأكلون و يشربون في أول الليل ثم يمسكون بعد ذلك فأخذ بذلك المسلمون، غير أن ذلك صعب عليهم، فكان الشبان منهم لا يكفون عن النكاح سرا مع كونهم يرونه معصية و خيانة لأنفسهم، و الشيوخ ربما أجهدهم الكف عن الأكل و الشرب بعد النوم، و ربما أخذ بعضهم النوم فحرم عليه الأكل و الشرب بزعمه فنزلت الآية فبينت أن النكاح و الأكل و الشرب غير محرمة عليهم بالليل في شهر رمضان، و ظهر بذلك: أن مراد الآية بالتشبيه في قوله تعالى: كما كتب على الذين من قبلكم، التشبيه في أصل فرض الصوم لا في خصوصياته، و أما قوله تعالى: أحل لكم فلا يدل على سبق حكم تحريمي بل على مجرد تحقق الحلية كما في قوله تعالى: «أحل لكم صيد البحر:» المائدة - 96، إذ من المعلوم أن صيد البحر لم يكن محرما على المحرمين قبل نزول الآية، و كذا قوله تعالى: «علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم»، إنما يعني به أنهم كانوا يخونون بحسب زعمهم و حسبانهم ذلك خيانة و معصية، و لذا قال: تختانون أنفسكم و لم يقل: تختانون الله كما قال: «لا تخونوا الله و رسوله و تخونوا أماناتكم:» الأنفال - 27، مع احتمال أن يراد بالاختيان النقص، و المعنى علم الله أنكم كنتم تنقصون أنفسكم حظوظها من المشتهيات من نكاح و غيره، و كذا قوله تعالى: فتاب عليكم و عفا عنكم، غير صريح في كون النكاح معصية محرمة هذا.

و فيه ما عرفت: أن ذلك خلاف ظاهر الآية فإن قوله تعالى: أحل لكم، و قوله: كنتم تختانون أنفسكم، و قوله: فتاب عليكم و عفا عنكم، و إن لم تكن صريحة في النسخ غير أن لها كمال الظهور في ذلك، مضافا إلى قوله تعالى: فالآن باشروهن «إلخ»، إذ لو لم يكن هناك إلا جواز مستمر قبل نزول الآية و بعدها لم يكن لهذا التعبير وجه ظاهر، و أما عدم اشتمال آيات الصوم السابقة على هذه الآية على حكم التحريم فلا ينافي كون الآية ناسخة فإنها لم تبين سائر أحكام الصوم أيضا مثل حرمة النكاح و الأكل و الشرب في نهار الصيام، و من المعلوم أن رسول الله كان قد بينه للمسلمين قبل نزول هذه الآية فلعله كان قد بين هذا الحكم فيما بينه من الأحكام، و الآية تنسخ ما بينه الرسول و إن لم تشتمل كلامه تعالى على ذلك.

فإن قلت: قوله تعالى: هن لباس لكم و أنتم لباس لهن، يدل على سبب تشريع جواز الرفث فلا بد أن لا يعم الناسخ و المنسوخ لبشاعة أن يعلل النسخ بما يعم الناسخ و المنسوخ معا و إن قلنا: إن هذه التعليلات الواقعة في موارد الأحكام حكم و مصالح لا علل، و لا يلزم في الحكمة أن تكون جامعة و مانعة كالعلل فلو كان الرفث محرما قبل نزول الآية ثم نسخ بالآية المحللة لم يصلح تعليل نسخ التحريم بأن الرجال لباس للنساء و هن لباس لهم.

قلت: أولا إنه منقوض بتقييد قوله: أحل لكم بقوله: ليلة الصيام مع أن حكم اللباس جار في النهار كالليل و هو محرم في النهار، و ثانيا: أن القيود المأخوذة في الآية من قوله: ليلة الصيام، و قوله: هن لباس لكم، و قوله: أنكم كنتم تختانون أنفسكم، تدل على علل ثلاث مترتبة يترتب عليها الحكم المنسوخ و الناسخ فكون أحد الزوجين لباسا للآخر يوجب أن يجوز الرفث بينهما مطلقا، ثم حكم الصيام المشار إليه بقوله: ليلة الصيام، و الصيام هو الكف و الإمساك عن مشتهيات النفس من الأكل و الشرب و النكاح يوجب تقييد جواز الرفث و صرفه إلى غير مورد الصيام، ثم صعوبة كف النفس عن النكاح شهرا كاملا عليهم و وقوعهم في معصية مستمرة و خيانة جارية يوجب تسهيلا ما عليهم بالترخيص في ذلك ليلا، و بذلك يعود إطلاق حكم اللباس المقيد بالصيام إلى بعض إطلاقه و هو أن يعمل به ليلا لا نهارا، و المعنى و الله أعلم: أن إطلاق حكم اللباس الذي قيدناه بالصيام ليلا و نهارا و حرمناه عليكم حللناه لكم لما علمنا أنكم تختانون أنفسكم فيه و أردنا التخفيف عنكم رأفة و رحمة، و أعدنا إطلاق ذلك الحكم عليه في ليلة الصيام و قصرنا حكم الصيام على النهار فأتموا الصيام إلى الليل.

و الحاصل: أن قوله تعالى: هن لباس لكم و أنتم لباس لهن، و إن كان علة أو حكمة لإحلال أصل الرفث إلا أن الغرض في الآية ليس متوجها إليه بل الغرض فيها بيان حكمة جواز الرفث ليلة الصيام و هو مجموع قوله: هن لباس لكم إلى قوله: و عفا عنكم، و هذه الحكمة مقصورة على الحكم الناسخ و لا يعم المنسوخ قطعا.

قوله تعالى: فالآن باشروهن و ابتغوا ما كتب الله لكم، أمر واقع بعد الحظر فيدل على الجواز، و قد سبقه قوله تعالى: في أول الآية: أحل لكم و المعنى فمن الآن تجوز لكم مباشرتهن، و الابتغاء هو الطلب، و المراد بابتغاء ما كتب الله هو طلب الولد الذي كتب الله سبحانه ذلك على النوع الإنساني من طريق المباشرة، و فطرهم على طلبه بما أودع فيهم من شهوة النكاح و المباشرة، و سخرهم بذلك على هذا العمل فهم يطلبون بذلك ما كتب الله لهم و إن لم يقصدوا ظاهرا إلا ركوب الشهوة و نيل اللذة كما أنه تعالى كتب لهم بقاء الحياة و النمو بالأكل و الشرب و هو المطلوب الفطري و إن لم يقصدوا بالأكل و الشرب إلا الحصول على لذة الذوق و الشبع و الري، فإنما هو تسخير إلهي.

و أما ما قيل: إن المراد بما كتب الله لهم الحل و الرخصة فإن الله يحب أن يؤخذ برخصة كما يحب أن يؤخذ بعزائمه، فيبعده: أن الكتابة في كلامه غير معهودة في مورد الحلية و الرخصة.

قوله تعالى: و كلوا و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، الفجر فجران، فجر أول يسمى بالكاذب لبطلانه بعد مكث قليل و بذنب السرحان لمشابهته ذنب الذئب إذا شاله، و عمود شعاعي يظهر في آخر الليل في ناحية الأفق الشرقي إذا بلغت فاصلة الشمس من دائرة الأفق إلى ثمانية عشر درجة تحت الأفق، ثم يبطل بالاعتراض فيكون معترضا مستطيلا على الأفق كالخيط الأبيض الممدود عليه و هو الفجر الثاني، و يسمى الفجر الصادق لصدقه فيما يحكيه و يخبر به من قدوم النهار و اتصاله بطلوع الشمس.

و من هنا يعلم أن المراد بالخيط الأبيض هو الفجر الصادق، و أن كلمة من، بيانية و أن قوله تعالى: حتى يتبين لكم الخيط الأسود من قبيل الاستعارة بتشبيه البياض المعترض على الأفق من الفجر، المجاور لما يمتد معترضا معه من سواد الليل بخيط أبيض يتبين من الخيط الأسود. و من هنا يعلم أيضا: أن المراد هو التحديد بأول حين من طلوع الفجر الصادق فإن ارتفاع شعاع بياض النهار يبطل الخيطين فلا خيط أبيض و لا خيط أسود.

قوله تعالى: ثم أتموا الصيام إلى الليل، لما دل التحديد بالفجر على وجوب الصيام إلى الليل بعد تبينه استغنى عن ذكره إيثارا للإيجاز بل تعرض لتحديده بإتمامه إلى الليل، و في قوله: أتموا دلالة على أنه واحد بسيط و عبادة واحدة تامة من غير أن تكون مركبة من أمور عديدة كل واحد منها عبادة واحدة، و هذا هو الفرق بين التمام و الكمال حيث إن الأول انتهاء وجود ما لا يتألف من أجزاء ذوات آثار و الثاني انتهاء وجود ما لكل من أجزائه أثر مستقل وحده، قال تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي:» المائدة - 3، فإن الدين مجموع الصلاة و الصوم و الحج و غيرها التي لكل منها أثر يستقل به، بخلاف النعمة على ما سيجيء بيانه إن شاء الله في الكلام على الآية.

قوله تعالى: و لا تباشروهن و أنتم عاكفون في المساجد، العكوف و الاعتكاف هو اللزوم و الاعتكاف بالمكان الإقامة فيه ملازما له.

و الاعتكاف عبادة خاصة من أحكامها لزوم المسجد و عدم الخروج منه إلا لعذر و الصيام معه، و لذلك صح أن يتوهم جواز مباشرة النساء في ليالي الاعتكاف في المسجد بتشريع جواز الرفث ليلة الصيام فدفع هذا الدخل بقوله تعالى: و لا تباشروهن و أنتم عاكفون في المساجد.

قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تقربوها، أصل الحد هو المنع و إليه يرجع جميع استعمالاته و اشتقاقاته كحد السيف و حد الفجور و حد الدار و الحديد إلى غير ذلك، و النهي عن القرب من الحدود كناية عن عدم اقترافها و التعدي إليها، أي لا تقترفوا هذه المعاصي التي هي الأكل و الشرب و المباشرة أو لا تتعدوا عن هذه الأحكام و الحرمات الإلهية التي بينها لكم و هي أحكام الصوم بإضاعتها و ترك التقوى فيها.

بحث روائي

في تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام) قال كان الأكل و النكاح محرمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم يعني كل من صلى العشاء و نام و لم يفطر ثم انتبه حرم عليه الإفطار، و كان النكاح حراما في الليل و النهار في شهر رمضان، و كان رجل من أصحاب رسول الله يقال له خوات بن جبير الأنصاري، أخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله وكله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة ففارقه أصحابه و بقي في اثني عشر رجلا فقتل على باب الشعب، و كان أخوه هذا خوات بن جبير شيخا كبيرا ضعيفا، و كان صائما مع رسول الله في الخندق، فجاء إلى أهله حين أمسى فقال عندكم طعام؟ فقالوا: لا تنم حتى نصنع لك طعاما فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر، فلما انتبه قال لأهله: قد حرم علي الأكل في هذه الليلة فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه فرآه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرق له و كان قوم من الشبان ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان فأنزل الله: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم الآية، فأحل الله تبارك و تعالى النكاح بالليل من شهر رمضان، و الأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر لقوله: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، قال: هو بياض النهار من سواد الليل.

أقول: و قوله: يعني إلى قوله: و كان رجل، من كلام الراوي، و هذا المعنى مروي بروايات أخرى، رواها الكليني و العياشي و غيرهما، و في جميعها أن سبب نزول قوله: و كلوا و اشربوا «إلخ»، إنما هو قصة خوات بن جبير الأنصاري و أن سبب نزول قوله: أحل لكم «إلخ»، ما كان يفعله الشبان من المسلمين.

و في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب التفسير و الرواية عن البراء بن عازب قال كان أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته و لا يومه حتى يمسي و أن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فكان يومه ذاك يعمل في أرضه فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا و لكن انطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام و جاءت امرأته فلما رأته نائما قالت: خيبة لك، أ نمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت هذه الآية أحل لكم ليلة الصيام الرفث، إلى قوله: من الفجر ففرحوا بها فرحا شديدا: أقول: و روي بطرق أخر القصة و في بعضها أبو قبيس بن صرمة و في بعضها صرمة بن مالك الأنصاري على اختلاف ما في القصة.

و في الدر المنثور، أيضا: و أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء و الطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا الطعام و النساء في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله فأنزل الله أحل لكم ليلة الصيام، إلى قوله: فالآن باشروهن يعني انكحوهن.

أقول: و الروايات من طرقهم في هذا المعنى كثيرة و في أكثرها اسم من عمر، و هي متحدة في أن حكم النكاح بالليل كحكم الأكل و الشرب و أنها جميعا كانت محللة قبل النوم محرمة بعده، و ظاهر ما أوردناه من الرواية الأولى أن النكاح كان محرما في شهر رمضان بالليل و النهار جميعا بخلاف الأكل و الشرب فقد كانا محللين في أول الليل قبل النوم محرمين بعده، و سياق الآية يساعده فإن النكاح لو كان مثل الأكل و الشرب محللا قبل النوم محرما بعده كان الواجب في اللفظ أن يقيد بالغاية كما صنع ذلك بقوله: كلوا و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض إلخ، و قد قال تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث، و لم يأت بقيد يدل على الغاية، و كذا ما اشتمل عليه بعض الروايات: أن الخيانة ما كانت تختص بالنكاح بل كانوا يختانون في الأكل و الشرب أيضا لا يوافق ما يشعر به سياق الآية من وضع قوله: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم «إلخ»، قبل قوله: كلوا و اشربوا.

و في الدر المنثور، أيضا: أن رسول الله قال الفجر فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا و لا يحرمه، و أما المستطيل الذي يأخذ الأفق فإنه يحل الصلاة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 5:58 am

وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

بيان

قوله تعالى: و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، المراد بالأكل الأخذ أو مطلق التصرف مجازا، و المصحح لهذا الإطلاق المجازي كون الأكل أقرب الأفعال الطبيعية التي يحتاج الإنسان إلى فعلها و أقدمها فالإنسان أول ما ينشأ.

وجوده يدرك حاجته إلى التغذي ثم ينتقل منه إلى غيره من الحوائج الطبيعية كاللباس و المسكن و النكاح و نحو ذلك، فهو أول تصرف يستشعر به من نفسه، و لذلك كان تسمية التصرف و الأخذ، و خاصة في مورد الأموال، أكلا لا يختص باللغة العربية بل يعم سائر اللغات.

و المال ما يتعلق به الرغبات من الملك، كأنه مأخوذ من الميل لكونه مما يميل إليه القلب، و البين هو الفصل الذي يضاف إلى شيئين فأزيد، و الباطل يقابل الحق الذي هو الأمر الثابت بنحو من الثبوت.

و في تقييد الحكم، أعني قوله: و لا تأكلوا أموالكم، بقوله: بينكم، دلالة على أن جميع الأموال لجميع الناس و إنما قسمه الله تعالى بينهم تقسيما حقا بوضع قوانين عادلة تعدل الملك تعديلا حقا يقطع منابت الفساد لا يتعداه تصرف من متصرف إلا كان باطلا، فالآية كالشارحة لإطلاق قوله تعالى: خلق لكم ما في الأرض جميعا و في إضافته الأموال إلى الناس إمضاء منه لما استقر عليه بناء المجتمع الإنساني من اعتبار أصل الملك و احترامه في الجملة من لدن استكن هذا النوع على بسيط الأرض على ما يذكره النقل و التاريخ، و قد ذكر هذا الأصل في القرآن بلفظ الملك و المال و لام الملك و الاستخلاف و غيرها في أزيد من مائة مورد و لا حاجة إلى إيرادها في هذا الموضع، و كذا بطريق الاستلزام في آيات تدل على تشريع البيع و التجارة و نحوهما في بضعة مواضع كقوله تعالى: «و أحل الله البيع:» البقرة - 275، و قوله تعالى: «و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض:» النساء - 29، و قوله تعالى: «تجارة تخشون كسادها:» التوبة - 24، و غيرها، و السنة المتواترة تؤيده.

قوله تعالى: و تدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا، الإدلاء هو إرسال الدلو في البئر لنزح الماء كني به عن مطلق تقريب المال إلى الحكام ليحكموا كما يريده الراشي، و هو كناية لطيفة تشير إلى استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثل لحال الماء الذي في البئر بالنسبة إلى من يريده، و الفريق هو القطعة المفروقة المعزولة من الشيء، و الجملة معطوفة على قوله: تأكلوا، فالفعل مجزوم بالنهي، و يمكن أن يكون الواو بمعنى مع و الفعل منصوبا بأن المقدرة، و التقدير مع أن تأكلوا فتكون الآية بجملتها كلاما واحدا مسوقا لغرض واحد، و هو النهي عن تصالح الراشي و المرتشي على أكل أموال الناس بوضعها بينهما و تقسيمها لأنفسهما بأخذ الحاكم ما أدلى به منها إليه و أخذ الراشي فريقا آخر منها بالإثم و هما يعلمان أن ذلك باطل غير حق.

بحث روائي

في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) في الآية: كانت تقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم الله عن ذلك.

و في الكافي، أيضا عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قول الله عز و جل في كتابه: و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكام، قال يا أبا بصير إن الله عز و جل قد علم أن في الأمة حكاما يجورون، أما أنه لم يعن حكام أهل العدل و لكنه عنى حكام أهل الجور، يا أبا محمد لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له لكان ممن يحاكم إلى الطاغوت و هو قول الله عز و جل: أ لم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت.

و في المجمع، قال: روي عن أبي جعفر (عليه السلام) يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقطع بها الأموال.

أقول: و هذه مصاديق و الآية مطلقة.

بحث علمي اجتماعي

كل ما بين أيدينا من الموجودات المكونة، و منها النبات و الحيوان و الإنسان، فإنه يتصرف في الخارج عن دائرة وجوده مما يمكن أن ينتفع به في إبقاء وجوده لحفظ وجوده و بقائه، فلا خبر في الوجود عن موجود غير فعال، و لا خبر عن فعل يفعله فاعله لا لنفع يعود إليه، فهذه أنواع النبات تفعل ما تفعل لتنتفع به لبقائها و نشوئها و توليد مثلها، و كذلك أقسام الحيوان و الإنسان تفعل ما تفعل لتنتفع به بوجه و لو انتفاعا خياليا أو عقليا، فهذا مما لا شبهة فيه.

و هذه الفواعل التكوينية تدرك بالغريزة الطبيعية، و الحيوان و الإنسان بالشعور الغريزي أن التصرف في المادة لرفع الحاجة الطبيعية و الانتفاع في حفظ الوجود و البقاء لا يتم للواحد منها إلا مع الاختصاص بمعنى أن الفعل الواحد لا يقوم بفاعلين فهذا حاصل الأمر و ملاكه و لذلك فالفاعل من الإنسان أو ما ندرك ملاك أفعاله فإنه يمنع عن المداخلة في أمره و التصرف فيما يريد هو التصرف فيه، و هذا أصل الاختصاص الذي لا يتوقف في اعتباره، إنسان و هو معنى اللام الذي في قولنا لي هذا و لك ذلك، و لي أن أفعل كذا و لك أن تفعل كذا.

و يشهد به ما نشاهده من تنازع الحيوان فيما حازه من عش أو كن أو وكر أو ما اصطاده أو وجده، مما يتغذى به أو ما ألفه من زوج و نحو ذلك، و ما نشاهده من تشاجر الأطفال فيما حازوه من غذاء و نحوه حتى الرضيع يشاجر الرضيع على الثدي، ثم إن ورود الإنسان في ساحة الاجتماع بحكم فطرته و قضاء غريزته لا يستحكم به إلا ما أدركه بأصل الفطرة إجمالا، و لا يوجب إلا إصلاح ما كان وضعه أولا و ترتيبه و تعظيمه في صورة النواميس الاجتماعية الدائرة، و عند ذلك يتنوع الاختصاص الإجمالي المذكور أنواعا متفرقة ذوات أسام مختلفة فيسمى الاختصاص المالي بالملك و غيره بالحق و غير ذلك.

و هم و إن أمكن أن يختلفوا في تحقق الملك من جهة أسبابه كالوراثة و البيع و الشراء و الغصب بقوة السلطان و غير ذلك، أو من جهة الموضوع الذي هو المالك كالإنسان الذي هو بالغ أو صغير أو عاقل أو سفيه أو فرد أو جماعة إلى غير ذلك من الجهات، فيزيدوا في بعض، و ينقصوا من بعض، و يثبتوا لبعض و ينفوا عن بعض، لكن أصل الملك في الجملة مما لا مناص لهم عن اعتباره، و لذلك نرى أن المخالفين للملك يسلبونه عن الفرد و ينقلونه إلى المجتمع أو الدولة الحاكمة عليهم و هم مع ذلك غير قادرين على سلبه عن الفرد من أصله و لن يقدروا على ذلك فالحكم فطري، و في بطلان الفطرة فناء الإنسان.

و سنبحث في ما يتعلق بهذا الأصل الثابت من حيث أسبابه كالتجارة و الربح و الإرث و الغنيمة و الحيازة، و من حيث الموضوع كالبالغ و الصغير و غيرهما في موارد يناسب ذلك إن شاء الله العزيز.


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

بيان

قوله تعالى: يسئلونك إلى قوله: و الحج، الأهلة جمع هلال و يسمى القمر هلالا أول الشهر القمري إذا خرج من تحت شعاع الشمس الليلة الأولى و الثانية كما قيل، و قال بعضهم الليالي الثلاثة الأول، و قال بعضهم حتى يتحجر، و التحجر أن يستدير بخطة دقيقة، و قال بعضهم: حتى يبهر نوره ظلمة الليل و ذلك في الليلة السابعة ثم يسمى قمرا و يسمى في الرابعة عشر بدرا، و اسمه العام عند العرب الزبرقان.

و الهلال مأخوذ من استهل الصبي إذا بكى عند الولادة أو صاح، و من قولهم: أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، سمي به لأن الناس يهلون بذكره إذا رأوا.

و المواقيت جمع ميقات و هو الوقت المضروب للفعل، و يطلق أيضا: على المكان المعين للفعل كميقات أهل الشام و ميقات أهل اليمن، و المراد هاهنا الأول.

و في قوله تعالى: يسئلونك عن الأهلة، و إن لم يشرح أن السؤال في أمرها عما ذا؟ عن حقيقة القمر و سبب تشكلاتها المختلفة في صور الهلال و القمر و البدر كما قيل، أو عن حقيقة الهلال فقط، الظاهر بعد المحاق في أول الشهر القمري كما ذكره بعضهم، أو عن غير ذلك.

و لكن إتيان الهلال في السؤال بصورة الجمع حيث قيل: يسئلونك عن الأهلة دليل على أن السؤال لم يكن عن ماهية القمر و اختلاف تشكلاته إذ لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: يسألونك عن القمر لا عن الأهلة، و أيضا لو كان السؤال عن حقيقة الهلال و سبب تشكله الخاص كان الأنسب أن يقال: يسألونك عن الهلال إذ لا غرض حينئذ يتعلق بالجمع، ففي إتيان الأهلة بصيغة الجمع دلالة على أن السؤال إنما كان عن السبب أو الفائدة في ظهور القمر هلالا بعد هلال و رسمه الشهور القمرية، و عبر عن ذلك بالأهلة لأنها هي المحققة لذلك فأجيب بالفائدة.

و يستفاد ذلك من خصوص الجواب: قل هي مواقيت للناس و الحج، فإن المواقيت و هي الأزمان المضروبة للأفعال، و الأعمال إنما هي الشهور دون الأهلة التي ليست بأزمنة و إنما هي أشكال و صور في القمر.

و بالجملة قد تحصل أن الغرض في السؤال إنما كان متعلقا بشأن الشهور القمرية من حيث السبب أو الفائدة فأجيب ببيان الفائدة و أنها أزمان و أوقات مضروبة للناس في أمور معاشهم و معادهم فإن الإنسان لا بد له من حيث الخلقة من أن يقدر أفعاله و أعماله التي جميعها من سنخ الحركة بالزمان، و لازم ذلك أن يتقطع الزمان الممتد الذي ينطبق عليه أمورهم قطعا صغارا و كبارا مثل الليل و النهار و اليوم و الشهر و الفصول و السنين بالعناية الإلهية التي تدبر أمور خلقه و تهديهم إلى صلاح حياتهم، و التقطيع الظاهر الذي يستفيد منه العالم و الجاهل و البدوي و الحضري و يسهل حفظه على الجميع إنما هو تقطيع الأيام بالشهور القمرية التي يدركه كل صحيح الإدراك مستقيم الحواس من الناس دون الشهور الشمسية التي ما تنبه لشأنها و لم ينل دقيق حسابها الإنسان إلا بعد قرون و أحقاب من بدء حياته في الأرض و هو مع ذلك ليس في وسع جميع الناس دائما.

فالشهور القمرية أوقات مضروبة معينة للناس في أمور دينهم و دنياهم و للحج خاصة فإنه أشهر معلومات، و كان اختصاص الحج بالذكر ثانيا تمهيد لما سيذكر في الآيات التالية من اختصاصه ببعض الشهور.

قوله تعالى: و ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إلى قوله: من أبوابها، ثبت بالنقل أن جماعة من عرب الجاهلية كانوا إذا أحرموا للحج لم يدخلوا بيوتهم عند الحاجة من الباب بل اتخذوا نقبا من ظهورها و دخلوا منه فنهى عن ذلك الإسلام و أمرهم بدخول البيوت من أبوابها، و نزول الآية يقبل الانطباق على هذا الشأن، و بذلك يصح الاعتماد على ما نقل من شأن نزول الآية على ما سيأتي نقله.

و لو لا ذلك لأمكن أن يقال: إن قوله: و ليس البر إلى آخره، كناية عن النهي عن امتثال الأوامر الإلهية و العمل بالأحكام المشرعة في الدين إلا على الوجه الذي شرعت عليه، فلا يجوز الحج في غير أشهره، و لا الصيام في غير شهر رمضان و هكذا و كانت الجملة على هذا متمما لأول الآية، و كان المعنى أن هذه الشهور أوقات مضروبة لأعمال شرعت فيها و لا يجوز التعدي بها عنها إلى غيرها كالحج في غير أشهره، و الصوم في غير شهر رمضان و هكذا فكانت الآية مشتملة على بيان حكم واحد.

و على التقدير الأول الذي يؤيده النقل فنفي البر عن إتيان البيوت من ظهورها يدل على أن العمل المذكور لم يكن مما أمضاه الدين و إلا لم يكن معنى لنفي كونه برا فإنما كان ذلك عادة سيئة جاهلية فنفى الله تعالى كونه من البر، و أثبت أن البر هو التقوى، و كان الظاهر أن يقال: و لكن البر هو التقوى، و إنما عدل إلى قوله: و لكن البر من اتقى، إشعارا بأن الكمال إنما هو في الاتصاف بالتقوى و هو المقصود دون المفهوم الخالي كما مر نظيره في قوله تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البر من آمن الآية.

و الأمر في قوله تعالى: و أتوا البيوت من أبوابها، ليس أمرا مولويا و إنما هو إرشاد إلى حسن إتيان البيوت من أبوابها لما فيه من الجري على العادة المألوفة المستحسنة الموافقة للغرض العقلائي في بناء البيوت و وضع الباب مدخلا و مخرجا فيها، فإن الكلام واقع موقع الردع عن عادة سيئة لا وجه لها إلا خرق العادة الجارية الموافقة للغرض العقلائي، فلا يدل على أزيد من الهداية إلى طريق الصواب من غير إيجاب، نعم الدخول من غير الباب بمقصد أنه من الدين بدعة محرمة.

قوله تعالى: و اتقوا الله لعلكم تفلحون، قد عرفت في أول السورة أن التقوى من الصفات التي يجامع جميع مراتب الإيمان و مقامات الكمال، و من المعلوم أن جميع المقامات لا يستوجب الفلاح و السعادة كما يستوجبه المقامات الأخيرة التي تنفي عن صاحبها الشرك و الضلال و إنما تهدي إلى الفلاح و تبشر بالسعادة، و لذلك قال تعالى: و اتقوا الله لعلكم تفلحون، فأتى بكلمة الترجي، و يمكن أن يكون المراد بالتقوى امتثال هذا الأمر الخاص الموجود في الآية و ترك ما ذمه من إتيان البيوت من ظهورها.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: سأل الناس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الأهلة فنزلت هذه الآية «يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس» يعلمون بها أجل دينهم و عدة نسائهم و وقت حجهم.

أقول: و روي هذا المعنى فيه بطرق أخر عن أبي العالية و قتادة و غيرهما، و روي أيضا: أن بعضهم سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حالات القمر المختلفة فنزلت الآية.

و هذا هو الذي ذكرنا آنفا أنه مخالف لظاهر الآية فلا عبرة به.

و في الدر المنثور، أيضا: أخرج وكيع، و البخاري، و ابن جرير عن البراء: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية دخلوا البيت من ظهره فأنزل الله: و ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها - و لكن البر من اتقى و أتوا البيوت من أبوابها.

و في الدر المنثور، أيضا أخرج ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه عن جابر قال: كانت قريش تدعى الحمس و كانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام و كانت الأنصار و سائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام فبينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بستان إذ خرج من بابه و خرج معه قطبة بن عامر الأنصاري فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر و أنه خرج معك من الباب فقال له: ما حملك على ما فعلت قال: رأيتك فعلته ففعلته كما فعلت قال: إني رجل أحمس قال فإن: ديني دينك فأنزل الله ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها.

أقول: و قد روي قريبا من هذا المعنى بطرق أخرى، و الحمس جمع أحمس كحمر و أحمر من الحماسة و هي الشدة سميت به قريش لشدتهم في أمر دينهم أو لصلابتهم و شدة بأسهم.

و ظاهر الرواية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد أمضى قبل الواقعة الدخول من ظهور البيوت لغير قريش و لذا عاتبه بقوله: ما حملك على ما صنعت «إلخ»، و على هذا فتكون الآية من الآيات الناسخة، و هي تنسخ حكما مشرعا من غير آية هذا، و لكنك قد عرفت أن الآية تنافيه حيث تقول: ليس البر بأن تأتوا، و حاشا الله سبحانه أن يشرع هو أو رسوله بأمره حكما من الأحكام ثم يذمه أو يقبحه و ينسخه بعد ذلك و هو ظاهر.

و في محاسن البرقي، عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: و أتوا البيوت من أبوابها قال يعني أن يأتي الأمر من وجهه أي الأمور كان.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): الأوصياء هم أبواب الله التي منها يؤتى و لو لا هم ما عرف الله عز و جل و بهم احتج الله تبارك و تعالى على خلقه.

أقول: الرواية من الجري و بيان لمصداق من مصاديق الآية بالمعنى الذي فسرت به في الرواية الأولى، و لا شك أن الآية بحسب المعنى عامة و إن كانت بحسب مورد النزول خاصة، و قوله (عليه السلام) و لو لا هم ما عرف الله، يعني البيان الحق و الدعوة التامة الذين معهم، و له معنى آخر أدق لعلنا نشير إليه فيما سيأتي إن شاء الله و الروايات في معنى الروايتين كثيرة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 6:02 am

وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

بيان

سياق الآيات الشريفة يدل على أنها نازلة دفعة واحدة، و قد سيق الكلام فيها لبيان غرض واحد و هو تشريع القتال لأول مرة مع مشركي مكة، فإن فيها تعرضا لإخراجهم من حيث أخرجوا المؤمنين، و للفتنة، و للقصاص، و النهي عن مقاتلتهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوا عنده، و كل ذلك أمور مربوطة بمشركي مكة، على أنه تعالى قيد القتال بالقتال في قوله: و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، و ليس معناه الاشتراط أي قاتلوهم إن قاتلوكم و هو ظاهر، و لا قيدا احترازيا، و المعنى قاتلوا الرجال دون النساء و الولدان الذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم، إذ لا معنى لقتال من لا يقدر على القتال حتى ينهى عن مقاتلته، و يقال: لا تقاتله بل إنما الصحيح النهي عن قتله دون قتاله.

بل الظاهر أن الفعل أعني يقاتلونكم، للحال و الوصف للإشارة، و المراد به الذين حالهم حال القتال مع المؤمنين و هم مشركوا مكة.

فمساق هذه الآيات مساق قوله تعالى: «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله:» الحج - 40، إذن ابتدائي للقتال مع المشركين المقاتلين من غير شرط.

على أن الآيات الخمس جميعا متعرضة لبيان حكم واحد بحدوده و أطرافه و لوازمه فقوله تعالى: و قاتلوا في سبيل الله، لأصل الحكم، و قوله تعالى: لا تعتدوا إلخ، تحديد له من حيث الانتظام، و قوله تعالى: و اقتلوهم «إلخ»، تحديد له من حيث التشديد، و قوله تعالى: و لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام «إلخ»، تحديد له من حيث المكان، و قوله تعالى: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة «إلخ»، تحديد له من حيث الأمد و الزمان، و قوله تعالى: الشهر الحرام «إلخ»، بيان أن هذا الحكم تشريع للقصاص في القتال و القتل و معاملة بالمثل معهم، و قوله تعالى: و أنفقوا، إيجاب لمقدمته المالية و هو الإنفاق للتجهيز و التجهز، فيقرب أن يكون نزول مجموع الآيات الخمس لشأن واحد من غير أن ينسخ بعضها بعضا كما احتمله بعضهم، و لا أن تكون نازلة في شئون متفرقة كما ذكره آخرون، بل الغرض منها واحد و هو تشريع القتال مع مشركي مكة الذين كانوا يقاتلون المؤمنين.

قوله تعالى: و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، القتال محاولة الرجل قتل من يحاول قتله، و كونه في سبيل الله إنما هو لكون الغرض منه إقامة الدين و إعلاء كلمة التوحيد، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس و أعراضهم فإنما هو في الإسلام دفاع يحفظ به حق الإنسانية المشروعة عند الفطرة السليمة كما سنبينه، فإن الدفاع محدود بالذات، و التعدي خروج عن الحد، و لذلك عقبه بقوله تعالى: و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.

قوله تعالى: و لا تعتدوا «إلخ» الاعتداء هو الخروج عن الحد، يقال عدا و اعتدى إذا جاوز وحده، و النهي عن الاعتداء مطلق يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتداء كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق، و الابتداء بالقتال، و قتل النساء و الصبيان، و عدم الانتهاء إلى العدو، و غير ذلك مما بينه السنة النبوية.

قوله تعالى: و اقتلوهم حيث ثقفتموهم إلى قوله: من القتل، يقال ثقف ثقافة أي وجد و أدرك فمعنى الآية معنى قوله: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم:» التوبة - 6، و الفتنة هو ما يقع به اختبار حال الشيء، و لذلك يطلق على نفس الامتحان و الابتلاء و على ما يلازمه غالبا و هو الشدة و العذاب على ما يستعقبه كالضلال و الشرك، و قد استعمل في القرآن الشريف في جميع هذه المعاني، و المراد به في الآية الشرك بالله و رسوله بالزجر و العذاب كما كان يفعله المشركون بمكة بالمؤمنين بعد هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قبلها.

فالمعنى شددوا على المشركين بمكة كل التشديد بقتلهم حيث وجدوا حتى ينجر ذلك إلى خروجهم من ديارهم و جلائهم من أرضهم كما فعلوا بكم ذلك، و ما فعلوه أشد فإن ذلك منهم كان فتنة و الفتنة أشد من القتل لأن في القتل انقطاع الحياة الدنيا، و في الفتنة انقطاع الحياتين و انهدام الدارين.

قوله تعالى: و لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه «إلخ»، فيه نهي عن القتال عند المسجد الحرام حفظا لحرمته ما حفظوه، و الضمير في قوله: فيه راجع إلى المكان المدلول عليه بقوله عند المسجد.

قوله تعالى: فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم، الانتهاء الامتناع و الكف، و المراد به الانتهاء عن مطلق القتال عند المسجد الحرام دون الانتهاء عن مطلق القتال بطاعة الدين و قبول الإسلام فإن ذلك هو المراد بقوله ثانيا: فإن انتهوا فلا عدوان، و أما هذا الانتهاء فهو قيد راجع إلى أقرب الجمل إليه و هو قوله: و لا تقاتلوهم عند المسجد، و على هذا فكل من الجملتين أعني قوله تعالى: فإن انتهوا فإن الله، و قوله تعالى: فإن انتهوا فلا عدوان، قيد لما يتصل به من الكلام من غير تكرار.

و في قوله تعالى: فإن الله غفور رحيم، وضع السبب موضع المسبب إعطاء لعلة الحكم، و المعنى فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم.

قوله تعالى: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين لله، تحديد لأمد القتال كما مر ذكره، و الفتنة في لسان هذه الآيات هو الشرك باتخاذ الأصنام كما كان يفعله و يكره عليه المشركون بمكة، و يدل عليه قوله تعالى: و يكون الدين لله، و الآية نظيرة لقوله تعالى: «و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و إن تولوا فاعلموا أن الله موليكم نعم المولى و نعم النصير:» الأنفال - 40، و في الآية دلالة على وجوب الدعوة قبل القتال فإن قبلت فلا قتال و إن ردت فلا ولاية إلا لله و نعم المولى و نعم النصير، ينصر عباده المؤمنين، و من المعلوم أن القتال إنما هو ليكون الدين لله، و لا معنى لقتال هذا شأنه و غايته إلا عن دعوة إلى الدين الحق و هو الدين الذي يستقر على التوحيد.

و يظهر من هذا الذي ذكرناه أن هذه الآية ليست بمنسوخة بقوله تعالى: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون:» التوبة - 30، بناء على أن دينهم لله سبحانه و تعالى، و ذلك أن الآية أعني قوله تعالى: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، خاصة بالمشركين غير شاملة لأهل الكتاب، فالمراد، بكون الدين لله سبحانه و تعالى هو أن لا يعبد الأصنام و يقر بالتوحيد، و أهل الكتاب مقرون به، و إن كان ذلك كفرا منهم بالله بحسب الحقيقة كما قال تعالى: إنهم لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق، لكن الإسلام قنع منهم بمجرد التوحيد، و إنما أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية لإعلاء كلمة الحق على كلمتهم و إظهار الإسلام على الدين كله.

قوله تعالى: فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين، أي فإن انتهوا عن الفتنة و آمنوا بما آمنتم به فلا تقاتلوهم فلا عدوان إلا على الظالمين، فهو من وضع السبب موضع المسبب كما مر نظيره في قوله تعالى: فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم الآية، فالآية كقوله تعالى: «فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإخوانكم في الدين:» التوبة - 12.

قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص، الحرمات جمع حرمة و هي ما يحرم هتكه و يجب تعظيمه و رعاية جانبه، و الحرمات: حرمة الشهر الحرام و حرمة الحرم و حرمة المسجد الحرام، و المعنى أنهم لو هتكوا حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه، و قد هتكوا حين صدوا النبي و أصحابه عن الحج عام الحديبية و رموهم بالسهام و الحجارة جاز للمؤمنين أن يقاتلوهم فيه و ليس بهتك، فإنما يجاهدون في سبيل الله و يمتثلون أمره في إعلاء كلمته و لو هتكوا حرمة الحرم و المسجد الحرام بالقتال فيه و عنده جاز للمؤمنين معاملتهم بالمثل، فقوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام بيان خاص عقب ببيان عام يشمل جميع الحرمات و أعم من هذا البيان العام قوله تعالى عقيبه: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، فالمعنى أن الله سبحانه إنما شرع القصاص في الشهر الحرام لأنه شرع القصاص في جميع الحرمات و إنما شرع القصاص في الحرمات لأنه شرع جواز الاعتداء بالمثل.

ثم ندبهم إلى ملازمة طريقة الاحتياط في الاعتداء لأن فيه استعمالا للشدة و البأس و السطوة و سائر القوى الداعية إلى الطغيان و الانحراف عن جادة الاعتدال و الله سبحانه و تعالى لا يحب المعتدين، و هم أحوج إلى محبة الله تعالى و ولايته و نصره فقال تعالى: و اتقوا الله و اعلموا أن الله مع المتقين.

و أما أمره تعالى بالاعتداء مع أنه لا يحب المعتدين فإن الاعتداء مذموم إذا لم يكن في مقابلة اعتداء و أما إذا كان في مقابلة الاعتداء فليس إلا تعاليا عن ذل الهوان و ارتقاء عن حضيض الاستعباد و الظلم و الضيم، كالتكبر مع المتكبر، و الجهر بالسوء لمن ظلم.

قوله تعالى: و أنفقوا في سبيل الله و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، أمر بإنفاق المال لإقامة القتال في سبيل الله و الكلام في تقييد الإنفاق هاهنا بكونه في سبيل الله نظير تقييد القتال في أول الآيات بكونه في سبيل الله، كما مر، و الباء في قوله: بأيديكم زائدة للتأكيد، و المعنى: و لا تلقوا أيديكم إلى التهلكة كناية عن النهي عن إبطال القوة و الاستطاعة و القدرة فإن اليد مظهر لذلك، و ربما يقال: إن الباء للسببية و مفعول لا تلقوا محذوف، و المعنى: لا تلقوا أنفسكم بأيدي أنفسكم إلى التهلكة، و التهلكة و الهلاك واحد و هو مصير الإنسان بحيث لا يدري أين هو، و هو على وزن تفعلة بضم العين ليس في اللغة مصدر على هذا الوزن غيره.

و الكلام مطلق أريد به النهي عن كل ما يوجب الهلاك من إفراط و تفريط كما أن البخل و الإمساك عن إنفاق المال عند القتال يوجب بطلان القوة و ذهاب القدرة، و فيه هلاك العدة بظهور العدو عليهم، و كما أن التبذير بإنفاق جميع المال يوجب الفقر و المسكنة المؤديين إلى انحطاط الحياة و بطلان المروة.

ثم ختم سبحانه و تعالى الكلام بالإحسان فقال: و أحسنوا إن الله يحب المحسنين، و ليس المراد بالإحسان الكف عن القتال أو الرأفة في قتل أعداء الدين و ما يشبههما بل الإحسان هو الإتيان بالفعل على وجه حسن بالقتال في مورد القتال، و الكف في مورد الكف، و الشدة في مورد الشدة، و العفو في مورد العفو، فدفع الظالم بما يستحقه إحسان على الإنسانية باستيفاء حقها المشروع لها، و دفاع عن الدين المصلح لشأنها كما أن الكف عن التجاوز في استيفاء الحق المشروع بما لا ينبغي إحسان آخر، و محبة الله سبحانه و تعالى هو الغرض الأقصى من الدين، و هو الواجب على كل متدين بالدين أن يجلبها من ربه بالإتباع، قال تعالى: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله:» آل عمران - 31، و قد بدأت الآيات الشريفة و هي آيات القتال بالنهي عن الاعتداء و إن الله لا يحب المعتدين و ختمت بالأمر بالإحسان و إن الله يحب المحسنين، و في ذلك من وجوه الحلاوة ما لا يخفى.

الجهاد الذي يأمر به القرآن:

كان القرآن يأمر المسلمين بالكف عن القتال و الصبر على كل أذى في سبيل الله سبحانه و تعالى، كما قال سبحانه و تعالى: «قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون و لا أنتم عابدون ما أعبد، إلى قوله: لكم دينكم و لي دين:» الكافرون - 6، و قال تعالى: «و اصبر على ما يقولون:» المزمل - 10، و قال تعالى: «أ لم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال:» النساء - 77، و كان هذه الآية تشير إلى قوله سبحانه و تعالى: «ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا و اصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة:» البقرة - 110.

ثم نزلت آيات القتال فمنها آيات القتال مع مشركي مكة و من معهم بالخصوص كقوله تعالى: «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله:» الحج - 40، و من الممكن أن تكون هذه الآية نزلت في الدفاع الذي أمر به في بدر و غيرها، و كذا قوله: «و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما تعملون بصير و إن تولوا فاعلموا أن الله موليكم نعم المولى و نعم النصير:» الأنفال - 40، و كذا قوله تعالى: «و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين:» البقرة - 190.

و منها آيات القتال مع أهل الكتاب، قال تعالى: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون:» التوبة - 29.

و منها آيات القتال مع المشركين عامة، و هم غير أهل الكتاب كقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم:» التوبة - 5، و كقوله تعالى: «قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة:» التوبة - 36.

و منها ما يأمر بقتال مطلق الكفار كقوله تعالى: «قاتلوا الذين يلونكم من الكفار و ليجدوا فيكم غلظة:» التوبة - 123.

و جملة الأمر أن القرآن يذكر أن الإسلام و دين التوحيد مبني على أساس الفطرة و هو القيم على إصلاح الإنسانية في حياتها كما قال تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون:» الروم - 30، فإقامته و التحفظ عليه أهم حقوق الإنسانية المشروعة كما قال تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه:» الشورى - 13، ثم يذكر أن الدفاع عن هذا الحق الفطري المشروع حق آخر فطري، قال تعالى: «و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز:» الحج - 40، فبين أن قيام دين التوحيد على ساقه و حياة ذكره منوط بالدفاع، و نظيره قوله تعالى: «و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض:» البقرة - 251، و قال تعالى في ضمن آيات القتال من سورة الأنفال: «ليحق الحق و يبطل الباطل و لو كره المجرمون:» الأنفال - 8، ثم قال تعالى: بعد عدة آيات: «يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم:» الأنفال - 24، فسمى الجهاد و القتال الذي يدعى له المؤمنون محييا لهم، و معناه أن القتال سواء كان بعنوان الدفاع عن المسلمين أو عن بيضة الإسلام أو كان قتالا ابتدائيا كل ذلك بالحقيقة دفاع عن حق الإنسانية في حياتها ففي الشرك بالله سبحانه هلاك الإنسانية و موت الفطرة، و في القتال و هو دفاع عن حقها إعادة لحياتها و إحياؤها بعد الموت.

و من هناك يستشعر الفطن اللبيب: أنه ينبغي أن يكون للإسلام حكم دفاعي في تطهير الأرض من لوث مطلق الشرك و إخلاص الإيمان لله سبحانه و تعالى فإن هذا القتال الذي تذكره الآيات المذكورة إنما هو لإماتة الشرك الظاهر من الوثنية، أو لإعلاء كلمة الحق على كلمة أهل الكتاب بحملهم على إعطاء الجزية، مع أن آية القتال معهم تتضمن أنهم لا يؤمنون بالله و رسوله و لا يدينون دين الحق فهم و إن كانوا على التوحيد لكنهم مشركون بالحقيقة مستبطنون ذلك، و الدفاع عن حق الإنسانية الفطري يوجب حملهم على الدين الحق.

و القرآن و إن لم يشتمل من هذا الحكم على أمر صريح لكنه يبوح بالوعد بيوم للمؤمنين على أعدائهم لا يتم أمره إلا بإنجاز الأمر بهذه المرتبة من القتال، و هو القتال لإقامة الإخلاص في التوحيد قال تعالى: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون:» الصف - 9، و أظهر منه قوله تعالى: «و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون:» الأنبياء - 105، و أصرح منه قوله تعالى: «وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا:» النور - 55، فقوله تعالى: يعبدونني يعني به عبادة الإخلاص بحقيقة الإيمان بقرينة قوله تعالى: لا يشركون بي شيئا، مع أنه تعالى يعد بعض الإيمان شركا، قال تعالى: «و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون:» يوسف - 106، فهذا ما وعده تعالى من تصفية الأرض و تخليتها للمؤمنين يوم لا يعبد فيه غير الله حقا.

و ربما يتوهم المتوهم أن ذلك وعد بنصر إلهي بمصلح غيبي من غير توسل بالأسباب الظاهرة لكن ينافيه قوله: ليستخلفنهم في الأرض، فإن الاستخلاف إنما هو بذهاب بعض و إزالتهم عن مكانهم و وضع آخرين مقامهم ففيه إيماء إلى القتال.

على أن قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم:» المائدة - 54، - على ما سيجيء في محله - يشير إلى دعوة حقة، و نهضة دينية ستقع عن أمر إلهي و يؤيد أن هذه الواقعة الموعودة إنما تقع عن دعوة جهاد.

و بما مر من البيان يظهر الجواب عما ربما يورد على الإسلام في تشريعه الجهاد بأنه خروج عن طور النهضات الدينية المأثورة عن الأنبياء السالفين فإن دينهم إنما كان يعتمد في سيره و تقدمه على الدعوة، و الهداية دون الإكراه على الإيمان بالقتال المستتبع للقتل و السبي و الغارات، و لذلك ربما سماه بعضهم كالمبلغين من النصارى بدين السيف و الدم و آخرون بدين الإجبار و الإكراه!.

و ذلك أن القرآن يبين أن الإسلام مبني على قضاء الفطرة الإنسانية التي لا ينبغي أن يرتاب أن كمال الإنسان في حياته هو ما قضت به و حكمت و دعت إليه، و هي تقضي بأن التوحيد هو الأساس الذي يجب بناء القوانين الفردية و الاجتماعية عليه، و أن الدفاع عن هذا الأصل بنشره بين الناس و حفظه من الهلاك و الفساد حق مشروع للإنسانية يجب استيفاؤه بأي وسيلة ممكنة، و قد روعي في ذلك طريق الاعتدال، فبدأ بالدعوة المجردة و الصبر على الأذى في جنب الله، ثم الدفاع عن بيضة الإسلام و نفوس المسلمين و أعراضهم و أموالهم، ثم القتال الابتدائي الذي هو دفاع عن حق الإنسانية و كلمة التوحيد و لم يبدأ بشيء من القتال إلا بعد إتمام الحجة بالدعوة الحسنة كما جرت عليه السنة النبوية، قال تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن:» النحل - 125، و الآية مطلقة، و قال تعالى: «ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة:» الأنفال - 42.

و أما ما ذكروه من استلزامه الإكراه عند الغلبة فلا ضير فيه بعد توقف إحياء الإنسانية على تحميل الحق المشروع على عدة من الأفراد بعد البيان و إقامة الحجة البالغة عليهم، و هذه طريقة دائرة بين الملل و الدول فإن المتمرد المتخلف عن القوانين المدنية يدعى إلى تبعيتها ثم يحمل عليه بأي وسيلة أمكنت و لو انجر إلى القتال حتى يطيع و ينقاد طوعا أو كرها.

على أن الكره إنما يعيش و يدوم في طبقة واحدة من النسل، ثم التعليم و التربية الدينيان يصلحان الطبقات الآتية بإنشائها على الدين الفطري و كلمة التوحيد طوعا.

و أما ما ذكروه: أن سائر الأنبياء جروا على مجرد الدعوة و الهداية فقط فالتاريخ الموجود من حياتهم يدل على عدم اتساع نطاقهم بحيث يجوز لهم القيام بالقتال كنوح و هود و صالح (عليهما السلام) فقد كان أحاط بهم القهر و السلطنة من كل جانب، و كذلك كان عيسى (عليه السلام) أيام إقامته بين الناس و اشتغاله بالدعوة و إنما انتشرت دعوته و قبلت حجته في زمان طرو النسخ على شريعته و كان ذلك أيام طلوع الإسلام.

على أن جمعا من الأنبياء قاتلوا في سبيل الله تعالى كما تقصه التوراة، و القرآن يذكر طرفا منه، قال تعالى: «و كأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله و ما ضعفوا و ما استكانوا و الله يحب الصابرين و ما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا و إسرافنا في أمرنا و ثبت أقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين:» آل عمران - 147، و قال تعالى - يقص دعوة موسى قومه إلى قتال العمالقة -: «و إذ قال موسى لقومه، إلى أن قال: يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم و لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين إلى أن قال تعالى: قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون:» المائدة - 24، و قال تعالى: «أ لم تر إلى الملإ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله:» البقرة - 246، إلى آخر قصة طالوت و جالوت.

و قال تعالى في قصة سليمان و ملكة سبإ: «ألا تعلوا علي و أتوني مسلمين» - إلى أن قال تعالى -: «ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها و لنخرجنهم منها أذلة و هم صاغرون:» النمل - 37، و لم يكن هذا الذي كان يهددهم بها بقوله: فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها «إلخ»، إلا قتالا ابتدائيا عن دعوة ابتدائية.

بحث اجتماعي

لا ريب أن الاجتماع أينما وجد كاجتماع نوع الإنسان و سائر الاجتماعات المختلفة النوعية التي نشاهدها في أنواع من الحيوان فإنما هو مبني على أساس الاحتياج الفطري الموجود فيها الذي يراد به حفظ الوجود و البقاء.

و كما أن الفطرة و الجبلة أعطتها حق التصرف في كل ما تنتفع بها في حياتها من حفظ الوجود و البقاء كالإنسان يتصرف في الجماد و النبات و الحيوان حتى في الإنسان بأي وسيلة ممكنة فيرى لنفسه حقا في ذلك و إن زاحم حقوق غيره من الحيوان و كمال غيره من النبات و الجماد، و كأنواع الحيوان في تصرفاتها في غيرها و إذعانها بأن لها حقا في ذلك كذلك أعطتها حق الدفاع عن حقوقها المشروعة لها بحسب فطرتها إذ كان لا يتم حق التصرف بدون حق الدفاع فالدار دار التزاحم، و الناموس ناموس التنازع في البقاء، فكل نوع يحفظ وجوده و بقاءه بالشعور و الحركة يرى لنفسه حق الدفاع عن حقوقه بالفطرة، و يذعن بأن ذلك مباح له كما يذعن بإباحة تصرفه المذكور، و يدل على ذلك ما نشاهده في أنواع الحيوان: من أنها تتوسل عند التنازع بأدواتها البدنية الصالحة لأن تستعمل في الدفاع كالقرون و الأنياب و المخالب و الأظلاف و الشوك و المنقار و غير ذلك، و بعضها الذي لم يتسلح بشيء من هذه الأسلحة الطبيعية القوية تستريح إلى الفرار أو الاستتار أو الخمود كبعض الصيد و السلحفاة و بعض الحشرات، و بعضها الذي يقدر على إعمال الحيل و المكائد ربما أخذ بها في الدفاع كالقرد و الدب و الثعلب و أمثالها.

و الإنسان من بين الحيوان مسلح بالشعور الفكري الذي يقدر به على استخدام غيره في سبيل الدفاع كما يقدر عليه في سبيل التصرف للانتفاع، و له فطرة كسائر الأنواع، و لفطرته قضاوة و حكم، و من حكمها أن للإنسان حقا في التصرف، و حقا في الدفاع عن حقه الفطري، و هذا الحق الذي يذعن به الإنسان بفطرته هو الذي يبعثه نحو المقاتلة و المقارعة في جميع الموارد التي يهم بها فيها في الاجتماع الإنساني دون حكم الاستخدام الذي يحكم به حكما أوليا فطريا فيستخدم به كل ما يمكنه أن يستخدمه في طريق منافعه الحيوية فإن هذا الحكم معدل بالاجتماع إذ الإنسان إذا أحس بحاجته إلى استخدام غيره من بني نوعه ثم علم بأن سائر الأفراد من نوعه أمثاله في الحاجة اضطر إلى المصالحة و الموافقة على التمدن و العدل الاجتماعي بأن يخدم غيره بمقدار ما يستخدم غيره حسب ما يزنه الاحتياج بميزانه و يعدله الاجتماع بتعديله.

و من هنا يعلم: أن الإنسان لا يستند في شيء من مقاتلاته إلى حكم الاستخدام و الاستعباد المطلق الذي يذعن به في أول أمره فإن هذا حكم مطلق نسخه الإنسان بنفسه عند أول وروده في الاجتماع و اعترف بأنه لا ينبغي أن يتصرف في منافع غيره إلا بمقدار يؤتي غيره من منافع نفسه، بل إنما يستند في ذلك إلى حق الدفاع عن حقوقه في منافعه فيفرض لنفسه حقا ثم يشاهد تضييعه فينهض إلى الدفاع عنه.

فكل قتال دفاع في الحقيقة، حتى أن الفاتحين من الملوك و المتغلبين من الدول يفرضون لأنفسهم نوعا من الحق كحق الحاكمية و لياقة التأمر على غيرهم أو عسرة في المعاش أو مضيقة في الأرض أو غير ذلك فيعتذرون بذلك في مهاجمتهم على الناس و سفك الدماء و فساد الأرض و إهلاك الحرث و النسل.

فقد تبين: أن الدفاع عن حقوق الإنسانية حق مشروع فطري مباح الاستيفاء للإنسان نعم لما كان هذا حقا مطلوبا لغيره لا لنفسه يجب أن يوازن بما للغير من الأهمية فلا يقدم على الدفاع إلا إذا كان ما يفوت الإنسان بالدفاع من المنافع هو دون الحق الضائع المستنقذ في الأهمية الحيوية، و قد أثبت القرآن أن أهم حقوق الإنسانية هو التوحيد و القوانين الدينية المبنية عليه كما أن عقلاء الاجتماع الإنساني على أن أهم حقوقها هو حق الحياة تحت القوانين الحاكمة على المجتمع الإنساني التي تحفظ منافع الأفراد في حياتهم.

بحث روائي

في المجمع، عن ابن عباس: في قوله تعالى: و قاتلوا في سبيل الله الآية، نزلت هذه الآية في صلح الحديبية و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما خرج هو و أصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة و كانوا ألفا و أربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدي بالحديبية ثم صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه و يعود العام القابل و يخلو له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت و يفعل ما يشاء فرجع إلى المدينة من فوره فلما كان العام المقبل تجهز النبي و أصحابه لعمرة القضاء و خافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك و أن يصدوهم عن البيت الحرام و يقاتلوهم، و كره رسول الله قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله هذه الآية.

أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، بطرق عن ابن عباس و غيره.

و في المجمع، أيضا عن الربيع بن أنس و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه أول آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله و يكف عمن كف عنه حتى نزلت: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فنسخت هذه الآية.

أقول: و هذا اجتهاد منهما و قد عرفت أن الآية غير ناسخة للآية بل هو من قبيل تعميم الحكم بعد خصوصه.

و في المجمع،: في قوله تعالى: و اقتلوهم حيث ثقفتموهم الآية نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك فبين الله سبحانه: أن الفتنة في الدين و هو الشرك أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام و إن كان غير جائز.

أقول: و قد عرفت: أن ظاهر وحدة السياق في الآيات الشريفة أنها نزلت دفعة واحدة.

و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة الآية،: بطرق عن قتادة، قال: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي شرك و يكون الدين لله. قال: حتى يقال: لا إله إلا الله عليها قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و إليها دعا، و ذكر لنا: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول: إن الله أمرني أن أقاتل الناس حتى: يقولوا: لا إله إلا الله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين، قال: و إن الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله يقاتل حتى يقول: لا إله إلا الله.

أقول: قوله و إن الظالم من قول قتادة، استفاد ذلك من قول النبي و هي استفادة حسنة، و روي نظير ذلك عن عكرمة.

و في الدر المنثور، أيضا أخرج البخاري و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عمر: أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس صنعوا و أنت ابن عمر و صاحب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فما يمنعك أن تخرج؟ قال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، قالا: أ لم يقل الله: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة؟ قال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة و كان الدين لله و أنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة و يكون الدين لغير الله.

أقول: و قد أخطأ في معنى الفتنة و أخطأ السائلان، و قد مر بيانه، و إنما المورد من مصاديق الفساد في الأرض أو الاقتتال عن بغي و لا يجوز للمؤمنين أن يسكتوا فيه.

و في المجمع،: في قوله تعالى: و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة الآية، قال أي شرك، قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام:، عن العلاء بن الفضيل، قال: سألته عن المشركين أ يبتدئهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام؟ قال إذا كان المشركون ابتدءوهم باستحلاهم، رأى المسلمون بما أنهم يظهرون عليهم فيه، و ذلك قوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير و النحاس في ناسخه عن جابر بن عبد الله قال: لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يغزو في الشهر الحرام حتى يغزى، و يغزو فإذا حضره أقام حتى ينسلخ.

و في الكافي، عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عن رجل قتل رجلا في الحل ثم دخل الحرم فقال (عليه السلام) لا يقتل و لا يطعم و لا يسقى و لا يبايع حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد قال قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) يقام عليه الحد في الحرم لأنه لم ير للحرم حرمة، و قد قال الله: عز و جل: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» فقال هذا هو في الحرم فقال لا عدوان إلا على الظالمين و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، قال: لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل الله ما كان أحسن و لا وفق، أ ليس الله يقول: و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة و أحسنوا إن الله يحب المحسنين، يعني المقتصدين! و روى الصدوق عن ثابت بن أنس، قال: قال رسول الله: طاعة السلطان واجبة، و من ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله، و دخل في نهيه يقول الله: و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.

و في الدر المنثور، بطرق كثيرة عن أسلم أبي عمران،: قال كنا بالقسطنطينية، و على أهل مصر عقبة بن عامر، و على أهل الشام فضالة بن عبيد فخرج صف عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس فقالوا سبحان الله: يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب، صاحب رسول الله: فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل و إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه و كثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله إن أموالنا قد ضاعت و أن الله قد أعز الإسلام و كثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع فيها فأنزل الله على نبيه، يرد علينا ما قلنا: و أنفقوا في سبيل الله و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة الإقامة في الأموال و إصلاحها و تركنا الغزو.

أقول: و اختلاف الروايات كما ترى في معنى الآية يؤيد ما ذكرناه: أن الآية مطلقة تشمل جانبي الإفراط و التفريط في الإنفاق جميعا بل تعم الإنفاق و غيره.


وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

بيان

نزلت الآيات في حجة الوداع، آخر حجة حجها رسول الله، و فيها تشريع حج التمتع.

قوله تعالى: و أتموا الحج و العمرة لله، تمام الشيء هو الجزء الذي بانضمامه إلى سائر أجزاء الشيء يكون الشيء هو هو، و يترتب عليه آثاره المطلوبة منه فالإتمام هو ضم تمام الشيء إليه بعد الشروع في بعض أجزائه، و الكمال هو حال أو وصف أو أمر إذا وجده الشيء ترتب عليه من الأثر بعد تمامه ما لا يترتب عليه لو لا الكمال، فانضمام أجزاء الإنسان بعضها إلى بعض هو تمامه، و كونه إنسانا عالما أو شجاعا أو عفيفا كماله، و ربما يستعمل التمام مقام الكمال بالاستعارة بدعوى كون الوصف الزائد على الشيء داخلا فيه اهتماما بأمره و شأنه، و المراد بإتمام الحج و العمرة هو المعنى الأول الحقيقي، و الدليل عليه قوله تعالى بعده: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي، فإن ذلك تفريع على التمام بمعنى إيصال العمل إلى آخر أجزائه و ضمه إلى أجزائه المأتي بها بعد الشروع و لا معنى يصحح تفريعه على الإتمام بمعنى الإكمال و هو ظاهر.

و الحج هو العمل المعروف بين المسلمين الذي شرعه إبراهيم الخليل (عليه السلام) و كان بعده بين العرب ثم أمضاه الله سبحانه لهذه الأمة شريعة باقية إلى يوم القيامة.

و يبتدى هذا العمل بالإحرام و الوقوف في العرفات ثم المشعر الحرام، و فيها التضحية بمنى و رمي الجمرات الثلاث و الطواف و صلاته و السعي بين الصفا و المروة، و فيها أمور مفروضة أخر، و هو على ثلاثة أقسام: حج الإفراد، و حج القران، و حج التمتع الذي شرعه الله في آخر عهد رسول الله.

و العمرة عمل آخر و هو زيارة البيت بالإحرام من أحد المواقيت و الطواف و صلاته و السعي بين الصفا و المروة و التقصير، و هما أعني الحج، و العمرة عبادتان لا يتمان إلا لوجه الله و يدل عليه قوله تعالى: و أتموا الحج و العمرة لله الآية.

قوله تعالى: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي و لا تحلقوا رءوسكم «إلخ»، الإحصار هو الحبس و المنع، و المراد الممنوعية عن الإتمام بسبب مرض أو عدو بعد الشروع بالإحرام و الاستيسار صيرورة الشيء يسيرا غير عسير كأنه يجلب اليسر لنفسه، و الهدي هو ما يقدمه الإنسان من النعم إلى غيره أو إلى محل للتقرب به، و أصله من الهدية بمعنى التحفة أو من الهدى بمعنى الهداية التي هي السوق إلى المقصود، و الهدي و الهدية كالتمر و التمرة، و المراد به ما يسوقه الإنسان للتضحية به في حجه من النعم.

قوله تعالى: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه «إلخ» الفاء للتفريع، و تفريع هذا الحكم على النهي عن حلق الرأس يدل على أن المراد بالمرض هو خصوص المرض الذي يتضرر فيه من ترك الشعر على الرأس من غير حلق، و الإتيان بقوله: أو به أذى من رأسه بلفظة أو الترديد يدل على أن المراد بالأذى ما كان من غير طريق المرض كالهوام فهو كناية عن التأذي من الهوام كالقمل على الرأس، فهذان الأمران يجوزان الحلق مع الفدية بشيء من الخصال الثلاث: التي هي الصيام، و الصدقة، و النسك.

و قد وردت السنة أن الصيام ثلاثة أيام، و أن الصدقة إطعام ستة مساكين، و أن النسك شاة.

قوله تعالى: فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، تفريع على الإحصار، أي إذا أمنتم المانع من مرض أو عدو أو غير ذلك فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، أي تمتع بسبب العمرة من حيث ختمها و الإحلال إلى زمان الإهلال بالحج فما استيسر من الهدي، فالباء للسببية، و سببية العمرة للتمتع بما كان لا يجوز له في حال الإحرام كالنساء و الصيد و نحوهما من جهة تمامها بالإحلال.

قوله تعالى: فما استيسر من الهدي، ظاهر الآية أن ذلك نسك، لا جبران لما فات منه من الإهلال بالحج من الميقات فإن ذلك أمر يحتاج إلى زيادة مئونة في فهمه من الآية كما هو ظاهر.

فإن قيل: إن ترتب قوله: فما استيسر من الهدي، على قوله: فمن تمتع ترتب الجزاء على الشرط مع أن اشتمال الشرط على لفظ التمتع مشعر بأن الهدي واقع بإزاء التمتع الذي هو نوع تسهيل شرع له تخفيفا فهو جبران لذلك.

قلت: يدفعه قوله تعالى: بالعمرة، فإن ذلك يناسب التجويز للتمتع في أثناء عمل واحد، و لا معنى للتسهيل حيث لا إحرام لتمام العمرة و عدم الإهلال بالحج بعد، على أن هذا الاستشعار لو صح فإنما يتم به كون تشريع الهدي من أجل تشريع التمتع بالعمرة إلى الحج لا كون الهدي جبرانا لما فاته من الإهلال بالحج من الميقات دون مكة، و ظاهر الآية كون قوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي إخبارا عن تشريع التمتع لا إنشاء للتشريع فإنه يجعل التمتع مفروغا عنه ثم يبنى عليه تشريع الهدي، ففرق بين قولنا: من تمتع فعليه هدي و قولنا تمتعوا و سوقوا الهدي، و أما إنشاء تشريع التمتع فإنما يتضمنه قوله: تعالى في ذيل الآية ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.

قوله تعالى: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج و سبعة إذا رجعتم، جعل الحج ظرفا للصيام باعتبار اتحاده مع زمان الاشتغال به و مكانه، فالزمان الذي يعد زمانا للحج، و هو من زمان إحرام الحج إلى الرجوع، زمان الصيام ثلاثة أيام، و لذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت أن وقت الصيام قبل يوم الأضحى أو بعد أيام التشريق لمن لم يقدر على الصيام قبله و إلا فعند الرجوع إلى وطنه، و ظرف السبعة إنما هو بعد الرجوع فإن ذلك هو الظاهر من قوله: إذا رجعتم، و لم يقل حين الرجوع على أن الالتفات من الغيبة إلى الحضور في قوله إذا رجعتم لا يخلو عن إشعار بذلك.

قوله تعالى: تلك عشرة كاملة، أي الثلاثة و السبعة عشرة كاملة و في جعل السبعة مكملة للعشرة لا متممة دلالة على أن لكل من الثلاثة و السبعة حكما مستقلا آخر على ما مر من معنى التمام و الكمال في أول الآية فالثلاثة عمل تام في نفسه، و إنما تتوقف على السبعة في كمالها لا تمامها.

قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، أي الحكم المتقدم ذكره و هو التمتع بالعمرة إلى الحج لغير الحاضر، و هو الذي بينه و بين المسجد الحرام.

أكثر من اثني عشر ميلا على ما فسرته السنة، و أهل الرجل خاصته: من زوجته و عياله، و التعبير عن النائي البعيد بأن لا يكون أهله حاضري المسجد الحرام من ألطف التعبيرات، و فيه إيماء إلى حكمة التشريع و هو التخفيف و التسهيل، فإن المسافر من البلاد النائية للحج، و هو عمل لا يخلو من الكد و مقاسات التعب و وعثاء الطريق، لا يخلو عن الحاجة إلى السكن و الراحة، و الإنسان إنما يسكن و يستريح عند أهله، و ليس للنائي أهل عند المسجد الحرام، فبدله الله سبحانه من التمتع بالعمرة إلى الحج و الإهلال بالحج من المسجد الحرام من غير أن يسير ثانيا إلى الميقات.

و قد عرفت: أن الجملة الدالة على تشريع المتعة إنما هي هذه الجملة أعني قوله: ذلك لمن لم يكن «إلخ»، دون قوله: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، و هو كلام مطلق غير مقيد بوقت دون وقت و لا شخص دون شخص و لا حال دون حال.

قوله تعالى: و اتقوا الله و اعلموا أن الله شديد العقاب، التشديد البالغ في هذا التذليل مع أن صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحج ينبىء عن أن المخاطبين كان المترقب من حالهم إنكار الحكم أو التوقف في قبوله و كذلك كان الأمر فإن الحج خاصة من بين الأحكام المشرعة في الدين كان موجودا بينهم من عصر إبراهيم الخليل معروفا عندهم معمولا به فيهم قد أنسته نفوسهم و ألفته قلوبهم و قد أمضاه الإسلام على ما كان تقريبا إلى آخر عهد النبي فلم يكن تغيير وضعه أمرا هينا سهل القبول عندهم و لذلك قابلوه بالإنكار و كان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما يظهر من الروايات، و لذلك اضطر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يخطبهم فيبين لهم أن الحكم لله يحكم ما يشاء، و أنه حكم عام لا يستثني فيه أحد من نبي أو أمة فهذا هو الموجب للتشديد الذي في آخر الآية بالأمر بالتقوى و التحذير عن عقاب الله سبحانه.

قوله تعالى: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج إلى قوله: في الحج، أي زمان الحج أشهر معلومات عند القوم و قد بينته السنة و هي: شوال و ذو القعدة و ذو الحجة.

و كون زمان الحج من ذي الحجة بعض هذا الشهر دون كله لا ينافي عده شهرا للحج فإنه من قبيل قولنا: زمان مجيئي إليك يوم الجمعة مع أن المجيء إنما هو في بعضه دون جميعه.

و في تكرار لفظ الحج ثلاث مرات في الآية على أنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر لطف الإيجاز فإن المراد بالحج الأول زمان الحج و بالحج الثاني نفس العمل و بالثالث زمانه و مكانه، و لو لا الإظهار لم يكن بد من إطناب غير لازم كما قيل.

و فرض الحج جعله فرضا على نفسه بالشروع فيه لقوله تعالى: و أتموا الحج و العمرة لله الآية، و الرفث كما مر مطلق التصريح بما يكنى عنه، و الفسوق هو الخروج عن الطاعة، و الجدال المراء في الكلام، لكن السنة فسرت الرفث بالجماع، و الفسوق بالكذب، و الجدال بقول لا و الله و بلى و الله.

قوله تعالى: و ما تفعلوا من خير يعلمه الله، تذكرة بأن الأعمال غير غائبة عنه تعالى، و دعوة إلى التقوى لئلا يفقد المشتغل بطاعة الله روح الحضور و معنى العمل، و هذا دأب القرآن يبين أصول المعارف و يقص القصص و يذكر الشرائع و يشفع البيان في جميعها بالعظة و الوصية لئلا يفارق العلم العمل، فإن العلم من غير عمل لا قيمة له في الإسلام، و لذلك ختم هذه الدعوة بقوله: و اتقوني يا أولي الألباب، بالعدول من الغيبة إلى التكلم الذي يدل على كمال الاهتمام و الاقتراب و التعين.

قوله تعالى: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم، هو نظير قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع» إلى أن قال: «فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من فضل الله:» الجمعة - 10، فبدل البيع بالابتغاء من فضل الله فهو هو، و لذلك فسرت السنة الابتغاء من الفضل في هذه الآية من البيع فدلت الآية على إباحة البيع أثناء الحج.

قوله تعالى: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، الإفاضة هي الصدور عن المكان جماعة فهي تدل على وقوف عرفات كما تدل على الوقوف بالمشعر الحرام، و هي المزدلفة.

قوله تعالى: و اذكروه كما هديكم «إلخ» أي و اذكروه ذكرا يماثل هدايته إياكم و أنكم كنتم من قبل هدايته إياكم لمن الضالين.

قوله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، ظاهره إيجاب الإفاضة على ما كان من دأب الناس و إلحاق المخاطبين في هذا الشأن بهم فينطبق على ما نقل أن قريشا و حلفاءها و هم الحمس كانوا لا يقفون بعرفات بل بالمزدلفة و كانوا يقولون: نحن أهل حرم الله لا نفارق الحرم فأمرهم الله سبحانه بالإفاضه من حيث أفاض الناس و هو عرفات.

و على هذا فذكر هذا الحكم بعد قوله: فإذا أفضتم من عرفات، بثم الدالة على التأخير اعتبار للترتيب الذكري، و الكلام بمنزلة الاستدراك، و المعنى أن أحكام الحج هي التي ذكرت غير أنه يجب عليكم في الإفاضة أن تفيضوا من عرفات لا من المزدلفة، و ربما قيل: إن في الآيتي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 01, 2011 6:11 am

[quote]تابع

وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

و أعجب منه: أن الأصحاب قد اعترضوا على الله و رسوله حين نزول الآية! و أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتمتع بعين ما جعله سببا للنهي حين قالوا كما في رواية الدر المنثور، عن الحاكم عن جابر قلنا: أ يروح أحدنا إلى عرفة و فرجه يقطر منيا انتهى فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقام خطيبا و رد عليهم قولهم و أمرهم ثانيا بالتمتع كما فرضه عليهم أولا.

و أما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب تعطل أسواق مكة كما في رواية السيوطي، عن سعيد بن المسيب: من قوله: مع أن أهل البيت ليس لهم ضرع و لا زرع و إنما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم انتهى.

ففيه أيضا: أنه اجتهاد في مقابل النص، على أن الله سبحانه يرد عليه في نظير المسألة بقوله: «يا أيها الذين آمنوا إن المشركين نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا و إن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم:» التوبة - 28.

و أما الاستدلال عليه بأن تشريع التمتع لمكان الخوف فلا تمتع في غير حال الخوف كما في رواية الدر المنثور، عن مسلم عن عبد الله بن شقيق: من قول عثمان لعلي (عليه السلام) و لكنا كنا خائفين انتهى، و قد روي نظيره عن ابن الزبير كما رواه في الدر المنثور، قال أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر عن ابن الزبير أنه خطب فقال: يا أيها الناس و الله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، إنما التمتع أن يهل الرجل بالحج فيحضره عدو أو مرض أو كسر، أو يحبسه أمر حتى يذهب أيام الحج فيقدم فيجعلها عمرة فيتمتع تحلة إلى العام المقبل ثم يحج و يهدي هديا فهذا التمتع بالعمرة إلى الحج الحديث.

ففيه: أن الآية مطلقة تشمل الخائف و غيره فقد عرفت أن الجملة الدالة على تشريع حكم التمتع هي قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية دون قوله تعالى: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية.

على أن جميع الروايات ناصة في أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى بحجه تمتعا، و أنه أهل بإهلالين للعمرة و الحج.

و أما الاستدلال عليه: بأن التمتع كان مختصا بأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في روايتي الدر المنثور، عن أبي ذر، فإن كان المراد ما ذكر من استدلال عثمان و ابن الزبير فقد عرفت جوابه، و إن كان المراد أنه كان حكما خاصا لأصحاب النبي لا يشمل غيرهم، ففيه أنه مدفوع بإطلاق قوله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام الآية.

على أن إنكار بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك الحكم و تركهم له كعمر و عثمان و ابن الزبير و أبي موسى و معاوية و روي أن منهم أبا بكر ينافي ذلك!.

و أما الاستدلال عليه بالولاية و أنه إنما نهى عنه بحق ولايته الأمر و قد فرض الله طاعة أولي الأمر إذ قال «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم» الآية: النساء - 54، ففيه أن الولاية التي جعلها القرآن لأهلها لا يشمل المورد.

بيان ذلك: أن الآيات قد تكاثرت على وجوب اتباع ما أنزله الله على رسوله كقوله تعالى: «اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم:» الأعراف - 3، و ما بينه رسول الله مما شرعه هو بإذن الله تعالى كما يلوح من قوله تعالى: «و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله»: التوبة - 29، و قوله تعالى: «ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا:» الحشر - 7، فالمراد بالإيتاء الأمر بقرينة مقابلته بقوله: و ما نهيكم عنه، فيجب إطاعة الله و رسوله بامتثال الأوامر و انتهاء النواهي، و كذلك الحكم و القضاء كما قال تعالى: «و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون:» المائدة - 45، و في موضع آخر «فأولئك هم الفاسقون:» المائدة - 47، و في موضع آخر «فأولئك هم الكافرون:» المائدة - 44، و قال تعالى: «و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم و من يعص الله و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا:» الأحزاب - 36، و قال: «و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة:» القصص - 68، فإن المراد بالاختيار هو القضاء و التشريع أو ما يعم ذلك، و قد نص القرآن على أنه كتاب غير منسوخ و أن الأحكام باقية على ما هي عليها إلى يوم القيامة، قال تعالى: «و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد:» فصلت - 42، فالآية مطلقة تشمل نسخ الحكم فما شرعه الله و رسوله أو قضى به الله و رسوله يجب اتباعه على الأمة، أولي الأمر فمن دونهم.

و من هنا يظهر: أن قوله تعالى: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم إنما يجعل لأولي الأمر حق الطاعة في غير الأحكام فهم و من دونهم من الأمة سواء في أنه يجب عليهم التحفظ لأحكام الله و رسوله بل هو عليهم أوجب، فالذي يجب فيه طاعة أولي الأمر إنما هو ما يأمرون به و ينهون عنه فيما يرون صلاح الأمة فيه، من فعل أو ترك مع حفظ حكم الله في الواقعة.

فكما أن الواحد من الناس له أن يتغذى يوم كذا أو لا يتغذى مع جواز الأكل له من مال نفسه و له أن يبيع و يشتري يوم كذا أو يمسك عنه مع كون البيع حلالا، و له أن يترافع إلى الحاكم إذا نازعه أحد في ملكه، و له أن يعرض عن الدفاع مع جواز الترافع، كل ذلك إذا رأى صلاح نفسه في ذلك مع بقاء الأحكام على حالها، و ليس له أن يشرب الخمر، و لا له أن يأخذ الربا، و لا له أن يغصب مال غيره بإبطال ملكه و إن رأى صلاح نفسه في ذلك لأن ذلك كله يزاحم حكم الله تعالى، هذا كله في التصرف الشخصي، كذلك ولي الأمر له أن يتصرف في الأمور العامة على طبق المصالح الكلية مع حفظ الأحكام الإلهية على ما هي عليها، فيدافع عن ثغور الإسلام حينا، و يمسك عن ذلك حينا، على حسب ما يشخصه من المصالح العامة، أو يأمر بالتعطيل العمومي أو الإنفاق العمومي يوما إلى غير ذلك بحسب ما يراه من المصلحة.

و بالجملة كل ما للواحد من المسلمين أن يتصرف فيه بحسب صلاح شخصه مع التحفظ على حكم الله سبحانه في الواقعة فلوالي الأمر من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتصرف فيه بحسب الصلاح العام العائد إلى حال المسلمين مع التحفظ بحكم الله سبحانه في الواقعة.

و لو جاز لولي الأمر أن يتصرف في الحكم التشريعي تكليفا أو وضعا بحسب ما يراه من صلاح الوقت لم يقم حكم على ساق، و لم يكن لاستمرار الشريعة إلى يوم القيامة معنى البتة، فما الفرق بين أن يقول قائل: إن حكم التمتع من طيبات الحياة لا يلائم هيئة النسك و العبادة من الناسك فيلزم تركه، و بين أن يقول القائل: إن إباحة الاسترقاق لا تناسب وضع الدنيا الحاضرة القاضية بالحرية العامة فيلزم إهمالها، أو إن إجراء الحدود مما لا تهضمه الإنسانية الراقية اليوم، و القوانين الجارية في العالم اليوم لا تقبله فيجب تعطيله؟! و قد يفهم هذا المعنى من بعض الروايات في الباب كما في الدر المنثور،: أخرج إسحاق بن راعويه في مسنده، و أحمد عن الحسن: أن عمر بن الخطاب هم أن ينهى عن متعة الحج فقام إليه أبي بن كعب، فقال: ليس ذلك لك قد نزل بها كتاب الله و اعتمرنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزل عمر.


وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

بيان

تشتمل الآيات على تقسيم آخر للناس من حيث نتائج صفاتهم كما أن الآيات السابقة أعني قوله تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا «إلخ»، تشتمل على تقسيم لهم غير أن تلك الآيات تقسمهم من حيث طلب الدنيا أو الآخرة، و هذه الآيات تقسمهم من حيث النفاق و الخلوص في الإيمان فمناسبة الآيات مع آيات حج التمتع ظاهرة.

قوله تعالى: و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا «إلخ»، أعجبه الشيء - أي راقه و سره، و قوله: في الحياة الدنيا، متعلق بقوله: يعجبك، أي إن الإعجاب في الدنيا من جهة أن هذه الحياة نوع حياة لا تحكم إلا على الظاهر، و أما الباطن و السريرة فتحت الستر و وراء الحجاب، لا يشاهده الإنسان و هو متعلق الحياة بالدنيا إلا أن يستكشف شيئا من أمر الباطن من طريق الآثار و يناسبه ما يتلوه: من قوله تعالى: و يشهد الله على ما في قلبه، و المعنى أنه يتكلم بما يعجبك كلامه، من ما يشير به إلى رعاية جانب الحق، و العناية بصلاح الخلق، و تقدم الدين و الأمة و هو أشد الخصماء للحق خصومة و قوله: ألد، أفعل التفضيل من لد لدودا إذا اشتد خصومة، و الخصام جمع خصم كصعب و صعاب و كعب و كعاب، و قيل: الخصام مصدر، و معنى ألد الخصام أشد خصومة.

قوله تعالى: و إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها «إلخ»، التولي هو تملك الولاية و السلطان، و يؤيده قوله تعالى في الآية التالية: أخذته العزة بالإثم، الدال على أن له عزة مكتسبة بالإثم الذي يأثم به قلبه غير الموافق للسانه، و السعي هو العمل و الإسراع في المشي، فالمعنى و إذا تمكن هذا المنافق الشديد الخصومة من العمل و أوتي سلطانا و تولى أمر الناس سعى في الأرض ليفسد فيها، و يمكن أن يكون التولي بمعنى الإعراض عن المخاطبة و المواجهة، أي إذا خرج من عندك كانت غيبته مخالفة لحضوره، و تبدل ما كان يظهره من طلب الصلاح و الخير إلى السعي في الأرض لأجل الفساد و الإفساد.

قوله تعالى: و يهلك الحرث و النسل، ظاهره أنه بيان لقوله تعالى: ليفسد فيها أي يفسد فيها بإهلاك الحرث و النسل، و لما كان قوام النوع الإنساني من حيث الحياة و البقاء بالتغذي و التوليد فهما الركنان القويمان اللذان لا غناء عنهما للنوع في حال: أما التوليد فظاهر، و أما التغذي فإنما يركن الإنسان فيه إلى الحيوان و النبات، و الحيوان يركن إلى النبات، فالنبات هو الأصل و يستحفظ بالحرث و هو تربية النبات، فلذلك علق الفساد على الحرث و النسل فالمعنى أنه يفسد في الأرض بإفناء الإنسان و إبادة هذا النوع بإهلاك الحرث و النسل.

قوله تعالى: و الله لا يحب الفساد المراد، بالفساد ليس ما هو فساد في الكون و الوجود الفساد التكويني فإن النشأة نشأة الكون و الفساد، و عالم التنازع في البقاء و لا كون إلا بفساد، و لا حياة إلا بموت، و هما متعانقان في هذا الوجود الطبيعي في النشأة الطبيعية، و حاشا أن يبغض الله سبحانه ما هو مقدره و قاضيه.

و إنما هو الفساد المتعلق بالتشريع فإن الله إنما شرع ما شرعه من الدين ليصلح به أعمال عباده فيصلح أخلاقهم و ملكات نفوسهم فيعتدل بذلك حال الإنسانية و الجامعة البشرية، و عند ذلك تسعد حياتهم في الدنيا و حياتهم في الآخرة على ما سيجيء بيانه في قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة.

فهذا الذي يخالف ظاهر قوله باطن قلبه إذا سعى في الأرض بالفساد فإنما يفسد بما ظاهره الإصلاح بتحريف الكلمة عن موضعها، و تغيير حكم الله عما هو عليه، و التصرف في التعاليم الدينية، بما يؤدي إلى فساد الأخلاق و اختلاف الكلمة، و في ذلك موت الدين، و فناء الإنسانية، و فساد الدنيا، و قد صدق هذه الآيات ما جرى عليه التاريخ من ولاية رجال و ركوبهم أكتاف هذه الأمة الإسلامية، و تصرفهم في أمر الدين و الدنيا بما لم يستعقب للدين إلا وبالا، و للمسلمين إلا انحطاطا، و للأمة إلا اختلافا، فلم يلبث الدين حتى صار لعبة لكل لاعب، و لا الإنسانية إلا خطفة لكل خاطف، فنتيجة هذا السعي فساد الأرض، و ذلك بهلاك الدين أولا، و هلاك الإنسانية ثانيا، و لهذا فسر قوله و يهلك الحرث و النسل في بعض الروايات بهلاك الدين و الإنسانية كما سيأتي إن شاء الله.

قوله تعالى: و إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم و لبئس المهاد، العزة معروفة، و المهاد الوطاء، و الظاهر أن قوله: بالإثم متعلق بالعزة، و المعنى أنه إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة الظاهرة التي اكتسبها بالإثم و النفاق المستبطن في نفسه، و ذلك أن العزة المطلقة إنما هي من الله سبحانه كما قال تعالى: «تعز من تشاء و تذل من تشاء:» آل عمران - 26، و قال تعالى: «و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين:» المنافقين - 8، و قال تعالى: «أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا:» النساء - 139.

و حاشا أن ينسب تعالى شيئا إلى نفسه و يختصه بإعطائه ثم يستعقب إثما أو شرا فهذه العزة إنما هي عزة يحسبها الجاهل بحقيقة الأمر عزة بحسب ظاهر الحياة الدنيا لا عزة حقيقية أعطاها الله سبحانه لصاحبها.

و من هنا يظهر أن قوله: بالإثم ليس متعلقا بقوله: أخذته، بأن يكون الباء للتعدية، و المعنى حملته العزة على الإثم و رد الأمر بالتقوى، و تجيبه الأمر بما يسوؤه من القول، أو يكون الباء للسببية، و المعنى ظهرت فيه العزة و المناعة بسبب الإثم الذي اكتسبه، و ذلك أن إطلاق العزة على هذه الحالة النفسانية و تسميته بالعزة يستلزم إمضاءها و التصديق منه تعالى بأنها عزة حقيقية و ليست بها، بخلاف ما لو سميت عزة بالإثم.

و أما قوله تعالى: «بل الذين كفروا في عزة و شقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا و لات حين مناص:» ص - 2، فليس من قبيل التسمية و الإمضاء لكون العزة نكرة مع تعقيب الآية بقوله: كم أهلكنا من قبلهم «إلخ»، فهي هناك عزة صورية غير باقية و لا أصيلة.

قوله تعالى: و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله «إلخ»، مقابلته مع قوله تعالى: و من الناس من يعجبك قوله «إلخ»، يفيد أن الوصف مقابل الوصف أي كما أن المراد من قوله: و من الناس من يعجبك، بيان أن هناك رجلا معتزا بإثمه معجبا بنفسه متظاهرا بالإصلاح مضمرا للنفاق لا يعود منه إلى حال الدين و الإنسانية إلا الفساد و الهلاك كذلك المراد من قوله: و من الناس من يشري نفسه «إلخ»، بيان أن هناك رجلا آخر باع نفسه من الله سبحانه لا يريد إلا ما أراده الله تعالى لا هوى له في نفسه و لا اعتزاز له إلا بربه و لا ابتغاء له إلا لمرضاة الله تعالى، فيصلح به أمر الدين و الدنيا، و يحيى به الحق، و يطيب به عيش الإنسانية، و يدر به ضرع الإسلام، و بذلك يظهر ارتباط الذيل بالصدر أعني قوله تعالى: و الله رءوف بالعباد، بما قبله، فإن وجود إنسان هذه صفته من رأفة الله سبحانه بعباده إذ لو لا رجال هذه صفاتهم بين الناس في مقابل رجال آخرين صفتهم ما ذكر من النفاق و الإفساد لانهدمت أركان الدين، و لم تستقر من بناء الصلاح و الرشاد لبنة على لبنة، لكن الله سبحانه لا يزال يزهق ذاك الباطل بهذا الحق و يتدارك إفساد أعدائه بإصلاح أوليائه كما قال تعالى: «و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض:» البقرة - 251، و قال تعالى: «و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا:» الحج - 40، و قال تعالى: «فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين:» الأنعام - 89، فالفساد الطارىء على الدين و الدنيا من قبل عدة ممن لا هوى له إلا في نفسه لا يمكن سد ثلمته إلا بالصلاح الفائض من قبل آخرين ممن باع نفسه من الله سبحانه، و لا هوى له إلا في ربه، و إصلاح الأرض و من عليها، و قد ذكر هذه المعاملة الرابية عند الله بقوله تعالى: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون و يقتلون وعدا عليه حقا في التوراة و الإنجيل و القرآن و من أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به:» التوبة - 111، إلى غير ذلك من الآيات.

بحث روائي

في الدر المنثور، عن السدي: في قوله تعالى: و من الناس من يعجبك الآية، أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة، أقبل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة و قال: جئت أريد الإسلام و يعلم الله إني لصادق فأعجب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك منه فذلك قوله تعالى: و يشهد الله على ما في قلبه، ثم خرج من عند النبي فمر بزرع لقوم من المسلمين و حمر فأحرق الزرع و عقر الحمر فأنزل الله: و إذا تولى سعى في الأرض الآية.

و في المجمع، عن ابن عباس: نزلت الآيات الثلاثة في المرائي لأنه يظهر خلاف ما يبطن، قال: و هو المروي عن الصادق (عليه السلام).

أقول: و لكنه غير منطبق على ظاهر الآيات.

و في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت أنها من الآيات النازلة في أعدائهم.

و في المجمع، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و يهلك الحرث و النسل: أن المراد بالحرث هاهنا الدين، و النسل الإنسان.

أقول: و قد مر بيانه، و قد روي: أن المراد بالحرث الذرية و الزرع، و الأمر في التطبيق سهل.

و في أمالي الشيخ، عن علي بن الحسين (عليهما السلام): في قوله تعالى: و من الناس من يشري نفسه الآية، قال: نزلت في علي (عليه السلام) حين بات على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أقول: و قد تكاثرت الروايات من طرق الفريقين أنها نزلت في شأن ليلة الفراش، و رواه في تفسير البرهان، بخمس طرق عن الثعلبي و غيره.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن صهيب، قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت لي قريش يا صهيب قدمت إلينا و لا مال لك و تخرج أنت و مالك، و الله لا يكون ذلك أبدا، فقلت لهم: أ رأيتم إن دفعت لكم مالي تخلون عني؟ قالوا: نعم فدفعت إليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ربح البيع صهيب مرتين: أقول: و رواه بطرق أخرى في بعضها و نزلت: و من الناس من يشري نفسه الآية، و في بعضها نزلت في صهيب و أبي ذر بشرائهما أنفسهما بأموالهما و قد مر أن الآية لا تلائم كون المراد بالشراء الاشتراء.

و في المجمع، عن علي (عليه السلام): أن المراد بالآية الرجل يقتل على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

أقول: و هو بيان لعموم الآية و لا ينافي كون النزول لشأن خاص.


تفسير من أول الآية 208
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 12:00 pm

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208) فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (210)

بيان

هذه الآيات و هي قوله: يا أيها الذين آمنوا إلى قوله: ألا إن نصر الله قريب الآية سبع آيات كاملة تبين طريق التحفظ على الوحدة الدينية في الجامعة الإنسانية و هو الدخول في السلم و القصر على ما ذكره الله من القول و ما أراه من طريق العمل، و أنه لم ينفصم وحدة الدين، و لا ارتحلت سعادة الدارين، و لا حلت الهلكة دار قوم إلا بالخروج عن السلم، و التصرف في آيات الله تعالى بتغييرها و وضعها في غير موضعها، شوهد ذلك في بني إسرائيل و غيرهم من الأمم الغابرة و سيجري نظيرها في هذه الأمة لكن الله يعدهم بالنصر: ألا إن نصر الله قريب.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، السلم و الإسلام و التسليم واحدة، و كافة كلمة تأكيد بمعنى جميعا، و لما كان الخطاب للمؤمنين و قد أمروا بالدخول في السلم كافة، فهو أمر متعلق بالمجموع و بكل واحد من أجزائه، فيجب ذلك على كل مؤمن، و يجب على الجميع أيضا أن لا يختلفوا في ذلك و يسلموا الأمر لله و لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أيضا الخطاب للمؤمنين خاصة فالسلم المدعو إليه هو التسليم لله سبحانه بعد الإيمان به فيجب على المؤمنين أن يسلموا الأمر إليه، و لا يذعنوا لأنفسهم صلاحا باستبداد من الرأي، و لا يضعوا لأنفسهم من عند أنفسهم طريقا يسلكونه من دون أن يبينه الله و رسوله، فما هلك قوم إلا باتباع الهوى و القول بغير العلم، و لم يسلب حق الحياة و سعادة الجد عن قوم إلا عن اختلاف.

و من هنا ظهر: أن المراد من اتباع خطوات الشيطان ليس اتباعه في جميع ما يدعو إليه من الباطل بل اتباعه فيما يدعو إليه من أمر الدين بأن يزين شيئا من طرق الباطل بزينة الحق و يسمي ما ليس من الدين باسم الدين فيأخذ به الإنسان من غير علم، و علامة ذلك عدم ذكر الله و رسوله إياه في ضمن التعاليم الدينية.

و خصوصيات سياق الكلام و قيوده تدل على ذلك أيضا: فإن الخطوات إنما تكون في طريق مسلوك، و إذا كان سالكه هو المؤمن، و طريقه إنما هو طريق الإيمان فهو طريق شيطاني في الإيمان، و إذا كان الواجب على المؤمن هو الدخول في السلم فالطريق الذي يسلكه من غير سلم من خطوات الشيطان، و اتباعه اتباع خطوات الشيطان.

فالآية نظيرة قوله تعالى: «يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا و لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء و الفحشاء و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون:» البقرة - 169 و قد مر الكلام في الآية، و قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان و من يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء و المنكر:» النور - 21، و قوله تعالى: كلوا مما رزقكم الله و لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين:» الأنعام - 142، و الفرق بين هذه الآية و بين تلك أن الدعوة في هذه موجهة إلى الجماعة لمكان قوله تعالى: كافة بخلاف تلك الآيات فهي عامة، فهذه الآية في معنى قوله تعالى: «و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا:» آل عمران - 103، و قوله تعالى: «و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله:» الأنعام - 153، و يستفاد من الآية أن الإسلام متكفل لجميع ما يحتاج إليه الناس من الأحكام و المعارف التي فيه صلاح الناس.

قوله تعالى: فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات، الزلة هي العثرة، و المعنى فإن لم تدخلوا في السلم كافة و زللتم و الزلة هي اتباع خطوات الشيطان فاعلموا أن الله عزيز غير مغلوب في أمره، حكيم لا يتعدى عما تقتضيه حكمته من القضاء في شأنكم فيقضي فيكم ما تقتضيه حكمته، و يجريه فيكم من غير أن يمنع عنه مانع.

قوله تعالى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام «إلخ»، الظلل جمع ظلة و هي ما يستظل به، و ظاهر الآية أن الملائكة عطف على لفظ الجلالة، و في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة و تبديل خطابهم بخطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإعراض عن مخاطبتهم بأن هؤلاء حالهم حال من ينتظر ما أوعدناهم به من القضاء على طبق ما يختارونه من اتباع خطوات الشيطان و الاختلاف و التمزق، و ذلك بأن يأتيهم الله في ظلل من الغمام و الملائكة، و يقضي الأمر من حيث لا يشعرون، أو بحيث لا يعبأ بهم و بما يقعون فيه من الهلاك، و إلى الله ترجع الأمور، فلا مفر من حكمه و قضائه، فالسياق يقتضي أن يكون قوله: هل ينظرون، هو الوعيد الذي أوعدهم به في قوله تعالى في الآية السابقة فاعلموا أن الله عزيز حكيم.

ثم إن من الضروري الثابت بالضرورة من الكتاب و السنة أن الله سبحانه و تعالى لا يوصف بصفة الأجسام، و لا ينعت بنعوت الممكنات مما يقضي بالحدوث، و يلازم الفقر و الحاجة و النقص، فقد قال تعالى: «ليس كمثله شيء:» الشورى - 11، و قال تعالى: «و الله هو الغني:» الفاطر - 15، و قال تعالى: «الله خالق كل شيء:» الزمر - 62، إلى غير ذلك من الآيات، و هي آيات محكمات ترجع إليها متشابهات القرآن، فما ورد من الآيات و ظاهرها إسناد شيء من الصفات أو الأفعال الحادثة إليه تعالى ينبغي أن يرجع إليها، و يفهم منها معنى من المعاني لا ينافي صفاته العليا و أسماءه الحسنى تبارك و تعالى، فالآيات المشتملة على نسبة المجيء أو الإتيان إليه تعالى كقوله تعالى: «و جاء ربك و الملك صفا صفا:» الفجر - 22، و قوله تعالى: «فأتيهم الله من حيث لم يحتسبوا:» الحشر - 2، و قوله تعالى: «فأتى الله بنيانهم من القواعد:» النحل - 26، كل ذلك يراد فيها معنى يلائم ساحة قدسه تقدست أسماؤه كالإحاطة و نحوها و لو مجازا، و على هذا فالمراد بالإتيان في قوله تعالى: إن يأتيهم الله الإحاطة بهم للقضاء في حقهم.

على أنا نجده سبحانه و تعالى في موارد من كلامه إذا سلب نسبة من النسب و فعلا من الأفعال عن استقلال الأسباب و وساطة الأوساط فربما نسبها إلى نفسه و ربما نسبها إلى أمره كقوله تعالى: «الله يتوفى الأنفس:» الزمر - 42، و قوله تعالى: «يتوفيكم ملك الموت:» السجدة - 11، و قوله تعالى: «توفته رسلنا:» الأنعام - 61، فنسب التوفي تارة إلى نفسه، و تارة إلى الملائكة ثم قال تعالى: في أمر الملائكة: «بأمره يعملون:» الأنبياء - 27، و كذلك قوله تعالى: إن ربك يقضي بينهم:» يونس - 93، و قوله تعالى: «فإذا جاء أمر الله قضي بالحق:» المؤمن - 78، و كما في هذه الآية: أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام الآية، و قوله تعالى: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك:» النحل - 33.

و هذا يوجب صحة تقدير الأمر في موارد تشتمل على نسبة أمور إليه لا تلائم كبرياء ذاته تعالى نظير: جاء ربك، و يأتيهم الله، فالتقدير جاء أمر ربك و يأتيهم أمر الله.

فهذا هو الذي يوجبه البحث الساذج في معنى هذه النسب على ما يراه جمهور المفسرين لكن التدبر في كلامه تعالى يعطي لهذه النسب معنى أرق و ألطف من ذلك، و ذلك أن أمثال قوله تعالى: «و الله هو الغني:» الفاطر - 15، و قوله تعالى: «العزيز الوهاب:» ص - 9، و قوله «تعالى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى:» طه - 50، تفيد أنه تعالى واجد لما يعطيه من الخلقة و شئونها و أطوارها، مليء بما يهبه و يجود به و إن كانت أفهامنا من جهة اعتيادها بالمادة و أحكامها الجسمانية يصعب عليها تصور كيفية اتصافه تعالى ببعض ما يفيض على خلقه من الصفات و نسبته إليه تعالى، لكن هذه المعاني إذا جردت عن قيود المادة و أوصاف الحدثان لم يكن في نسبته إليه تعالى محذور فالنقص و الحاجة هو الملاك في سلب معنى من المعاني عنه تعالى، فإذا لم يصاحب المعنى نقصا و حاجة لتجريده عنه صح إسناده إليه تعالى بل وجب ذلك لأن كل ما يقع عليه اسم شيء فهو منه تعالى بوجه على ما يليق بكبريائه و عظمته.

فالمجيء و الإتيان الذي هو عندنا قطع الجسم مسافة بينه و بين جسم آخر بالحركة و اقترابه منه إذا جرد عن خصوصية المادة كان هو حصول القرب، و ارتفاع المانع و الحاجز بين شيئين من جهة من الجهات، و حينئذ صح إسناده إليه تعالى حقيقة من غير مجاز: فإتيانه تعالى إليهم ارتفاع الموانع بينهم و بين قضائه فيهم، و هذه من الحقائق القرآنية التي لم يوفق الأبحاث البرهانية لنيله إلا بعد إمعان في السير، و ركوبها كل سهل و وعر، و إثبات التشكيك في الحقيقة الوجودية الأصيلة.

و كيف كان فهذه الآية تتضمن الوعيد الذي ينبىء عنه قوله سبحانه في الآية السابقة: إن الله عزيز حكيم، و من الممكن أن يكون وعيدا بما سيستقبل القوم في الآخرة يوم القيامة كما هو ظاهر قوله تعالى في نظير الآية: «هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك:» النحل - 33، و من الممكن أن يكون وعيدا بأمر متوقع الحصول في الدنيا كما يظهر بالرجوع إلى ما في سورة يونس بعد قوله تعالى: «و لكل أمة رسول:» يونس - 47، و ما في سورة الروم بعد قوله تعالى: «و أقم وجهك للدين حنيفا:» الروم - 30، و ما في سورة الأنبياء و غيرها على أن الآخرة آجلة هذه العاجلة و ظهور تام لما في هذه الدنيا، و من الممكن أيضا أن يكون وعيدا بما سيقع في الدنيا و الآخرة معا، و كيف كان فقوله في ظلل من الغمام يشتمل من المعنى على ما يناسب مورده.

قوله تعالى: و قضي الأمر و إلى الله ترجع الأمور، السكوت عن ذكر فاعل القضاء، و هو الله سبحانه كما يدل عليه قوله: و إلى الله ترجع الأمور، لإظهار الكبرياء على ما يفعله الأعاظم في الأخبار عن وقوع أحكامهم و صدور أوامرهم و هو كثير في القرآن.

بحث روائي

قد تقدم في قوله تعالى: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا الآية عدة روايات تؤيد ما ذكرناه من معنى اتباع خطوات الشيطان فارجع، و في بعض الروايات أن السلم هو الولاية و هو من الجري على ما مر مرارا في نظائره.

و في التوحيد، و المعاني، عن الرضا (عليه السلام): في قوله تعالى: «هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام» قال: يقول: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام و هكذا نزلت، و عن قول الله عز و جل. «و جاء ربك و الملك» صفا صفا قال: إن الله عز و جل لا يوصف بالمجيء و الذهاب، تعالى عن الانتقال و إنما يعني به و جاء أمر ربك و الملك صفا صفا.

أقول: قوله (عليه السلام) يقول هل ينظرون، معناه يريد هل ينظرون فهو تفسير للآية و ليس من قبيل القراءة.

و المعنى الذي ذكره هو بعينه ما قربناه من كون المراد بإتيانه تعالى إتيان أمره فإن الملائكة إنما تعمل ما تعمل و تنزل حين تنزل بالأمر، قال تعالى: «بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون:» الأنبياء - 27، و قال تعالى: «ينزل الملائكة بالروح من أمره:» النحل - 2.

و هاهنا معنى آخر احتمله بعضهم و هو أن يكون الاستفهام الإنكاري في قوله: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله «إلخ»، لإنكار مجموع الجملة لا لإنكار المدخول فقط، و المعنى أن هؤلاء لا ينتظرون إلا أمرا محالا و هو: أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام كما يأتي الجسم إلى الجسم و يأتي معه الملائكة فيأمرهم و ينهاهم و هو محال، فهو كناية عن استحالة تقويمهم بهذه المواعظ و التنبيهات، و فيه: أنه لا يلائم ما مر: أن الآيات ذات سياق واحد و لازمه أن يكون الكلام متوجها إلى حال المؤمنين، و المؤمنون لا يلائم حالهم مثل هذا البيان، على أن الكلام لو كان مسوقا لإفادة ذلك لم يخل من الرد عليهم كما هو دأب القرآن في أمثال ذلك كقوله تعالى: «و قال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم و عتوا عتوا كبيرا: الفرقان - 21، و قوله تعالى: «و قالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه:» الأنبياء - 26.

على أنه لم يكن حينئذ وجه لقوله تعالى: في ظلل من الغمام، و لا نكتة ظاهرة لبقية الكلام و هو ظاهر.

بحث روائي آخر

اعلم أنه ورد عن أئمة أهل البيت تفسير الآية بيوم القيامة كما في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام)، و تفسيرها بالرجعة كما رواه الصدوق عن الصادق (عليه السلام)، و تفسيرها بظهور المهدي (عليه السلام) كما رواه العياشي في تفسيره، عن الباقر (عليه السلام) بطريقين.

و نظائره كثيرة فإذا تصفحت وجدت شيئا كثيرا من الآيات ورد تفسيرها عن أئمة أهل البيت تارة بالقيامة و أخرى بالرجعة و ثالثة بالظهور، و ليس ذلك إلا لوحدة و سنخية بين هذه المعاني، و الناس لما لم يبحثوا عن حقيقة يوم القيامة و لم يستفرغوا الوسع في الكشف عما يعطيه القرآن من هوية هذا اليوم العظيم تفرقوا في أمر هذه الروايات، فمنهم من طرح هذه الروايات، و هي مات و ربما زادت على خمسمائة رواية في أبواب متفرقة، و منهم من أولها على ظهورها و صراحتها، و منهم - و هم أمثل طريقة - من ينقلها و يقف عليها من غير بحث.

و غير الشيعة و هم عامة المسلمين و إن أذعنوا بظهور المهدي و رووه بطرق متواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنهم أنكروا الرجعة و عدوا القول بها من مختصات الشيعة، و ربما لحق بهم في هذه الأعصار بعض المنتسبين إلى الشيعة، و عد ذلك من الدس الذي عمله اليهود و بعض المتظاهرين بالإسلام كعبد الله بن سبإ و أصحابه، و بعضهم رام إبطال الرجعة بما زعمه من الدليل العقلي فقال: ما حاصله: «أن الموت بحسب العناية الإلهية لا يطرأ على حي حتى يستكمل كمال الحياة و يخرج من القوة إلى الفعل في كل ما له من الكمال فرجوعه إلى الدنيا بعد موته رجوع إلى القوة و هو بالفعل، هذا محال إلا أن يخبر به مخبر صادق و هو الله سبحانه أو خليفة من خلفائه كما أخبر به في قصص موسى و عيسى و إبراهيم (عليهما السلام) و غيرهم.

و لم يرد منه تعالى و لا منهم في أمر الرجعة شيء و ما يتمسك به المثبتون غير تام، ثم أخذ في تضعيف الروايات فلم يدع منها صحيحة و لا سقيمة، هذا.

و لم يدر هذا المسكين أن دليله هذا لو تم دليلا عقليا أبطل صدره ذيله فما كان محالا ذاتيا لم يقبل استثناء و لم ينقلب بإخبار المخبر الصادق ممكنا، و أن المخبر بوقوع المحال لا يكون صادقا و لو فرض صدقه في إخباره أوجب ذلك اضطرارا تأويل كلامه إلى ما يكون ممكنا كما لو أخبر بأن الواحد ليس نصف الاثنين، و أن كل صادق فهو بعينه كاذب.

و ما ذكره من امتناع عود ما خرج من القوة إلى الفعل إلى القوة ثانيا حق لكن الصغرى ممنوعة فإنه إنما يلزم المحال المذكور في إحياء الموتى و رجوعهم إلى الدنيا بعد الخروج عنها إذا كان ذلك بعد الموت الطبيعي الذي افترضوه، و هو أن تفارق النفس البدن بعد خروجها من القوة إلى الفعل خروجا تاما ثم مفارقتها البدن بطباعها.

و أما الموت الاخترامي الذي يكون بقسر قاسر كقتل أو مرض فلا يستلزم الرجوع إلى الدنيا بعده محذورا، فإن من الجائز أن يستعد الإنسان لكمال موجود في زمان بعد زمان حياته الدنيوية الأولى فيموت ثم يحيى لحيازة الكمال المعد له في الزمان الثاني، أو يستعد لكمال مشروط بتخلل حياة ما في البرزخ فيعود إلى الدنيا بعد استيفاء الشرط، فيجوز على أحد الفرضين الرجعة إلى الدنيا من غير محذور المحال و تمام الكلام موكول إلى غير هذا المقام.

و أما ما ناقشه في كل واحد من الروايات ففيه: أن الروايات متواترة معنى عن أئمة أهل البيت، حتى عد القول بالرجعة عند المخالفين من مختصات الشيعة و أئمتهم من لدن الصدر الأول، و التواتر لا يبطل بقبول آحاد الروايات للخدشة و المناقشة، على أن عدة من الآيات النازلة فيها، و الروايات الواردة فيها تامة الدلالة قابلة الاعتماد، و سيجيء التعرض لها في الموارد المناسبة لها كقوله تعالى: «و يوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا:» النمل: 83 و غيره من الآيات.

على أن الآيات بنحو الإجمال دالة عليها كقوله تعالى: «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم:» البقرة - 214، و من الحوادث الواقعة قبلنا ما وقع من إحياء الأموات كما قصه القرآن من قصص إبراهيم و موسى و عيسى و عزير و أرميا و غيرهم، و قد قال رسول الله فيما رواه الفريقان: «و الذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة لا تخطئون طريقهم و لا يخطئكم سنن بني إسرائيل».

على أن هذه القضايا التي أخبرنا بها أئمة أهل البيت من الملاحم المتعلقة بآخر الزمان، و قد أثبتها النقلة و الرواة في كتب محفوظة النسخ عندنا سابقة تأليفا و كتابة على الوقوع بقرون و أزمنة طويلة نشاهد كل يوم صدق شطر منها من غير زيادة و نقيصة فلنحقق صحة جميعها و صدق جميع مضامينها.

و لنرجع إلى بدء الكلام الذي كنا فيه و هو ورود تفسير آية واحدة بيوم القيامة تارة، و بالرجعة أو الظهور تارة أخرى، فنقول: الذي يتحصل من كلامه تعالى فيما ذكره تعالى من أوصاف يوم القيامة و نعوته أنه يوم لا يحجب فيه سبب من الأسباب و لا شاغل من الشواغل عنه سبحانه فيفنى فيه جميع الأوهام و يظهر فيه آياته كمال الظهور و هذا يوم لا يبطل وجوده و تحققه تحقق هذا النشأة الجسمانية و وجودها فلا شيء يدل على ذلك من كتاب و سنة بل الأمر على خلاف ذلك غير أن الظاهر من الكتاب و السنة أن البشر أعني هذا النسل الذي أنهاه الله سبحانه إلى آدم و زوجته سينقرض عن الدنيا قبل طلوع هذا اليوم لهم.

و لا مزاحمة بين النشأتين أعني نشأة الدنيا و نشأة البعث، حتى يدفع بعضها بعضا كما أن النشأة البرزخية و هي ثابتة الآن للأموات منا لا تدفع الدنيا، و لا الدنيا تدفعها قال تعالى: «تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم و لهم عذاب أليم:» النحل - 63.

فهذه حقيقة يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء، و لذلك ربما سمي يوم الموت بالقيامة لارتفاع حجب الأسباب عن توهم الميت، فعن علي (عليه السلام): «من مات قامت قيامته»، و سيجيء بيان الجميع إن شاء الله.

و الروايات المثبتة للرجعة و إن كانت مختلفة الآحاد إلا أنها على كثرتها متحدة في معنى واحد و هو أن سير النظام الدنيوي متوجه إلى يوم تظهر فيه آيات الله كل الظهور، فلا يعصى فيه سبحانه و تعالى بل يعبد عبادة خالصة، لا يشوبها هوى نفس، و لا يعتريه إغواء الشيطان، و يعود فيه بعض الأموات من أولياء الله تعالى و أعدائه إلى الدنيا، و يفصل الحق من الباطل.

و هذا يفيد: أن يوم الرجعة من مراتب يوم القيامة، و إن كان دونه في الظهور لإمكان الشر و الفساد فيه في الجملة دون يوم القيامة، و لذلك ربما ألحق به يوم ظهور المهدي (عليه السلام) أيضا لظهور الحق فيه أيضا تمام الظهور و إن كان هو أيضا دون الرجعة، و قد ورد عن أئمة أهل البيت: «أيام الله ثلاثة: يوم الظهور و يوم الكرة و يوم القيامة»، و في بعضها: «أيام الله ثلاثة: يوم الموت و يوم الكرة و يوم القيامة»، و هذا المعنى أعني الاتحاد بحسب الحقيقة، و الاختلاف بحسب المراتب هو الموجب لما ورد من تفسيرهم (عليهم السلام) بعض الآيات بالقيامة تارة و بالرجعة أخرى و بالظهور ثالثة، و قد عرفت مما تقدم من الكلام أن هذا اليوم ممكن في نفسه بل واقع، و لا دليل مع المنكر يدل على نفيه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 12:16 pm

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213)

بيان

الآية تبين السبب في تشريع أصل الدين و تكليف النوع الإنساني به، و سبب وقوع الاختلاف فيه ببيان: أن الإنسان - و هو نوع مفطور على الاجتماع و التعاون - كان في أول اجتماعه أمة واحدة، ثم ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة، و المشاجرات في لوازم الحياة فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين، و شفعت بالتبشير و الإنذار: بالثواب و العقاب، و أصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين، و إرسال المرسلين، ثم اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدإ و المعاد، فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية، و ظهرت الشعوب و الأحزاب، و تبع ذلك الاختلاف في غيره، و لم يكن هذا الاختلاف الثاني إلا بغيا من الذين أوتوا الكتاب، و ظلما و عتوا منهم بعد ما تبين لهم أصوله و معارفه، و تمت عليهم الحجة، فالاختلاف اختلافان: اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم و غريزتهم، و اختلاف في أمر الدنيا و هو فطري و سبب لتشريع الدين، ثم هدى الله سبحانه المؤمنين إلى الحق المختلف فيه بإذنه، و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

فالدين الإلهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الإنساني، و المصلح لأمر حياته، يصلح الفطرة بالفطرة و يعدل قواها المختلفة عند طغيانها، و ينظم للإنسان سلك حياته الدنيوية و الأخروية، و المادية و المعنوية، فهذا إجمال تاريخ حياة هذا النوع الحياة الاجتماعية و الدينية على ما تعطيه هذه الآية الشريفة.

و قد اكتفت في تفصيل ذلك بما تفيده متفرقات الآيات القرآنية النازلة في شئون مختلفة.

بدء تكوين الإنسان

و محصل ما تبينه تلك الآيات على تفرقها أن النوع الإنساني و لا كل نوع إنساني بل هذا النسل الموجود من الإنسان ليس نوعا مشتقا من نوع آخر حيواني أو غيره: حولته إليه الطبيعة المتحولة المتكاملة، بل هو نوع أبدعه الله تعالى من الأرض، فقد كانت الأرض و ما عليها و السماء و لا إنسان ثم خلق زوجان اثنان من هذا النوع و إليهما ينتهي هذا النسل الموجود، قال تعالى: «إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل:» الحجرات - 13، و قال تعالى: «خلقكم من نفس واحدة و جعل منها زوجها:» الأعراف - 189، و قال تعالى: «كمثل آدم خلقه من تراب:» آل عمران - 59، و أما ما افترضه علماء الطبيعة من تحول الأنواع و أن الإنسان مشتق من القرد، و عليه مدار البحث الطبيعي اليوم أو متحول من السمك على ما احتمله بعض فإنما هي فرضية، و الفرضية غير مستند إلى العلم اليقيني و إنما توضع لتصحيح التعليلات و البيانات العلمية، و لا ينافي اعتبارها اعتبار الحقائق اليقينية، بل حتى الإمكانات الذهنية، إذ لا اعتبار لها أزيد من تعليل الآثار و الأحكام المربوطة بموضوع البحث، و سنستوعب هذا البحث إن شاء الله في سورة آل عمران في قوله تعالى: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب:» آل عمران - 59.

تركبه من روح و بدن

و قد أنشأ الله سبحانه هذا النوع، حين ما أنشأ مركبا من جزءين و مؤلفا من جوهرين، مادة بدنية، و جوهر مجرد هي النفس و الروح، و هما متلازمان و متصاحبان ما دامت الحياة الدنيوية، ثم يموت البدن و يفارقه الروح الحية، ثم يرجع الإنسان إلى الله سبحانه قال تعالى: «و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون:» المؤمنون - 16، انظر إلى موضع قوله ثم أنشأناه خلقا آخر، و في هذا المعنى قوله تعالى: «فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين:» ص - 72، و أوضح من الجميع قوله سبحانه «و قالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ ئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون:» السجدة - 11، فإنه تعالى أجاب عن إشكالهم بتفرق الأعضاء و الأجزاء و استهلاكها في الأرض بعد الموت فلا تصلح للبعث بأن ملك الموت يتوفاهم و يضبطهم فلا يدعهم، فهم غير أبدانهم! فأبدانهم تضل في الأرض لكنهم أي نفوسهم غير ضالة و لا فائتة و لا مستهلكة، و سيجيء إن شاء الله استيفاء البحث عما يعطيه القرآن في حقيقة الروح الإنساني في المحل المناسب له.

شعوره الحقيقي و ارتباطه بالأشياء

و قد خلق الله سبحانه هذا النوع، و أودع فيه الشعور، و ركب فيه السمع و البصر و الفؤاد ففيه قوة الإدراك و الفكر، بها يستحضر ما هو ظاهر عنده من الحوادث و ما هو موجود في الحال و ما كان و ما سيكون و يئول إليه أمر الحدوث و الوقوع، فله إحاطة ما بجميع الحوادث، قال تعالى: «علم الإنسان ما لم يعلم:» العلق 5، و قال تعالى: «و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة:» النحل - 78، و قال تعالى «و علم آدم الأسماء كلها:» البقرة - 31، و قد اختار تعالى لهذا النوع سنخ وجود يقبل الارتباط بكل شيء، و يستطيع الانتفاع من كل أمر، أعم من الاتصال أو التوسل به إلى غيره بجعله آلة و أداة للاستفادة من غيره، كما نشاهده من عجيب احتيالاته الصناعية، و سلوكه في مسالكه الفكرية، قال تعالى: «خلق لكم ما في الأرض جميعا»: البقرة - 29، و قال تعالى: «و سخر لكم ما في السموات و الأرض جميعا منه:» الجاثية - 13، إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بكون الأشياء مسخرة للإنسان.

علومه العملية

و أنتجت هاتان العنايتان: أعني قوة الفكر و الإدراك و رابطة التسخير عناية ثالثة عجيبة و هي أن يهيىء لنفسه علوما و إدراكات يعتبرها اعتبارا للورود في مرحلة التصرف في الأشياء و فعلية التأثير و الفعل في الموجودات الخارجة عنه للانتفاع بذلك في حفظ وجوده و بقائه. توضيح ذلك: أنك إذا خليت ذهنك و أقبلت به على الإنسان، هذا الموجود الأرضي الفعال بالفكر و الإرادة، و اعتبرت نفسك كأنك أول ما تشاهده و تقبل عليه وجدت الفرد الواحد منه أنه في أفعاله الحيوية يوسط إدراكات و أفكار جمة غير محصورة يكاد يدهش من كثرتها و اتساع أطرافها و تشتت جهاتها العقل، و هي علوم كانت العوامل في حصولها و اجتماعها و تجزيها و تركبها الحواس الظاهرة و الباطنة من الإنسان، أو تصرف القوة الفكرية فيها تصرفا ابتدائيا أو تصرفا بعد تصرف، و هذا أمر واضح يجده كل إنسان من نفسه و من غيره لا يحتاج في ذلك إلى أزيد من تنبيه و إيقاظ.

ثم إذا كررت النظر في هذه العلوم و الإدراكات وجدت شطرا منها لا يصلح لأن يتوسط بين الإنسان و بين أفعاله الإرادية كمفاهيم الأرض و السماء و الماء و الهواء و الإنسان و الفرس و نحو ذلك من التصورات، و كمعاني قولنا: الأربعة زوج، و الماء جسم سيال و التفاح أحد الثمرات، و غير ذلك من التصديقات، و هي علوم و إدراكات تحققت عندنا من الفعل و الانفعال الحاصل بين المادة الخارجية و بين حواسنا و أدواتنا الإدراكية، و نظيرها علمنا الحاصل لنا من مشاهدة نفوسنا و حضورها لدينا ما نحكي عنه بلفظ أنا، و الكليات الآخر المعقولة، فهذه العلوم و الإدراكات لا يوجب حصولها لنا تحقق إرادة و لا صدور فعل، بل إنما تحكي عن الخارج حكاية.

و هناك شطر آخر بالعكس من الشطر السابق كقولنا: إن هناك حسنا و قبحا و ما ينبغي أن يفعل و ما يجب أن يترك، و الخير يجب رعايته، و العدل حسن، و الظلم قبيح و مثل مفاهيم الرئاسة و المرءوسية، و العبدية و المولوية فهذه سلسلة من الأفكار و الإدراكات لا هم لنا إلا أن نشتغل بها و نستعملها و لا يتم فعل من الأفعال الإرادية إلا بتوسيطها و التوسل بها لاقتناء الكمال و حيازة مزايا الحياة.

و هي مع ذلك لا تحكي عن أمور خارجية ثابتة في الخارج مستقلة عنا و عن أفهامنا كما كان الأمر كذلك في القسم الأول فهي علوم و إدراكات غير خارجة عن محوطة العمل و لا حاصلة فينا عن تأثير العوامل الخارجية، بل هي مما هيأناه نحن و ألهمناه من قبل إحساسات باطنية حصلت فينا من جهة اقتضاء قوانا الفعالة، و جهازاتنا العاملة للفعل و العمل، فقوانا الغاذية أو المولدة للمثل بنزوعها نحو العمل، و نفورها عما لا يلائمها يوجب حدوث صور من الإحساسات: كالحب و البغض، و الشوق و الميل و الرغبة، ثم هذه الصور الإحساسية تبعثنا إلى اعتبار هذه العلوم و الإدراكات من معنى الحسن و القبح، و ينبغي و لا ينبغي، و يجب و يجوز، إلى غير ذلك، ثم بتوسطها بيننا و بين المادة الخارجية و فعلنا المتعلق بها يتم لنا الأمر، فقد تبين أن لنا علوما و إدراكات لا قيمة لها إلا العمل، و هي المسماة بالعلوم العملية و لاستيفاء البحث عنها محل آخر.

و الله سبحانه ألهمها الإنسان ليجهزه للورود في مرحلة العمل، و الأخذ بالتصرف في الكون، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، قال تعالى: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى:» طه - 50، و قال تعالى: «الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى:» الأعلى - 3، و هذه هداية عامة لكل موجود مخلوق إلى ما هو كمال وجوده، و سوق له إلى الفعل و العمل لحفظ وجوده و بقائه، سواء كان ذا شعور أو فاقدا للشعور.

و قال تعالى في الإنسان خاصة: «و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقويها:» الشمس - 8، فأفاد أن الفجور و التقوى معلومان للإنسان بإلهام فطري منه تعالى، و هما ما ينبغي أن يفعله أو يراعيه و ما لا ينبغي، و هي العلوم العملية التي لا اعتبار لها خارجة عن النفس الإنسانية، و لعله إليه الإشارة بإضافة الفجور و التقوى إلى النفس.

و قال تعالى: «و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون:» العنكبوت - 64، فإن اللعب لا حقيقة له إلا الخيال فقط، كذا الحياة الدنيا: من جاه و مال و تقدم و تأخر و رئاسة و مرءوسية و غير ذلك إنما هي أمور خيالية لا واقع لها في الخارج عن ذهن الذاهن، بمعنى أن الذي في الخارج إنما هو حركات طبيعية يتصرف بها الإنسان في المادة من غير فرق في ذلك بين أفراد الإنسان و أحواله.

فالموجود بحسب الواقع من «الإنسان الرئيس» إنسانيته، و أما رئاسته فإنما هي في الوهم، و من «الثوب المملوك» الثوب مثلا، و أما إنه مملوك فأمر خيالي لا يتجاوز حد الذهن، و على هذا القياس.

جريه على استخدام غيره انتفاعا

فهذه السلسلة من العلوم و الإدراكات هي التي تربط الإنسان بالعمل في المادة، و من جملة هذه الأفكار و التصديقات تصديق الإنسان بأنه يجب أن يستخدم كل ما يمكنه استخدامه في طريق كماله، و بعبارة أخرى إذعانه بأنه ينبغي أن ينتفع لنفسه، و يستبقي حياته بأي سبب أمكن و بذلك يأخذ في التصرف في المادة، و يعمل آلات من المادة، يتصرف بها في المادة كاستخدام السكين للقطع، و استخدام الإبرة للخياطة، و استخدام الإناء لحبس المائعات، و استخدام السلم للصعود، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، و لا يحد من حيث التركيب و التفصيل، و أنواع الصناعات و الفنون المتخذة لبلوغ المقاصد و الأغراض المنظور فيها.

و بذلك يأخذ الإنسان أيضا في التصرف في النبات بأنواع التصرف، فيستخدم أنواع النبات بالتصرف فيها في طريق الغذاء و اللباس و السكنى و غير ذلك، و بذلك يستخدم أيضا أنواع الحيوان في سبيل منافع حياته، فينتفع من لحمها و دمها و جلدها و شعرها و وبرها و قرنها و روثها و لبنها و نتاجها و جميع أفعالها، و لا يقتصر على سائر الحيوان دون أن يستخدم سائر أفراد نوعه من الآدميين، فيستخدمها كل استخدام ممكن، و يتصرف في وجودها و أفعالها بما يتيسر له من التصرف، كل ذلك مما لا ريب فيه.

كونه مدنيا بالطبع

غير أن الإنسان لما وجد سائر الأفراد من نوعه، و هم أمثاله، يريدون منه ما يريده منهم، صالحهم و رضي منهم أن ينتفعوا منه وزان ما ينتفع منهم، و هذا حكمه بوجوب اتخاذ المدنية، و الاجتماع التعاوني، و يلزمه الحكم بلزوم استقرار الاجتماع بنحو ينال كل ذي حق حقه، و يتعادل النسب و الروابط، و هو العدل الاجتماعي.

فهذا الحكم أعني حكمه بالاجتماع المدني، و العدل الاجتماعي إنما هو حكم دعا إليه الاضطرار، و لو لا الاضطرار المذكور لم يقض به الإنسان أبدا، و هذا معنى ما يقال: إن الإنسان مدني بالطبع، و إنه يحكم بالعدل الاجتماعي، فإن ذلك أمر ولده حكم الاستخدام المذكور اضطرارا على ما مر بيانه، و لذلك كلما قوي إنسان على آخر ضعف حكم الاجتماع التعاوني و حكم العدل الاجتماعي أثرا فلا يراعيه القوي في حق الضعيف و نحن نشاهد ما يقاسيه ضعفاء الملل من الأمم القوية، و على ذلك جرى التاريخ أيضا إلى هذا اليوم الذي يدعى أنه عصر الحضارة و الحرية.

و هو الذي يستفاد من كلامه تعالى كقوله تعالى: «إنه كان ظلوما جهولا:» الأحزاب - 72، و قوله تعالى: «إن الإنسان خلق هلوعا:» المعارج - 19، و قوله تعالى: «إن الإنسان لظلوم كفار:» إبراهيم - 34، و قوله تعالى: «إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى:» العلق - 7.

و لو كان العدل الاجتماعي مما يقتضيه طباع الإنسان اقتضاء أوليا لكان الغالب على الاجتماعات في شئونها هو العدل، و حسن تشريك المساعي، و مراعاة التساوي، مع أن المشهود دائما خلاف ذلك، و إعمال القدرة و الغلبة و تحميل القوي العزيز مطالبه الضعيف، و استدلال الغالب للمغلوب و استعباده في طريق مقاصده و مطامعه.

حدوث الاختلاف بين أفراد الإنسان

و من هنا يعلم أن قريحة الاستخدام في الإنسان بانضمامها إلى الاختلاف الضروري بين الأفراد من حيث الخلقة و منطقة الحياة و العادات و الأخلاق المستندة إلى ذلك، و إنتاج ذلك للاختلاف الضروري من حيث القوة و الضعف يؤدي إلى الاختلاف و الانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعي، فيستفيد القوي من الضعيف أكثر مما يفيده، و ينتفع الغالب من المغلوب من غير أن ينفعه و يقابله الضعيف المغلوب ما دام ضعيفا مغلوبا بالحيلة و المكيدة و الخدعة، فإذا قوي و غلب قابل ظالمه بأشد الانتقام، فكان بروز الاختلاف مؤديا إلى الهرج و المرج، و داعيا إلى هلاك الإنسانية، و فناء الفطرة، و بطلان السعادة.

و إلى ذلك يشير تعالى بقوله: «و ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا:» يونس - 19، و قوله تعالى: «و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم:» هود - 119، و قوله تعالى في الآية المبحوث عنها: «ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه» الآية.

و هذا الاختلاف كما عرفت ضروري الوقوع بين أفراد المجتمعين من الإنسان لاختلاف الخلقة باختلاف المواد، و إن كان الجميع إنسانا بحسب الصورة الإنسانية الواحدة، و الوحدة في الصورة تقتضي الوحدة من حيث الأفكار و الأفعال بوجه، و اختلاف المواد يؤدي إلى اختلاف الإحساسات و الإدراكات و الأحوال في عين أنها متحدة بنحو، و اختلافها يؤدي إلى اختلاف الأغراض و المقاصد و الآمال، و اختلافها يؤدي إلى اختلاف الأفعال، و هو المؤدي إلى اختلال نظام الاجتماع.

و ظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع، و هو جعل قوانين كلية يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف، و نيل كل ذي حق حقه، و تحميلها الناس.

و الطريق المتخذ اليوم لتحميل القوانين المصلحة لاجتماع الإنسان أحد طريقين الأول: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين الموضوعة لتشريك الناس في حق الحياة و تسويتهم في الحقوق، بمعنى أن ينال كل من الأفراد ما يليق به من كمال الحياة، مع إلغاء المعارف الدينية: من التوحيد و الأخلاق الفاضلة، و ذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور إليه و لا مرعي، و جعل الأخلاق تابعة للاجتماع و تحوله، فما وافق حال الاجتماع من الأخلاق فهو الخلق الفاضل، فيوما العفة، و يوما الخلاعة، و يوما الصدق، و يوما الكذب، و يوما الأمانة، و يوما الخيانة، و هكذا.

و الثاني: إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين بتربية ما يناسبها من الأخلاق و احترامها مع إلغاء المعارف الدينية في التربية الاجتماعية.

و هذان طريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الاجتماعية و توحيد الأمة المجتمعة من الإنسان: أحدهما بالقوة المجبرة و القدرة المتسلطة من الإنسان فقط، و ثانيهما بالقوة و التربية الخلقية، لكنهما على ما يتلوهما من المفاسد مبنيان على أساس الجهل، فيه بوار هذا النوع و هلاك الحقيقة الإنسانية، فإن هذا الإنسان موجود مخلوق لله متعلق الوجود بصانعه، بدأ من عنده و سيعود إليه، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الدنيوية، حياة طويلة الذيل، غير منقطع الأمد، و هي مرتبة على هذه الحياة الدنيوية، و كيفية سلوك الإنسان فيها، و اكتسابه الأحوال و الملكات المناسبة للتوحيد الذي هو كونه عبدا لله سبحانه، بادئا منه عائدا إليه، و إذا بنى الإنسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده، و ستر حقيقة الأمر فقد أهلك نفسه، و أباد حقيقته.

فمثل الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إلى بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد و لوازم السير، ثم نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق فلم يلبث هنيئة حتى أخذت في الاختلاف: من قتل، و ضرب و، هتك عرض، و أخذ مال و غصب مكان و غير ذلك، ثم اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتخاذ طريقة يحفظونها لصون أنفسهم و أموالهم.

فقال قائل منهم: عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الأعراض و الأمتعة، و التمتع على حسب ما لكل من الوزن الاجتماعي، فليس إلا هذا المنزل و المتخلف عن ذلك يؤخذ بالقوة و السياسة.

و قال قائل منهم: ينبغي أن تضعوا القانون المصلح لهذا الاختلاف على أساس الشخصيات الموجودة الذي جئتم بها من بلدكم الذي خرجتم منه، فيتأدب كل بما له من الشخصية الخلقية، و يأخذ بالرحمة لرفقائه، و العطوفة و الشهامة و الفضيلة، ثم تشتركوا مع ذلك في الانتفاع عن هذه الأمتعة الموجودة، فليست إلا لكم و لمنزلكم هذا.

و قد أخطأ القائلان جميعا، و سهيا عن أن القافلة جميعا على جناح سفر، و من الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه و حال غاية سفره التي يريدها فلو نسي شيئا من ذلك لم يكن يستقبله إلا الضلال و الغي و الهلاك.

و القائل المصيب بينهم هو من يقول: تمتعوا من هذه الأمتعة على حسب ما يكفيكم لهذه الليلة، و خذوا من ذلك زادا لما هو أمامكم من الطريق، و ما أريد منكم في وطنكم، و ما تريدونه لمقصدكم.

رفع الاختلاف بالدين

و لذلك شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع و القوانين واضعا ذلك على أساس التوحيد، و الاعتقاد و الأخلاق و الأفعال، و بعبارة أخرى وضع التشريع مبني على أساس تعليم الناس و تعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم، و أنهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد، و يعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل، فالتشريع الديني و التقنين الإلهي هو الذي بني على العلم فقط دون غيره، قال تعالى: «إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون: يوسف - 40، و قال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها: «فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه» الآية، فقارن بعثة الأنبياء بالتبشير و الإنذار بإنزال الكتاب المشتمل على الأحكام و الشرائع الرافعة لاختلافهم.

و من هذا الباب قوله تعالى: «و قالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلا الدهر و ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون:» الجاثية - 24، فإنهم إنما كانوا يصرون على قولهم ذلك، لا لدفع القول بالمعاد فحسب، بل لأن القول بالمعاد و الدعوة إليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيوية على الحياة بنحو العبودية، و طاعة قوانين دينية مشتملة على مواد و أحكام تشريعية: من العبادات و المعاملات و السياسات.

و بالجملة القول بالمعاد كان يستلزم التدين بالدين، و اتباع أحكامه في الحياة، و مراقبة البعث و المعاد في جميع الأحوال و الأعمال، فردوا ذلك ببناء الحياة الاجتماعية على مجرد الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما ورائها.

و كذا قوله تعالى: «إن الظن لا يغني من الحق شيئا فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم:» النجم - 30، فبين تعالى أنهم يبنون الحياة على الظن و الجهل، و الله سبحانه يدعو إلى دار السلام، و يبني دينه على الحق و العلم، و الرسول يدعو الناس إلى ما يحييهم، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم:» الأنفال - 24، و هذه الحياة هي التي يشير إليها قوله تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها:» الأنعام - 122، و قال تعالى: «أ فمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب:» الرعد - 19، و قال تعالى: «قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين:» يوسف - 108، و قال تعالى: «هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب:» الزمر - 9، و قال تعالى: «يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم:» البقرة - 129، إلى غير ذلك، و القرآن مشحون بمدح العلم و الدعوة إليه و الحث به، و ناهيك فيه أنه يسمي العهد السابق على ظهور الإسلام عهد الجاهلية كما قيل.

فما أبعد من الإنصاف قول من يقول: إن الدين مبني على التقليد و الجهل مضاد للعلم و مباهت له، و هؤلاء القائلون أناس اشتغلوا بالعلوم الطبيعية و الاجتماعية فلم يجدوا فيها ما يثبت شيئا مما وراء الطبيعة، فظنوا عدم الإثبات إثباتا للعدم، و قد أخطئوا في ظنهم، و خبطوا في حكمهم، ثم نظروا إلى ما في أيدي أمثالهم من الناس المتهوسين من أمور يسمونه باسم الدين، و لا حقيقة لها غير الشرك، و الله بريء من المشركين و رسوله، ثم نظروا إلى الدعوة الدينية بالتعبد و الطاعة فحسبوها تقليدا و قد أخطئوا في حسبانهم، و الدين أجل شأنا من أن يدعو إلى الجهل و التقليد، و أمنع جانبا من أن يهدي إلى عمل لا علم معه، أو يرشد إلى قول بغير هدى و لا كتاب منير، و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه.

الاختلاف في نفس الدين

و بالجملة فهو تعالى يخبرنا أن الاختلاف في المعاش و أمور الحياة إنما رفع أول ما رفع بالدين، فلو كانت هناك قوانين غير دينية فهي مأخوذة بالتقليد من الدين.

ثم إنه تعالى يخبرنا أن الاختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين و إنما أوجده حملة الدين ممن أوتي الكتاب المبين: من العلماء بكتاب الله بغيا بينهم و ظلما و عتوا، قال تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه، إلى أن قال، و ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم و لو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم:» الشورى - 14، و قال تعالى: «و ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون:» يونس - 19، و الكلمة المشار إليها في الآيتين هو قوله تعالى: «و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين:» الأعراف - 24 فالاختلاف في الدين مستند إلى البغي دون الفطرة، فإن الدين فطري و ما كان كذلك لا تضل فيه الخلقة و لا يتبدل فيه حكمها كما قال تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم:» الروم - 30 فهذه جمل ما بني عليه الكلام في هذه الآية الشريفة.

الإنسان بعد الدنيا

ثم إنه يخبرنا أن الإنسان سيرتحل من الدنيا التي فيه حياته الاجتماعية و ينزل دارا أخرى سماها البرزخ، ثم دارا أخرى سماها الآخرة غير أن حياته بعد هذه الدنيا حياة انفرادية، و معنى كون الحياة انفرادية، أنها لا ترتبط بالاجتماع التعاوني، و التشارك و التناصر، بل السلطنة هناك في جميع أحكام الحياة لوجود نفسه لا يؤثر فيه وجود غيره بالتعاون و التناصر أصلا، و لو كان هناك هذا النظام الطبيعي المشهود في المادة لم يكن بد عن حكومة التعاون و التشارك، لكن الإنسان خلفه وراء ظهره، و أقبل إلى ربه، و بطل عنه جميع علومه العملية، فلا يرى لزوم الاستخدام و التصرف و المدنية و الاجتماع التعاوني و لا سائر أحكامه التي يحكم بها في الدنيا، و ليس له إلا صحابة عمله و نتيجة حسناته و سيئاته، و لا يظهر له إلا حقيقة الأمر و يبدو له النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، قال تعالى: «و نرثه ما يقول و يأتينا فردا:» مريم - 80، و قال تعالى: «و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة و تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم و ما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون:» الأنعام - 94، و قال تعالى: «هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت و ردوا إلى الله موليهم الحق و ضل عنهم ما كانوا يفترون:» يونس - 30، و قال تعالى: «ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون:» الصافات - 26، و قال تعالى: «يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات و برزوا لله الواحد القهار:» إبراهيم - 48، و قال تعالى: «و أن ليس للإنسان إلا ما سعى و أن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى:» النجم - 41، إلى غير ذلك من الآيات، فهذه الآيات كما ترى تدل على أن الإنسان يبدل بعد الموت نحو حياته فلا يحيا حياة اجتماعية مبنية على التعاون و التناصر، و لا يستعمل ما أبدعه في هذه الحياة من العلوم العملية، و لا يجني إلا ثمرة عمله و نتيجة سعيه ظهر له ظهورا فيجزي به جزاء.

قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة، الناس معروف و هو الأفراد المجتمعون من الإنسان، و الأمة هي الجماعة من الناس، و ربما يطلق على الواحد كما في قوله تعالى: «إن إبراهيم كان أمة قانتا لله:» النحل - 120، و ربما يطلق على زمان معتد به كقوله تعالى: «و ادكر بعد أمة:» يوسف - 45، أي بعد سنين و قوله تعالى: «و لئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة:» هود - 8، و ربما يطلق على الملة و الدين كما قال بعضهم في قوله تعالى: «إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاتقون:» المؤمنون - 52، و في قوله تعالى: «إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون:» الأنبياء - 92، و أصل الكلمة من أم يأم إذا قصد فأطلق لذلك على الجماعة لكن لا على كل جماعة، بل على جماعة كانت ذات مقصد واحد و بغية واحدة هي رابطة الوحدة بينها، و هو المصحح لإطلاقها على الواحد و على سائر معانيها إذا أطلقت.

و كيف كان فظاهر الآية يدل على أن هذا النوع قد مر عليهم في حياتهم زمان كانوا على الاتحاد و الاتفاق، و على السذاجة و البساطة، لا اختلاف بينهم بالمشاجرة و المدافعة في أمور الحياة، و لا اختلاف في المذاهب و الآراء، و الدليل على نفي الاختلاف قوله تعالى: «فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، فقد رتب بعثة الأنبياء و حكم الكتاب في مورد الاختلاف على كونهم أمة واحدة فالاختلاف في أمور الحياة ناش بعد الاتحاد و الوحدة، و الدليل على نفي الاختلاف الثاني قوله تعالى: و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم فالاختلاف في الدين إنما نشأ من قبل حملة الكتاب بعد إنزاله بالبغي.

و هذا هو الذي يساعد عليه الاعتبار، فإنا نشاهد النوع الإنساني لا يزال يرقى في العلم و الفكر، و يتقدم في طريق المعرفة و الثقافة، عاما بعد عام، و جيلا بعد جيل، و بذلك يستحكم أركان اجتماعه يوما بعد يوم، و يقوم على رفع دقائق الاحتياج، و المقاومة قبال مزاحمات الطبيعة، و الاستفادة من مزايا الحياة، و كلما رجعنا في ذلك القهقرى وجدناه أقل عرفانا برموز الحياة، و أسرار الطبيعة، و ينتهي بنا هذا السلوك إلى الإنسان الأولي الذي لا يوجد عنده إلا النزر القليل من المعرفة بشئون الحياة و حدود العيش، كأنهم ليس عندهم إلا البديهيات و يسير من النظريات الفكرية التي تهيىء لهم وسائل البقاء بأبسط ما يكون، كالتغذي بالنبات أو شيء من الصيد و الإيواء إلى الكهوف و الدفاع بالحجارة و الأخشاب و نحو ذلك، فهذا حال الإنسان في أقدم عهوده، و من المعلوم أن قوما حالهم هذا الحال لا يظهر فيهم الاختلاف ظهورا يعتد به، و لا يبدو فيهم الفساد بدوا مؤثرا، كالقطيع من الغنم لا هم لأفراده إلا الاهتداء لبعض ما اهتدى إليه بعض آخر، و التجمع في المسكن و المعلف و المشرب.

غير أن الإنسان لوجود قريحة الاستخدام فيه كما أشرنا إليه فيما مر لا يحبسه هذا الاجتماع القهري من حيث التعاون على رفع البعض حوائج البعض عن الاختلاف و التغالب و التغلب، و هو كل يوم يزداد علما و قوة على طرق الاستفادة، و يتنبه بمزايا جديدة، و يتيقظ لطرق دقيقة في الانتفاع، و فيهم الأقوياء و أولوا السطوة و أرباب القدرة، و فيهم الضعفاء و من في رتبتهم، و هو منشأ ظهور الاختلاف، الاختلاف الفطري الذي دعت إليه قريحة الاستخدام، كما دعت هذه القريحة بعينها إلى الاجتماع و المدنية.

و لا ضير في تزاحم حكمين فطريين، إذا كان فوقهما ثالث يحكم بينهما، و يعدل أمرهما، و يصلح شأنهما، و ذلك كالإنسان تتسابق قواه في أفعالها، و يؤدي ذلك إلى التزاحم، كما أن جاذبة التغذي تقضي بأكل ما لا تطيق هضمه الهاضمة و لا تسعه المعدة، و هناك عقل يعدل بينهما، و يقضي لكل بما يناسبه، و يقدر فعل كل واحدة من هذه القوى الفعالة بما لا يزاحم الأخرى في فعلها.

و التنافي بين حكمين فطريين فما نحن فيه من هذا القبيل، فسلوك فطرة الإنسان إلى المدنية ثم سلوكها إلى الاختلاف يؤديان إلى التنافي، و لكن الله يرفع التنافي برفع الاختلاف الموجود ببعث الأنبياء بالتبشير و الإنذار، و إنزال الكتاب الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.

و بهذا البيان يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن المراد بالآية أن الناس كانوا أمة واحدة على الهداية، لأن الاختلاف إنما ظهر بعد نزول الكتاب بغيا بينهم، و البغي من حملة الكتاب، و قد غفل هذا القائل عن أن الآية تثبت اختلافين اثنين لا اختلافا واحدا، و قد مر بيانه، و عن أن الناس لو كانوا على الهداية فإنها واحدة من غير اختلاف، فما هو الموجب بل ما هو المجوز لبعث الأنبياء و إنزال الكتاب و حملهم على البغي بالاختلاف، و إشاعة الفساد، و إثارة غرائز الكفر و الفجور و مهلكات الأخلاق مع استبطانها؟.

و يظهر به أيضا: فساد ما ذكره آخرون أن المراد بها أن الناس كانوا أمة واحدة على الضلالة، إذ لولاها لم يكن وجه لترتب قوله تعالى: فبعث الله النبيين «إلخ»، و قد غفل هذا القائل عن أن الله سبحانه يذكر أن هذا الضلال الذي ذكره و هو الذي أشار إليه بقوله سبحانه: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، إنما نشأ عن سوء سريرة حملة الكتاب و علماء الدين بعد نزول الكتاب، و بيان آياته للناس، فلو كانوا على الضلالة قبل البعث و الإنزال و هي ضلالة الكفر و النفاق و الفجور و المعاصي فما المصحح لنسبة ذلك إلى حملة الكتاب و علماء الدين؟.

و يظهر به أيضا ما في قول آخرين إن المراد بالناس بنو إسرائيل حيث إن الله يذكر أنهم اختلفوا في الكتاب بغيا بينهم، قال تعالى: «فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم:» الجاثية - 16، و ذلك أنه تفسير من غير دليل، و مجرد اتصاف قوم بصفة لا يوجب انحصارها فيهم.

و أفسد من ذلك قول من قال: إن المراد بالناس في الآية هو آدم (عليه السلام)، و المعنى أن آدم (عليه السلام) كان أمة واحدة على الهداية ثم اختلف ذريته، فبعث الله النبيين «إلخ»، و الآية بجملها لا تطابق هذا القول لا كله و لا بعضه.

و يظهر به أيضا فساد قول بعضهم: إن كان في الآية منسلخ عن الدلالة على الزمان كما في قوله تعالى: «و كان الله عزيزا حكيما:» الفتح - 7، فهو دال على الثبوت، و المعنى: أن الناس أمة واحدة من حيث كونهم مدنيين طبعا فإن الإنسان مدني بالطبع لا يتم حياة الفرد الواحد منه وحده، لكثرة حوائجه الوجودية، و اتساع دائرة لوازم حياته، بحيث لا يتم له الكمال إلا بالاجتماع و التعاون بين الأفراد و المبادلة في المساعي، فيأخذ كل من نتائج عمله ما يستحقه من هذه النتيجة و يعطي الباقي غيره، و يأخذ بدله بقية ما يحتاج إليه و يستحقه في وجوده، فهذا حال الإنسان لا يستغني عن الاجتماع و التعاون وقتا من الأوقات، يدل عليه ما وصل إلينا من تاريخ هذا النوع الاجتماعي المدني و كونه اجتماعيا مدنيا لم يزل على ذلك فهو مقتضى فطرته و خلقته غير أن ذلك يؤدي إلى الاختلاف، و اختلال نظام الاجتماع، فشرع الله سبحانه بعنايته البالغة شرائع ترفع هذا الاختلاف، و بلغها إليهم ببعث النبيين مبشرين و منذرين، و إنزال الكتاب الحاكم معهم للحكم في موارد الاختلاف.

فمحصل المعنى أن الناس أمة واحدة مدنية بالطبع لا غنى لهم عن الاجتماع و هو يوجب الاختلاف فلذلك بعث الله الأنبياء و أنزل الكتاب.

و يرد عليه أولا: أنه أخذ المدنية طبعا أوليا للإنسان، و الاجتماع و الاشتراك في الحياة لازما ذاتيا لهذا النوع، و قد عرفت فيما مر أن الأمر ليس كذلك، بل أمر تصالحي اضطراري، و أن القرآن أيضا يدل على خلافه.

و ثانيا: أن تفريع بعث الأنبياء و إنزال الكتب على مجرد كون الإنسان مدنيا بالطبع غير مستقيم إلا بعد تقييد هذه المدنية بالطبع بكونها مؤدية إلى الاختلاف، و ظهور الفساد، فيحتاج الكلام إلى التقدير و هو خلاف الظاهر، و القائل مع ذلك لا يرضى بتقدير الاختلاف في الكلام.

و ثالثا: أنه مبني على أخذ الاختلاف الذي تذكره الآية و تتعرض به اختلافا واحدا، و الآية كالنص في كون الاختلاف اختلافين اثنين، حيث تقول: و أنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهو اختلاف سابق على الكتاب و المختلفون بهذا الاختلاف هم الناس، ثم تقول و ما اختلف فيه أي في الكتاب إلا الذين أوتوه أي علموا الكتاب و حملوه بغيا بينهم، و هذا الاختلاف لاحق بالكتاب متأخر عن نزوله، و المختلفون بهذا الاختلاف علماء الكتاب و حملته دون جميع الناس، فأحد الاختلافين غير الآخر: أحدهما اختلاف عن بغي و علم، و الآخر بخلافه.

قوله تعالى: فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين «إلخ»، عبر تعالى بالبعث دون الإرسال و ما في معناه لأن هذه الوحدة المخبر عنها من حال الإنسان الأولي حال خمود و سكوت، و هو يناسب البعث الذي هو الإقامة عن نوم أو قطون و نحو ذلك، و هذه النكتة لعلها هي الموجبة للتعبير عن هؤلاء المبعوثين بالنبيين دون أن يعبر بالمرسلين أو الرسل، على أن البعث و إنزال الكتاب كما تقدم بيانه حقيقتهما بيان الحق للناس و تنبيههم بحقيقة أمر وجودهم و حياتهم، و إنبائهم أنهم مخلوقون لربهم، و هو الله الذي لا إله إلا هو، و أنهم سالكون كادحون إلى الله مبعوثون ليوم عظيم، واقفون في منزل من منازل السير، لا حقيقة له إلا اللعب و الغرور، فيجب أن يراعوا ذلك في هذه الحياة و أفعالها، و أن يجعلوا نصب أعينهم أنهم من أين، و في أين، و إلى أين، و هذا المعنى أنسب بلفظ النبي الذي معناه: من استقر عنده النبأ دون الرسول، و لذلك عبر بالنبيين، و في إسناد بعث النبيين إلى الله سبحانه دلالة على عصمة الأنبياء في تلقيهم الوحي و تبليغهم الرسالة إلى الناس و سيجيء زيادة توضيح لهذا في آخر البيان، و أما التبشير و الإنذار أي الوعد برحمة الله من رضوانه و الجنة لمن آمن و اتقى، و الوعيد بعذاب الله سبحانه من سخطه و النار لمن كذب و عصى فهما أمس مراتب الدعوة بحال الإنسان المتوسط الحال، و إن كان بعض الصالحين من عباده و أوليائه لا تتعلق نفوسهم بغير ربهم من ثواب أو عقاب.

قوله تعالى: و أنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، الكتاب فعال بمعنى المكتوب، و الكتاب بحسب المتعارف من إطلاقه و إن استلزم كتابه بالقلم لكن لكون العهود و الفرامين المفترضة إنما يبرم بالكتابة غالبا شاع إطلاقه على كل حكم مفروض واجب الاتباع أو كل بيان بل كل معنى لا يقبل النقض في إبرامه، و قد كثر استعماله بهذا المعنى في القرآن، و بهذا المعنى سمي القرآن كتابا و هو كلام إلهي، قال تعالى: «كتاب أنزلناه إليك مبارك:» ص - 29، و قال تعالى: «إن الصلوة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا:» النساء - 103، و في قوله تعالى فيما اختلفوا فيه، دلالة على أن المعنى: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله «إلخ»، كما مر.

و اللام في الكتاب إما للجنس و إما للعهد الذهني و المراد به كتاب نوح (عليه السلام) لقوله تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى:» الشورى - 13، فإن الآية في مقام الامتنان و تبين أن الشريعة النازلة على هذه الأمة جامعة لمتفرقات جميع الشرائع السابقة النازلة على الأنبياء السالفين مع ما يختص بوحيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالشريعة مختصة بهؤلاء الأنبياء العظام: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

و لما كان قوله تعالى: و أنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الآية يدل على أن الشرع إنما كان بالكتاب دلت الآيتان بالانضمام أولا: على أن لنوح (عليه السلام) كتابا متضمنا لشريعة، و أنه المراد بقوله تعالى: و أنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، إما وحده أو مع غيره من الكتب بناء على كون اللام للعهد أو الجنس.

و ثانيا: أن كتاب نوح أول كتاب سماوي متضمن للشريعة، إذ لو كان قبله كتاب لكان قبله شريعة حاكمة و لذكرها الله تعالى في قوله: شرع لكم الآية.

و ثالثا: أن هذا العهد الذي يشير تعالى إليه بقوله: كان الناس أمة واحدة الآية كان قبل بعثة نوح (عليه السلام) و قد حكم فيه كتابه (عليه السلام).

قوله تعالى: و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم، قد مر أن المراد به الاختلاف الواقع في نفس الدين من حملته، و حيث كان الدين من الفطرة كما يدل عليه قوله تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها:» الروم - 30، نسب الله سبحانه الاختلاف الواقع فيه إلى البغي.

و في قوله تعالى: إلا الذين أوتوه، دلالة على أن المراد بالجملة هو الإشارة إلى الأصل في ظهور الاختلاف الديني في الكتاب لا أن كل من انحرف عن الصراط المستقيم أو تدين بغير الدين يكون باغيا و إن كان ضالا عن الصراط السوي، فإن الله سبحانه لا يعذر الباغي، و قد عذر من اشتبه عليه الأمر و لم يجد حيلة و لم يهتد سبيلا، قال تعالى: «إنما السبيل على الذين يظلمون الناس و يبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم:» الشورى - 42، و قال تعالى: «و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم - إلى أن قال -: و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم و الله عليم حكيم:» التوبة - 106، و قال تعالى: «إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم و كان الله عفوا غفورا:» النساء - 99.

على أن الفطرة لا تنافي الغفلة و الشبهة، و لكن تنافي التعمد و البغي، و لذلك خص البغي بالعلماء و من استبانت له الآيات الإلهية، قال تعالى: «و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون:» البقرة - 39، و الآيات في هذا المعنى كثيرة، و قد قيد الكفر في جميعها بتكذيب آيات الله ثم أوقع عليه الوعيد، و بالجملة فالمراد بالآية أن هذا الاختلاف ينتهي إلى بغي حملة الكتاب من بعد علم.

قوله تعالى: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بيان لما اختلف فيه و هو الحق الذي كان الكتاب نزل بمصاحبته، كما دل عليه قوله تعالى: و أنزل معهم الكتاب بالحق، و عند ذلك عنت الهداية الإلهية بشأن الاختلافين معا: الاختلاف في شأن الحياة، و الاختلاف في الحق و المعارف الإلهية الذي كان عامله الأصلي بغي حملة الكتاب، و في تقييد الهداية بقوله تعالى: بإذنه دلالة على أن هداية الله تعالى لهؤلاء المؤمنين لم تكن إلزاما منهم، و إيجابا على الله تعالى أن يهديهم لإيمانهم، فإن الله سبحانه لا يحكم عليه حاكم، و لا يوجب عليه موجب إلا ما أوجبه على نفسه، بل كانت الهداية بإذنه تعالى و لو شاء لم يأذن و لم يهد، و على هذا فقوله تعالى: و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بمنزلة التعليل لقوله بإذنه، و المعنى إنما هداهم الله بإذنه لأن له أن يهديهم و ليس مضطرا موجبا على الهداية في مورد أحد، بل يهدي من يشاء، و قد شاء أن يهدي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.

و قد تبين من الآية أولا: حد الدين و معرفه، و هو أنه نحو سلوك في الحياة الدنيا يتضمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، و الحياة الدائمة الحقيقية عند الله سبحانه، فلا بد في الشريعة من قوانين تتعرض لحال المعاش على قدر الاحتياج.

و ثانيا: أن الدين أول ما ظهر ظهر رافعا للاختلاف الناشىء عن الفطرة ثم استكمل رافعا للاختلاف الفطري و غير الفطري معا.

و ثالثا: أن الدين لا يزال يستكمل حتى يستوعب قوانينه جهات الاحتياج في الحياة، فإذا استوعبها ختم ختما فلا دين بعده، و بالعكس إذا كان دين من الأديان خاتما كان مستوعبا لرفع جميع جهات الاحتياج، قال تعالى: «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين:» الأحزاب - 40، و قال تعالى: «و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء:» النحل - 89، و قال تعالى: «و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه:» حم تنزيل - 42.

و رابعا: أن كل شريعة لاحقة أكمل من سابقتها.

و خامسا: السبب في بعث الأنبياء و إنزال الكتب، و بعبارة أخرى العلة في الدعوة الدينية، و هو أن الإنسان بحسب طبعه و فطرته سائر نحو الاختلاف كما أنه سالك نحو الاجتماع المدني، و إذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف لم تتمكن من رفع الاختلاف، و كيف يدفع شيء ما يجذبه إليه نفسه، فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة و التشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق بحالهم المصلح لشأنهم، و هذا الكمال كمال حقيقي داخل في الصنع و الإيجاد فما هو مقدمته كذلك، و قد قال تعالى: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى:» طه - 50، فبين أن من شأنه و أمره تعالى أن يهدي كل شيء إلى ما يتم به خلقه، و من تمام خلقه الإنسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا و الآخرة، و قد قال تعالى أيضا: «كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا:» الإسراء - 20، و هذه الآية تفيد أن شأنه تعالى هو الإمداد بالعطاء: يمد كل من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته و وجوده، و يعطيه ما يستحقه، و أن عطاءه غير محظور و لا ممنوع من قبله تعالى إلا أن يمتنع ممتنع بسوء حظ نفسه، من قبل نفسه لا من قبله تعالى.

يتبع...


كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213)

و من المعلوم أن الإنسان غير متمكن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه فإن فطرته هي المؤدية إلى هذه النقيصة فكيف يقدر على تتميمها و تسوية طريق السعادة و الكمال في حياته الاجتماعية؟.

و إذا كانت الطبيعة الإنسانية هي المؤدية إلى هذا الاختلاف العائق للإنسان عن الوصول إلى كماله الحري به و هي قاصرة عن تدارك ما أدت إليه و إصلاح ما أفسدته، فالإصلاح لو كان يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة، و هي الجهة الإلهية التي هي النبوة بالوحي، و لذا عبر تعالى عن قيام الأنبياء بهذا الإصلاح و رفع الاختلاف بالبعث و لم ينسبه في القرآن كله إلا إلى نفسه مع أن قيام الأنبياء كسائر الأمور له ارتباطات بالمادة بالروابط الزمانية و المكانية.

فالنبوة حالة إلهية و إن شئت قل غيبية نسبتها إلى هذه الحالة العمومية من الإدراك و الفعل نسبة اليقظة إلى النوم بها يدرك الإنسان المعارف التي بها يرتفع الاختلاف و التناقض في حياة الإنسان، و هذا الإدراك و التلقي من الغيب هو المسمى في لسان القرآن بالوحي، و الحالة التي يتخذها الإنسان منه لنفسه بالنبوة.

و من هناك يظهر أن هذا أعني تأدية الفطرة إلى الاجتماع المدني من جهة و إلى الاختلاف من جهة أخرى، و عنايته تعالى بالهداية إلى تمام الخلقة مبدأ حجة على وجود النبوة، و بعبارة أخرى دليل النبوة العامة.

تقريره: أن نوع الإنسان مستخدم بالطبع، و هذا الاستخدام الفطري يؤديه إلى الاجتماع المدني و إلى الاختلاف و الفساد في جميع شئون حياته الذي يقضي التكوين و الإيجاد برفعه و لا يرتفع إلا ب
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تفسير سورة البقرة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 2انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير سورة البقرة
» القران الكريم :: مشروع حفظ وتفسير سورة البقرة شاطر | المزيد! سورة البقرة : وما فيها من فضائل ومنافع وفوائد
» سورة البقرة بصوت القارئ الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الله بن محمد السديس وهي سورة مدنية وعدد آياتها 286 - mp3
» التفسير الميسر للقرأن الكريم ..تفسير سورة الملك/ - سورة القلم - / الحاقة/ المعارج/نوح/الجن /المزمل/ المدثر /القيامة/**
» أسرار ترتيب سور القرآن الكريم(سورة التحريم .سورة ن .68-سورة ن. سورة الحاقة . سورة نوح . سورة الجن...

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات سيفن ستارز :: المنتدى الاسلامى :: القرأن الكريم-
انتقل الى: