منتديات سيفن ستارز
عزيزى الزائر نتمنى ان تكون فى تمام الصحة والعافية نتمنا ان تسجل معنا وانشاء الله تفيدنا وتستفيد منا المدير العام لمنتديات سيفن ستارز
تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 >

منتديات سيفن ستارز
عزيزى الزائر نتمنى ان تكون فى تمام الصحة والعافية نتمنا ان تسجل معنا وانشاء الله تفيدنا وتستفيد منا المدير العام لمنتديات سيفن ستارز
تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 >

منتديات سيفن ستارز
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
ارجو من الساده الاعضاء القدامى تعديل بيانتهم الشخصية
ياجماعة انصحكم بالدخول على المنتدى بالمتصفع العملاق Mozilla Firefox
مشاركتك بالموضوعات تعنى أنك قرأت قانون المنتدى ، وأنك تتحمل المسئولية الأدبية والقانونية عن نشر هذا الموضوع او الردود
تتقدم منتديات سيفن ستارز بأحر التهانى القلبية للأخت رونى المحامية المشرفة على المنتدى القانونى وذلك بمناسبة الزواج السعيد نسأل الله لها التوفيق فى حياتها وألف مليون مبروك لها ولزوجها الأستاذ /حسين إبراهيم حسين وعقبال البكارى وحياة سعيدة ملؤها التراحم والمحبة والقرب من الله
على السادة الأعضاء الإلتزام بالأقسام النوعية للمنتدى عند تقديم مساهماتهم حيث يكون كل موضوع داخل القسم الخاص به حتى يعطى الشكل المطلوب مع سهولة الوصول إليه لكل متصفح .فالموضوعات الخاصة بالمرأة داخل منتدى المرأة .والموضوعات التى تتحدث عن الإسلام توضع فى المنتدى الإسلامى   ...وهكذا ..ونشكر لكم حسن العمل .كما نشكركم على الأداء الممتاز داخل المنتديات..كما نحذر من الخوض أو التطرق لما يمس الغير أو التهجم أو إذدراء الأديان أو الخوض فى موضوعات سياسيه..المنتديات  أصلاً ..منشأة لتبنى وجهة النظر الأجتماعيه والإسلاميه لأهل السنة والجماعة دون التقليل من الغير بل الإحترام المتبادل..وللجميع ودون تميز بجنس أو نوع أو دين أو لون وشكراً لكم جميعاً...
إدارة المنتديات...سيفن ستارز.

 

 تفسير سورة البقرة

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
كاتب الموضوعرسالة





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 12:20 pm

و هذان الوجهان من الاستدلال و إن كانا ناهضين على عصمة الأنبياء (عليهم السلام) في تلقي الوحي و تبليغ الرسالة فقط دون العصمة عن المعصية في العمل على ما قررنا، لكن يمكن تتميم دلالتهما على العصمة من المعصية أيضا بأن الفعل دال كالقول عند العقلاء فالفاعل لفعل يدل بفعله على أنه يراه حسنا جائزا كما لو قال: إن الفعل الفلاني حسن جائز فلو تحققت معصية من النبي و هو يأمر بخلافها لكان ذلك تناقضا منه فإن فعله يناقض حينئذ قوله فيكون حينئذ مبلغا لكلا المتناقضين و ليس تبليغ المتناقضين بتبليغ للحق فإن المخبر بالمتناقضين لم يخبر بالحق لكون كل منهما مبطلا للآخر، فعصمة النبي في تبليغ رسالته لا تتم إلا مع عصمته عن المعصية و صونه عن المخالفة كما لا يخفى.

و يدل على عصمتهم مطلقا قوله تعالى: «أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده:» الأنعام - 90، فجميعهم (عليهم السلام) كتب عليهم الهداية، و قد قال تعالى: «و من يضلل الله فما له من هاد و من يهدي الله فما له من مضل:» الزمر - 37.

و قال تعالى: «من يهد الله فهو المهتد:» الكهف - 17، فنفى عن المهتدين بهدايته كل مضل يؤثر فيهم بضلال، فلا يوجد فيهم ضلال، و كل معصية ضلال كما يشير إليه قوله تعالى: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم و لقد أضل منكم جبلا كثيرا:» يس - 62، فعد كل معصية ضلالا حاصلا بإضلال الشيطان بعد ما عدها عبادة للشيطان فإثبات هدايته تعالى في حق الأنبياء (عليهم السلام) ثم نفى الضلال عمن اهتدى بهداه ثم عد كل معصية ضلالا تبرئة منه تعالى لساحة أنبيائه عن صدور المعصية منهم و كذا عن وقوع الخطإ في فهمهم الوحي و إبلاغهم إياه.

و يدل عليها أيضا قوله تعالى: و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا:» النساء - 68، و قال أيضا: «اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين:» الحمد - 7، فوصف هؤلاء الذين أنعم عليهم من النبيين بأنهم ليسوا بضالين، و لو صدر عنهم معصية لكانوا بذلك ضالين و كذا لو صدر عنهم خطأ في الفهم أو التبليغ، و يؤيد هذا المعنى قوله تعالى فيما يصف به الأنبياء: «أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم و ممن حملنا مع نوح و من ذرية إبراهيم و ممن هدينا و اجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا و بكيا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات و سوف يلقون غيا:» مريم - 59، فجمع في الأنبياء أولا الخصلتين: أعني الإنعام و الهداية حيث أتى بمن البيانية في قوله و ممن هدينا و اجتبينا بعد قوله: أنعم الله عليهم، و وصفهم بما فيه غاية التذلل في العبودية، ثم وصف الخلف بما وصف من أوصاف الذم، و الفريق الثاني غير الأول لأن الفريق الأول رجال ممدوحون مشكورون دون الثاني، و إذ وصف الفريق الثاني و عرفهم بأنهم اتبعوا الشهوات و سوف يلقون غيا فالفريق الأول و هم الأنبياء ما كانوا يتبعون الشهوات و لا يلحقهم غي، و من البديهي أن من كان هذا شأنه لم يجز صدور المعصية عنه حتى أنهم لو كانوا قبل نبوتهم ممن يتبع الشهوات لكانوا بذلك ممن يلحقهم الغي لمكان الإطلاق في قوله: أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات و سوف يلقون غيا.

و هذا الوجه قريب من قول من استدل على عصمة الأنبياء من طريق العقل بأن إرسال الرسل و إجراء المعجزات على أيديهم تصديق لقولهم.

فلا يصدر عنهم كذب و كذا تصديق لأهليتهم للتبليغ، و العقل لا يعد إنسانا يصدر منه المعاصي و الأفعال المنافية لمرام و مقصد كيف كان أهلا للدعوة إلى ذلك المرام فإجراء المعجزات على أيديهم يتضمن تصديق عدم خطائهم في تلقي الوحي و في تبليغ الرسالة و في امتثالهم للتكاليف المتوجه إليهم بالطاعة.

و لا يرد عليه: أن الناس و هم عقلاء يتسببون في أنواع تبليغاتهم و أقسام أغراضهم الاجتماعية بالتبليغ ممن لا يخلو عن بعض القصور و التقصير في التبليغ، فإن ذلك منهم لأحد أمرين لا يجوز فيما نحن فيه، إما لمكان المسامحة منهم في اليسير من القصور و التقصير، و إما لأن مقصودهم هو البلوغ إلى ما تيسر من الأمر المطلوب، و القبض على اليسير و الغض عن الكثير و شيء من الأمرين لا يليق بساحته تعالى.

و لا يرد عليه أيضا: ظاهر قوله تعالى: «فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون:» التوبة - 123، فإن الآية و إن كانت في حق العامة من المسلمين ممن ليس بمعصوم لكنه أذن لهم في تبليغ ما تعلموا من الدين و تفقهوا فيه، لا تصديق لهم فيما أنذروا به و جعل حجية لقولهم على الناس و المحذور إنما هو في الثاني دون الأول.

و مما يدل على عصمتهم (عليهم السلام) قوله تعالى: «و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله:» النساء - 64، حيث جعل كون الرسول مطاعا غاية للإرسال، و قصر الغاية فيه، و ذلك يستدعي بالملازمة البينة تعلق إرادته تعالى بكل ما يطاع فيه الرسول و هو قوله أو فعله لأن كلا منهما وسيلة معمولة متداولة في التبليغ، فلو تحقق من الرسول خطأ في فهم الوحي أو في التبليغ كان ذلك إرادة منه تعالى للباطل و الله سبحانه لا يريد إلا الحق.

و كذا لو صدر عن الرسول معصية قولا أو فعلا و المعصية مبغوضة منهي عنها لكان بعينه متعلق إرادته تعالى فيكون بعينه طاعة محبوبة فيكون تعالى مريدا غير مريد، آمرا و ناهيا، محبا و مبغضا بالنسبة إلى فعل واحد بعينه تعالى عن تناقض الصفات و الأفعال علوا كبيرا و هو باطل و إن قلنا بجواز تكليف ما لا يطاق على ما قال به بعضهم، فإن تكليف ما لا يطاق تكليف بالمحال و ما نحن فيه تكليف نفسه محال لأنه تكليف و لا تكليف و إرادة و لا إرادة و حب و لا حب و مدح و ذم بالنسبة إلى فعل واحد!.

و مما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: «رسلا مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل:» النساء - 165، فإن الآية ظاهرة في أن الله سبحانه يريد قطع عذر الناس في ما فيه المخالفة و المعصية و أن لا قاطع للعذر إلا الرسل (عليهم السلام)، و من المعلوم أن قطع الرسل عذر الناس و رفعهم لحجتهم إنما يصح إذا لم يتحقق في ناحيتهم ما لا يوافق إرادة الله و رضاه: من قول أو فعل، و خطإ أو معصية و إلا كان للناس أن يتمسكوا به و يحتجوا على ربهم سبحانه و هو نقض لغرضه تعالى.

فإن قلت: الذي يدل عليه ما مر من الآيات الكريمة هو أن الأنبياء (عليهم السلام) لا يقع منهم خطأ و لا يصدر عنهم معصية و ليس ذلك من العصمة في شيء فإن العصمة على ما ذكره القوم قوة تمنع الإنسان عن الوقوع في الخطإ، و تردعه عن فعل المعصية و اقتراف الخطيئة، و ليست القوة مجرد صدور الفعل أو عدم صدوره و إنما هي مبدأ نفساني تصدر عنه الفعل كما تصدر الأفعال عن الملكات النفسانية.

قلت: نعم لكن الذي يحتاج إليه في الأبحاث السابقة هو عدم تحقق الخطإ و المعصية من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا يضر في ذلك عدم ثبوت قوة تصدر عنها الفعل صوابا أو طاعة و هو ظاهر.

و مع ذلك يمكن الاستدلال على كون العصمة مستندة إلى قوة رادعة بما مر في البحث عن الإعجاز من دلالة قوله تعالى: «إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا:» الطلاق - 3، و كذا قوله تعالى: «إن ربي على صراط مستقيم:» هود - 56، على أن كلا من الحوادث يحتاج إلى مبدإ يصدر عنه و سبب يتحقق به، فهذه الأفعال الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على وتيرة واحدة صوابا و طاعة تنتهي إلى سبب مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و في نفسه و هي القوة الرادعة و توضيحه: أن أفعال النبي المفروض صدورها طاعة أفعال اختيارية من نوع الأفعال الاختيارية الصادرة عنا التي بعضها طاعة و بعضها معصية، و لا شك أن الفعل الاختياري إنما هو اختياري بصدوره عن العلم و المشية، و إنما يختلف الفعل طاعة و معصية باختلاف الصورة العلمية التي يصدر عنها، فإن كان المقصود هو الجري على العبودية بامتثال الأمر مثلا تحققت الطاعة، و إن كان المطلوب - أعني الصورة العلمية التي يضاف إليها المشية - اتباع الهوى و اقتراف ما نهى الله عنه تحققت المعصية، فاختلاف أفعالنا طاعة و معصية لاختلاف علمنا الذي يصدر عنه الفعل، و لو دام أحد العلمين أعني الحكم بوجوب الجري على العبودية و امتثال الأمر الإلهي لما صدر إلا الطاعة، و لو دام العلم الآخر الصادر عنه المعصية و العياذ بالله لم يتحقق إلا المعصية، و على هذا فصدور الأفعال عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصف الطاعة دائما ليس إلا لأن العلم الذي يصدر عنه فعله بالمشية صورة علمية صالحة غير متغيرة، و هو الإذعان بوجوب العبودية دائما، و من المعلوم أن الصورة العلمية و الهيئة النفسانية الراسخة غير الزائلة هي الملكة النفسانية كملكة العفة و الشجاعة و العدالة و نحوها، ففي النبي ملكة نفسانية يصدر عنها أفعاله على الطاعة و الانقياد و هي القوة الرادعة عن المعصية.

و من جهة أخرى النبي لا يخطىء في تلقي الوحي و لا في تبليغ الرسالة ففيه هيئة نفسانية لا تخطىء في تلقي المعارف و تبليغها و لا تعصي في العمل و لو فرضنا أن هذه الأفعال و هي على وتيرة واحدة ليس فيها إلا الصواب و الطاعة تحققت منه من غير توسط سبب من الأسباب يكون معه، و لا انضمام من شيء إلى نفس النبي كان معنى ذلك أن تصدر أفعاله الاختيارية على تلك الصفة بإرادة من الله سبحانه من غير دخالة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه، و لازم ذلك إبطال علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إرادته في تأثيرها في أفعاله و في ذلك خروج الأفعال الاختيارية عن كونها اختيارية، و هو ينافي افتراض كونه فردا من أفراد الإنسان الفاعل بالعلم و الإرادة، فالعصمة من الله سبحانه إنما هي بإيجاد سبب في الإنسان النبي يصدر عنه أفعاله الاختيارية صوابا و طاعة و هو نوع من العلم الراسخ و هو الملكة كما مر. كلام في النبوة

و الله سبحانه بعد ما ذكر هذه الحقيقة و هي وصف إرشاد الناس بالوحي في كلامه كثيرا عبر عن رجالها بتعبيرين مختلفين فيه تقسيمهم إلى قسمين أو كالتقسيم: و هما الرسول و النبي، قال تعالى: «و جيء بالنبيين و الشهداء:» الزمر - 69، و قال تعالى: «يوم يجمع الله الرسل ما ذا أجبتم:» المائدة - 109، و معنى الرسول حامل الرسالة، و معنى النبي حامل النبإ، فللرسول شرف الوساطة بين الله سبحانه و بين خلقه و للنبي شرف العلم بالله و بما عنده.

و قد قيل إن الفرق بين النبي و الرسول بالعموم و الخصوص المطلق فالرسول هو الذي يبعث فيؤمر بالتبليغ و يحمل الرسالة، و النبي هو الذي يبعث سواء أمر بالتبليغ أم لم يؤمر.

لكن هذا الفرق لا يؤيده كلامه تعالى كقوله تعالى: «و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيا:» مريم - 51، و الآية في مقام المدح و التعظيم و لا يناسب هذا المقام التدرج من الخاص إلى العام كما لا يخفى.

و كذا قوله تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي:» الحج - 51، حيث جمع في الكلام بين الرسول و النبي ثم جعل كلا منهما مرسلا لكن قوله تعالى: «و وضع الكتاب و جيء بالنبيين و الشهداء:» الزمر - 69، و كذا قوله تعالى: «و لكن رسول الله و خاتم النبيين:» الأحزاب - 40، و كذا ما في الآية المبحوث عنها من قوله تعالى: «فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين» إلى غير ذلك من الآيات يعطي ظاهرها أن كل مبعوث من الله بالإرسال إلى الناس نبي و لا ينافي ذلك ما مر من قوله تعالى: و كان رسولا نبيا الآية، فإن اللفظين قصد بهما معناهما من غير أن يصيرا اسمين مهجوري المعنى فالمعنى و كان رسولا خبيرا بآيات الله و معارفه، و كذا قوله تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي الآية لإمكان أن يقال: إن النبي و الرسول كليهما مرسلان إلى الناس، غير أن النبي بعث لينبىء الناس بما عنده من نبإ الغيب لكونه خبيرا بما عند الله، و الرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبإ النبوة كما يشعر به أمثال قوله تعالى: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالحق:» يونس - 47، و قوله تعالى: «و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا:» الإسراء - 15، و على هذا فالنبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم و معادهم من أصول الدين و فروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس إلى سعادتهم، و الرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على إتمام حجة يستتبع مخالفته هلاكه أو عذابا أو نحو ذلك قال تعالى: «لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل:» النساء - 165، و لا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد مما يفيده لفظاهما بحسب المفهوم، و لازمه هو الذي أشرنا إليه من أن للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى و بين عباده و للنبي شرف العلم بالله و بما عنده و سيأتي ما روي عن أئمة أهل البيت « (عليهم السلام)» من الفرق بينهما.

ثم إن القرآن صريح في أن الأنبياء كثيرون و إن الله سبحانه لم يقصص الجميع في كتابه، قال تعالى: «و لقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص عليك:» المؤمن - 78، إلى غير ذلك و الذين قصهم الله تعالى في كتابه بالاسم بضعة و عشرون نبيا و هم: آدم، و نوح، و إدريس، و هود، و صالح، و إبراهيم، و لوط، و إسماعيل، و اليسع، و ذو الكفل، و إلياس، و يونس، و إسحاق، و يعقوب، و يوسف، و شعيب، و موسى، و هارون، و داود، و سليمان، و أيوب، و زكريا، و يحيى، و إسماعيل صادق الوعد، و عيسى، و محمد صلى الله عليهم أجمعين.

و هناك عدة لم يذكروا بأسمائهم بل بالتوصيف و الكناية، قال سبحانه: أ لم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا:» البقرة - 246 و قال تعالى: «أو كالذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها:» البقرة - 259، و قال تعالى: «إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث:» يس - 14، و قال تعالى: «فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه من لدنا علما:» الكهف - 65، و قال تعالى: «و الأسباط:» البقرة - 136، و هناك من لم يتضح كونه نبيا كفتى موسى في قوله تعالى: «و إذ قال موسى لفتاه:» الكهف - 60، و مثل ذي القرنين و عمران أبي مريم و عزير من المصرح بأسمائهم.

و بالجملة لم يذكر في القرآن لهم عدد يقفون عنده و الذي يشتمل من الروايات على بيان عدتهم آحاد مختلفة المتون و أشهرها رواية أبي ذر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن الأنبياء مائة و أربعة و عشرون ألف نبي، و المرسلون منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر نبيا.

و اعلم: أن سادات الأنبياء هم أولوا العزم منهم و هم: نوح، و إبراهيم، و موسى و عيسى، و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال تعالى: «فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل:» الأحقاف - 35، و سيجيء أن معنى العزم فيهم الثبات على العهد الأول المأخوذ منهم و عدم نسيانه، قال تعالى: «و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و أخذنا منهم ميثاقا غليظا:» الأحزاب - 7، و قال تعالى: «و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما:» طه - 115.

و كل واحد من هؤلاء الخمسة صاحب شرع و كتاب، قال تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى:» الشورى - 13، و قال تعالى: «إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم و موسى:» الأعلى - 19، و قال تعالى: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى يحكم بها النبيون، إلى أن قال: «و قفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة و آتيناه الإنجيل فيه هدى و نور - إلى أن قال - و أنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم فيما آتاكم:» المائدة - 48.

و الآيات تبين أن لهم شرائع و أن لإبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كتبا، و أما كتاب نوح فقد عرفت أن الآية أعني قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة «إلخ»، بانضمامه إلى قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية تدل عليه، و هذا الذي ذكرناه لا ينافي نزول الكتاب على داود (عليه السلام)، قال تعالى: «و آتينا داود زبورا:» النساء - 163، و لا ما في الروايات من نسبة كتب إلى آدم، و شيث، و إدريس، فإنها كتب لا تشتمل على الأحكام و الشرائع.

و اعلم أن من لوازم النبوة الوحي و هو نوع تكليم إلهي تتوقف عليه النبوة قال تعالى: «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده:» النساء - 163، و سيجيء استيفاء البحث عن معناه في سورة الشورى إن شاء الله.

بحث روائي

في المجمع، عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: كان الناس قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين و لا ضالين فبعث الله النبيين.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) في الآية قال: و كان ذلك قبل نوح فقيل: فعلى هدى كانوا؟ قال بل كانوا ضلالا، و ذلك أنه لما انقرض آدم و صالح ذريته، و بقي شيث وصيه لا يقدر على إظهار دين الله الذي كان عليه آدم و صالح ذريته و ذلك أن قابيل كان يواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل، فصار فيهم بالتقية و الكتمان فازدادوا كل يوم ضلالة حتى لم يبق على الأرض معهم إلا من هو سلف، و لحق الوصي بجزيرة من البحر ليعبد الله فبدا لله تبارك و تعالى أن يبعث الرسل، و لو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الأمر، و كذبوا، إنما هو شيء يحكم الله في كل عام ثم قرأ: فيها يفرق كل أمر حكيم، فيحكم الله تبارك و تعالى: ما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك، قلت أ فضلالا كانوا قبل النبيين أم على هدى؟ قال: لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها، لا تبديل لخلق الله، و لم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله، أ ما تسمع بقول إبراهيم: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين أي ناسيا للميثاق.

أقول: قوله: لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله، يفسر معنى كونهم ضلالا المذكور في أول الحديث، و أنهم إنما خلوا عن الهداية التفصيلية إلى المعارف الإلهية، و أما الهداية الإجمالية فهي تجامع الضلال بمعنى الجهل بالتفاصيل كما يشير إليه قوله (عليه السلام) في رواية المجمع، المنقولة آنفا: على فطرة الله لا مهتدين و لا ضلالا.

و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): أي ناسيا للميثاق، تفسير للضلال فالهداية هي ذكر الميثاق حقيقة كما في الكمل من المؤمنين أو الجري على حال من هو ذاكر للميثاق و إن لم يكن ذاكرا له حقيقة و هو حال سائر المؤمنين و لا يخلو إطلاق الهداية عليه من عناية.

و في التوحيد، عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديق الذي أتى أبا عبد الله فقال: من أين أثبت أنبياء و رسلا؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنا لما أثبتنا: أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا و عن جميع ما خلق، و كان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه، و لا يلامسوه، و لا يباشرهم و لا يباشروه و يحاجهم و يحاجوه، فثبت أن له سفراء في خلقه يدلونهم على مصالحهم و منافعهم و ما فيه بقاؤهم، و في تركه فناؤهم، فثبت الآمرون الناهون عن الحكيم العليم في خلقه، و ثبت عند ذلك أن له معبرين و هم الأنبياء و صفوته من خلقه، حكماء مؤدبون بالحكمة مبعوثين بها، غير مشاركين للناس في أحوالهم، على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة و الدلائل و البراهين و الشواهد، من إحياء الموتى، و إبراء الأكمه و الأبرص فلا يخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول و وجوب عدالته.

أقول: و الحديث كما ترى مشتمل على حجج ثلاث في مسائل ثلاث من النبوة.

إحداها: الحجة على النبوة العامة و بالتأمل فيما ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) تجد أنه منطبق على ما استفدنا من قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة الآية.

و ثانيتها: الحجة على لزوم تأييد النبي بالمعجزة، و ما ذكره (عليه السلام) منطبق على ما ذكرناه في البحث عن الإعجاز في بيان قوله تعالى: «و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله:» البقرة - 23.

و ثالثتها: مسألة عدم خلو الأرض عن الحجة و سيأتي بيانه إن شاء الله.

و في المعاني، و الخصال، عن عتبة الليثي عن أبي ذر رحمه الله قال: قلت يا رسول الله كم النبيون؟ قال: مائة و أربعة و عشرون ألف نبي، قلت: كم المرسلون منهم؟ قال ثلاثمائة و ثلاثة عشر جما غفيرا، قلت من كان أول الأنبياء؟ قال: آدم، قلت: و كان من الأنبياء مرسلا؟ قال: نعم خلقه الله بيده و نفخ فيه من روحه، ثم قال يا أبا ذر أربعة من الأنبياء سريانيون: آدم و شيث، و أخنوخ و هو إدريس و هو أول من خط بالقلم، و نوح، و أربعة من العرب: هود، و صالح، و شعيب، و نبيك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أول نبي من بني إسرائيل موسى و آخرهم عيسى و ستمائة نبي، قلت: يا رسول الله! كم أنزل الله تعالى من كتاب؟ قال: مائة كتاب و أربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة و على إدريس ثلاثين صحيفة، و على إبراهيم عشرين صحيفة، و أنزل التوراة، و الإنجيل، و الزبور، و الفرقان.

أقول: و الرواية و خاصة صدرها المتعرض لعدد الأنبياء و المرسلين من المشهورات روتها الخاصة و العامة في كتبهم، و روى هذا المعنى الصدوق في الخصال، و الأمالي، عن الرضا عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عن زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) و رواه ابن قولويه في كامل الزيارة، و السيد في الإقبال، عن السجاد (عليه السلام)، و في البصائر، عن الباقر (عليه السلام).

و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: و كان رسولا نبيا الآية قال: النبي الذي يرى في منامه و يسمع الصوت و لا يعاين الملك، و الرسول الذي يسمع الصوت و لا يرى في المنام و يعاين.

أقول: و في هذا المعنى روايات أخر، و من الممكن أن يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى: «فأرسل إلى هارون:» الشعراء - 13، و ليس معناها أن معنى الرسول هو المرسل إليه ملك الوحي بل المقصود أن النبوة و الرسالة مقامان خاصة أحدهما الرؤيا و خاصة الآخر مشاهدة ملك الوحي، و ربما اجتمع المقامان في واحد فاجتمعت الخاصتان، و ربما كانت نبوة من غير رسالة، فيكون الرسالة أخص من النبوة مصداقا لا مفهوما كما يصرح به الحديث السابق عن أبي ذر حيث يقول: قلت: كم المرسلون منهم؟ فقد تبين أن كل رسول نبي و لا عكس.

و بذلك يظهر الجواب عما اعترضه بعضهم على دلالة قوله تعالى: «و لكن رسول الله و خاتم النبيين:» الأحزاب - 40، إنه إنما يدل على ختم النبوة دون ختم الرسالة مستدلا بهذه الرواية و نظائرها.

و الجواب: أن النبوة أعم مصداقا من الرسالة و ارتفاع الأعم يستلزم ارتفاع الأخص و لا دلالة في الروايات كما عرفت على العموم من وجه بين الرسالة و النبوة بل الروايات صريحة في العموم المطلق.

و في العيون، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: إنما سمي أولو العزم أولي العزم لأنهم كانوا أصحاب العزائم و الشرائع، و ذلك أن كل نبي كان بعد نوح كان على شريعته و منهاجه و تابعا لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل، و كل نبي كان في أيام إبراهيم كان على شريعة إبراهيم و منهاجه و تابعا لكتابه إلى زمن موسى، و كل نبي كان في زمن موسى كان على شريعة موسى و منهاجه و تابعا لكتابه إلى أيام عيسى و كل نبي كان في أيام عيسى و بعده كان على شريعة عيسى و منهاجه و تابعا لكتابه إلى زمن نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهؤلاء الخمسة أولو العزم، و هم أفضل الأنبياء و الرسل (عليهم السلام) و شريعة محمد لا تنسخ إلى يوم القيامة، و لا نبي بعده إلى يوم القيامة فمن ادعى بعده النبوة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه.

أقول: و روى هذا المعنى صاحب قصص الأنبياء، عن الصادق (عليه السلام).

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل الآية، و هم نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى بن مريم (عليهما السلام)، و معنى أولي العزم أنهم سبقوا الأنبياء إلى الإقرار بالله و أقروا بكل نبي كان قبلهم و بعدهم: و عزموا على الصبر مع التكذيب لهم و الأذى.

أقول: و روي من طرق أهل السنة و الجماعة عن ابن عباس و قتادة: أن أولي العزم من الأنبياء خمسة: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما رويناه من طرق أهل البيت، و هناك أقوال أخر منسوبة إلى بعضهم: فذهب بعضهم إلى أنهم ستة: نوح، و إبراهيم، و إسحاق، و يعقوب، و يوسف، و أيوب، و ذهب بعضهم إلى أنهم الذين أمروا بالجهاد و القتال و أظهروا المكاشفة و جاهدوا في الدين، و ذهب بعضهم إلى أنهم أربعة: إبراهيم، و نوح، و هود، و رابعهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هذه أقوال خالية عن الحجة و قد ذكرنا الوجه في ذلك.

و في تفسير العياشي، عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:؟ كان ما بين آدم و بين نوح من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الأنبياء الحديث.

أقول: و روي هذا المعنى عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) بطرق كثيرة.

و في الصافي، عن المجمع عن علي (عليه السلام): بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته و في النهج، قال (عليه السلام): في خطبة له يذكر فيها آدم (عليه السلام): فأهبطه إلى دار البلية و تناسل الذرية، و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، و على تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه، و اتخذوا الأنداد معه، و اجتالتهم الشياطين عن معرفته، و اقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، و واتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، و يذكروهم منسي نعمته، و يحتجوا عليهم بالتبليغ، و يثيروا لهم دفائن العقول، و يروهم آيات المقدرة: من سقف فوقهم مرفوع، و مهاد تحتهم موضوع، و معايش تحييهم، و آجال تفنيهم، و أوصاب تهرمهم، و أحداث تتابع عليهم، و لم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة أو محجة قائمة، رسل لا يقصر بهم قلة عددهم و لا كثرة المكذبين لهم: من سابق سمي له من بعده، أو غابر عرفه من قبله، على ذلك نسلت القرون، و مضت الدهور، و سلفت الآباء، و خلفت الأبناء، إلى أن بعث الله سبحانه محمدا لإنجاز عدته، و تمام نبوته الخطبة.

أقول: قوله: اجتالتهم أي حملتهم على الجولان إلى كل جانب، و قوله: واتر إليهم، أي أرسل واحدا بعد واحد، و الأوصاب جمع وصب و هو المرض، و الأحداث جمع الحدث و هو النازلة، و قوله نسلت القرون أي مضت، و إنجاز العدة تصديق الوعد، و المراد به الوعد الذي وعده الله سبحانه بإرسال رسوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و بشر به عيسى (عليه السلام) و غيره من الأنبياء (عليهم السلام)، قال تعالى: «و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا:» الأنعام - 115.

و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن الوليد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال الله تعالى لموسى (عليه السلام): و كتبنا له في الألواح من كل شيء فعلمنا أنه لم يكتب لموسى الشيء كله، و قال تعالى لعيسى: لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، و قال الله تعالى لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): و جئنا بك شهيدا على هؤلاء و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء.

أقول: و روي في بصائر الدرجات، هذا المعنى عن عبد الله بن الوليد بطريقين، و قوله (عليه السلام) قال الله لموسى «إلخ»، إشارة إلى أن قوله تعالى في الألواح من كل شيء يفسر قوله تعالى في حق التوراة: «و تفصيل كل شيء» إذ لو كان المراد به استيعاب البيان لجميع جهات كل شيء لم يصح قوله: في الألواح من كل شيء فهذا الكلام شاهد على أن المراد من تفصيل كل شيء تفصيله بوجه لا من جميع الجهات فافهم.

بحث فلسفي

مسألة النبوة العامة بالنظر إلى كون النبوة نحو تبليغ للأحكام و قوانين مجعولة مشرعة و هي أمور اعتبارية غير حقيقية، و إن كانت مسألة كلامية غير فلسفية فإن البحث الفلسفي إنما ينال الأشياء من حيث وجوداتها الخارجية و حقائقها العينية و لا يتناول الأمور المجعولة الاعتبارية.

لكنها بالنظر إلى جهة أخرى مسألة فلسفية و بحث حقيقي، و ذلك أن المواد الدينية: من المعارف الأصلية و الأحكام الخلقية و العملية لها ارتباط بالنفس الإنسانية من جهة أنها تثبت فيها علوما راسخة أو أحوالا تؤدي إلى ملكات راسخة، و هذه العلوم و الملكات تكون صورا للنفس الإنسانية تعين طريقها إلى السعادة و الشقاوة، و القرب و البعد من الله سبحانه، فإن الإنسان بواسطة الأعمال الصالحة و الاعتقادات الحقة الصادقة يكتسب لنفسه كمالات لا تتعلق إلا بما هي له عند الله سبحانه من القرب و الزلفى، و الرضوان و الجنان و بواسطة الأعمال الطالحة و العقائد السخيفة الباطلة يكتسب لنفسه صورا لا تتعلق إلا بالدنيا الداثرة و زخارفها الفانية و يؤديها ذلك أن ترد بعد مفارقة الدنيا و انقطاع الاختيار إلى دار البوار و مهاد النار و هذا سير حقيقي.

و على هذا فالمسألة حقيقية و الحجة التي ذكرناها في البيان السابق و استفدناها من الكتاب العزيز حجة برهانية.

توضيح ذلك: أن هذه الصور للنفس الإنسانية الواقعة في طريق الاستكمال، و الإنسان نوع حقيقي بمعنى أنه موجود حقيقي مبدأ لآثار وجودية عينية، و العلل الفياضة للموجودات أعطتها قابلية النيل إلى كمالها الأخير في وجودها بشهادة التجربة و البرهان، و الواجب تعالى تام الإفاضة فيجب أن يكون هناك إفاضة لكل نفس مستعدة بما يلائم استعدادها من الكمال، و يتبدل به قوتها إلى الفعلية، من الكمال الذي يسمى سعادة إن كانت ذات صفات حسنة و ملكات فاضلة معتدلة أو الذي يسمى شقاوة إن كانت ذات رذائل و هيئات ردية.

و إذ كانت هذه الملكات و الصور حاصلة لها من طريق الأفعال الاختيارية المنبعثة عن اعتقاد الصلاح و الفساد، و الخوف و الرجاء، و الرغبة إلى المنافع، و الرهبة من المضار، وجب أن تكون هذه الإفاضة أيضا متعلقه بالدعوة الدينية بالتبشير و الإنذار و التخويف و التطميع لتكون شفاء للمؤمنين فيكملوا به في سعادتهم، و خسارا للظالمين فيكملوا به في شقاوتهم، و الدعوة تحتاج إلى داع يقدم بها و هو النبي المبعوث من عنده تعالى.

فإن قلت: كفى في الدعوة ما يدعو إليه العقل من اتباع الإنسان للحق في الاعتقاد و العمل، و سلوكه طريق الفضيلة و التقوى، فأي حاجة إلى بعث الأنبياء.

قلت: العقل الذي يدعو إلى ذلك، و يأمر به هو العقل العملي الحاكم بالحسن و القبح، دون العقل النظري المدرك لحقائق الأشياء كما مر بيانه سابقا، و العقل العملي يأخذ مقدمات حكمه من الإحساسات الباطنة، و الإحساسات التي هي بالفعل في الإنسان في بادي حاله هي إحساسات القوى الشهوية و الغضبية، و أما القوة الناطقة القدسية فهي بالقوة، و قد مر أن هذا الإحساس الفطري يدعو إلى الاختلاف، فهذه التي بالفعل لا تدع الإنسان يخرج من القوة إلى الفعل كما هو مشهود من حال الإنسان فكل قوم أو فرد فقد التربية الصالحة عاد عما قليل إلى التوحش و البربرية مع وجود العقل فيهم و حكم الفطرة عليهم، فلا غناء عن تأييد إلهي بنبوة تؤيد العقل.

بحث اجتماعي

فإن قلت: هب أن العقل لا يستقل بالعمل في كل فرد أو في كل قوم في جميع التقادير و لكن الطبيعة تميل دائما إلى ما فيه صلاحها و الاجتماع التابع لها مثلها يهدي إلى صلاح أفراده فهو يستقر بالآخرة على هيئة صالحة فيها سعادة أفراد المجتمعين و هو الأصل المعروف بتبعية المحيط فالتفاعل بين الجهات المتضادة يؤدي بالآخرة إلى اجتماع صالح مناسب لمحيط الحياة الإنسانية جالب لسعادة النوع المجتمع الأفراد، و يشهد به ما نشاهده و يؤيده التاريخ أن الاجتماعات لا تزال تميل إلى التكامل و تتمنى الصلاح و تتوجه إلى السعادة اللذيذة عند الإنسان، فمنها ما بلغ مبتغاه و أمنيته كما في بعض الأمم مثل سويسرة، و منها ما هو في الطريق و لما يتم له شرائط الكمال و هي قريبة أو بعيدة كما في سائر الدول.

قلت: تمايل الطبيعة إلى كمالها و سعادتها مما لا يسع أحدا إنكاره، و الاجتماع المنتهي إلى الطبيعة حاله حال الطبيعة في التوجه إلى الكمال لكن الذي ينبغي الإمعان فيه أن هذا التمايل و التوجه لا يستوجب فعلية الكمال و السعادة الحقيقية، لما ذكرنا من فعلية الكمال الشهوي و الغضبي في الإنسان و كون مبادىء السعادة الحقيقية فيه بالقوة، و الشاهد عليه عين ما استشهد به في الاعتراض من كون الاجتماعات المدنية المنقرضة و الحاضرة متوجهة إلى الكمال، و نيل بعضها إلى المدنية الفاضلة السعيدة، و قرب البعض الآخر أو بعده، فإن الذي نجده عند هؤلاء من الكمال و السعادة هو الكمال الجسمي و ليس الكمال الجسمي هو كمال الإنسان، فإن الإنسان ليس هو الجسم بل هو مركب من جسم و روح، مؤلف من جهتين مادية و معنوية له حياة في البدن و حياة بعد مفارقته من غير فناء و زوال، يحتاج إلى كمال و سعادة تستند إليها في حياته الآخرة، فليس من الصحيح أن يعد كماله الجسمي الموضوع على أساس الحياة الطبيعية كمالا له و سعادة بالنسبة إليه، و حقيقته هذه الحقيقة.

فتبين أن الاجتماع بحسب التجربة إنما يتوجه بالفعل إلى فعلية الكمال الجسماني دون فعلية الكمال الإنساني، و إن كان في قصدها هداية الإنسان إلى كمال حقيقته لا كمال جسمه الذي في تقوية جانبه هلاك الإنسانية و انحلال تركيبه، و ضلاله عن صراطه المستقيم، فهذا الكمال لا يتم له إلا بتأييد من النبوة، و الهداية الإلهية.

يتبع...

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213)

فإن قلت: لو صحت هذه الدعوة النبوية و لها ارتباط بالهداية التكوينية لكان لازمها فعلية التأثير في الاجتماعات الإنسانية، كما أن هداية الإنسان بل كل موجود مخلوق إلى منافع وجوده أمر فعلي جار في الخلقة و التكوين، فكان من اللازم أن يتلبس به الاجتماعات، و يجري في ما بين الناس مجرى سائر الغرائز الجارية، و ليس كذلك، فكيف يكون إصلاحا حقيقيا و لا تقبله الاجتماعات الإنسانية؟ فليست الدعوة الدينية في رفعها اختلافات الحياة إلا فرضية غير قابلة الانطباق على الحقيقة.

قلت: أولا أثر الدعوة الدينية مشهود معاين، لا يرتاب فيه إلا مكابر، فإنها في جميع أعصار وجودها منذ ظهرت، ربت ألوفا و ألوفا من الأفراد في جانب السعادة، و أضعاف ذلك و أضعاف أضعافهم في جانب الشقاء بالقبول و الرد و الانقياد و الاستكبار، و الإيمان و الكفر، مضافا إلى بعض الاجتماعات الدينية المنعقدة أحيانا من الزمان، على أن الدنيا لم تقض عمرها بعد، و لما ينقرض العالم الإنساني، و من الممكن أن يتحول الاجتماع الإنساني يوما إلى اجتماع ديني صالح، فيه حياة الإنسانية الحقيقية و سعادة الفضائل و الأخلاق الراقية يوم لا يعبد فيه إلا الله سبحانه، و يسار فيه بالعدالة و الفضيلة، و ليس من الجائز أن نعد مثل هذا التأثير العظيم هينا لا يعبأ به.

و ثانيا: أن الأبحاث الاجتماعية و كذا علم النفس و علم الأخلاق تثبت أن الأفعال المتحققة في الخارج لها ارتباط بالأحوال و الملكات من الأخلاق ترتضع من ثدي الصفات النفسانية، و لها تأثير في النفوس، فالأفعال آثار النفوس و صفاتها، و لها آثار في النفوس في صفاتها، و يستنتج من هناك أصلان: أصل سراية الصفات و الأخلاق، و أصل وراثتها، فهي تتسع وجودا بالسراية عرضا، و تتسع ببقاء وجودها بالوراثة طولا.

فهذه الدعوة العظيمة و هي تصاحب الاجتماعات الإنسانية من أقدم عهودها، في تاريخها المضبوط و قبل ضبط التاريخ لا بد أن تكون ذات أثر عميق في حياة الإنسان الاجتماعية من حيث الأخلاق الفاضلة و الصفات الحسنة الكريمة، فللدعوة الدينية آثار في النفوس و إن لم تجبها و لم تؤمن بها.

بل حقيقة الأمر: أن ما نشاهد في الاجتماعات الحاضرة من الملل و الأمم الحية من آثار النبوة و الدين، و قد ملكوها بالوراثة أو التقليد، فإن الدين منذ ظهر بين هذا النوع حملته و انتحلت به أمم و جماعات هامة، و هو الداعي الوحيد الذي يدعو إلى الإيمان، و الأخلاق الفاضلة و العدل و الصلاح، فالموجود من الخصائل الحميدة بين الناس اليوم و إن كان قليلا بقايا من آثاره و نتائجه، فإن التدابير العامة في الاجتماعات المتكونة ثلاثة لا رابع لها: أحدها تدبير الاستبداد و هو يدعو إلى الرقية في جميع الشئون الإنسانية، و ثانيها القوانين المدنية و هي تجري و تحكم في الأفعال فحسب، و تدعو إلى الحرية فيما وراء ذلك من الأخلاق و غيرها، و ثالثها الدين و هو يحكم في الاعتقادات و الأخلاق و الأفعال جميعا و يدعو إلى إصلاح الجميع.

فلو كان في الدنيا خير مرجو أو سعادة لوجب أن ينسب إلى الدين و تربيته.

و يشهد بذلك ما نشاهده من أمر الأمم التي بنت اجتماعها على كمال الطبيعة، و أهملت أمر الدين و الأخلاق، فإنهم لم يلبثوا دون أن افتقدوا الصلاح و الرحمة و المحبة و صفاء القلب و سائر الفضائل الخلقية و الفطرية مع وجود أصل الفطرة فيهم، و لو كانت أصل الفطرة كافية، و لم تكن هذه الصفات بين البشر من البقايا الموروثة من الدين لما افتقدوا شيئا من ذلك.

على أن التاريخ أصدق شاهد على الاقتباسات التي عملتها الأمم المسيحية بعد الحروب الصليبية، فاقتبسوا مهمات النكات من القوانين العامة الإسلامية فتقلدوها و تقدموا بها، و الحال أن المسلمين اتخذوها وراءهم ظهريا، فتأخر هؤلاء و تقدم أولئك، و الكلام طويل الذيل.

و بالجملة الأصلان المذكوران، أعني السراية و الوراثة، و هما التقليد الغريزي في الإنسان و التحفظ على السيرة المألوفة يوجبان نفوذ الروح الديني في الاجتماعات كما يوجبان في غيره ذلك و هو تأثير فعلي.

فإن قلت: فعلى هذه فما فائدة الفطرة فإنها لا تغني طائلا و إنما أمر السعادة بيد النبوة؟ و ما فائدة بناء التشريع على أساس الفطرة على ما تدعيه النبوة؟.

قلت: ما قدمناه في بيان ما للفطرة من الارتباط بسعادة الإنسان و كماله يكفي في حل هذه الشبهة، فإن السعادة و الكمال الذي تجلبه النبوة إلى الإنسان ليس أمرا خارجا عن هذا النوع، و لا غريبا عن الفطرة، فإن الفطرة هي التي تهتدي إليه، لكن هذا الاهتداء لا يتم لها بالفعل وحدها من غير معين يعينها على ذلك، و هذا المعين الذي يعينها على ذلك و هو حقيقة النبوة ليس أيضا أمرا خارجا عن الإنسانية و كمالها، منضما إلى الإنسان كالحجر الموضوع في جنب الإنسان مثلا، و إلا كان ما يعود منه إلى الإنسان أمرا غير كماله و سعادته كالثقل الذي يضيفه الحجر إلى ثقل الإنسان في وزنه، بل هو أيضا كمال فطري للإنسان مذخور في هذا النوع، و هو شعور خاص و إدراك مخصوص مكمون في حقيقته لا يهتدي إليه بالفعل إلا آحاد من النوع أخذتهم العناية الإلهية، كما أن للبالغ من الإنسان شعورا خاصا بلذة النكاح، لا تهتدي إليه بالفعل بقية الأفراد غير البالغين بالفعل، و إن كان الجميع من البالغ و غير البالغ مشتركين في الفطرة الإنسانية، و الشعور شعور مرتبط بالفطرة.

و بالجملة لا حقيقة النبوة أمر زائد على إنسانية الإنسان الذي يسمى نبيا، و خارج عن فطرته، و لا السعادة التي تهتدي سائر الأمة إليها أمر خارج عن إنسانيتهم و فطرتهم، غريب عما يستأنسه وجودهم الإنساني، و إلا لم تكن كمالا و سعادة بالنسبة إليهم.

فإن قلت: فيعود الإشكال على هذا التقرير إلى النبوة، فإن الفطرة على هذا كافية وحدها و النبوة غير خارجة عن الفطرة.

فإن المتحصل من هذا الكلام، هو أن النوع الإنساني المتمدن بفطرته و المختلف في اجتماعه يتميز من بين أفراده آحاد من الصلحاء فطرتهم مستقيمة، و عقولهم سليمة عن الأوهام و التهوسات و رذائل الصفات، فيهتدون باستقامة فطرتهم، و سلامة عقولهم إلى ما فيه صلاح الاجتماع، و سعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة الناس، و عمران الدنيا و الآخرة، فإن النبي هو الإنسان الصالح الذي له نبوغ اجتماعي.

قلت: كلا! و إنما هو تفسير لا ينطبق على حقيقة النبوة، و لا ما تستتبعه.

أما أولا: فلأن ذلك فرض افترضه بعض علماء الاجتماع ممن لا قدم له في البحث الديني، و الفحص عن حقائق المبدإ و المعاد.

فذكر أن النبوة نبوغ خاص اجتماعي استتبعته استقامة الفطرة و سلامة العقل، و هذا النبوغ يدعو إلى الفكر في حال الاجتماع، و ما يصلح به هذا الاجتماع المختل، و ما يسعد به الإنسان الاجتماعي.

فهذا النابغة الاجتماعي هو النبي، و الفكر الصالح المترشح من قواه الفكرية هو الوحي، و القوانين التي يجعلها لصلاح الاجتماع هو الدين، و روحه الطاهر الذي يفيض هذه الأفكار إلى قواه الفكرية و لا يخون العالم الإنساني باتباع الهوى هو الروح الأمين و هو جبرائيل، و الموحي الحقيقي هو الله سبحانه، و الكتاب الذي يتضمن أفكاره العالية الطاهرة هو الكتاب السماوي، و الملائكة هي القوى الطبيعية أو الجهات الداعية إلى الخير، و الشيطان هي النفس الأمارة بالسوء أو القوى أو الجهات الداعية إلى الشر و الفساد، و على هذا القياس.

و هذا فرض فاسد، و قد مر في البحث عن الإعجاز، إن النبوة بهذا المعنى لأن تسمى لعبة سياسية أولى بها من أن تسمى نبوة إلهية.

و قد تقدم أن هذا الفكر الذي يسمي هؤلاء الباحثون نبوغه الخاص نبوة من خواص العقل العملي، الذي يميز بين خير الأفعال و شرها بالمصلحة و المفسدة و هو أمر مشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان و من هدايا الفطرة المشتركة، و تقدم أيضا أن هذا العقل بعينه هو الداعي إلى الاختلاف، و إذا كان هذا شأنه لم يقدر من حيث هو كذلك على رفع الاختلاف، و احتاج فيه إلى متمم يتمم أمره، و قد عرفت أنه يجب أن يكون هذا المتمم نوعا خاصا من الشعور يختص به بحسب الفعلية بعض الآحاد من الإنسان و تهتدي به الفطرة إلى سعادة الإنسان الحقيقية في معاشه و معاده.

و من هنا يظهر أن هذا الشعور من غير سنخ الشعور الفكري، بمعنى أن ما يجده الإنسان من النتائج الفكرية من طريق مقدماتها العقلية غير ما يجده من طريق الشعور النبوي، و الطريق غير الطريق.

و لا يشك الباحثون في خواص النفس في أن في الإنسان شعورا نفسيا باطنيا، ربما يظهر في بعض الآحاد من أفراده، يفتح له بابا إلى عالم وراء هذا العالم، و يعطيه عجائب من المعارف و المعلومات، وراء ما يناله العقل و الفكر، صرح به جميع علماء النفس من قدمائنا و جمع من علماء النفس من أوروبا مثل جمز الإنجليزي و غيره.

فقد تحصل أن باب الوحي النبوي غير باب الفكر العقلي، و أن النبوة و كذا الشريعة و الدين و الكتاب و الملك و الشيطان لا ينطبق عليها ما اختلقوه من المعاني.

و أما ثانيا: فلأن المأثور من كلام هؤلاء الأنبياء المدعين لمقام النبوة و الوحي مثل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و عيسى و موسى و إبراهيم و نوح « (عليهما السلام)» و غيرهم - و بعضهم يصدق بعضا - و كذا الموجود من كتبهم كالقرآن، صريح في خلاف هذا الذي فسروا به النبوة و الوحي و نزول الكتاب و الملك و غير ذلك من الحقائق.

فإن صريح الكتاب و السنة و ما نقل من الأنبياء العظام (عليهم السلام) أن هذه الحقائق و آثارها أمور خارجة عن سنخ الطبيعة، و نشأة المادة، و حكم الحس، بحيث لا يعد إرجاعها إلى الطبيعة و حكمها إلا تأويلا بما لا يقبله طبع الكلام، و لا يرتضيه ذوق التخاطب.

و قد تبين بما ذكرنا أن الأمر الذي يرفع فساد الاختلاف عن الاجتماع الإنساني و هو الشعور الباطني الذي يدرك صلاح الاجتماع أعني القوة التي يمتاز بها النبي من غيره أمر وراء الشعور الفكري الذي يشترك فيه جميع أفراد الإنسان.

فإن قلت: فعلى هذا يكون هذا الشعور الباطني أمرا خارقا للعادة فإنه أمر لا يعرفه أفراد الإنسان من أنفسهم و إنما هو أمر يدعيه الشاذ النادر منهم، فكيف يمكن أن يسوق الجميع إلى إصلاح شأنهم و يهدي النوع إلى سعادته الحقيقية؟! و قد مر سابقا أن كل ما فرض هاديا للإنسان إلى سعادته و كماله النوعي وجب أن يهديه بالارتباط و الاتحاد مع فطرته، لا بنحو الانضمام كانضمام الحجر الموضوع في جنب الإنسان إليه.

قلت: كون هذا الأمر خارقا للعادة مما لا ريب فيه، و كذا كونه أمرا من قبيل الإدراكات الباطنية و نحو شعور مستور عن الحواس الظاهرية مما لا ريب فيه، لكن العقل لا يدفع الأمر الخارق للعادة و لا الأمر المستور عن الحواس الظاهرة و إنما يدفع المحال، و للعقل طريق إلى تصديق الأمور الخارقة للعادة المستورة عن الحواس الظاهرة فإن له أن يستدل على الشيء من طريق علله و هو الاستدلال اللمي، أو من لوازمه أو آثاره و هو الاستدلال الإني فيثبت بذلك وجوده، و النبوة بالمعنى الذي ذكرنا يمكن أن يستدل عليها بأحد طريقين: فتارة من طريق آثاره و تبعاته و هو اشتمال الدين الذي يأتي به النبي على سعادة الإنسان في دنياه و آخرته، و تارة من جهة اللوازم و هو أن النبوة لما كانت أمرا خارقا للعادة فدعواها
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 12:26 pm

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

بيان

قد مر أن هذه الآيات آخذة من قوله تعالى: يا أيها آمنوا ادخلوا في السلم كافة إلى آخر هذه الآية، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض.

قوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، تثبيت لما تدل عليه الآيات السابقة، و هو أن الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا و الآخرة، و نعمة حباهم الله بها، فمن الواجب أن يسلموا له و لا يتبعوا خطوات الشيطان، و لا يلقوا فيه الاختلاف، و لا يجعلوا الدواء داء، و لا يبدلوا نعمة الله سبحانه كفرا و نقمة من اتباع الهوى، و ابتغاء زخرف الدنيا و حطامها فيحل عليهم غضب من ربهم كما حل ببني إسرائيل حيث بدلوا نعمة الله من بعد ما جاءتهم، فإن المحنة دائمة، و الفتنة قائمة، و لن ينال أحد من الناس سعادة الدين و قرب رب العالمين إلا بالثبات و التسليم.

و في الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة، فإن أصل الخطاب كان معهم و وجه الكلام إليهم في قوله: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، و إنما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلامية أوجبت ذلك، و بعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانيا... و كلمة أم منقطعة تفيد الإضراب، و المعنى على ما قيل: بل أ حسبتم أن تدخلوا الجنة «إلخ»، و الخلاف في أم المنقطعة معروف، و الحق أن أم لإفادة الترديد، و أن الدلالة على معنى الإضراب من حيث انطباق معنى الإضراب على المورد، لا أنها دلالة وضعية، فالمعنى في المورد مثلا: هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الإيمان و الثبات على نعمة الدين، و الاتفاق و الاتحاد فيه أم لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنة «إلخ».

قوله تعالى: و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، المثل بكسر الميم فسكون الثاء، و المثل بفتح الميم و الثاء كالشبه، و الشبه و المراد به ما يمثل الشيء و يحضره و يشخصه عند السامع، و منه المثل بفتحتين، و هو الجملة أو القصة التي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيلية كما قال تعالى: «مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا:» الجمعة - 5، و منه أيضا المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى: «انظر كيف ضربوا لك الأمثال:» الفرقان - 9، و إنما قالوا له (صلى الله عليه وآله وسلم): مجنون و ساحر و كذاب و نحو ذلك، و حيث إنه تعالى يبين المثل الذي ذكره بقوله: مستهم البأساء و الضراء إلخ فالمراد به المعنى الأول.

قوله تعالى: مستهم البأساء و الضراء إلى آخره لما اشتد شوق المخاطب ليفهم تفصيل الإجمال الذي دل عليه بقوله: و لما يأتكم مثل الذين، بين ذلك بقوله: مستهم البأساء و الضراء و البأساء هو الشدة المتوجهة إلى الإنسان في خارج نفسه كالمال و الجاه و الأهل و الأمن الذي يحتاج إليه في حياته، و الضراء هي الشدة التي تصيب الإنسان في نفسه كالجرح و القتل و المرض، و الزلزلة و الزلزال معروف و أصله من زل بمعنى عثر، كررت اللفظة للدلالة على التكرار كان الأرض مثلا تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة، و هو كصر و صرصر، و صل و صلصل، و كب و كبكب، و الزلزال في الآية كناية عن الاضطراب و الإدهاش.

قوله تعالى: حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه، قرىء بنصب يقول، و الجملة على هذا في محل الغاية لما سبقها، و قرىء برفع يقول و الجملة على هذا لحكاية الحال الماضية، و المعنيان و إن كانا جميعا صحيحين لكن الثاني أنسب للسياق، فإن كون الجملة غاية يعلل بها قوله: و زلزلوا لا يناسب السياق كل المناسبة.

قوله تعالى: متى نصر الله، الظاهر أنه مقول قول الرسول و الذين آمنوا معه جميعا، و لا ضير في أن يتفوه الرسول بمثل هذا الكلام استدعاء و طلبا للنصر الذي وعد به الله سبحانه رسله و المؤمنين بهم كما قال تعالى: «و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون:» الصافات - 172، و قال تعالى: «كتب الله لأغلبن أنا و رسلي:» المجادلة - 21، و قد قال تعالى أيضا: «حتى إذا استيئس الرسل و ظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا:» يوسف - 110، و هو أشد لحنا من هذه الآية.

و الظاهر أيضا أن قوله تعالى: ألا إن نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمة لقول الرسول و الذين آمنوا معه... و الآية كما مرت إليه الإشارة سابقا تدل على دوام أمر الابتلاء و الامتحان و جريانه في هذه الأمة كما جرى في الأمم السابقة.

و تدل أيضا على اتحاد الوصف و المثل بتكرر الحوادث الماضية غابرا، و هو الذي يسمى بتكرر التاريخ و عوده.


يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

بيان

قوله تعالى: يسئلونك ما ذا ينفقون، قل: ما أنفقتم من خير، قالوا: إن الآية واقعة على أسلوب الحكمة، فإنهم إنما سألوا عن جنس ما ينفقون و نوعه، و كان هذا السؤال كاللغو لمكان ظهور ما يقع به الإنفاق و هو المال على أقسامه، و كان الأحق بالسؤال إنما هو من ينفق له: صرف الجواب إلى التعرض بحاله و بيان أنواعه ليكون تنبيها لهم بحق السؤال.

و الذي ذكروه وجه بليغ غير أنهم تركوا شيئا، و هو أن الآية مع ذلك متعرضة لبيان جنس ما ينفقونه، فإنها تعرضت لذلك: أولا بقولها: من خير، إجمالا، و ثانيا بقولها: و ما تفعلوا من خير فإن الله به عليم، ففي الآية دلالة على أن الذي ينفق به هو المال كائنا ما كان، من قليل أو كثير، و أن ذلك فعل خير و الله به عليم، لكنهم كان عليهم أن يسألوا عمن ينفقون لهم و يعرفوه، و هم: الوالدان و الأقربون و اليتامى و المساكين و ابن السبيل.

و من غريب القول ما ذكره بعض المفسرين: أن المراد بما في قوله تعالى: ما ذا ينفقون ليس هو السؤال عن الماهية فإنه اصطلاح منطقي لا ينبغي أن ينزل عليه الكلام العربي و لا سيما أفصح الكلام و أبلغه، بل هو السؤال عن الكيفية، و أنهم كيف ينفقونه، و في أي موضع يضعونه، فأجيب بالصرف في المذكورين في الآية، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة!.

و مثله و هو أغرب منه ما ذكره بعض آخر: أن السؤال و إن كان بلفظ ما إلا أن المقصود هو السؤال عن الكيفية فإن من المعلوم أن الذي ينفق به هو المال، و إذا كان هذا معلوما لم يذهب إليه الوهم، و تعين أن السؤال عن الكيفية، نظير قوله تعالى: «قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا»: البقرة - 70، فكان من المعلوم أن البقرة بهيمة نشأتها و صفتها كذا و كذا، فلا وجه لحمل قوله: ما هي على طلب الماهية، فكان من المتعين أن يكون سؤالا عن الصفة التي بها تمتاز البقرة من غيرها، و لذلك أجيب بالمطابقة بقوله تعالى: «إنها بقرة لا ذلول:» الآية البقرة - 71.

و قد اشتبه الأمر على هؤلاء، فإن ما و إن لم تكن موضوعة في اللغة لطلب الماهية التي اصطلح عليها المنطق، و هي الحد المؤلف من الجنس و الفصل القريبين، لكنه لا يستلزم أن تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفية، حتى يصح لقائل أن يقول عند السؤال عن المستحقين للإنفاق: ما ذا أنفق: أي على من أنفق؟ فيجاب عنه بقوله: للوالدين و الأقربين، فإن ذلك من أوضح اللحن.

بل ما موضوعة للسؤال عما يعرف الشيء سواء كان معرفا بالحد و الماهية، أو معرفا بالخواص و الأوصاف، فهي أعم مما اصطلح عليه في المنطق لا أنها مغايرة له و موضوعة للسؤال عن كيفية الشيء، و منه يعلم أن قوله تعالى: «يبين لنا ما هي» و قوله تعالى: «إنها بقرة لا ذلول»، سؤال و جواب جاريان على أصل اللغة، و هو السؤال عما يعرف الشيء و يخصه و الجواب بذلك.

و أما قول القائل: إن الماهية لما كانت معلومة تعين حمل ما على السؤال عن الكيفية دون الماهية فهو من أوضح الخطإ، فإن ذلك لا يوجب تغير معنى الكلمة مما وضع له إلى غيره.

و يتلوهما في الغرابة قول من يقول: إن السؤال كان عن الأمرين جميعا: ما ينفقون؟ و أين ينفقون فذكر أحد السؤالين و حذف الآخر، و هو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه! و هو كما ترى.

و كيف كان لا ينبغي الشك في أن في الآية تحويلا ما للجواب إلى جواب آخر تنبيها على أن الأحق هو السؤال عن من ينفق عليهم، و إلا فكون الإنفاق من الخير و المال ظاهر، و التحول من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحول إليه و الاشتغال به كثير الورود في القرآن، و هو من ألطف الصنائع المختصة به كقوله تعالى: «و مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء:» البقرة - 171 و قوله تعالى: «مثل ما ينفقون في هذه الحيوة الدنيا كمثل ريح فيها صر:» آل عمران - 117 و قوله تعالى: «مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل:» البقرة - 261، و قوله تعالى: «يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم:» الشعراء - 89، و قوله تعالى: «قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا:» الفرقان - 57، و قوله تعالى: «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين:» الصافات - 160، إلى غير ذلك من كرائم الآيات.

قوله تعالى: و ما تفعلوا من خير فإن الله به عليم، في تبديل الإنفاق من فعل الخير هاهنا كتبديل المال من الخير في أول الآية إيماء إلى أن الإنفاق و إن كان مندوبا إليه من قليل المال و كثيره، غير أنه ينبغي أن يكون خيرا يتعلق به الرغبة و تقع عليه المحبة كما قال تعالى: «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون:» آل عمران - 92، و كما قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم و مما أخرجنا لكم من الأرض و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون و لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه:» البقرة - 267.

و إيماء إلى أن الإنفاق ينبغي أن لا يكون على نحو الشر كالإنفاق بالمن و الأذى كما قال تعالى: «ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا و لا أذى:» البقرة - 262، و قوله تعالى: «و يسئلونك ما ذا ينفقون قل العفو:» البقرة - 219.

بحث روائي

في الدر المنثور، عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: يسئلونك عن الخمر و الميسر، و يسألونك عن الشهر الحرام، و يسئلونك عن اليتامى، و يسئلونك عن المحيض، و يسئلونك عن الأنفال، و يسئلونك ما ذا ينفقون، ما كانوا يسألون إلا عما كان ينفعهم.

في المجمع،: في الآية نزلت في عمرو بن الجموح، و كان شيخا كبيرا ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله بما ذا أتصدق؟ و على من أتصدق؟ فأنزل الله هذه الآية: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن المنذر عن ابن حيان، و قد استضعفوا الرواية، و هي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلا السؤال عما يتصدق به دون من يتصدق عليه.

و نظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضا عن ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أين يضعون أموالهم؟ فنزلت يسئلونك ما ذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير، فذلك النفقة في التطوع، و الزكاة سوى ذلك كله.

و نظيرها في ذلك أيضا ما رواه عن السدي، قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، و هي النفقة ينفقها الرجل على أهله، و الصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.

أقول: و ليست النسبة بين آية الزكاة: «خذ من أموالهم صدقة:» التوبة - 104، و بين هذه الآية نسبة النسخ و هو ظاهر إلا أن يعني بالنسخ معنى آخر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 12:32 pm

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218)

بيان

قوله تعالى: كتب عليكم القتال و هو كره لكم، الكتابة كما مر مرارا ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقا لبيان التشريع، و في القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدل على فرض القتال على كافة المؤمنين لكون الخطاب متوجها إليهم إلا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى: «ليس على الأعمى حرج و لا على الأعرج حرج و لا على المريض حرج:» النور - 61، و غير ذلك من الآيات و الأدلة.

و لم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيلة بقوله: «و هو كره لكم» و هو لا يناسب إظهار الفاعل صونا لمقامه عن الهتك، و حفظا لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحا موردا لكراهة المؤمنين.

و الكره بضم الكاف المشقة التي يدركها الإنسان من نفسه طبعا أو غير ذلك، و الكره بفتح الكاف: المشقة التي تحمل عليه من خارج كان يجبره إنسان آخر على فعل ما يكرهه قال تعالى: «لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها:» النساء - 19، و قال تعالى: «فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها:» فصلت - 11، و كون القتال المكتوب كرها للمؤمنين إما لأن القتال لكونه متضمنا لفناء النفوس و تعب الأبدان و المضار المالية و ارتفاع الأمن و الرخص و الرفاهية، و غير ذلك مما يستكرهه الإنسان في حياته الاجتماعية لا محالة كان كرها و شاقا للمؤمنين بالطبع، فإن الله سبحانه و إن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، و ذكر أن فيهم رجالا صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم، لكنه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ و الزلل، و هو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر و أحد و الخندق و غيرها، و معلوم أن من الجائز أن ينسب الكراهة و التثاقل إلى قوم فيهم كاره و غير كاره و أكثرهم كارهون، فهذا وجه.

و إما لأن المؤمنين كانوا يرون أن القتال مع الكفار مع ما لهم من العدة و القوة لا يتم على صلاح الإسلام و المسلمين، و أن الحزم في تأخيره حتى يتم لهم الاستعداد بزيادة النفوس و كثرة الأموال و رسوخ الاستطاعة، و لذلك كانوا يكرهون الإقدام على القتال و الاستعجال في النزال، فبين تعالى أنهم مخطئون في هذا الرأي و النظر، فإن لله أمرا في هذا الأمر هو بالغه، و هو العالم بحقيقة الأمر و هم لا يعلمون إلا ظاهره و هذا وجه آخر.

و إما لأن المؤمنين لكونهم متربين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله، و ملكة الرحمة و الرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفار لكونه مؤديا إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر، و لم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبون أن يداروهم و يخالطوهم بالعشرة الجميلة، و الدعوة الحسنة لعلهم يسترشدوا بذلك، و يدخلوا تحت لواء الإيمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، و نفوس الكفار من الهلاك الأبدي و البوار الدائم، فبين ذلك أنهم مخطئون في ذلك، فإن الله - و هو المشرع لحكم القتال - يعلم أن الدعوة غير مؤثرة في تلك النفوس الشقية الخاسرة، و أنه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنيا أو آخرة، فهم في الجامعة الإنسانية كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الأعضاء، الذي لا ينجع فيه علاج دون أن يقطع و يرمى به، و هذا أيضا وجه.

فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى: و هو كره لكم إلا أن الأول أنسب نظرا إلى ما أشير إليه من آيات العتاب، على أن التعبير في قوله: كتب عليكم القتال، بصيغة المجهول على ما مر من الوجه يؤيد ذلك.

قوله تعالى: و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم، قد مر فيما مر أن أمثال عسى و لعل في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجي، و ليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب، فالله سبحانه إنما يقول: عسى أن يكون كذا لا لأنه يرجوه، تعالى عن ذلك، بل ليرجوه المخاطب أو السامع.

و تكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبين للسلم، فأرشدهم الله سبحانه على خطئهم في الأمرين جميعا، بيان ذلك: أنه لو قيل: عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم أو تحبوا شيئا و هو شر لكم، كان معناه أنه لا عبرة بكرهكم و حبكم فإنهما ربما يخطئان الواقع، و مثل هذا الكلام إنما يلقى إلى من أخطأ خطأ واحدا كمن يكره لقاء زيد فقط، و أما من أخطأ خطاءين كان يكره المعاشرة و المخالطة و يحب الاعتزال، فالذي تقتضيه البلاغة أن يشار إلى خطئه في الأمرين جميعا، فيقال له: لا في كرهك أصبت، و لا في حبك اهتديت، عسى أن تكره شيئا و هو خير لك و عسى أن تحب شيئا و هو شر لك لأنك جاهل لا تقدر أن تهتدي بنفسك إلى حقيقة الأمر، و لما كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبين للسلم كما يشعر به أيضا قوله تعالى سابقا: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، نبههم الله بالخطاءين بالجملتين المستقلتين و هما: عسى أن تكرهوا، و عسى أن تحبوا.

قوله تعالى: و الله يعلم و أنتم لا تعلمون، تتميم لبيان خطئهم، فإنه تعالى تدرج في بيان ذلك إرفاقا بأذهانهم، فأخذ أولا بإبداء احتمال خطئهم في كراهتهم للقتال بقوله: عسى أن تكرهوا، فلما اعتدلت أذهانهم بحصول الشك فيها، و زوال صفة الجهل المركب كر عليهم ثانيا بأن هذا الحكم الذي كرهتموه أنتم إنما شرعه الله الذي لا يجهل شيئا من حقائق الأمور، و الذي ترونه مستند إلى نفوسكم التي لا تعلم شيئا إلا ما علمها الله إياه و كشف عن حقيقته، فعليكم أن تسلموا إليه سبحانه الأمر.

و الآية في إثباته العلم له تعالى على الإطلاق و نفي العلم عن غيره على الإطلاق تطابق سائر الآيات الدالة على هذا المعنى كقوله تعالى: «إن الله لا يخفى عليه شيء»: آل عمران - 5، و قوله تعالى: «و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء:» البقرة - 255، و قد سبق بعض الكلام في القتال في قوله: «و قاتلوا في سبيل الله:» البقرة - 190.

قوله تعالى: يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام و ذمه بأنه صد عن سبيل الله و كفر، و اشتمالها مع ذلك على أن إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله، و أن الفتنة أكبر من القتل، يؤذن بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال و أن هناك قتلا، و أنه إنما وقع خطأ لقوله تعالى في آخر الآيات: «إن الذين آمنوا و الذين هاجروا و جاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله و الله غفور رحيم» الآية، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفار خطأ من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم، و طعن الكفار به، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصة عبد الله بن جحش و أصحابه.

قوله تعالى: قل قتال فيه كبير و صد عن سبيل الله و كفر به و المسجد الحرام، الصد هو المنع و الصرف، و المراد بسبيل الله العبادة و النسك و خاصة الحج، و الظاهر أن ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفرا في العمل دون الاعتقاد، و المسجد الحرام عطف على سبيل الله أي صد عن سبيل الله و عن المسجد الحرام.

و الآية تدل على حرمة القتال في الشهر الحرام، و قد قيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم:» التوبة - 6، و ليس بصواب، و قد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال.

قوله تعالى: و إخراج أهله منه أكبر عند الله و الفتنة أكبر من القتل، أي و الذي فعله المشركون من إخراج رسول الله و المؤمنين من المهاجرين، و هم أهل المسجد الحرام، منه أكبر من القتال، و ما فتنوا به المؤمنين من الزجر و الدعوة إلى الكفر أكبر من القتل، فلا يحق للمشركين أن يطعنوا المؤمنين و قد فعلوا ما هو أكبر مما طعنوا به، و لم يكن المؤمنون فيما أصابوه منهم إلا راجين رحمة الله و الله غفور رحيم.

قوله تعالى: و لا يزالون يقاتلونكم إلى آخر الآية حتى للتعليل أي ليردوكم.

قوله تعالى: و من يرتدد منكم عن دينه «إلخ»، تهديد للمرتد بحبط العمل و خلود النار.

كلام في الحبط

و الحبط هو بطلان العمل و سقوط تأثيره، و لم ينسب في القرآن إلا إلى العمل كقوله تعالى: «لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين:» الزمر - 65، و قوله تعالى: «إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا و سيحبط أعمالهم، يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و لا تبطلوا أعمالكم:» محمد - 33، و ذيل الآية يدل بالمقابلة على أن الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى: «و حبط ما صنعوا فيها و باطل ما كانوا يعملون:» هود - 16، و يقرب منه قوله تعالى: «و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا:» الفرقان - 23.

و بالجملة الحبط هو بطلان العمل و سقوطه عن التأثير، و قد قيل: إن أصله من الحبط بالتحريك و هو أن يكثر الحيوان من الأكل فينتفخ بطنه و ربما أدى إلى هلاكه.

و الذي ذكره تعالى من أثر الحبط بطلان الأعمال في الدنيا و الآخرة معا، فللحبط تعلق بالأعمال من حيث أثرها في الحياة الآخرة، فإن الإيمان يطيب الحياة الدنيا كما يطيب الحياة الآخرة، قال تعالى: «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون:» النحل - 97، و خسران سعي الكافر، و خاصة من ارتد إلى الكفر بعد الإيمان، و حبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه، فإن قلبه غير متعلق بأمر ثابت، و هو الله سبحانه، يبتهج به عند النعمة، و يتسلى به عند المصيبة، و يرجع إليه عند الحاجة، قال تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها:» الأنعام - 122، تبين الآية أن للمؤمن في الدنيا حياة و نورا في أفعاله، و ليس للكافر، و مثله قوله تعالى، «فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيمة أعمى:» طه - 124، حيث يبين أن معيشة الكافر و حياته في الدنيا ضنك ضيقة متعبة، و بالمقابلة معيشة المؤمن و حياته سعيدة رحبة وسيعة.

و قد جمع الجميع و دل على سبب هذه السعادة و الشقاوة قوله تعالى: «ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم:» محمد - 11.

فظهر مما قربناه أن المراد بالأعمال مطلق الأفعال التي يريد الإنسان بها سعادة الحياة، لا خصوص الأعمال العبادية، و الأفعال القربية التي كان المرتد عملها و أتى بها حال الإيمان، مضافا إلى أن الحبط وارد في مورد الذين لا عمل عبادي، و لا فعل قربي لهم كالكفار و المنافقين كقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم و الذين كفروا فتعسا لهم و أضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم:» محمد - 9، و قوله تعالى: «إن الذين يكفرون بآيات الله و يقتلون النبيين بغير حق و يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة و ما لهم من ناصرين:» آل عمران - 22، إلى غير ذلك من الآيات.

فمحصل الآية كسائر آيات الحبط هو أن الكفر و الارتداد يوجب بطلان العمل عن أن يؤثر في سعادة الحياة، كما أن الإيمان يوجب حياة في الأعمال تؤثر بها أثرها في السعادة، فإن آمن الإنسان بعد الكفر حييت أعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة، و إن ارتد بعد الإيمان ماتت أعماله جميعا و حبطت، فلا تأثير لها في سعادة دنيوية و لا أخروية، لكن يرجى له ذلك أن هو لم يمت على الردة و إن مات على الردة حتم له الحبط و كتب عليه الشقاء.

و من هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء أعمال المرتد إلى حين الموت و الحبط عنده أو عدمه.

توضيح ذلك: أنه ذهب بعضهم إلى أن أعمال المرتد السابقة على ردته باقية إلى حين الموت، فإن لم يرجع إلى الإيمان بطلت بالحبط عند ذلك، و استدل عليه بقوله تعالى «و من يرتدد منكم عن دينه فيمت و هو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة» الآية و ربما أيده قوله تعالى: «و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا:» الفرقان - 23، فإن الآية تبين حال الكفار عند الموت، و يتفرع عليه أنه لو رجع إلى الإيمان تملك أعماله الصالحة السابقة على الارتداد.

و ذهب آخرون إلى أن الردة تحبط الأعمال من أصلها فلا تعود إليه و إن آمن من بعد الارتداد، نعم له ما عمله من الأعمال بعد الإيمان ثانيا إلى حين الموت، و أما الآية فإنما أخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع أعماله و أفعاله التي عملها في الدنيا! و أنت بالتدبر فيما ذكرناه تعرف، أن لا وجه لهذا النزاع أصلا، و أن الآية بصدد بيان بطلان جميع أعماله و أفعاله من حيث التأثير في سعادته!.

و هنا مسألة أخرى كالمتفرعة على هذه المسألة و هي مسألة الإحباط و التكفير، و هي أن الأعمال هل تبطل بعضها بعضا أو لا تبطل بل للحسنة حكمها و للسيئة حكمها، نعم الحسنات ربما كفرت السيئات بنص القرآن.

ذهب بعضهم إلى التباطل و التحابط بين الأعمال و قد اختلف هؤلاء بينهم، فمن قائل بأن كل لاحق من السيئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس، و لازمه أن لا يكون عند الإنسان من عمله إلا حسنة فقط، أو سيئة فقط و من قائل بالموازنة و هو أن ينقص من الأكثر بمقدار الأقل و يبقى الباقي سليما عن المنافي، و لازم القولين جميعا أن لا يكون عند الإنسان من أعماله إلا نوع واحد حسنة أو سيئة لو كان عنده شيء منهما.

و يردهما أولا قوله تعالى: «و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم و الله غفور رحيم:» التوبة - 102، فإن الآية ظاهرة في اختلاف الأعمال و بقائها على حالها إلى أن تلحقها توبة من الله سبحانه، و هو ينافي التحابط بأي وجه تصوروه.

و ثانيا: أنه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الإنساني من طريق المجازاة، و هو الجزاء على الحسنة على حدة و على السيئة على حدة إلا في بعض السيئات من المعاصي التي تقطع رابطة المولوية و العبودية من أصلها فهو مورد الإحباط، و الآيات في هذه الطريقة كثيرة غنية عن الإيراد.

و ذهب آخرون إلى أن نوع الأعمال محفوظة، و لكل عمل أثره سواء في ذلك الحسنة و السيئة.

نعم الحسنة ربما كفرت السيئة كما قال تعالى: «يا أيها آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا و يكفر عنكم سيئاتكم:» الأنفال - 29، و قال تعالى: «فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه الآية:» البقرة - 203، و قال تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم:» النساء - 31، بل بعض الأعمال يبدل السيئة حسنة كما قال تعالى: «إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات:» الفرقان - 70.

و هنا مسألة أخرى هي كالأصل لهاتين المسألتين، و هي البحث عن وقت استحقاق الجزاء و موطنه، فقيل: إنه وقت العمل، و قيل: حين الموت، و قيل: الآخرة، و قيل: وقت العمل بالموافاة بمعنى أنه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إلى حين الموت و موافاته لم يستحق ذلك إلا أن يعلم الله ما يئول إليه حاله و يستقر عليه، فيكتب ما يستحقه حال العمل. و قد استدل أصحاب كل قول بما يناسبه من الآيات، فإن فيها ما يناسب كلا من هذه الأوقات بحسب الانطباق، و ربما استدل ببعض وجوه عقلية ملفقة.

و الذي ينبغي أن يقال: إنا لو سلكنا في باب الثواب و العقاب و الحبط و التكفير و ما يجري مجراها مسلك نتائج الأعمال على ما بيناه في تفسير قوله تعالى: «إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها:» الآية - 26، كان لازم ذلك كون النفس الإنسانية ما دامت متعلقة بالبدن جوهرا متحولا قابلا للتحول في ذاته و في آثار ذاته من الصور التي تصدر عنها و تقوم بها نتائج و آثار سعيدة أو شقية، فإذا صدر منه حسنة حصل في ذاته صورة معنوية مقتضية لاتصافه بالثواب، و إذا صدر منه معصية فصوره معنوية تقوم بها صورة العقاب، غير أن الذات لما كانت في معرض التحول و التغير بحسب ما يطرؤها من الحسنات و السيئات كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدلها إلى غيرها، و هذا شأنها حتى يعرضها الموت فتفارق البدن و تقف الحركة و يبطل التحول و استعداده، فعند ذلك يثبت لها الصور و آثارها ثبوتا لا يقبل التحول و التغير إلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الذي بيناه سابقا.

و كذا لو سلكنا في الثواب و العقاب مسلك المجازاة على ما بيناه فيما مر كان حال الإنسان من حيث اكتساب الحسنة و المعصية بالنسبة إلى التكاليف الإلهية و ترتب الثواب و العقاب عليها حاله من حيث الإطاعة و المعصية في التكاليف الاجتماعية و ترتب المدح و الذم عليها، و العقلاء يأخذون في مدح المطيع و المحسن و ذم العاصي و المسيء بمجرد صدور الفعل عن فاعله، غير أنهم يرون ما يجازونه به من المدح و الذم قابلا للتغير و التحول لكونهم يرون الفاعل ممكن التغير و الزوال عما هو عليه من الانقياد و التمرد، فلحوق المدح و الذم على فاعل الفعل فعلي عندهم بتحقق الفعل غير أنه موقوف البقاء على عدم تحقق ما ينافيه، و أما ثبوت المدح و الذم و لزومهما بحيث لا يبطلان قط فإنما يكون إذا ثبت حاله بحيث لا يتغير قط بموت أو بطلان استعداد في الحياة.

و من هنا يعلم: أن في جميع الأقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافا عن الحق لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه.

و أن الحق أولا: أن الإنسان يلحقه الثواب و العقاب من حيث الاستحقاق بمجرد صدور الفعل الموجب له لكنه قابل للتحول و التغير بعد، و إنما يثبت من غير زوال بالموت كما ذكرناه.

و ثانيا: أن حبط الأعمال بكفر و نحوه نظير استحقاق الأجر يتحقق عند صدور المعصية و يتحتم عند الموت.

و ثالثا: أن الحبط كما يتعلق بالأعمال الأخروية كذلك يتعلق بالأعمال الدنيوية.

و رابعا: أن التحابط بين الأعمال باطل بخلاف التكفير و نحوه.

كلام في أحكام الأعمال من حيث الجزاء

من أحكام الأعمال:

أن من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا و الآخرة كالارتداد.

قال تعالى: «و من يرتدد منكم عن دينه فيمت و هو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة» الآية، و كالكفر بآيات الله و العناد فيه.

قال تعالى: «إن الذين يكفرون بآيات الله و يقتلون النبيين بغير حق و يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة:» آل عمران - 22، و كذا من الطاعات ما يكفر سيئات الدنيا و الآخرة كالإسلام و التوبة، قال تعالى: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم و أسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون و اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم:» الزمر - 55، و قال تعالى: «فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى:» طه - 124.

و أيضا: من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقة مع الرسول، قال تعالى: «إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا و سيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و لا تبطلوا أعمالكم:» سورة محمد - 33، فإن المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقة، و إبطال العمل هو الإحباط، و كرفع الصوت فوق صوت النبي، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون:» الحجرات - 2.

و كذا من الطاعات ما يكفر بعض السيئات كالصلوات المفروضة، قال تعالى: «و أقم الصلوة طرفي النهار و زلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات:» هود - 114، و كالحج، قال تعالى: «فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه و من تأخر فلا إثم عليه:» البقرة - 203، و كاجتناب الكبائر، قال تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم:» النساء - 31، و قال تعالى: «الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة:» النجم - 32.

و أيضا: من المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره كالقتل، قال تعالى: «إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك:» المائدة - 29، و قد ورد هذا المعنى في الغيبة و البهتان و غيرهما في الروايات المأثورة عن النبي و أئمة أهل البيت، و كذا من الطاعات ما ينقل السيئات إلى الغير كما سيجيء.

و أيضا: من المعاصي ما ينقل مثل سيئات الغير إلى الإنسان لا عينها، قال تعالى: «ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيمة و من أوزار الذين يضلونهم بغير علم:» النحل - 25، و قال: «و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم: العنكبوت - 13، و كذا من الطاعات ما ينقل مثل حسنات الغير إلى الإنسان لا عينها، قال تعالى: «و نكتب ما قدموا و آثارهم:» يس - 12.

و أيضا: من المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب، قال تعالى: «إذا لأذقناك ضعف الحيوة و ضعف الممات:» الإسراء - 75، و قال تعالى: «يضاعف لها العذاب ضعفين:» الأحزاب - 30، و كذا من الطاعات ما يوجب الضعف كالإنفاق في سبيل الله، قال تعالى: «مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة:» البقرة - 261، و مثله ما في قوله تعالى: «أولئك يؤتون أجرهم مرتين:» القصص - 54، و ما في قوله تعالى: «يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به و يغفر لكم:» الحديد - 28، على أن الحسنة مضاعفة عند الله مطلقا، قال تعالى: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها:» الأنعام - 160.

و أيضا: من الحسنات ما يبدل السيئات إلى الحسنات، قال تعالى: «إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات:» الفرقان - 70.

و أيضا: من الحسنات ما يوجب لحوق مثلها بالغير، قال تعالى: «الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرىء بما كسب رهين:» الطور - 21، و يمكن الحصول على مثلها في السيئات كظلم أيتام الناس حيث يوجب نزول مثله على الأيتام من نسل الظالم قال تعالى: «و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم:» النساء - 9.

و أيضا: من الحسنات ما يدفع سيئات صاحبها إلى غيره، و يجذب حسنات الغير إليه، كما أن من السيئات ما يدفع حسنات صاحبها إلى الغير، و يجذب سيئاته إليه، و هذا من عجيب الأمر في باب الجزاء و الاستحقاق، سيجيء البحث عنه في قوله تعالى: «ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم:» الأنفال - 37.

و في موارد هذه الآيات روايات كثيرة متنوعة سنورد كلا منها عند الكلام فيما يناسبه من الآيات إن شاء الله العزيز.

و بالتأمل في الآيات السابقة و التدبر فيها يظهر: أن في الأعمال من حيث المجازاة أي من حيث تأثيرها في السعادة و الشقاوة نظاما يخالف النظام الموجود بينها من حيث طبعها في هذا العالم، و ذلك أن فعل الأكل مثلا من حيث إنه مجموع حركات جسمانية فعلية و انفعالية، إنما يقوم بفاعله نحو قيام يعطيه الشبع مثلا و لا يتخطاه إلى غيره، و لا ينتقل عنه إلى شخص آخر دونه، و كذا يقوم نحو قيام بالغذاء المأكول يستتبع تبدله من صورة إلى صورة أخرى مثلا، و لا يتعداه إلى غيره، و لا يتبدل بغيره، و لا ينقلب عن هويته و ذاته، و كذا إذا ضرب زيد عمرا كانت الحركة الخاصة ضربا لا غير و كان زيد ضاربا لا غير، و كان عمرو مضروبا لا غير إلى غير ذلك من الأمثلة، لكن هذه الأفعال بحسب نشأة السعادة و الشقاوة على غير هذه الأحكام كما قال تعالى: «و ما ظلمونا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون:» البقرة - 57، و قال تعالى: «و لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله:» الفاطر - 43، و قال تعالى: «انظر كيف كذبوا على أنفسهم:» الأنعام - 24، و قال تعالى: «ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين:» المؤمن - 74.

و بالجملة: عالم المجازاة ربما بدل الفعل من غير نفسه، و ربما نقل الفعل و أسنده إلى غير فاعله، و ربما أعطى للفعل غير حكمه إلى غير ذلك من الآثار المخالفة لنظام هذا العالم الجسماني.

و لا ينبغي لمتوهم أن يتوهم أن هذا يبطل حجة العقول في مورد الأعمال و آثارها و يفسد الحكم العقلي فلا يستقر شيء منه على شيء، و ذلك أنا نرى أن الله سبحانه و تعالى فيما حكاه في كتابه يستدل هو أو ملائكته الموكلة على الأمور على المجرمين في حال الموت و البرزخ، و كذا في القيامة و النار و الجنة بحجج عقلية تعرفها العقول قال تعالى: «و نفخ في الصور فصعق من في السموات و الأرض إلا ما شاء الله و نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون و أشرقت الأرض بنور ربها و وضع الكتاب و جيء بالنبيين و الشهداء و قضي بينهم بالحق و هم لا يظلمون و وفيت كل نفس ما عملت و هو أعلم بما يفعلون:» الزمر - 70، و قد تكرر في القرآن الإخبار بأن الله سيحكم بين الناس بالحق يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، و كفى في هذا الباب ما حكاه الله عن الشيطان بقوله تعالى: «و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم الآية:» إبراهيم - 22.

و من هنا نعلم: أن حجة العقول غير باطلة في نشأة الأعمال و دار الجزاء مع ما بين النشأتين أعني نشأة الطبيعة و نشأة الجزاء من الاختلاف البين على ما أشرنا إليه.

و الذي يحل به هذه العقدة: أن الله تكلم مع الناس في دعوتهم و إرشادهم بلسان أنفسهم و جرى في مخاطباته إياهم و بياناته لهم مجرى العقول الاجتماعية، و تمسك بالأصول و القوانين الدائرة في عالم العبودية، و المولوية فعد نفسه مولى و الناس عبيدا و الأنبياء رسلا إليهم، و واصلهم بالأمر و النهي و البعث و الزجر، و التبشير و الإنذار، و الوعد و الوعيد، و سائر ما يلحق بهذا الطريق من عذاب و مغفرة و غير ذلك.

و هذه طريقة القرآن الكريم في تكليمه للناس، فهو يصرح أن الأمر أعظم مما يتوهمه الناس أو يخيل إليهم، غير أنه شيء لا تسعه حواصلهم و حقائق لا تحيط بها أفهامهم و لذلك نزل منزلة قريبة من أفق إدراكهم لينالوا ما شاء الله أن ينالوه من تأويل هذا الكتاب العزيز كما قال تعالى: «و الكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم:» الزخرف - 4.

فالقرآن الكريم يعتمد في خصوصيات ما نبأ به من أحكام الجزاء و ما يرتبط بها على الأحكام الكلية العقلائية الدائرة بين العقلاء المبتنية على المصالح و المفاسد، و من لطيف الأمر: أن هذه الحقائق المستورة عن سطح الأفهام العادية قابلة التطبيق على الأحكام العقلائية المذكورة، ممكنة التوجيه بها، فإن العقل العملي الاجتماعي لا يأبى مثلا: التشديد على بعض المفسدين بمؤاخذته بجميع ما يترتب على عمله من المضار و المفاسد الاجتماعية كان يؤاخذ القاتل بجميع الحقوق الاجتماعية الفائتة بسبب موت المقتول، أو يؤاخذ من سنن سنة سيئة بجميع المخالفات الجارية على وفق سنته، ففي المثال الأول يقضي بأن المعاصي التي كانت ترى ظاهرا أفعالا للمقتول فاعلها هو القاتل بحسب الاعتبار العقلائي، و في المثال الثاني بأن السيئات التي عملها التابعون لتلك السنة السيئة أفعال فعلها أول من سن تلك السنة المتبوعة، في عين أنها أفعال للتابعين فيها، فهي أفعال لهم معا، فلذلك يؤاخذ بها كما يؤخذون.

و كذلك يمكن أن يقضي بكون الفاعل لفعل غير فاعل له، أو الفعل المعين المحدود غير ذلك الفعل، أو حسنات الغير حسنات للإنسان، أو للإنسان أمثال تلك الحسنات، كل ذلك باقتضاء من المصالح الموجودة.

فالقرآن الكريم يعلل هذه الأحكام العجيبة الموجودة في الجزاء كمجازاة الإنسان بفعل غيره خيرا أو شرا، و إسناد الفعل إلى غير فاعله، و جعل الفعل غير نفسه، إلى غير ذلك، و يوضحها بالقوانين العقلائية الموجودة في ظرف الاجتماع و في سطح الأفهام العامة، و إن كانت بحسب الحقيقة ذات نظام غير نظام الحس، و كانت الأحكام الاجتماعية العقلائية محصورة مقصورة على الحياة الدنيا، و سينكشف على الإنسان ما هو مستور عنه اليوم يوم تبلى السرائر كما قال تعالى: «و لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى و رحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق:» الأعراف - 53، و قال تعالى: «و ما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله و لكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين إلى أن قال بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله:» يونس - 39.

و بهذا الذي ذكرناه يرتفع الاختلاف المترائي بين هذه الآيات المشتملة على هذه الأحكام العجيبة و بين أمثال قوله تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره:» الزلزال - 8، و قوله تعالى: «لا تزر وازرة وزر أخرى:» الأنعام - 164، و قوله تعالى: «كل امرىء بما كسب رهين:» الطور - 21، و قوله تعالى: «و أن ليس للإنسان إلا ما سعى:» النجم - 39، و قوله تعالى: «إن الله لا يظلم الناس شيئا:» يونس - 44، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و ذلك أن الآيات السابقة تحكم بأن معاصي المقتول المظلوم إنما فعلها القاتل الظالم فمؤاخذته له بفعل نفسه لا بفعل غيره، و كذا تحكم بأن من اتبع سنة سيئة ففعل معصية على الاتباع لم يفعلها التابع وحده بل فعله هو و فعله المتبوع، فالمعصية معصيتان، و كذا تحكم بأن من أعان ظالما على ظلمه أو اقتدى بإمام ضلال فهو شريك معصيته، و فاعل كمثله، فهؤلاء و أمثالهم من مصاديق قوله تعالى: «لا تزر وازرة وزر أخرى» الآية و نظائرها من حيث الجزاء، لا أنهم خارجون عن حكمها بالاستثناء أو بالنقض.

و إلى ذلك يشير قوله تعالى: «و قضي بينهم بالحق و هم لا يظلمون و وفيت كل نفس ما عملت و هو أعلم بما يفعلون:» الزمر - 70، فقوله: و هو أعلم بما يفعلون، يدل أو يشعر بأن توفية كل نفس ما عملت إنما هي على حسب ما يعلمه الله سبحانه و يحاسبه من أفعالهم لا على حسب ما يحاسبونه من عند أنفسهم من غير علم و لا عقل، فإن الله قد سلب عنهم العقل في الدنيا حيث قال تعالى حكاية عن أصحاب السعير «لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير:» الملك - 10، و في الآخرة أيضا حيث قال «و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا:» الإسراء - 72، و قال تعالى: «نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة:» الهمزة - 7، و قال تعالى في تصديق هذا السلب: «قالت أخريهم لأوليهم ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف و لكن لا تعلمون:» الأعراف - 38، فأثبت لكل من المتبوعين و تابعيهم الضعف من العذاب، أما المتبوعين فلضلالهم و إضلالهم، و أما التابعين فلضلالهم و إقامتهم أمر متبوعيهم بالتبعية ثم ذكر أنهم جميعا لا يعلمون.

فإن قلت: ظاهر هذه الآيات التي تسلب العلم عن المجرمين في الدنيا و الآخرة ينافي آيات أخر تثبت لهم العلم كقوله تعالى: «كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون:» فصلت - 3، و كالآيات التي تحتج عليهم و لا معنى للاحتجاج على من لا علم له و لا فقه للاستدلال، على أن نفس هذه الآيات مشتملة على أقسام من الاحتجاج عليهم في الآخرة و لا مناص من إثبات العقل و الإدراك لهم فيه، على أن هاهنا آيات تثبت لهم العلم و اليقين في خصوص الآخرة كقوله تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد:» ق - 22، و قوله تعالى: «و لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون:» السجدة - 12.

قلت: مرجع نفي العلم عنهم في الدنيا نفي اتباع ما عندهم من العلم، و معنى نفيه عنهم في الآخرة لزوم ما جروا عليه من الجهالة في الدنيا لهم حين البعث و عدم انفكاك الأعمال عنهم كما قال تعالى: «و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا:» الإسراء - 13، و قوله تعالى: «قال يا ليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس القرين:» الزخرف - 38، إلى غير ذلك من الآيات، و سيجيء استيفاء هذا البحث في تفسير قوله تعالى: «يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون:» البقرة - 242.

و قد أجاب الإمام الغزالي عن إشكال انتقال الأعمال بجواب آخر ذكره في بعض رسائله فقال ما حاصله: أن نقل الحسنات و السيئات بسبب الظلم واقع في الدنيا وقت جريان الظلم لكن ينكشف ذلك يوم القيامة، فيرى الظالم مثلا طاعات نفسه في ديوان غيره، و لم تنقل في ذلك الوقت بل في الدنيا كما قال تعالى: «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار»، أخبر عن ثبوت الملك له تعالى في الآخرة و هو لم يحدث له تعالى هناك بل هو مالك دائما إلا أن حقيقته لا تنكشف لكافة الخلائق إلا يوم القيامة، و ما لا يعلمه الإنسان فليس بموجود له و إن كان موجودا في نفسه، فإذا علمه صار موجودا له كأنه وجد الآن في حقه.

فقد سقط بهذا قول من قال: إن المعدوم كيف ينقل و العرض كيف ينقل؟.

فنقول: المنقول ثواب الطاعة، لا نفس الطاعة و لكن لما كانت الطاعة يراد لثوابها عبر عن نقل أثرها بنقل نفسها، و أثر الطاعة ليس أمرا خارجا عن الإنسان لاحقا به حتى يشكل بأن نقله في الدنيا من قبيل انتقال العرض المحال، و نقله في الآخرة بعد انعدامه من قبيل إعادة المعدوم الممتنعة، و إن كان جوهرا فما هذا الجوهر؟! بل المراد بأثر الطاعة أثره في القلب بالتنوير فإن للطاعات تأثيرا في القلب بالتنوير و للمعاصي تأثيرا فيه بالقسوة و الظلمة، و بأنوار الطاعة تستحكم مناسبة القلب مع عالم النور و المعرفة و المشاهدة، و بالظلم و القسوة يستعد القلب للحجاب و البعد، و بين آثار الطاعات و المعاصي تعاقب و تضاد كما قال تعالى: «إن الحسنات يذهبن السيئات» و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «أتبع السيئة الحسنة تمحقها» و الآثام تمحيصات للذنوب، و لذلك قال (عليه السلام): إن الرجل ليثاب حتى بالشوكة تصيب رجله، و قال (عليه السلام): الحدود كفارات.

فالظالم يتبع ظلمه ظلمة في قلبه و قسوة توجب انمحاء أثر النور الذي كان في قلبه من الطاعات التي كان عملها و المظلوم يتألم فينكسر شهوته و يمحو عن قلبه أثر السيئات التي أورثت ظلمة في قلبه فيتنور قلبه نوع تنور، فقد دار ما في قلب الظالم من النور إلى قلب المظلوم، و ما في قلب المظلوم من الظلمة إلى قلب الظالم و هذا معنى نقل الحسنات و السيئات.

فإن قال قائل: ليس هذا نقلا حقيقيا إذ حاصله بطلان النور من قلب الظالم و حدوث نور آخر في قلب المظلوم، و بطلان الظلمة من قلب المظلوم و حدوث ظلمة أخرى في قلب الظالم و ليس هذا نقلا حقيقة.

قلنا اسم النقل قد يطلق على مثل هذا الأمر على سبيل الاستعارة كما يقال: انتقل الظل من موضع إلى موضع آخر، و انتقل نور الشمس أو السراج من الأرض إلى الحائط إلى غير ذلك فهذا معنى نقل الطاعات، فليس فيه إلا أنه كني بالطاعة عن ثوابها كما يكنى بالسبب عن المسبب، و سمي إثبات الوصف في محل و إبطال مثله في محل آخر بالنقل، و كل ذلك شائع في اللسان، معلوم بالبرهان لو لم يرد الشرع به فكيف إذا ورد، انتهى ملخصا.

أقول: محصل ما أفاده أن إطلاق النقل على ما يعامله الله سبحانه في حق أي القاتل و المقتول استعارة في استعارة أعني: استعارة اسم الطاعة لأثر الطاعة في القلب و استعارة اسم النقل لإمحاء شيء و إثبات شيء آخر في محل آخر، و إذا اطرد هذا الوجه في سائر أحكام الأعمال المذكورة عادت جميع هذه الأحكام مجازات، و قد عرفت أنه سبحانه قرر هذه الأحكام على ما يراه العقل العملي الاجتماعي، و يبني عليه أحكامه من المصالح و المفاسد، و لا ريب أن هذه الأحكام العقلية إنما تصدر من العقل باعتقاد الحقيقة، فيؤاخذ القاتل مثلا بجرم المقتول أو يتحف المقتول أو ورثته بحسنة القاتل و ما يشبه ذلك باعتقاد أن الجرم عين الجرم و الحسنة عين الحسنة و هكذا.

هذا حال هذه الأحكام في ظرف الاجتماع الذي هو موطن أحكام العقل العملي، و أما بالنسبة إلى غير هذا الظرف و هو ظرف الحقائق فالجميع مجازات إلا بحسب التحليل بمعنى أن نفس هذه المفاهيم لما كانت مفاهيم اعتبارية مأخوذة من الحقائق المأخوذة على نحو الدعوى و التشبيه كانت جميعها مجازات إذا قيست إلى تلك الحقائق المأخوذة منها فافهم ذلك.

و من أحكام الأعمال: أنها محفوظة مكتوبة متجسمة

كما قال تعالى: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا:» آل عمران - 30، و قال تعالى: «و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقيه منشورا:» الإسراء - 13، و قال تعالى: «و نكتب ما قدموا و آثارهم و كل شيء أحصيناه في إمام مبين:» يس - 12، و قال تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد:» ق - 22، و قد مر البحث عن تجسم الأعمال.

و من أحكام الأعمال: أن بينها و بين الحوادث الخارجية ارتباطا،

و نعني بالأعمال الحسنات و السيئات التي هي عناوين الحركات الخارجية، دون الحركات و السكنات التي هي آثار الأجسام الطبيعية فقد قال تعالى: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير:» الشورى - 30، و قال تعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و إذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له:» الرعد - 11، و قال تعالى: «ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم:» الأنفال - 53، و الآيات ظاهرة في أن بين الأعمال و الحوادث ارتباطا ما شرا أو خيرا.

و يجمع جملة الأمر آيتان من كتاب الله تعالى و هما قوله تعالى: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون:» الأعراف - 96، و قوله تعالى: «ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون:» الروم - 41.

فالحوادث الكونية تتبع الأعمال بعض التبعية، فجرى النوع الإنساني على طاعة الله سبحانه و سلوكه الطريق الذي يرتضيه يستتبع نزول الخيرات، و انفتاح أبواب البركات، و انحراف هذا النوع عن صراط العبودية، و تماديه في الغي و الضلالة، و فساد النيات، و شناعة الأعمال يوجب ظهور الفساد في البر و البحر و هلاك الأمم بفشو الظلم و ارتفاع الأمن و بروز الحروب و سائر الشرور الراجعة إلى الإنسان و أعماله، و كذا ظهور المصائب و الحوادث المبيدة الكونية كالسيل و الزلزلة و الصاعقة و الطوفان و غير ذلك، و قد عد الله سبحانه سيل العرم و طوفان نوح و صاعقة ثمود و صرصر عاد من هذا القبيل.

فالأمة الطالحة إذا انغمرت في الرذائل و السيئات أذاقها الله وبال أمرها و آل ذلك إلى إهلاكها و إبادتها، قال تعالى: «أ و لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة و آثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم و ما كان لهم من الله من واق:» المؤمن - 21، و قال تعالى: «و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا:» الإسراء - 16، و قال تعالى: «ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا و جعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون:» المؤمنون - 44، هذا كله في الأمة الطالحة، و الأمة الصالحة على خلاف ذلك.

و الفرد كالأمة يؤخذ بالحسنة و السيئة و النقم و المثلات غير أن الفرد ربما ينعم بنعمة أسلافه كما أنه يؤخذ بمظالم غيره كآبائه و أجداده، قال تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): قال أنا يوسف و هذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين:» يوسف - 90، و المراد به ما أنعم الله عليه من الملك و العزة و غيرهما، و قال تعالى: «فخسفنا به و بداره الأرض:» القصص - 81، و قال تعالى: «و جعلنا له لسان صدق عليا:» مريم - 50، و كأنه الذرية الصالحة المنعمة كما قال تعالى: «جعلنا كلمة باقية في عقبه:» الزخرف - 28، و قال تعالى: «و أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة و كان تحته كنز لهما و كان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما:» الكهف - 82، و قال تعالى: «فليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم:» النساء - 9، و المراد بذلك الخلف المظلوم يبتلي بظلم سلفه.

و بالجملة إذا أفاض الله نعمة على أمة أو على فرد من أفراد الإنسان فإن كان المنعم عليه صالحا كان ذلك نعمة أنعمها عليه و امتحانا يمتحنه بذلك كما حكى الله تعالى عن سليمان إذ يقول: «قال هذا من فضل ربي ليبلوني ء أشكر أم أكفر و من شكر فإنما يشكر لنفسه و من كفر فإن ربي غني كريم:» النمل - 40، و قال تعالى: «لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد:» إبراهيم - 7، و الآية كسابقتها تدل على أن نفس الشكر من الأعمال الصالحة التي تستتبع النعم.

يتبع...

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218)
و إن كان المنعم عليه طالحا كانت النعمة مكرا في حقه و استدراجا و إملاء يملى عليه كما قال تعالى: «و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين:» الأنفال - 30، و قال تعالى: «سنستدرجهم من حيث لا يعلمون و أملي لهم إن كيدي متين:» القلم - 45، و قال تعالى: «و لقد فتنا قبلهم قوم فرعون:» الدخان - 17.

و إذا أنزلت النوازل و كرت المصائب و البلايا على قوم أو على فرد فإن كان المصاب صالحا كان ذلك فتنة و محنة يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب، و كان مثله مع البلاء مثل الذهب مع البوتقة و المحك، قال تعالى: «أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون:» العنكبوت - 4 و قال تعالى: «و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شهداء:» آل عمران - 140.

و إن كان المصاب طالحا كان ذلك أخذا بالنقمة و عقابا بالأعمال، و الآيات السابقة دالة على ذلك.

فهذا حكم العمل يظهر في الكون و يعود إلى عامله، و أما قوله تعالى: «و لو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة و معارج عليها يظهرون و لبيوتهم أبوابا و سررا عليها يتكئون و زخرفا و إن كل ذلك لما متاع الحيوة الدنيا و الآخرة عند ربك للمتقين:» الزخرف - 35، فغير ناظر إلى هذا الباب بل المراد به و الله أعلم ذم الدنيا و متاعها و أنها لا قدر لها و لمتاعها عند الله سبحانه، و لذلك يؤثر للكافر، و أن القدر للآخرة و لو لا أن أفراد الإنسان أمثال و المساعي واحدة متشاكلة متشابهة لخصها الله بالكافر.

فإن قيل: الحوادث العامة و الخاصة كالسيول و الزلازل و الأمراض المسرية و الحروب و الأجداب لها علل طبيعية مطردة إذا تحققت تحققت معاليها سواء صلحت النفوس أو طلحت، و عليه فلا محل للتعليل بالأعمال الحسنة و السيئة بل هو فرضية دينية، و تقدير لا يطابق الواقع.

قلت: هذا إشكال فلسفي غير مناف لما نحن فيه من البحث التفسيري المتعلق بما يستفاد من كلامه تعالى و سنتعرض له تفصيلا في بحث فلسفي على حدة في تفسير قوله تعالى: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء:» الأعراف - 64.

و جملة القول فيه: أن الشبهة ناشئة عن سوء الفهم و عدم التنبه لمقاصد القرآن و أهله، فهم لا يريدون بقولهم: «إن الأعمال حسنة كانت أو سيئة مستتبعة لحوادث يناسبها خيرا أو شرا» إبطال العلل الطبيعية و إنكار تأثيرها،
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 12:36 pm

و الحق من حيث تأثيره و إيصاله إلى الغاية أيضا غير مختلف و لا متخلف، فإن المؤمن لو غلب على عدو الحق في ظاهر الحياة كان فائزا مأجورا، و إن غلب عليه عدو الحق، فإن أجبره على ما لا يرتضيه الله سبحانه كانت وظيفته الجري على الكره و الاضطرار، و وافق ذلك رضاه تعالى، قال تعالى: «إلا أن تتقوا منهم تقية:» آل عمران - 28، و إن قتله كان ذلك له حياة طيبة لا موتا، قال تعالى: «و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء و لكن لا تشعرون:» البقرة - 154.

فالمؤمن منصور غير مغلوب أبدا، إما ظاهرا و باطنا، و إما باطنا فقط، قال تعالى: «قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين:» التوبة - 52.

و من هنا يظهر: أن الحق هو الغالب في الدنيا ظاهرا و باطنا معا، أما ظاهرا: فإن الكون كما عرفت يهدي النوع الإنساني هداية تكوينية إلى الحق و السعادة، و سوف يبلغ غايته، فإن الظهور المتراءى من الباطل جولة بعد جولة لا عبرة به، و إنما هو مقدمة لظهور الحق و لما ينقض سلسلة الزمان و لما يفن الدهر، و النظام الكوني غير مغلوب البتة، و أما باطنا: فلما عرفت أن الغلبة لحجة الحق.

و أما إن لحق القول و الفعل كل صفة جميلة كالثبات و البقاء و الحسن، و لباطل القول و الفعل كل صفة ذميمة كالتزلزل و الزوال و القبح و السوء فوجهه ما أشرنا إليه في سابق الأبحاث: أن المستفاد من قوله تعالى: «ذلكم الله ربكم خالق كلشيء:» المؤمن - 62، و قوله تعالى: «الذي أحسن كل شيء خلقه:» الم السجدة - 7، و قوله تعالى: «ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك:» النساء - 79، أن السيئات أعدام و بطلانات غير مستندة إلى الله سبحانه الذي هو الخالق الفاطر المفيض للوجود بخلاف الحسنات، و لذلك كان القول الحسن و الفعل الحسن منشأ كل جمال و حسن، و منبع كل خير و سعادة كالثبات و البقاء، و البركة و النفع دون السيىء من القول و الفعل، قال تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاءا و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض:» الرعد - 17.

و من أحكام الأعمال:

أن الحسنات من الأقوال و الأفعال مطابقة لحكم العقل بخلاف السيئات من الأفعال و الأقوال، و قد مر أن الله سبحانه وضع ما بينه للناس على أساس العقل و نعني بالعقل ما يدرك به الإنسان الحق و الباطل، و يميز به الحسن من السيىء.

و لذلك أوصى باتباعه و نهى عن كل ما يوجب اختلال حكومته كشرب الخمر و القمار و اللهو و الغش و الغرر في المعاملات، و كذا نهى عن الكذب و الافتراء و البهتان و الخيانة و الفتك و جميع ما يوجب خروج العقل عن سلامة الحكم فإن هذه الأفعال و الأعمال توجب خبط العقل الإنساني في عمله و قد ابتنيت الحياة الإنسانية على سلامة الإدراك و الفكر في جميع شئون الحياة الفردية و الاجتماعية.

و أنت إذا حللت المفاسد الاجتماعية و الفردية حتى في المفاسد المسلمة التي لا ينكرها منكر وجدت أن الأساس فيها هي الأعمال التي يبطل بها حكومة العقل، و أن بقية المفاسد و إن كثرت و عظمت مبنية عليها، و لتوضيح الأمر في هذا المقام محل آخر سيأتي إن شاء الله تعالى. بحث روائي

في الدر المنثور،: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كنت رديف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا ابن عباس ارض عن الله بما قدر و إن كان خلاف هواك فإن ذلك مثبت في كتاب الله، قلت: يا رسول الله فأين و قد قرأت القرآن؟ قال و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم - و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم - و الله يعلم و أنتم لا تعلمون أقول: و في الرواية إشعار بأن التقدير يعم التشريع و التكوين و إنما يختلف باختلاف الاعتبار، و أما كون عسى بمعنى الوجوب فلا دلالة لها عليه، و قد مر أن عسى في القرآن بمعناه اللغوي و هو الترجي فلا عبرة بما نقل عن بعض المفسرين: كل شيء في القرآن عسى فإن عسى من الله واجب! و أعجب منه ما نقل عن بعض آخر: أن كل شيء من القرآن عسى فهو واجب إلا حرفين: حرف في التحريم: عسى ربه إن طلقكن، و في بني إسرائيل عسى ربكم أن يرحمكم.

و في الدر المنثور، أيضا: أخرج ابن جرير من طريق السدي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية و فيهم سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، و فيهم عمار بن ياسر، و أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، و سعد بن أبي وقاص، و عتبة بن صفوان السلمي حليف لبني نوفل، و سهل بن بيضاء، و عامر بن فهيرة، و واقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب، و كتب مع ابن جحش كتابا و أمره أن لا يقرأه حتى ينزل ملل فلما نزل ببطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه أن سر حتى تنزل بطن نخلة فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض و ليوص فإني موص و ماض لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسار و تخلف عنه سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان، أضلا راحلة لهما، و سار ابن جحش فإذا هم بالحكم بن كيسان، و عبد الله بن المغيرة بن عثمان، و عمرو الحضرمي فاقتتلوا فأسروا الحكم بن كيسان، و عبد الله بن المغيرة و انفلت المغيرة، و قتل عمرو الحضرمي قتله واقد بن عبد الله فكانت أول غنيمة غنمها أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين و ما غنموا من الأموال، قال المشركون محمد يزعم أنه يتبع طاعة الله و هو أول من استحل الشهر الحرام فأنزل الله: «يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه - قل قتال فيه كبير»، لا يحل و ما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله و صددتم عنه محمدا، و الفتنة و هي الشرك أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام فذلك قوله: و صد عن سبيل الله و كفر به.

أقول: و الروايات في هذا المعنى و ما يقرب منه كثيرة من طرقهم، و روي هذا المعنى أيضا في المجمع، و في بعض الروايات: أن السرية كانت ثمانية تاسعهم أميرهم، و في الدر المنثور، أيضا: أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقي من طريق يزيد بن رومان عن عروة قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد الله بن جحش إلى نخلة فقال له: كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش و لم يأمره بقتال، و ذلك في الشهر الحرام، و كتب له كتابا قبل أن يعلمه أنه يسير، فقال: اخرج أنت و أصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك و انظر فيه، فما أمرتك به فامض له، و لا تستكرهن أحدا من أصحابك على الذهاب معك، فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه: أن امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من أخبار قريش بما اتصل إليك منهم، فقال لأصحابه حين قرأ الكتاب: سمعا و طاعة، من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي، فإني ماض لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و من كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله قد نهاني أن أستكره منكم أحدا فمضى معه القوم، حتى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه فتخلفا عليه يطلبانه، و مضى القوم حتى نزلوا نخلة، فمر بهم عمرو بن الحضرمي و الحكم بن كيسان و عثمان و المغيرة بن عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف: أدم و زيت، فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله و كان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا، قال عمار: ليس عليكم منه بأس، و ائتمر القوم بهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو آخر يوم من جمادى فقالوا: لئن قتلتموهم أنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام و لئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة مكة الحرام فليمتنعن منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، و استأسر عثمان بن عبد الله و الحكم بن كيسان، و هرب المغيرة فأعجزهم، و استاقوا العير فقدموا بها على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لهم: و الله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فأوقف رسول الله الأسيرين و العير فلم يأخذ منها شيئا، فلما قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما قال سقط في أيديهم و ظنوا أن قد هلكوا و عنفهم إخوانهم من المسلمين، و قالت قريش حين بلغهم أمر هؤلاء: قد سفك محمد الدم الحرام و أخذ المال، و أسر الرجال و استحل الشهر الحرام، فأنزل الله في ذلك: يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه الآية، فلما نزل ذلك أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العير و فدى الأسيرين فقال المسلمون: يا رسول الله! أ تطمع أن يكون لنا غزوة؟ فأنزل الله: إن الذين آمنوا و الذين هاجروا - و جاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله، و كانوا ثمانية و أميرهم التاسع عبد الله بن جحش.

أقول: و في كون قوله تعالى: إن الذين آمنوا و الذين هاجروا الآية، نازلة في أمر أصحاب عبد الله بن جحش روايات أخر، و الآية تدل على عذر من فعل فعلا قربيا فأخطأ الواقع فلا ذنب مع الخطاء، و تدل أيضا على جواز تعلق المغفرة بغير مورد الذنب.

و في الروايات إشارة إلى أن المراد بالسائلين في قوله تعالى يسئلونك، هم المؤمنون دون المشركين الطاعنين في فعل المؤمنين، و يؤيده أيضا ما مر من رواية ابن عباس في البحث الروائي السابق: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض (صلى الله عليه وآله وسلم)، كلهن في القرآن: منهن يسألونك عن الخمر و الميسر، و يسألونك عن الشهر الحرام الرواية، و يؤيد ذلك أن الخطاب في الآية إنما هو للمؤمنين حيث يقول تعالى: و لا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)


بيان

قوله تعالى: يسئلونك عن الخمر و الميسر، الخمر على ما يستفاد من اللغة هو كل مائع معمول للسكر، و الأصل في معناه الستر، و سمي به لأنه يستر العقل و لا يدعه يميز الحسن من القبح و الخير من الشر، و يقال: لما تغطي به المرأة رأسها الخمار، و يقال: خمرت الإناء إذا غطيت رأسها، و يقال: أخمرت العجين إذا أدخلت فيه الخمير، و سميت الخميرة خميرة لأنها تعجن أولا ثم تغطى و تخمر من قبل، و قد كانت العرب لا تعرف من أقسامه إلا الخمر المعمول من العنب و التمر و الشعير، ثم زاد الناس في أقسامه تدريجا فصارت اليوم أنواعا كثيرة ذات مراتب بحسب درجات السكر، و الجميع خمر.

و الميسر لغة هو القمار و يسمى المقامر ياسرا و الأصل في معناه السهولة سمي به لسهولة اقتناء مال الغير به من غير تعب الكسب و العمل، و قد كان أكثر استعماله عند العرب في نوع خاص من القمار، و هو الضرب بالقداح و هي السهام، و تسمى أيضا: الأزلام و الأقلام.

و أما كيفيته فهي أنهم كانوا يشترون جزورا و ينحرونه، ثم يجزءونه ثمانية و عشرين جزءا، ثم يضعون عند ذلك عشر سهام و هي الفذ، و التوأم، و الرقيب، و الحلس، و النافس، و المسبل، و المعلى، و المنيح، و السنيح، و الرغد، فللفذ جزء من الثمانية و العشرين جزءا، و للتوأم جزءان، و للرقيب ثلاثة أجزاء، و للحلس أربعة، و للنافس خمسة، و للمسبل ستة، و للمعلى سبعة، و هو أكثر القداح نصيبا، و أما الثلاثة الأخيرة و هي المنيح و السنيح و الرغد فلا نصيب لها، فمن خرج أحد القداح السبعة باسمه أخذ نصيبه من الأجزاء المفروضة، و صاحبوا القداح الثلاثة الأخيرة يغرمون قيمة الجزور، و يتم هذا العمل بين عشرة رجال بنحو القرعة في الأنصباء و السهام.

قوله تعالى: قل فيهما إثم كبير، و قرىء إثم كثير بالثاء المثلثة، و الإثم يقارب الذنب و ما يشبهه معنى و هو حال في الشيء أو في العقل يبطىء الإنسان عن نيل الخيرات فهو الذنب الذي يستتبع الشقاء و الحرمان في أمور أخرى و يفسد سعادة الحياة في جهاتها الأخرى و هذان على هذه الصفة.

أما شرب الخمر فمضراته الطبية و آثاره السيئة في المعدة و الأمعاء و الكبد و الرئة و سلسلة الأعصاب و الشرايين و القلب و الحواس كالباصرة و الذائقة و غيرها مما ألف فيه تأليفات من حذاق الأطباء قديما و حديثا، و لهم في ذلك إحصاءات عجيبة تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الأمراض المهلكة التي يستتبعها هذا السم المهلك.

و أما مضراته الخلقية: من تشويه الخلق و تأديته الإنسان إلى الفحش، و الإضرار و الجنايات، و القتل، و إفشاء السر، و هتك الحرمات، و إبطال جميع القوانين و النواميس الإنسانية التي بنيت عليها أساس سعادة الحياة، و خاصة ناموس العفة في الأعراض و النفوس و الأموال، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول و لا يشعر بما يفعل، و قل ما يتفق جناية من هذه الجنايات التي قد ملأت الدنيا و نغصت عيشة الإنسان إلا و للخمر فيها صنع مستقيما أو غير مستقيم.

و أما مضرته في الإدراك و سلبه العقل و تصرفه الغير المنتظم في أفكار الإنسان و تغييره مجرى الإدراك حين السكر و بعد الصحو فمما لا ينكره منكر و ذلك أعظم ما فيه من الإثم و الفساد، و منه ينشأ جميع المفاسد الآخر.

و الشريعة الإسلامية كما مرت إليه الإشارة وضعت أساس أحكامها على التحفظ على العقل السليم، و نهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشد النهي كالخمر، و الميسر، و الغش، و الكذب، و غير ذلك، و من أشد الأفعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الأفعال و قول الكذب و الزور من بين الأقوال.

فهذه الأعمال أعني: الأعمال المبطلة لحكومة العقل و على رأسها السياسات المبتنية على السكر و الكذب هي التي تهدد الإنسانية، و تهدم بنيان السعادة و لا تأتي بثمرة عامة إلا و هي أمر من سابقتها، و كلما زاد الحمل ثقلا و أعجز حامله زيد في الثقل رجاء المقدرة، فخاب السعي، و خسر العمل، و لو لم يكن لهذه المحجة البيضاء و الشريعة الغراء إلا البناء على العقل و المنع عما يفسده من اتباع الهوى لكفاها فخرا، و للكلام تتمة سنتعرض لها في سورة المائدة إن شاء الله.

و لم يزل الناس بقريحتهم الحيوانية يميلون إلى لذائذ الشهوة فيشبع بينهم الأعمال الشهوانية أسرع من شيوع الحق و الحقيقة، و انعقدت العادات على تناولها و شق تركها و الجري على نواميس السعادة الإنسانية، و لذلك أن الله سبحانه شرع فيهم ما شرع من الأحكام على سبيل التدريج، و كلفهم بالرفق و الإمهال.

و من جملة تلك العادات الشائعة السيئة شرب الخمر فقد أخذ في تحريمه بالتدريج على ما يعطيه التدبر في الآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرات: إحداها: قوله تعالى: «قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق:» الأعراف - 33، و الآية مكية حرم فيها الإثم صريحا، و في الخمر إثم غير أنه لم يبين أن الإثم ما هو و أن في الخمر إثما كبيرا.

و لعل ذلك إنما كان نوعا من الإرفاق و التسهيل لما في السكوت عن البيان من الإغماض كما يشعر به أيضا قوله تعالى: «و من ثمرات النخيل و الأعناب تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا:» النحل - 67، و الآية أيضا مكية، و كان الناس لم يكونوا متنبهين بما فيه من الحرمة الكبيرة حتى نزلت قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة و أنتم سكارى:» النساء - 43، و الآية مدنية و هي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب و السكر في أفضل الحالات و في أفضل الأماكن و هي الصلاة في المسجد.

و الاعتبار و سياق الآية الشريفة يأبى أن تنزل بعد آية البقرة و آيتي المائدة فإنهما تدلان على النهي المطلق، و لا معنى للنهي الخاص بعد ورود النهي المطلق، على أنه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات فإن التدريج سلوك من الأسهل إلى الأشق لا بالعكس.

ثم نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى: «و يسئلونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما» و هذه الآية بعد آية النساء كما مر بيانه و تشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعية على الإثم في الخمر «فيهما إثم كبير» و تقدم نزول آية الأعراف المكية الصريحة في تحريم الإثم.

و من هنا يظهر: فساد ما ذكره بعض المفسرين: أن آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة فإن قوله تعالى: «قل فيهما إثم كبير» لا يدل على أزيد من أن فيه إثما و الإثم هو الضرر، و تحريم كل ضار لا يدل على تحريم ما فيه مضرة من جهة و منفعة من جهة أخرى، و لذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصحابة، فترك لها الخمر بعضهم و أصر على شربها آخرون، كأنهم رأوا أنهم يتيسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى: «إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان إلى قوله تعالى: فهل أنتم منتهون».

وجه الفساد أما أولا: فإنه أخذ الإثم بمعنى الضرر مطلقا و ليس الإثم هو الضرر و مجرد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع، و كيف يمكن أخذ الإثم بمعنى الضرر في قوله تعالى: «و من يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما:» النساء - 47، و قوله تعالى: «فإنه آثم قلبه:» البقرة - 283، و قوله تعالى: «أن تبوء بإثمي و إثمك:» المائدة - 29، و قوله تعالى: «لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم:» النور - 11، و قوله تعالى: «و من يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه:» النساء - 111، إلى غير ذلك من الآيات.

و أما ثانيا: فإن الآية لم تعلل الحكم بالضرر، و لو سلم ذلك فإنها تعلله بغلبة الضرر على المنفعة، و لفظها صريح في ذلك حيث يقول «و إثمهما أكبر من نفعهما» و إرجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النص.

و أما ثالثا: فهب أن الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنها صريحة الدلالة على الإثم و هي مدنية قد سبقتها في النزول آية الأعراف المحرمة للإثم صريحا فما عذر من سمع التحريم في آية مكية حتى يجتهد في آية مدنية!.

على أن آية الأعراف تدل على تحريم مطلق الإثم و هذه الآية قيدت الإثم بالكبر و لا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في أن الخمر فرد تام و مصداق كامل للإثم لا ينبغي الشك في كونه من الإثم المحرم، و قد وصف القرآن القتل و كتمان الشهادة و الافتراء و غير ذلك بالإثم و لم يصف الإثم في شيء من ذلك بالكبر إلا في الخمر و في الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى: «و من يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما:» النساء - 48، و بالجملة لا شك في دلالة الآية على التحريم.

ثم نزلت آيتا المائدة: «يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله و عن الصلوة فهل أنتم منتهون:» المائدة - 91، و ذيل الكلام يدل على أن المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر و لم ينتزعوا عنه بالكلية حتى نزلت الآية فقيل: فهل أنتم منتهون، هذا كله في الخمر.

و أما الميسر: فمفاسده الاجتماعية و هدمه لبنيان الحياة أمر مشهود معاين، و العيان يغني عن البيان، و سنتعرض لشأنه في سورة المائدة إن شاء الله.

و لنرجع إلى ما كنا فيه من البحث في مفردات الآية فقوله تعالى: قل فيهما إثم كبير و منافع للناس، قد مر الكلام في معنى الإثم، و أما الكبر فهو في الأحجام بمنزلة الكثرة في الأعداد، و الكبر يقابل الصغر كما أن الكثرة تقابل القلة، فهما وصفان إضافيان بمعنى أن الجسم أو الحجم يكون كبيرا بالنسبة إلى آخر أصغر منه و هو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر أكبر منه، و لو لا المقايسة و الإضافة لم يكن كبر و لا صغر كما لا يكون كثرة و لا قلة، و يشبه أن يكون أول ما تنبه الناس لمعنى الكبر إنما تنبهوا له في الأحجام التي هي من الكميات المتصلة و هي جسمانية، ثم انتقلوا من الصور إلى المعاني فاستطردوا معنى الكبر و الصغر فيها، قال تعالى: «إنها لإحدى الكبر:» المدثر - 35، و قال تعالى: «كبرت كلمة تخرج من أفواههم:» الكهف - 5، و قال تعالى: «كبر على المشركين ما تدعوهم إليه:» الشورى - 13، و العظم في معناه كالكبر، غير أن الظاهر أن العظمة مأخوذة من العظم الذي هو أحد أجزاء البدن من الحيوان فإن كبر جسم الحيوان كان راجعا إلى كبر العظام المركبة المؤلفة في داخله فاستعير العظم للكبر ثم تأصل فاشتق منه كالمواد الأصلية.

و النفع خلاف الضرر و يطلقان على الأمور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها كما أن الخير و الشر يطلقان على الأمور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها، و المراد بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات المالية بالبيع و الشرى و العمل و التفكه و التلهي، و لما قوبل ثانيا بين الإثم و المنافع بالكبر أوجب ذلك إفراد المنافع و إلغاء جهة الكثرة فيها فإن العدد لا تأثير له في الكبر فقيل: و إثمهما أكبر من نفعهما و لم يقل من منافعهما.

قوله تعالى: و يسئلونك ما ذا ينفقون قل العفو، العفو على ما ذكره الراغب قصد الشيء لتناوله ثم أوجب لحوق العنايات المختلفة الكلامية به مجيئه لمعاني مختلفة كالعفو بمعنى المغفرة و العفو بمعنى إمحاء الأثر و العفو بمعنى التوسط في الإنفاق، و هذا هو المقصود في المقام، و الله العالم.

و الكلام في مطابقة الجواب للسؤال في هذه الآية نظير ما مر في قوله تعالى: يسئلونك ما ذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين و الأقربين الآية.

قوله تعالى: يبين الله لكم إلى قوله: في الدنيا و الآخرة، الظرف أعني قوله تعالى: في الدنيا و الآخرة، متعلق بقوله: تتفكرون و ليس بظرف له، و المعنى لعلكم تتفكرون في أمر الدارين و ما يرتبط بكم من حقيقتهما، و أن الدنيا دار خلقها الله لكم لتحيوا فيها و تكسبوا ما ينفعكم في مقركم و هو الدار الآخرة التي ترجعون فيه إلى ربكم فيجازيكم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا.

و في الآية أولا: حث على البحث عن حقائق الوجود و معارف المبدإ و المعاد و أسرار الطبيعة، و التفكر في طبيعة الاجتماع و نواميس الأخلاق و قوانين الحياة الفردية و الاجتماعية، و بالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدإ و المعاد و ما بينهما المرتبطة بسعادة الإنسان و شقاوته.

و ثانيا: أن القرآن و إن كان يدعو إلى الإطاعة المطلقة لله و رسوله من غير أي شرط و قيد، غير أنه لا يرضى أن يؤخذ الأحكام و المعارف التي يعطيها على العمى و الجمود المحض من غير تفكر و تعقل يكشف عن حقيقة الأمر، و تنور يستضاء به الطريق في هذا السير و السري.

و كان المراد بالتبيين هو الكشف عن علل الأحكام و القوانين، و إيضاح أصول المعارف و العلوم.

قوله تعالى: و يسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير، في الآية إشعار بل دلالة على نوع من التخفيف و التسهيل حيث أجازت المخالطة لليتامى، ثم قيل و لو شاء الله لأعنتكم، و هذا يكشف عن تشديد سابق من الله تعالى في أمر اليتامى يوجب التشويش و الاضطراب في قلوب المسلمين حتى دعاهم على السؤال عن أمر اليتامى، و الأمر على ذلك، فإن هاهنا آيات شديدة اللحن في أمر اليتامى كقوله «تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا:» النساء - 10، و قوله تعالى: «و آتوا اليتامى أموالهم و لا تتبدلوا الخبيث بالطيب و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا:» النساء - 2، فالظاهر أن الآية نازلة بعد آيات سورة النساء، و بذلك يتأيد ما سننقله من سبب نزول الآية في البحث الروائي، و في قوله تعالى: قل إصلاح لهم خير، حيث نكر الإصلاح، دلالة على أن المرضي عند الله سبحانه نوع من الإصلاح لا كل إصلاح و لو كان إصلاحا في ظاهر الأمر فقط، فالتنكير في قوله تعالى: إصلاح لإفادة التنويع فالمراد به الإصلاح بحسب الحقيقة لا بحسب الصورة، و يشعر به قوله تعالى - ذيلا -: و الله يعلم المفسد من المصلح.

قوله تعالى: و إن تخالطوهم فإخوانكم، إشارة إلى المساواة المجعولة بين المؤمنين جميعا بإلغاء جميع الصفات المميزة التي هي المصادر لبروز أنواع الفساد بين الناس في اجتماعهم من الاستعباد و الاستضعاف و الاستذلال و الاستكبار و أنواع البغي و الظلم، و بذلك يحصل التوازن بين أثقال الاجتماع، و المعادلة بين اليتيم الضعيف و الولي القوي، و بين الغني المثري و الفقير المعدم، و كذا كل ناقص و تام، و قد قال تعالى: «إنما المؤمنون إخوة:» الحجرات - 10.

فالذي تجوزه الآية في مخالطة الولي لليتيم أن يكون كالمخالطة بين الأخوين المتساويين في الحقوق الاجتماعية بين الناس يكون المأخوذ من ماله كالمعطى له، فالآية تحاذي قوله تعالى: «و آتوا اليتامى أموالهم و لا تتبدلوا الخبيث بالطيب و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا:» النساء - 2، و هذه المحاذاة من الشواهد على أن في الآية نوعا من التخفيف و التسهيل كما يدل عليه أيضا ذيلها، و كما يدل عليه أيضا بعض الدلالة قوله تعالى: و الله يعلم المفسد من المصلح، فالمعنى: أن المخالطة إن كانت و هذا هو التخفيف فلتكن كمخالطة الأخوين، على التساوي في الحقوق، و لا ينبغي عند ذلك الخوف و الخشية فإن ذلك لو كان بغرض الإصلاح حقيقة لا صورة كان من الخير، و لا يخفى حقيقة الأمر على الله سبحانه حتى يؤاخذكم بمجرد المخالطة فإن الله سبحانه يميز المفسد من المصلح.

قوله تعالى: و الله يعلم المفسد من المصلح إلى آخر الآية، تعدية يعلم بمن كأنها لمكان تضمينه معنى يميز، و العنت هو الكلفة و المشقة.

بحث روائي

في الكافي، عن علي بن يقطين: قال: سأل المهدي أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمر: هل هي محرمة في كتاب الله عز و جل؟ فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها و لا يعرفون تحريمها فقال له أبو الحسن (عليه السلام): بل هي محرمة فقال: في أي موضع هي محرمة في كتاب الله عز و جل يا أبا الحسن؟ فقال: قول الله تعالى: إنما حرم ربي الفواحش - ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق إلى أن قال: فأما الإثم فإنها الخمر بعينها و قد قال الله تعالى في موضع آخر: يسألونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما، فأما الإثم في كتاب الله فهي الخمر و الميسر و إثمهما أكبر من نفعهما كما قال الله تعالى، فقال المهدي: يا علي بن يقطين هذه فتوى هاشمية، فقلت له: صدقت يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال: فوالله ما صبر المهدي إن قال لي: صدقت يا رافضي.

أقول: و قد مر ما يتبين به معنى هذه الرواية.

و في الكافي، أيضا عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إن الله جعل للمعصية بيتا، ثم جعل للبيت بابا، ثم جعل للباب غلقا، ثم جعل للغلق مفتاحا، فمفتاح المعصية الخمر.

و فيه، أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الخمر رأس كل إثم.

و فيه، عن إسماعيل قال: أقبل أبو جعفر (عليه السلام) في المسجد الحرام فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: هذا إله أهل العراق فقال بعضهم: لو بعثتم إليه بعضكم، فأتاه شاب منهم فقال: يا عم ما أكبر الكبائر؟ قال (عليه السلام): شرب الخمر.

و فيه، أيضا عن أبي البلاد عن أحدهما (عليهما السلام) قال: ما عصي الله بشيء أشد من شرب المسكر، إن أحدهم يدع الصلاة الفريضة و يثب على أمه و ابنته، و أخته و هو لا يعقل.

و في الإحتجاج،: سأل زنديق أبا عبد الله (عليه السلام): لم حرم الله الخمر و لا لذة أفضل منها؟ قال: حرمها لأنها أم الخبائث و رأس كل شر، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبه فلا يعرف ربه و لا يترك معصية إلا ركبها الحديث.

أقول: و الروايات تفسر بعضها بعضا، و التجارب و الاعتبار يساعدانها.

و في الكافي، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لعن رسول الله في الخمر عشرة: غارسها، و حارسها، و عاصرها و شاربها، و ساقيها، و حاملها، و المحمولة إليه، و بايعها، و مشتريها و آكل ثمنها.

و في الكافي، و المحاسن، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر.

أقول: و تصديق الروايتين قوله تعالى: «و لا تعاونوا على الإثم و العدوان:» المائدة - 3.

و في الخصال، بإسناده عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاق، و منان، و مكذب بالقدر، و مدمن خمر.

و في الأمالي لابن الشيخ، بإسناده عن الصادق (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أقسم ربي جل جلاله لا يشرب عبد لي خمرا في الدنيا إلا سقيته يوم القيامة مثل ما شرب منها من الحميم معذبا بعد أو مغفورا له. ثم قال: إن شارب الخمر يجيء يوم القيامة مسودا وجهه، مزرقة عيناه، مائلا شدقه، سائلا لعابه، والغا لسانه من قفاه.

و في تفسير القمي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: حق على الله أن يسقي من يشرب الخمر مما يخرج من فروج المومسات، و المومسات الزواني يخرج من فروجهن صديد، و الصديد قيح و دم غليظ يؤذي أهل النار حره و نتنه.

أقول: ربما تأيدت هذه الروايات بقوله تعالى: «إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم:» الدخان - 49، و في جميع المعاني السابقة روايات كثيرة.

و في الكافي، عن الوشاء عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سمعته يقول: الميسر هو القمار.

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة لا غبار عليها.

و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: و يسألونك ما ذا ينفقون الآية: عن ابن عباس: أن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله و يسألونك ما ذا ينفقون قل العفو و كان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به و لا مالا يأكل حتى يتصدق به و في الدر المنثور، أيضا عن يحيى: أنه بلغه أن معاذ بن جبل و ثعلبة أتيا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالا: يا رسول الله إن لنا أرقاء و أهلين فما ننفق من أموالنا؟ فأنزل الله: و يسألونك ما ذا ينفقون. قل العفو.

و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): العفو الوسط.

و في تفسير العياشي، عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): الكفاف.

و في رواية أبي بصير: القصد.

و فيه، أيضا عن الصادق (عليه السلام): في الآية: الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا - و كان بين ذلك قواما، قال: هذه بعد هذه، هي الوسط.

و في المجمع، عن الباقر (عليه السلام): العفو ما فضل عن قوت السنة.

أقول: و الروايات متوافقة، و الأخيرة من قبيل بيان المصداق.

و الروايات في فضل الصدقة و كيفيتها و موردها و كميتها فوق حد الإحصاء، سيأتي بعضها في موارد تناسبها إن شاء الله.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و يسألونك عن اليتامى: عن الصادق (عليه السلام) قال: إنه لما نزلت: إن الذين يأكلون أموال اليتامى - ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا، أخرج كل من كان عنده يتيم، و سألوا رسول الله في إخراجهم فأنزل الله: يسألونك عن اليتامى - قل إصلاح لهم خير و إن تخالطوهم - فإخوانكم في الدين - و الله يعلم المفسد من المصلح.

و في الدر المنثور، عن ابن عباس قال: لما أنزل الله: و لا تقربوا مال اليتيم - إلا بالتي هي أحسن، و إن الذين يأكلون أموال اليتامى الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه و شرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: و يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير - و إن تخالطوهم فإخوانكم، فخلطوا طعامهم بطعامهم و شرابهم بشرابهم.

أقول: و روي هذا المعنى عن سعيد بن جبير و عطاء و قتادة


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 12:41 pm

وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
بيان

قوله تعالى: و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، قال الراغب في المفردات،: أصل النكاح للعقد ثم استعير للجماع، و محال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد لأن أسماء الجماع، كلها كنايات، لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه، و محال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنونه، انتهى، و هو جيد غير أنه يجب أن يراد بالعقد علقة الزوجية دون العقد اللفظي المعهود.

و المشركات اسم فاعل من الإشراك بمعنى اتخاذ الشريك لله سبحانه، و من المعلوم أنه ذو مراتب مختلفة بحسب الظهور و الخفاء نظير الكفر و الإيمان، فالقول بتعدد الإله و اتخاذ الأصنام و الشفعاء شرك ظاهر، و أخفى منه ما عليه أهل الكتاب من الكفر بالنبوة - و خاصة - أنهم قالوا: عزير ابن الله أو المسيح ابن الله، و قالوا: نحن أبناء الله و أحباؤه و هو شرك، و أخفى منه القول باستقلال الأسباب و الركون إليها و هو شرك، إلى أن ينتهي إلى ما لا ينجو منه إلا المخلصون و هو الغفلة عن الله و الالتفات إلى غير الله عزت ساحته، فكل ذلك من الشرك، غير أن إطلاق الفعل غير إطلاق الوصف و التسمية به، كما أن من ترك من المؤمنين شيئا من الفرائض فقد كفر به لكنه لا يسمى كافرا، قال تعالى: «و لله على الناس حج البيت إلى أن قال و من كفر فإن الله غني عن العالمين:» آل عمران - 97، و ليس تارك الحج كافرا بل هو فاسق كفر بفريضة واحدة، و لو أطلق عليه الكافر قيل كافر بالحج، و كذا سائر الصفات المستعملة في القرآن كالصالحين و القانتين و الشاكرين و المتطهرين، و كالفاسقين و الظالمين إلى غير ذلك لا تعادل الأفعال المشاركة لها في مادتها، و هو ظاهر فللتوصيف و التسمية حكم، و لإسناد الفعل حكم آخر.

على أن لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الإطلاق على أهل الكتاب بخلاف لفظ الكافرين بل إنما أطلق فيما يعلم مصداقه على غيرهم من الكفار كقوله تعالى: «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب و لا المشركين منفكين حتى تأتيهم البينة:» البينة - 1، و قوله تعالى: «إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام:» التوبة - 28، و قوله تعالى: «كيف يكون للمشركين عهد:» التوبة - 7، و قوله تعالى: «و قاتلوا المشركين كافة:» التوبة 36، و قوله تعالى: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم:» التوبة - 5، إلى غير ذلك من الموارد.

و أما قوله تعالى: «و قالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا و ما كان من المشركين:» البقرة - 135، فليس المراد بالمشركين في الآية اليهود و النصارى ليكون تعريضا لهم بل الظاهر أنهم غيرهم بقرينة قوله تعالى: «ما كان إبراهيم يهوديا و لا نصرانيا و لكن كان حنيفا مسلما و ما كان من المشركين:» آل عمران - 67، ففي إثبات الحنف له (عليه السلام) تعريض لأهل الكتاب، و تبرئة لساحة إبراهيم عن الميل عن حاق الوسط إلى مادية اليهود محضا أو إلى مثنوية النصارى محضا بل هو (عليه السلام) غير يهودي و لا نصراني و مسلم لله غير متبع له يكن المشركين عبدة الأوثان.

و كذا قوله تعالى: «و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون:» يوسف - 106، و قوله تعالى: «و ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة:» فصلت - 7، و قوله تعالى: «إنما سلطانه على الذين يتولونه و الذين هم به مشركون:» النحل - 100، فإن هذه الآيات ليست في مقام التسمية بحيث يعد المورد الذي يصدق وصف الشرك عليه مشركا غير مؤمن، و الشاهد على ذلك صدقه على بعض طبقات المؤمنين، بل على جميعهم غير النادر الشاذ منهم و هم الأولياء المقربون من صالحي عباد الله.

فقد ظهر من هذا البيان على طوله: أن ظاهر الآية أعني قوله تعالى: و لا تنكحوا المشركات، قصر التحريم على المشركات و المشركين من الوثنيين دون أهل الكتاب.

و من هنا يظهر: فساد القول بأن الآية ناسخة لآية المائدة و هي قوله تعالى: «اليوم أحل لكم الطيبات و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم و طعامكم حل لهم و المحصنات من المؤمنات و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم» الآية: المائدة - 6.

أو أن الآية أعني قوله تعالى: و لا تنكحوا المشركات، و آية الممتحنة أعني قوله تعالى: «و لا تمسكوا بعصم الكوافر:» الممتحنة - 10، ناسختان لآية المائدة، و كذا القول بأن آية المائدة ناسخة لآيتي البقرة و الممتحنة.

وجه الفساد: أن هذه الآية أعني آية البقرة بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب و آية المائدة لا تشمل إلا الكتابية فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتى تكون آية البقرة ناسخة لآية المائدة أو منسوخة بها، و كذا آية الممتحنة و إن أخذ فيها عنوان الكوافر و هو أعم من المشركات و يشمل أهل الكتاب، فإن الظاهر أن إطلاق الكافر يشمل الكتابي بحسب التسمية بحيث يوجب صدقه عليه انتفاء صدق المؤمن عليه كما يشهد به قوله تعالى «من كان عدوا لله و ملائكته و رسله و جبريل و ميكال فإن الله عدو للكافرين:» البقرة - 98 إلا أن ظاهر الآية كما سيأتي إن شاء الله العزيز أن من آمن من الرجال و تحته زوجة كافرة يحرم عليه الإمساك بعصمتها أي إبقاؤها على الزوجية السابقة إلا أن تؤمن فتمسك بعصمتها، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائي للكتابية.

و لو سلم دلالة الآيتين أعني: آية البقرة و آية الممتحنة على تحريم نكاح الكتابية ابتداء لم تكونا بحسب السياق ناسختين لآية المائدة، و ذلك لأن آية المائدة واردة مورد الامتنان و التخفيف، على ما يعطيه التدبر في سياقها، فهي آبية عن المنسوخية بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة، فلو بني على النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة.

على أن سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة، و سورة الممتحنة نزلت بالمدينة قبل فتح مكة و سورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول الله ناسخة غير منسوخة و لا معنى لنسخ السابق اللاحق.

قوله تعالى: و لأمة مؤمنة خير من مشركة و لو أعجبتكم، الظاهر أن المراد بالأمة المؤمنة المملوكة التي تقابل الحرة و قد كان الناس يستذلون الإماء و يعيرون من تزوج بهن، فتقييد الأمة بكونها مؤمنة، و إطلاق المشركة مع ما كان عليه الناس من استحقار أمر الإماء و استذلالهن، و التحرز عن التزوج بهن يدل على أن المراد أن المؤمنة و إن كانت أمة خير من المشركة و إن كانت حرة ذات حسب و نسب و مال مما يعجب الإنسان بحسب العادة.

و قيل: إن المراد بالأمة كالعبد في الجملة التالية أمة الله و عبده و هو بعيد.

قوله تعالى: و لا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا و لعبد مؤمن «إلخ»، الكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة.

قوله تعالى: أولئك يدعون إلى النار و الله يدعو إلى الجنة و المغفرة بإذنه، إشارة إلى حكمة الحكم بالتحريم، و هو أن المشركين لاعتقادهم بالباطل، و سلوكهم سبيل الضلال رسخت فيهم الملكات الرذيلة المزينة للكفر و الفسوق، و المعمية عن إبصار طريق الحق و الحقيقة فأثبتت في قولهم و في فعلهم الدعوة إلى الشرك، و الدلالة إلى البوار، و السلوك بالآخرة إلى النار فهم يدعون إلى النار، و المؤمنون - بخلافهم - بسلوكهم سبيل الإيمان، و تلبسهم بلباس التقوى يدعون بقولهم و فعلهم إلى الجنة و المغفرة بإذن الله حيث أذن في دعوتهم إلى الإيمان، و اهتدائهم إلى الفوز و الصلاح المؤدي إلى الجنة و المغفرة.

و كان حق الكلام أن يقال: و هؤلاء يدعون إلى الجنة «إلخ»، ففيه استخلاف عن المؤمنين و دلالة على أن المؤمنين في دعوتهم بل في مطلق شئونهم الوجودية إلى ربهم، لا يستقلون في شيء من الأمور دون ربهم تبارك و تعالى و هو وليهم كما قال سبحانه: «و الله ولي المؤمنين:» آل عمران - 68.

و في الآية وجه آخر: و هو أن يكون المراد بالدعوة إلى الجنة و المغفرة هو الحكم المشرع في صدر الآية بقوله تعالى: و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن «إلخ»، فإن جعل الحكم لغرض ردع المؤمنين عن الاختلاط في العشرة مع من لا يزيد القرب منه و الأنس به إلا البعد من الله سبحانه، و حثهم بمخالطة من في مخالطته التقرب من الله سبحانه و ذكر آياته و مراقبة أمره و نهيه دعوة من الله إلى الجنة، و يؤيد هذا الوجه تذييل هذه الجملة بقوله تعالى: و يبين آياته للناس لعلهم يتذكرون، و يمكن أن يراد بالدعوة الأعم من الوجهين، و لا يخلو حينئذ السياق عن لطف فافهم.

بحث روائي

في المجمع،: في الآية: نزلت في مرئد بن أبي مرئد الغنوي بعثه رسول الله إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين، و كان قويا شجاعا، فدعه امرأة يقال لها: عناق إلى نفسها فأبى و كانت بينهما خلة في الجاهلية، فقالت: هل لك أن تتزوج بي؟ فقال: حتى استأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما رجع استأذن في التزوج بها.

أقول: و روى هذا المعنى السيوطي في الدر المنثور، عن ابن عباس.

و في الدر المنثور:، أخرج الواحدي من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: في هذه الآية: و لأمة مؤمنة خير من مشركة، قال: نزلت في عبد الله بن رواحة و كانت له أمة سوداء و أنه غضب عليها فلطمها ثم إنه فزع فأتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره خبرها، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما هي يا عبد الله؟ قال: تصوم و تصلي و تحسن الوضوء و تشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسوله فقال يا عبد الله هذه مؤمنة فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتقها و لأتزوجها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين و قالوا: نكح أمة و كانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين و ينكحوهم رغبة في أحسابهم فأنزل الله فيهم: و لأمة مؤمنة خير من مشركة.

و فيه، أيضا عن مقاتل: في الآية و لأمة مؤمنة، قال بلغنا أنها كانت أمة لحذيفة فأعتقها و تزوجها حذيفة.

أقول: لا تنافي بين هذه الروايات الواردة في أسباب النزول لجواز وقوع عدة حوادث تنزل بعدها آية تشتمل على حكم جميعها، و هنا روايات متعارضة مروية في كون قوله تعالى: و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، الآية ناسخا لقوله تعالى: و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، أو منسوخا به، ستمر بك في تفسير الآية من سورة المائدة.


وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

بيان

قوله تعالى: و يسألونك عن المحيض قل هو أذى «إلخ»، المحيض مصدر كالحيض، يقال: حاضت المرأة تحيض حيضا و محيضا إذا نزفت طبيعتها الدم المعروف ذا الصفات المعهودة المختصة بالنساء، و لذلك يقال هي حائض كما يقال: هي حامل.

و الأذى هو الضرر على ما قيل، لكنه لا يخلو عن نظر، فإنه لو كان هو الضرر بعينه لصح مقابلته مع النفع كما أن الضرر مقابل النفع و ليس بصحيح، يقال: دواء مضر و ضار، و لو قيل دواء موذ أفاد معنى آخر، و أيضا قال تعالى: «لن يضروكم إلا أذى:» آل عمران - 111، و لو قيل لن يضروكم إلا ضررا لفسد الكلام، و أيضا كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في أمثال قوله تعالى: «إن الذين يؤذون الله و رسوله:» الأحزاب - 57، و قوله تعالى: «لم تؤذونني و قد تعلمون أني رسول الله إليكم:» الصف - 5، فالظاهر أن الأذى هو الطارىء على الشيء غير الملائم لطبعه فينطبق عليه معنى الضرر بوجه.

و تسمية المحيض أذى على هذا المعنى لكون هذا الدم المستند إلى عادة النساء حاصلا من عمل خاص من طبعها يؤثر به في مزاج الدم الطبيعي الذي يحصله جهاز التغذية فيفسد مقدارا منه عن الحال الطبيعي و ينزله إلى الرحم لتطهيره أو لتغذية الجنين أو لتهيئة اللبن للإرضاع، و أما على قولهم: إن الأذى هو الضرر فقد قيل: إن المراد بالمحيض إتيان النساء في حال الحيض، و المعنى: يسألونك عن إتيانهن في هذه الحال فأجيب بأنه ضرر و هو كذلك فقد ذكر الأطباء أن الطبيعة مشتغلة في حال الطمث بتطهير الرحم و إعداده للحمل، و الوقاع يختل به نظام هذا العمل فيضر بنتائج هذا العمل الطبيعي من الحمل و غيره.

قوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض و لا تقربوهن، الاعتزال هو أخذ العزلة التجنب عن المخالطة و المعاشرة، يقال: عزلت نصيبه إذا ميزته و وضعته في جانب بالتفريق بينه و بين سائر الأنصباء، و القرب مقابل البعد يتعدى بنفسه و بمن، و المراد بالاعتزال ترك الإتيان من محل الدم على ما سنبين.

و قد كان للناس في أمر المحيض مذاهب شتى: فكانت اليهود تشدد في أمره، و يفارق النساء في المحيض في المأكل و المشرب و المجلس و المضجع، و في التوراة أحكام شديدة في أمرهن في المحيض، و أمر من قرب منهن في المجلس و المضجع و المس و غيره ذلك، و أما النصارى فلم يكن عندهم ما يمنع الاجتماع بهن أو الاقتراب منهن بوجه، و أما المشركون من العرب فلم يكن عندهم شيء من ذلك غير أن العرب القاطنين بالمدينة و حواليها سرى فيهم بعض آداب اليهود في أمر المحيض و التشديد في أمر معاشرتهن في هذا الحال، و غيرهم ربما كانوا يستحبون إتيان النساء في المحيض و يعتقدون أن الولد المرزوق حينئذ يصير سفاحا ولوعا في سفك الدماء و ذلك من الصفات المستحسنة عند العشائر من البدويين.

و كيف كان فقوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض، و إن كان ظاهره الأمر بمطلق الاعتزال على ما قالت به اليهود، و يؤكده قوله تعالى ثانيا: و لا تقربوهن، إلا أن قوله تعالى أخيرا فأتوهن من حيث أمركم الله - و من المعلوم أنه محل الدم - قرينة على أن قوله: فاعتزلوا و لا تقربوا، واقعان موقع الكناية لا التصريح.

و المراد به الإتيان من محل الدم فقط لا مطلق المخالطة و المعاشرة و لا مطلق التمتع و الاستلذاذ.

فالإسلام قد أخذ في أمر المحيض طريقا وسطا بين التشديد التام الذي عليه اليهود و الأعمال المطلق الذي عليه النصارى، و هو المنع عن إتيان محل الدم و الإذن فيما دونه و في قوله تعالى في المحيض، وضع الظاهر موضع المضمر و كان الظاهر أن يقال: فاعتزلوا النساء فيه و الوجه فيه أن المحيض الأول أريد به المعنى المصدري و الثاني زمان الحيض فالثاني غير الأول، و لا يفيد معناه تبديله من الضمير الراجع إلى غير معناه.

قوله تعالى: حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، الطهارة و تقابلها النجاسة - من المعاني الدائرة في ملة الإسلام ذات أحكام و خواص مجعولة فيها تشتمل على شطر عظيم من المسائل الدينية، و قد صار اللفظان بكثرة الاستعمال من الحقائق الشرعية أو المتشرعة على ما اصطلح عليه في فن الأصول.

و أصل الطهارة بحسب المعنى مما يعرفه الناس على اختلاف ألسنتهم و لغاتهم، و من هنا يعلم أنها من المعاني التي يعرفها الإنسان في خلال حياته من غير اختصاص بقوم دون قوم أو عصر دون عصر.

فإن أساس الحياة مبني على التصرف في الماديات و البلوغ بها إلى مقاصد الحياة و الاستفادة منها لمآرب العيش فالإنسان يقصد كل شيء بالطبع لما فيه من الفائدة و الخاصية و الجدوى، و يرغب فيه لذلك، و أوسع هذه الفوائد الفوائد المربوطة بالتغذي و التوليد.

و ربما عرض للشيء عارض يوجب تغيره عما كان عليه من الصفات الموجبة لرغبة الطبع فيه، و عمدة ذلك الطعم و الرائحة و اللون، فأوجب ذلك تنفر الطبع و انسلاب رغبته عنه، و هذا هو المسمى بالنجاسة و بها يستقذر الإنسان الشيء فيجتنبه، و ما يقابله و هو كون الشيء على حاله الأولى من الفائدة و الجدوى الذي به يرغب فيه الطبع هو الطهارة، فالطهارة و النجاسة وصفان وجوديان في الأشياء من حيث وجدانها صفة توجب الرغبة فيها، أو صفة توجب كراهتها و استقذارها.

و قد كان أول ما تنبه الإنسان بهذين المعنيين انتقل بهما في المحسوسات ثم أخذ في تعميمها للأمور المعقولة غير المحسوسة لوجود أصل معنى الرغبة و النفرة فيها كالأنساب و الأفعال و الأخلاق و العقائد و الأقوال.

هذا ملخص القول في معنى الطهارة و النجاسة عند الناس، و أما النظافة و النزاهة و القدس و السبحان فألفاظ قريبة المعنى من الطهارة غير أن النظافة هي الطهارة العائدة إلى الشيء بعد قذارة سابقة و يختص استعمالها بالمحسوسات، و النزاهة أصلها البعد، و أصل إطلاقها على الطهارة من باب الاستعارة، و القدس و السبحان يختصان بالمعقولات و المعنويات، و أما القذارة و الرجس فلفظان قريبا المعنى من النجاسة، لكن الأصل في القذارة معنى البعد، يقال: ناقة قذور تترك ناحية من الإبل و تستبعد و يقال: رجل قاذورة لا يخال الناس لسوء خلقه و لا ينازلهم، و رجل مقذر بالفتح يجتنبه الناس، و يقال: قذرت الشيء بالكسر و تقذرته و استقذرته إذا كرهته، و على هذا يكون أصل استعمال القذارة بمعنى النجاسة من باب الاستعارة لاستلزام نجاسة الشيء تبعد الإنسان عنه، و كذلك الرجس و الرجز بكسر الراء، و كان الأصل في معناه الهول و الوحشة فدلالته على النجاسة استعارية.

و قد اعتبر الإسلام معنى الطهارة و النجاسة، و عممهما في المحسوس و المعقول، و طردهما في المعارف الكلية، و في القوانين الموضوعة، قال تعالى: «و لا تقربوهن حتى يطهرن» الآية، و هو النقاء من الحيض و انقطاع الدم، و قال تعالى: «و ثيابك فطهر:» المدثر - 4، و قال تعالى: «و لكن يريد ليطهركم:» المائدة - 6، و قال تعالى: «أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم:» المائدة - 41، و قال تعالى:، لا يمسه إلا المطهرون:» الواقعة - 79.

و قد عدت الشريعة الإسلامية عدة أشياء نجسة كالدم و البول و الغائط و المني من الإنسان و بعض الحيوان و الميتة و الخنزير أعيانا نجسة، و حكم بوجوب الاجتناب عنها في الصلاة و في الأكل و في الشرب، و قد عد من الطهارة أمورا كالطهارة الخبثية المزيلة للنجاسة الحاصلة بملاقات الأعيان النجسة، و كالطهارة الحدثية المزيلة للحدث الحاصلة بالوضوء و الغسل على الطرق المقررة شرعا المشروحة في كتب الفقه.

و قد مر بيان أن الإسلام دين التوحيد فهو يرجع الفروع إلى أصل واحد هو التوحيد، و ينشر الأصل الواحد في فروعه.

و من هنا يظهر: أن أصل التوحيد هي الطهارة الكبرى عند الله سبحانه، و بعد هذه الطهارة بقية المعارف الكلية طهارات للإنسان، و بعد ذلك أصول الأخلاق الفاضلة، و بعد ذلك الأحكام الموضوعة لصلاح الدنيا و الآخرة، و على هذا الأصل تنطبق الآيات السابقة المذكورة آنفا كقوله تعالى: «يريد ليطهركم:» المائدة - 6، و قوله تعالى: «و يطهركم تطهيرا:» الأحزاب - 33، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في معنى الطهارة.

و لنرجع إلى ما كنا فيه فقوله تعالى: حتى يطهرن، أي ينقطع عنهن الدم، و هو الطهر بعد الحيض و قوله تعالى: فإذا تطهرن أي، يغسلن محل الدم أو يغتسلن، قوله تعالى: فأتوهن من حيث أمركم الله، أمر يفيد الجواز لوقوعه بعد الحظر، و هو كناية عن الأمر بالجماع على ما يليق بالقرآن الشريف من الأدب الإلهي البارع، و تقييد الأمر بالإتيان بقوله أمركم الله، لتتميم هذا التأدب فإن الجماع مما يعد بحسب بادي النظر لغوا و لهوا فقيده بكونه مما أمر الله به أمرا تكوينيا للدلالة على أنه مما يتم به نظام النوع الإنساني في حياته و بقائه فلا ينبغي عده من اللغو و اللهو بل هو من أصول النواميس التكوينية.

و هذه الآية أعني قوله تعالى: فأتوهن من حيث أمركم الله، تماثل قوله تعالى: «فالآن باشروهن و ابتغوا ما كتب الله لكم:» البقرة - 187، و قوله تعالى: «فأتوا حرثكم أنى شئتم و قدموا لأنفسكم:» البقرة - 223، من حيث السياق، فالظاهر أن المراد بالأمر بالإتيان في الآية هو الأمر التكويني المدلول عليه بتجهيز الإنسان بالأعضاء و القوى الهادية إلى التوليد، كما أن المراد بالكتابة في قوله تعالى: و ابتغوا ما كتب الله لكم أيضا ذلك، و هو ظاهر، و يمكن أن يكون المراد بالأمر هو الإيجاب الكفائي المتعلق بالأزواج و التناكح نظير سائر الواجبات الكفائية التي لا تتم حياة النوع إلا به لكنه بعيد.

و قد استدل بعض المفسرين بهذه الآية على حرمة إتيان النساء من أدبارهن، و هو من أوهن الاستدلال و أرداه، فإنه مبني: إما على الاستدلال بمفهوم قوله تعالى: فأتوهن و هو من مفهوم اللقب المقطوع عدم حجيته، و إما على الاستدلال بدلالة الأمر على النهي عن الضد الخاص و هو مقطوع الضعف.

على أن الاستدلال لو كان بالأمر في قوله تعالى: فأتوهن فهو واقع عقيب الحظر لا يدل على الوجوب و لو كان بالأمر في قوله تعالى: من حيث أمركم الله، فهو إن كان أمرا تكوينيا كان خارجا عن الدلالة اللفظية، و إن كان أمرا تشريعيا كان للإيجاب الكفائي، و الدلالة على النهي عن الضد على تقدير التسليم إنما هي للأمر الإيجابي العيني المولوي.

قوله تعالى: إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين، التوبة هي الرجوع إلى الله سبحانه و التطهر هو الأخذ بالطهارة و قبولها فهو انقلاع عن القذارة و رجوع إلى الأصل الذي هو الطهارة فالمعنيان يتصادقان في مورد أوامر الله سبحانه و نواهيه، و خاصة في مورد الطهارة و النجاسة فالايتمار بأمر من أوامره تعالى و الانتهاء عن كل ما نهى عنه تطهر عن قذارة المخالفة و المفسدة، و توبة و رجوع إليه عز شأنه، و لمكان هذه المناسبة علل تعالى ما ذكره من الحكم بقوله: إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين، فإن من اللازم أن ينطبق ما ذكره من العلة على كل ما ذكره من الحكم، أعني قوله تعالى: فاعتزلوا النساء في المحيض، و قوله: فأتوهن من حيث أمركم الله، و الآية أعني قوله: إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين، مطلقة غير مقيدة فتشمل جميع مراتب التوبة و الطهارة كما مر بيانه، و لا يبعد استفادة المبالغة من قوله تعالى: المتطهرين، كما جيء بصيغة المبالغة في قوله: التوابين، فينتج استفادة الكثرة في التوبة و الطهارة من حيث النوع و من حيث العدد جميعا، أعني: أن الله يحب جميع أنواع التوبة سواء كانت بالاستغفار أو بامتثال كل أمر و نهي من تكاليفه أو باتخاذ كل اعتقاد من الاعتقادات الحقة، و يحب جميع أنواع التطهر سواء كان بالاغتسال و الوضوء و الغسل أو التطهر بالأعمال الصالحة أو العلوم الحقة، و يحب تكرار التوبة و تكرار التطهر.

قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، الحرث مصدر بمعنى الزراعة و يطلق كالزراعة على الأرض التي يعمل فيها الحرث و الزراعة، و أنى من أسماء الشرط يستعمل في الزمان كمتى، و ربما استعمل في المكان أيضا قال تعالى: «يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله:» آل عمران - 37، فإن كان بمعنى المكان كان المعنى من أي محل شئتم، و إن كان بمعنى الزمان كان المعنى في أي زمان شئتم، و كيف كان يفيد الإطلاق بحسب معناه و خاصة من حيث تقييده بقوله: شئتم، و هذا هو الذي يمنع الأمر أعني قوله تعالى: فأتوا حرثكم، أن يدل على الوجوب إذ لا معنى لإيجاب فعل مع إرجاعه إلى اختيار المكلف و مشيته.

ثم إن تقديم قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم، على هذا الحكم و كذا التعبير عن النساء ثانيا بالحرث لا يخلو عن الدلالة على أن المراد التوسعة في إتيان النساء من حيث المكان أو الزمان الذي يقصدن منه دون المكان الذي يقصد منهن، فإن كان الإطلاق من حيث المكان فلا تعرض للآية للإطلاق الزماني و لا تعارض له مع قوله تعالى في الآية السابقة: فاعتزلوا النساء في المحيض و لا تقربوهن حتى يطهرن الآية، و إن كان من حيث الزمان فهو مقيد بآية المحيض، و الدليل عليه اشتمال آية المحيض على ما يأبى معه أن ينسخه آية الحرث، و هو دلالة آية المحيض على أن المحيض أذى و أنه السبب لتشريع حرمة إتيانهن في المحيض و المحيض أذى دائما، و دلالتها أيضا على أن تحريم الإتيان في المحيض نوع تطهير من القذارة و الله سبحانه يحب التطهر دائما، و يمتن على عباده بتطهيرهم كما قال تعالى: «ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج و لكن يريد ليطهركم و يتم نعمته عليكم:» المائدة - 6.

و من المعلوم أن هذا اللسان لا يقبل التقييد بمثل قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، المشتمل أولا على التوسعة، و هو سبب كان موجودا مع سبب التحريم و عند تشريعه و لم يؤثر شيئا فلا يتصور تأثيره بعد استقرار التشريع و ثانيا على مثل التذييل الذي هو قوله تعالى: و قدموا لأنفسكم و اتقوا الله و اعلموا أنكم ملاقوه و بشر المؤمنين، و من هذا البيان يظهر: أن آية الحرث لا تصلح لنسخ آية المحيض سواء تقدمت عليها نزولا أو تأخرت.

فمحصل معنى الآية: أن نسبة النساء إلى المجتمع الإنساني نسبة الحرث إلى الإنسان فكما أن الحرث يحتاج إليه لإبقاء البذور و تحصيل ما يتغذى به من الزاد لحفظ الحياة و إبقائها كذلك النساء يحتاج إليهن النوع في بقاء النسل و دوام النوع لأن الله سبحانه جعل تكون الإنسان و تصور مادته بصورته في طباع أرحامهن، ثم جعل طبيعة الرجال و فيهم بعض المادة الأصلية مائلة منعطفة إليهن، و جعل بين الفريقين مودة و رحمة، و إذا كان كذلك كان الغرض التكويني من هذا الجعل هو تقديم الوسيلة لبقاء النوع فلا معنى لتقييد هذا العمل بوقت دون وقت، أو محل دون محل إذا كان مما يؤدي إلى ذلك الغرض و لم يزاحم أمرا آخر واجبا في نفسه لا يجوز إهماله و بما ذكرنا يظهر معنى قوله تعالى و قدموا لأنفسكم.

و من غريب التفسير الاستدلال بقوله تعالى: نساؤكم حرث لكم الآية، على جواز العزل عند الجماع و الآية غير ناظرة إلى هذا النوع من الإطلاق، و نظيره تفسير قوله تعالى و قدموا لأنفسكم، بالتسمية قبل الجماع.

قوله تعالى: و قدموا لأنفسكم و اتقوا الله و اعلموا أنكم ملاقوه و بشر المؤمنين، قد ظهر: أن المراد من قوله: قدموا لأنفسكم و خطاب الرجال أو مجموع الرجال و النساء بذلك الحث على إبقاء النوع بالتناكح و التناسل، و الله سبحانه لا يريد من نوع الإنسان و بقائه إلا حياة دينه و ظهور توحيده و عبادته بتقويهم العام، قال تعالى: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون:» الذاريات - 56، فلو أمرهم بشيء مما يرتبط بحياتهم و بقائهم فإنما يريد توصلهم بذلك إلى عبادة ربهم لا إخلادهم إلى الأرض و انهماكهم في شهوات البطن و الفرج، و تيههم في أودية الغي و الغفلة.

فالمراد بقوله: قدموا لأنفسكم و إن كان هو الاستيلاد و تقدمه أفراد جديدي الوجود و التكون إلى المجتمع الإنساني الذي لا يزال يفقد أفرادا بالموت و الفناء، و ينقص عدده بمرور الدهر لكن لا لمطلوبيتهم في نفسه بل للتوصل به إلى إبقاء ذكر الله سبحانه ببقاء النسل و حدوث أفراد صالحين ذوي أعمال صالحة تعود مثوباتها و خيراتها إلى أنفسهم و إلى صالحي آبائهم المتسببين إليهم كما قال تعالى: «و نكتب ما قدموا و آثارهم:» يس - 12.

و بهذا الذي ذكرنا يتأيد: أن المراد بتقديمهم لأنفسهم تقديم العمل الصالح ليوم القيامة كما قال تعالى: «يوم ينظر المرء ما قدمت يداه:» النبأ - 40، و قال تعالى أيضا: «و ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا و أعظم أجرا:» المزمل - 20، فقوله تعالى: «و قدموا لأنفسكم و اتقوا الله و اعلموا أنكم ملاقوه «إلخ»، مماثل السياق لقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و لتنظر نفس ما قدمت لغد و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون:» الحشر - 18، فالمراد و الله أعلم بقوله تعالى: و قدموا لأنفسكم تقديم العمل الصالح، و منه تقديم الأولاد برجاء صلاحهم للمجتمع، و بقوله تعالى: و اتقوا الله، التقوى بالأعمال الصالحة في إتيان الحرث و عدم التعدي عن حدود الله و التفريط في جنب الله و انتهاك محارم الله، و بقوله تعالى: و اعلموا أنكم ملاقوه «إلخ»، الأمر بتقوى الله بمعنى الخوف من يوم اللقاء و سوء الحساب كما أن المراد بقوله تعالى في آية الحشر و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون الآية، التقوى بمعنى الخوف، و إطلاق الأمر بالعلم و إرادة لازمه و هو المراقبة و التحفظ و الاتقاء شائع في الكلام، قال تعالى: «و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه:» الأنفال - 24، أي اتقوا حيلولته بينكم و بين قلوبكم و لما كان العمل الصالح و خوف يوم الحساب من اللوازم الخاصة بالإيمان ذيل تعالى كلامه بقوله: و بشر المؤمنين، كما صدر آية الحشر بقوله: يا أيها الذين آمنوا.

بحث روائي

في الدر المنثور،: أخرج أحمد و عبد بن حميد و الدارمي و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و أبو يعلى و ابن المنذر و أبو حاتم و النحاس في ناسخه و أبو حيان و البيهقي في سننه عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت و لم يؤاكلوها و لم يشاربوها و لم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فأنزل الله: و يسألونك عن المحيض قل هو أذى - فاعتزلوا النساء في المحيض الآية، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جامعوهن في البيوت و اصنعوا كل شيء إلا النكاح، فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن خضير و عباد بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود قالت: كذا و كذا أ فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفا أنه لم يحد عليهما.

و في الدر المنثور، عن السدي: في قوله: و يسألونك عن المحيض، قال: الذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح: أقول: و روي مثله عن مقاتل أيضا.

و في التهذيب، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: في قوله تعالى: فأتوهن من حيث أمركم الله الآية، قال (عليه السلام): هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله.

و في الكافي،: سئل عن الصادق (عليه السلام): ما لصاحب المرأة الحائض منها؟ فقال (عليه السلام): كل شيء ما عدا القبل بعينه.

و فيه، أيضا عنه (عليه السلام): في المرأة ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيامها، قال (عليه السلام): إذا أصاب زوجها شبق فليأمر فلتغسل فرجها ثم يمسها إن شاء، قبل أن تغتسل، و في رواية: و الغسل أحب إلي.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة جدا و هي تؤيد قراءة يطهرن بالتخفيف و هو انقطاع الدم كما قيل: إن الفرق بين يطهرن و يتطهرن أن الثاني قبول الطهارة، ففيه معنى الاختيار فيناسب الاغتسال، بخلاف الأول فإنه حصول الطهارة، فليس فيه معنى الاختيار فيناسب الطهارة بانقطاع الدم، و المراد بالتطهر إن كان هو الغسل بفتح الغين أفاد استحباب ذلك، و إن كان هو الغسل بضم الغين أفاد استحباب الإتيان بعد الغسل كما أفاده (عليه السلام) بقوله: و الغسل أحب إلي، لا حرمة الإتيان قبله أعني فيما بين الطهارة و التطهر لمنافاته كون يطهرن غاية مضروبة للنهي، فافهم ذلك.

و في الكافي، أيضا عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين، قال: كان الناس يستنجون بالكرسف و الأحجار ثم أحدث الوضوء و هو خلق كريم فأمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و صنعه فأنزل الله في كتابه: إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين.

أقول: و الأخبار في هذا المعنى كثيرة، و في بعضها: أن أول من استنجى بالماء براء بن عازب فنزلت الآية و جرت به السنة.

و فيه، عن سلام بن المستنير، قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فدخل عليه حمران بن أعين و سأله عن أشياء، فلما هم حمران بالقيام قال لأبي جعفر (عليه السلام): أخبرك أطال الله بقاك و أمتعنا بك: إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى يرق قلوبنا و تسلو أنفسنا عن الدنيا و هون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس و التجار أحببنا الدنيا، قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنما هي القلوب، مرة تصعب و مرة تسهل ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) أما إن أصحاب محمد قالوا: يا رسول الله نخاف علينا من النفاق؟ قال: فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): و لم تخافون ذلك؟ قالوا: إذا كنا عندك فذكرتنا و رغبتنا وجلنا و نسينا الدنيا و زهدنا حتى كنا نعاين الآخرة و الجنة و النار و نحن عندك، فإذا خرجنا من عندك و دخلنا هذه البيوت و شممنا الأولاد و رأينا العيال و الأهل يكاد أن نحول عن الحالة التي كنا عليها عندك، و حتى كأنا لم نكن على شيء، أ فتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا؟ فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا، و الله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة، و مشيتم على الماء، و لو لا أنكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى لخلق خلقا حتى يذنبوا فيستغفروا الله تعالى فيغفر لهم، إن المؤمن مفتن تواب أ ما سمعت قول الله عز و جل: إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين، و قال تعالى: استغفروا ربكم ثم توبوا إليه: أقول: و روى مثله العياشي في تفسيره، قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو تدومون على الحالة، إشارة إلى مقام الولاية و هو الانصراف عن الدنيا و الإشراف على ما عند الله سبحانه، و قد مر شطر من الكلام فيها في البحث عن قوله تعالى: «الذين إذا أصابتهم مصيبة»: البقرة - 156.

و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو لا أنكم تذنبون «إلخ»، إشارة إلى سر القدر، و هو انسحاب حكم أسمائه تعالى إلى مرتبة الأفعال و جزئيات الحوادث بحسب ما لمفاهيم الأسماء من الاقتضاءات، و سيجيء الكلام فيه في ذيل قوله تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر - 21، و سائر آيات القدر، و قوله أ ما سمعت قول الله عز و جل: إن الله يحب التوابين «إلخ»، من كلام أبي جعفر (عليه السلام)، و الخطاب لحمران، و فيه تفسير التوبة و التطهر بالرجوع إلى الله تعالى من المعاصي و إزالة قذارات الذنوب عن النفس، و رينها عن القلب، و هذا من استفادة مراتب الحكم من حكم بعض المراتب، نظير ما ورد في قوله تعالى: «لا يمسه إلا المطهرون:» الواقعة - 79، من الاستدلال به على أن علم الكتاب عند المطهرين من أهل البيت، و الاستدلال على حرمة مس كتابة القرآن على غير طهارة.

و كما أن الخلقة تتنزل آخذة من الخزائن التي عند الله تعالى حتى تنتهي إلى آخر عالم المقادير على ما قال تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم:» الحجر - 21، كذلك أحكام المقادير لا تتنزل إلا بالمرور من منازل الحقائق فافهم ذلك، و سيجيء له زيادة توضيح في البحث عن قوله تعالى: «هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات الآية:» آل عمران - 7.

و من هنا يستأنس ما مرت إليه الإشارة: أن المراد بالتوبة و التطهر في الآية على ظاهر التنزيل هو الغسل بالماء فهو إرجاع البدن إلى الله سبحانه بإزالة القذر عنه.

و يظهر أيضا: معنى ما تقدم نقله عن تفسير القمي، من قوله (عليه السلام): أنزل الله على إبراهيم (عليه السلام) الحنيفية، و هي الطهارة، و هي عشرة أشياء: خمسة في الرأس و خمسة في البدن، فأما التي في الرأس: فأخذ الشارب، و إعفاء اللحى، و طم الشعر، و السواك، و الخلال، و أما التي في البدن: فأخذ الشعر من البدن، و الختان، و قلم الأظفار، و الغسل من الجنابة و الطهور بالماء، و هي الحنيفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ و لا تنسخ إلى يوم القيامة الحديث، و الأخبار في كون هذه الأمور من الطهارة كثيرة، و فيها: أن النورة طهور.

و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم الآية،: عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه قال: أي شيء تقولون في إتيان النساء في أعجازهن؟ قلت بلغني أن أهل المدينة لا يرون به بأسا، قال (عليه السلام): إن اليهود كانت تقول إذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول فأنزل الله: نساؤكم حرث لكم - فأتوا حرثكم أنى شئتم، يعني من خلف أو قدام، خلافا لقول اليهود في أدبارهن.

و فيه، عن الصادق (عليه السلام): في الآية فقال (عليه السلام): من قدامها و من خلفها في القبل.

و فيه، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يأتي أهله في دبرها فكره ذلك و قال: و إياكم و محاش النساء، و قال: إنما معنى نساؤكم حرث لكم - فأتوا حرثكم أنى شئتم، أي ساعة شئتم.

و فيه، عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام) في مثله، فورد الجواب سألت عمن أتى جارية في دبرها و المرأة لعبة لا تؤذى و هي حرث كما قال الله.

أقول: و الروايات في هذه المعاني عن أئمة أهل البيت كثيرة، مروية في الكافي، و التهذيب، و تفسيري العياشي، و القمي، و هي تدل جميعا: أن الآية لا تدل على أزيد من الإتيان من قدامهن، و على ذلك يمكن أن يحمل قول الصادق (عليه السلام) في رواية العياشي عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن إتيان النساء في أعجازهن قال: لا بأس ثم تلا هذه الآية: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم.

أقول: الظاهر أن المراد بالإتيان في أعجازهن هو الإتيان من الخلف في الفرج، و الاستدلال بالآية على ذلك كما يشهد به خبر معمر بن خلاد المتقدم.

و في الدر المنثور،: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله، قال: كانت الأنصار تأتي نساءها مضاجعة، و كانت قريش تشرح شرحا كثيرا فتزوج رجل من قريش امرأة من الأنصار فأراد أن يأتيها فقالت: لا إلا كما يفعل فأخبر بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل: «فأتوا حرثكم أنى شئتم» أي قائما و قاعدا و مضطجعا بعد أن يكون في صمام واحد.

أقول: و قد روي في هذا المعنى بعدة طرق عن الصحابة في سبب نزول الآية، و قد مرت الرواية فيه عن الرضا (عليه السلام).

و قوله: في صمام واحد أي في مسلك واحد، كناية عن كون الإتيان في الفرج فقط، فإن الروايات متكاثرة من طرقهم في حرمة الإتيان من أدبار النساء، رووها بطرق كثيرة عن عدة من الصحابة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قول أئمة أهل البيت و إن كان هو الجواز على كراهة شديدة على ما روته أصحابنا بطرقهم الموصولة إليهم (عليهم السلام) إلا أنهم (عليهم السلام) لم يتمسكوا فيه بقوله تعالى: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم الآية، كما مر بيانه بل استدلوا عليه بقوله تعالى حكاية عن لوط: قال: «إن هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين:» الحجر - 71، حيث عرض « (عليه السلام)» عليهم بناته و هو يعلم أنهم لا يريدون الفروج و لم ينسخ الحكم بشيء من القرآن.

و الحكم مع ذلك غير متفق عليه فيما رووه من الصحابة، فقد روي عن عبد الله بن عمر و مالك بن أنس و أبي سعيد الخدري و غيرهم: أنهم كانوا لا يرون به بأسا و كانوا يستدلون على جوازه بقوله تعالى: نساؤكم حرث لكم الآية حتى إن المنقول عن ابن عمر أن الآية إنما نزلت لبيان جوازه.

ففي الدر المنثور، عن الدارقطني في غرائب مالك مسندا عن نافع قال: قال لي ابن عمر: أمسك على المصحف يا نافع! فقرأ حتى أتى على، نساؤكم حرث لكم - فأتوا حرثكم أنى شئتم، قال لي: تدري يا نافع فيمن نزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك، فأنزل الله «نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم» الآية، قلت له: من دبرها في قبلها قال لا إلا في دبرها.

أقول: و روي في هذا المعنى عن ابن عمر بطرق كثيرة، قال: و قال ابن عبد البر: الرواية بهذا المعنى عن ابن عمر صحيحة معروفة عنه مشهورة.

و في الدر المنثور، أيضا: أخرج ابن راهويه و أبو يعلى و ابن جرير و الطحاوي في مشكل الآثار و ابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس عليه ذلك، فأنزلت نساؤكم حرث لكم - فأتوا حرثكم أنى شئتم، الآية.

و فيه، أيضا أخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجوزجاني، قال: سألت مالك بن أنس عن وطي الحلائل في الدبر. فقال لي: الساعة غسلت رأسي عنه.

و فيه، أيضا: أخرج الطحاوي من طريق أصبغ بن الفرج عن عبد الله بن القاسم، قال: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال يعني: وطي المرأة في دبرها ثم قرأ: نساؤكم حرث لكم، ثم قال: فأي شيء أبين من هذا؟ و في سنن أبي داود، عن ابن عباس قال: إن ابن عمر و الله يغفر له أوهم أنما كان هذا الحي من الأنصار و هم أهل وثن مع هذا الحي من يهود و هم أهل كتاب، و كان يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم و كان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرف، و ذلك أثر ما تكون المرأة، و كان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، و كان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا، و يتلذذون مقبلات و مدبرات و مستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه فقالت: إنما كنا نؤتى على حرف فاصنع ذلك و إلا فاجتنبني فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله، فأنزل الله عز و جل: نساؤكم حرث لكم - فأتوا حرثكم أنى شئتم، أي مقبلات و مدبرات و مستلقيات، يعني بذلك موضع الولد: أقول: و رواه السيوطي في الدر المنثور، بطرق أخرى أيضا عن مجاهد، عن ابن عباس.

و فيه، أيضا: أخرج ابن عبد الحكم: أن الشافعي ناظر محمد بن الحسن في ذلك، فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون في الفرج فقال له: فيكون ما سوى الفرج محرما فالتزمه فقال: أ رأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها الأعكان جمع. عكنة بضم العين: ما انطوى و ثنى من لحم البطن أ في ذلك حرث: قال: لا، قال، أ فيحرم؟ قال: لا قال: فكيف تحتج بما لا تقولون به؟ و فيه، أيضا: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: بينا أنا و مجاهد جالسان عند ابن عباس إذ أتاه رجل فقال: أ لا تشفيني من آية المحيض؟ قال: بلى فاقرأ: و يسألونك عن المحيض إلى قوله: فأتوهن من حيث أمركم الله فقال: ابن عباس: من حيث جاء الدم من ثم أمرت أن تأتي فقال: كيف بالآية نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم؟ فقال: أي، ويحك، و في الدبر من حرث؟ لو كان ما تقول حقا كان المحيض منسوخا إذا شغل من هاهنا جئت من هاهنا، و لكن أنى شئتم من الليل و النهار.

أقول: و استدلاله كما ترى مدخول، فإن آية المحيض لا تدل على أزيد من حرمة الإتيان من محل الدم عند المحيض فلو دلت آية الحرث على جواز إتيان الأدبار لم يكن بينها نسبة التنافي أصلا حتى يوجب نسخ حكم آية المحيض؟ على أنك قد عرفت أن آية الحرث أيضا لا تدل على ما راموه من جواز إتيان الأدبار، نعم يوجد في بعض الروايات المروية عن ابن عباس: الاستدلال على حرمة الإتيان من محاشيهن بالأمر الذي في قوله تعالى: فأتوهن من حيث أمركم الله الآية، و قد عرفت فيما مر من البيان أنه من أفسد الاستدلال، و أن الآية تدل على حرمة الإتيان من محل الدم ما لم يطهرن و هي ساكتة عما دونه، و أن آية الحرث أيضا غير دالة إلا على التوسعة من حيث الحرث، و المسألة فقهية إنما اشتغلنا بالبحث عنها بمقدار ما تتعلق بدلالة الآيات.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 12:46 pm

وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)


بيان

قوله تعالى: و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا إلى آخر الآية، العرضة بالضم من العرض و هو كإرائة الشيء للشيء حتى يرى صلوحه لما يريده و يقصده كعرض المال للبيع و عرض المنزل للنزول و عرض الغذاء للأكل، و منه ما يقال للهدف: أنه عرضة للسهام، و للفتاة الصالحة للازدواج أنها عرضة للنكاح، و للدابة المعدة للسفر أنها عرضة للسفر و هذا هو الأصل في معناها، و أما العرضة بمعنى المانع المعرض في الطريق و كذا العرضة بمعنى ما ينصب ليكون معرضا لتوارد الواردات و تواليها في الورود كالهدف للسهام حتى يفيد كثرة العوارض إلى غير ذلك من معانيها فهي مما لحقها من موارد استعمالها غير دخيلة في أصل المعنى.

و الأيمان جمع يمين بمعنى الحلف مأخوذة من اليمين بمعنى الجارحة لكونهم يضربون بها في الحلف و العهد و البيعة و نحو ذلك فاشتق من آلة العمل اسم للعمل، للملازمة بينها كما يشتق من العمل اسم لآلة العمل كالسبابة للإصبع التي يسب بها.

و معنى الآية و الله أعلم: و لا تجعلوا الله عرضة تتعلق بها أيمانكم التي عقدتموها بحلفكم أن لا تبروا و تتقوا و تصلحوا بين الناس فإن الله سبحانه لا يرضى أن يجعل اسمه ذريعة للامتناع عما أمر به من البر و التقوى و الإصلاح بين الناس، و يؤيد هذا المعنى ما ورد من سبب نزول الآية على ما سننقله في البحث الروائي إن شاء الله.

و على هذا يصير قوله تعالى: أن تبروا «إلخ»، بتقدير، لا، أي أن لا تبروا، و هو شائع مع أن المصدرية كقوله تعالى «يبين الله لكم أن تضلوا:» النساء - 17، أي أن لا تضلوا أو كراهة أن تضلوا، و يمكن أن لا يكون بتقدير، لا، و قوله تعالى: أن تبروا، متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى: و لا تجعلوا، من النهي أي ينهاكم الله عن الحلف الكذائي أو يبين لكم حكمه الكذائي أن تبروا و تتقوا و تصلحوا بين الناس، و يمكن أن يكون العرضة بمعنى ما يكثر عليه العرض فيكون نهيا عن الإكثار من الحلف بالله سبحانه، و المعنى لا تكثروا من الحلف بالله فإنكم إن فعلتم ذلك أداكم إلى أن لا تبروا و لا تتقوا و لا تصلحوا بين الناس، فإن الحلاف المكثر من اليمين لا يستعظم ما حلف به و يصغر أمر ما أقسم به لكثرة تناوله فلا يبالي الكذب فيكثر منه هذا عند نفسه، و كذا يهون خطبه و ينزل قدره عند الناس لاستشعارهم أنه لا يرى لنفسه عند الناس قدم صدق و يعتقد أنهم لا يصدقونه فيما يقول، و لا أنه يوقر نفسه بالاعتماد عليها، فيكون على حد قوله تعالى: «و لا تطع كل حلاف مهين:» القلم - 10، و الأنسب على هذا المعنى أيضا عدم تقدير لا في الكلام بل قوله تعالى: أن تبروا منصوب بنزع الخافض أو مفعول له لما يدل عليه النهي في قوله و لا تجعلوا، كما مر.

و في قوله تعالى: و الله سميع عليم نوع تهديد على جميع المعاني غير أن المعنى الأول أظهرها كما لا يخفى.

قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم إلى آخر الآية، اللغو من الأفعال ما لا يستتبع أثرا، و أثر الشيء يختلف باختلاف جهاته و متعلقاته، فلليمين أثر من حيث إنه لفظ، و أثر من حيث إنه مؤكد للكلام، و أثر من حيث إنه عقد و أثر من حيث حنثه و مخالفة مؤداه، و هكذا إلا أن المقابلة في الآية بين عدم المؤاخذة على لغو اليمين و بين المؤاخذة على ما كسبته القلوب و خاصة من حيث اليمين تدل على أن المراد بلغو اليمين ما لا يؤثر في قصد الحالف، و هو اليمين الذي لا يعقد صاحبه على شيء من قول: لا و الله و بلى و الله.

و الكسب هو اجتلاب المنافع بالعمل بصنعة أو حرفة أو نحوهما و أصله في اقتناء ما يرتفع به حوائج الإنسان المادية ثم استعير لكل ما يجتلبه الإنسان بعمل من أعماله من خير أو شر ككسب المدح و الفخر و حسن الذكر بحسن الخلق و الخدمات النوعية و كسب الخلق الحسن و العلم النافع و الفضيلة بالأعمال المناسبة لها، و كسب اللوم و الذم، و اللعن و الطعن، و الذنوب و الآثام، و نحوها بالأعمال المستتبعة لذلك، فهذا هو معنى الكسب و الاكتساب، و قد قيل في الفرق بينهما إن الاكتساب اجتلاب الإنسان المنفعة لنفسه، و الكسب أعم مما يكون لنفسه أو غيره مثل كسب العبد لسيده و كسب الولي للمولى عليه و نحو ذلك.

و كيف كان فالكاسب و المكتسب هو الإنسان لا غير.

كلام في معنى القلب في القرآن

و هذا من الشواهد على أن المراد بالقلب هو الإنسان بمعنى النفس و الروح، فإن التعقل و التفكر و الحب و البغض و الخوف و أمثال ذلك و إن أمكن أن ينسبه أحد إلى القلب باعتقاد أنه العضو المدرك في البدن على ما ربما يعتقده العامة كما ينسب السمع إلى الأذن و الإبصار إلى العين و الذوق إلى اللسان، لكن الكسب و الاكتساب مما لا ينسب إلا إلى الإنسان البتة.

و نظير هذه الآية قوله تعالى: «فإنه آثم قلبه:» البقرة - 283، و قوله تعالى: «و جاء بقلب منيب:» ق - 33.

و الظاهر: أن الإنسان لما شاهد نفسه و سائر أصناف الحيوان و تأمل فيها و رأى أن الشعور و الإدراك ربما بطل أو غاب عن الحيوان بإغماء أو صرع أو نحوهما، و الحياة المدلول عليها بحركة القلب و نبضانه باقية بخلاف القلب قطع على أن مبدأ الحياة هو القلب، أي أن الروح التي يعتقدها في الحيوان أول تعلقها بالقلب و إن سرت منه إلى جميع أعضاء الحياة، و أن الآثار و الخواص الروحية كالإحساسات الوجدانية مثل الشعور و الإرادة و الحب و البغض و الرجاء و الخوف و أمثال ذلك كلها للقلب بعناية أنه أول متعلق للروح، و هذا لا ينافي كون كل عضو من الأعضاء مبدأ لفعله الذي يختص به كالدماغ للفكر و العين للإبصار و السمع للوعي و الرئة للتنفس و نحو ذلك، فإنها جميعا بمنزلة الآلات التي يفعل بها الأفعال المحتاجة إلى توسيط الآلة.

و ربما يؤيد هذا النظر: ما وجده التجارب العلمي أن الطيور لا تموت بفقد الدماغ إلا أنها تفقد الإدراك و لا تشعر بشيء و تبقى على تلك الحال حتى تموت بفقد المواد الغذائية و وقوف القلب عن ضربانه.

و ربما أيده أيضا: أن الأبحاث العلمية الطبيعية لم توفق حتى اليوم لتشخيص المصدر الذي يصدر عنه الأحكام البدنية أعني عرش الأوامر التي يمتثلها الأعضاء الفعالة في البدن الإنساني، إذ لا ريب أنها في عين التشتت و التفرق من حيث أنفسها و أفعالها مجتمعة تحت لواء واحد منقادة لأمير واحد وحدة حقيقية.

و لا ينبغي أن يتوهم أن ذلك كان ناشئا عن الغفلة عن أمر الدماغ و ما يخصه من الفعل الإدراكي، فإن الإنسان قد تنبه لما عليه الرأس من الأهمية منذ أقدم الأزمنة، و الشاهد عليه ما نرى في جميع الأمم و الملل على اختلاف ألسنتهم من تسمية مبدإ الحكم و الأمر بالرأس، و اشتقاق اللغات المختلفة منه، كالرأس و الرئيس و الرئاسة، و رأس الخيط، و رأس المدة، و رأس المسافة، و رأس الكلام، و رأس الجبل، و الرأس من الدواب و الأنعام، و رئاس السيف.

فهذا - على ما يظهر - هو السبب في إسنادهم الإدراك و الشعور و ما لا يخلو عن شوب إدراك مثل الحب و البغض و الرجاء و الخوف و القصد و الحسد و العفة و الشجاعة و الجرأة و نحو ذلك إلى القلب، و مرادهم به الروح المتعلقة بالبدن أو السارية فيه بواسطته، فينسبونها إليه كما ينسبونها إلى الروح و كما ينسبونها إلى أنفسهم، يقال: أحببته و أحبته روحي و أحبته نفسي و أحبه قلبي ثم استقر التجوز في الاستعمال فأطلق القلب و أريد به النفس مجازا كما ربما تعدوا عنه إلى الصدر فجعلوه لاشتماله على القلب مكانا لأنحاء الإدراك و الأفعال و الصفات الروحية.

و في القرآن شيء كثير من هذا الباب، قال تعالى: «يشرح صدره للإسلام:» الأنعام - 125، و قال تعالى: «إنك يضيق صدرك»: الحجر - 97، و قال تعالى: «و بلغت القلوب الحناجر:» الأحزاب - 10، و هو كناية عن ضيق الصدر، و قال تعالى: «إن الله عليم بذات الصدور:» المائدة - 7، و ليس من البعيد أن تكون هذه الإطلاقات في كتابه تعالى إشارة إلى تحقيق هذا النظر و إن لم يتضح كل الاتضاح بعد.

و قد رجح الشيخ أبو علي بن سينا كون الإدراك للقلب بمعنى أن دخالة الدماغ فيه دخالة الآلة فللقلب الإدراك و للدماغ الوساطة.

و لنرجع إلى الآية و لا يخلو قوله تعالى: و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، عن مجاز عقلي فإن ظاهر الإضراب عن المؤاخذة في بعض أقسام اليمين و هو اللغو إلى بعض آخر أن تتعلق بنفسه و لكن عدل عنه إلى تعليقه بأثره و هو الإثم المترتب عليه عند الحنث ففيه مجاز عقلي و إضراب في إضراب للإشارة إلى أن الله سبحانه لا شغل له إلا بالقلب كما قال تعالى: «إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله:» البقرة - 284، و قال تعالى: «و لكن يناله التقوى منكم:» الحج - 37.

و في قوله تعالى: و الله غفور حليم، إشارة إلى كراهة اللغو من اليمين، فإنه مما لا ينبغي صدوره من المؤمن.

و قد قال تعالى: «و قد أفلح المؤمنون إلى أن قال و الذين هم عن اللغو معرضون:» المؤمنون - 3.

قوله تعالى: للذين يؤلون من نسائهم «إلخ»، الإيلاء من الألية بمعنى الحلف، و غلب في الشرع في حلف الزوج أن لا يأتي زوجته غضبا و إضرارا، و هو المراد في الآية، و التربص هو الانتظار، و الفيء هو الرجوع.

و الظاهر أن تعدية الإيلاء بمن لتضمينه معنى الابتعاد و نحوه فيفيد وقوع الحلف على الاجتناب عن المباشرة، و يشعر به تحديد التربص بالأربعة أشهر فإنها الأمد المضروب للمباشرة الواجبة شرعا، و منه يعلم أن المراد بالعزم على الطلاق العزم مع إيقاعه، و يشعر به أيضا تذييله بقوله تعالى: فإن الله سميع عليم، فإن السمع إنما يتعلق بالطلاق الواقع لا بالعزم عليه.

و في قوله تعالى: فإن الله غفور رحيم، دلالة على أن الإيلاء لا عقاب عليه على تقدير الفيء.

و أما الكفارة فهي حكم شرعي لا يقبل المغفرة، قال تعالى: «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين الآية:» المائدة - 89.

فالمعنى أن من آلى من امرأته يتربص له الحاكم أربعة أشهر فإن رجع إلى حق الزوجية و هو المباشرة و كفر و باشر فلا عقاب عليه و إن عزم الطلاق و أوقعه فهو المخلص الآخر، و الله سميع عليم.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم الآية، قال (عليه السلام): هو قول الرجل: لا و الله و بلى و الله و فيه، أيضا عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): في الآية يعني الرجل يحلف أن لا يكلم أخاه و ما أشبه ذلك أو لا يكلم أمه.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في الآية، قال: إذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل علي يمين أن لا أفعل.

أقول: و الرواية الأولى كما ترى تفسر الآية بأحد المعنيين، و الثانية و الثالثة بالمعنى الآخر، و يقرب منهما ما في تفسير العياشي أيضا عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) قالا: هو الرجل يصلح بين الرجل فيحمل ما بينهما من الإثم الحديث، فكان المراد أنه ينبغي أن لا يحلف بل يصلح و يحمل الإثم و الله يغفر له، فيكون مصداقا للعامل بالآية.

و في الكافي، عن مسعدة عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم الآية، قال: اللغو قول الرجل: لا و الله و بلى و الله و لا يعقد على شيء.

أقول: و هذا المعنى مروي في الكافي، عنه (عليه السلام) من غير الطريق، و في المجمع، عنه و عن الباقر (عليه السلام).

و في الكافي، أيضا عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) أنهما قالا: إذا آلى الرجل أن لا يقرب امرأته فليس لها قول و لا حق في الأربعة أشهر، و لا إثم عليه في الكف عنها في الأربعة أشهر، فإن مضت الأربعة أشهر قبل أن يمسها فما سكتت و رضيت فهو في حل و سعة، فإن رفعت أمرها قيل له: إما أن تفيء فتمسها و إما أن تطلق، و عزم الطلاق أن يخلي عنها، فإذا حاضت و طهرت طلقها، و هو أحق برجعتها ما لم يمض ثلاثة قروء، فهذا الإيلاء الذي أنزل الله في كتابه و سنة رسول الله.

و فيه، أيضا عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و الإيلاء أن يقول: و الله لا أجامعك كذا و كذا أو يقول: و الله لأغيظنك ثم يغاظها، الحديث.

أقول: و في خصوصيات الإيلاء و بعض ما يتعلق به خلاف بين العامة و الخاصة، و البحث فقهي مذكور في الفقه.


وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 12:54 pm

بيان

الآيات في أحكام الطلاق و العدة و إرضاع المطلقة ولدها، و في خلالها شيء من أحكام الصلاة.

قوله تعالى: و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، أصل الطلاق التخلية عن وثاق و تقييد ثم استعير لتخلية المرأة عن حبالة النكاح و قيد الزوجية ثم صار حقيقة في ذلك بكثرة الاستعمال.

و التربص هو الانتظار و الحبس، و قد قيد بقوله تعالى: بأنفسهن، ليدل على معنى التمكين من الرجال فيفيد معنى العدة أعني عدة الطلاق، و هو حبس المرأة نفسها عن الإزدواج تحذرا عن اختلاط المياه، و يزيد على معنى العدة الإشارة إلى حكمة التشريع، و هو التحفظ عن اختلاط المياه و فساد الأنساب، و لا يلزم اطراد الحكمة في جميع الموارد فإن القوانين و الأحكام إنما تدور مدار المصالح و الحكم الغالبة دون العامة، فقوله تعالى يتربصن بأنفسهن بمنزله قولنا: يعتددن احترازا من اختلاط المياه و فساد النسل بتمكين الرجال من أنفسهن، و الجملة خبر أريد به الإنشاء تأكيدا.

و القروء جمع القرء، و هو لفظ يطلق على الطهر و الحيض معا، فهو على ما قيل من الأضداد، غير أن الأصل في مادة قرء هو الجمع لكن لا كل جمع بل الجمع الذي يتلوه الصرف و التحويل و نحوه، و على هذا فالأظهر أن يكون معناه الطهر لكونه حالة جمع الدم ثم استعمل في الحيض لكونه حالة قذفه بعد الجمع، و بهذه العناية أطلق على الجمع بين الحروف للدلالة على معنى القراءة، و قد صرح أهل اللغة بكون معناه هو الجمع، و يشعر بأن الأصل في مادة قرء الجمع، قوله تعالى: «لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه»: القيامة - 18، و قوله تعالى: «و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث:» بني إسرائيل - 106، حيث عبر تعالى في الآيتين بالقرآن، و لم يعبر بالكتاب أو الفرقان أو ما يشبههما، و به سمي القرآن قرآنا.

قال الراغب في مفرداته: و القرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر و لما كان اسما جامع للأمرين: الطهر و الحيض المتعقب له أطلق على كل واحد لأن كل اسم موضوع لمعنيين معا يطلق على كل واحد منهما إذا انفرد، كالمائدة للخوان و الطعام، ثم قد يسمى كل واحد منهما بانفراده به، و ليس القرء اسما للطهر مجردا و لا للحيض مجردا، بدليل أن الطاهر التي لم تر أثر الدم لا يقال لها: ذات قرء، و كذا الحائض التي استمر بها الدم لا يقال لها: ذلك، انتهى.

قوله تعالى: و لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله و اليوم الآخر، المراد به تحريم كتمان المطلقة الدم أو الولد استعجالا في خروج العدة أو إضرارا بالزوج في رجوعه و نحو ذلك و في تقييده بقوله: إن كن يؤمن بالله و اليوم الآخر مع عدم اشتراط أصل الحكم بالإيمان نوع ترغيب و حث لمطاوعة الحكم و التثبت عليه لما في هذا التقييد من الإشارة إلى أن هذا الحكم من لوازم الإيمان بالله و اليوم الآخر الذي عليه بناء الشريعة الإسلامية فلا استغناء في الإسلام عن هذا الحكم، و هذا نظير قولنا: أحسن معاشرة الناس إن أردت خيرا، و قولنا للمريض: عليك بالحمية إن أردت الشفاء و البرء.

قوله تعالى: و بعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا، البعولة جمع البعل و هو الذكر من الزوجين ما داما زوجين و قد استشعر منه معنى الاستعلاء و القوة و الثبات في الشدائد لما أن الرجل كذلك بالنسبة إلى المرأة ثم جعل أصلا يشتق منه الألفاظ بهذا المعنى فقيل لراكب الدابة بعلها، و للأرض المستعلية بعل، و للصنم بعل، و للنخل إذا عظم بعل و نحو ذلك.

و الضمير في بعولتهن للمطلقات إلا أن الحكم خاص بالرجعيات دون مطلق المطلقات الأعم منها و من البائنات، و المشار إليه بذلك التربص الذي هو بمعنى العدة، و التقييد بقوله إن أرادوا إصلاحا، للدلالة على وجوب أن يكون الرجوع لغرض الإصلاح لا لغرض الإضرار المنهي عنه بعد بقوله: و لا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، الآية.

و لفظ أحق اسم تفضيل حقه أن يتحقق معناه دائما مع مفضل عليه كأن يكون للزوج الأول حق في المطلقة و لسائر الخطاب حق، و الزوج الأول أحق بها لسبق الزوجية، غير أن الرد المذكور لا يتحقق معناه إلا مع الزوج الأول.

و من هنا يظهر: أن في الآية تقديرا لطيفا بحسب المعنى، و المعنى و بعولتهن أحق بهن من غيرهم، و يحصل ذلك بالرد و الرجوع في أيام العدة، و هذه الأحقية إنما تتحقق في الرجعيات دون البائنات التي لا رجوع فيها، و هذه هي القرينة على أن الحكم مخصوص بالرجعيات، لا أن ضمير بعولتهن راجع إلى بعض المطلقات بنحو الاستخدام أو ما أشبه ذلك، و الآية خاصة بحكم المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل، و أما غير المدخول بها و الصغيرة و اليائسة و الحامل فلحكمها آيات أخر.

قوله تعالى: و لهن مثل الذي عليهن بالمعروف و للرجال عليهن درجة، المعروف هو الذي يعرفه الناس بالذوق المكتسب من نوع الحياة الاجتماعية المتداولة بينهم، و قد كرر سبحانه المعروف في هذه الآيات فذكره في اثني عشر موضعا اهتماما بأن يجري هذا العمل أعني الطلاق و ما يلحق به على سنن الفطرة و السلامة، فالمعروف تتضمن هداية العقل، و حكم الشرع، و فضيلة الخلق الحسن و سنن الأدب.

و حيث بنى الإسلام شريعته على أساس الفطرة و الخلقة كان المعروف عنده هو الذي يعرفه الناس إذا سلكوا مسلك الفترة و لم يتعدوا طور الخلقة، و من أحكام الاجتماع المبني على أساس الفطرة أن يتساوى في الحكم أفراده و أجزاؤه فيكون ما عليهم مثل ما لهم إلا أن ذلك التساوي إنما هو مع حفظ ما لكل من الأفراد من الوزن في الاجتماع و التأثير و الكمال في شئون الحياة فيحفظ للحاكم حكومته، و للمحكوم محكوميته، و للعالم علمه، و للجاهل حاله، و للقوي من حيث العمل قوته، و للضعيف ضعفه ثم يبسط التساوي بينها بإعطاء كل ذي حق حقه، و على هذا جرى الإسلام في الأحكام المجعولة للمرأة و على المرأة فجعل لها مثل ما جعل عليها مع حفظ ما لها من الوزن في الحياة الاجتماعية في اجتماعها مع الرجل للتناكح و التناسل.

و الإسلام يرى في ذلك أن للرجال عليهن درجة، و الدرجة المنزلة.

و من هنا يظهر: أن قوله تعالى: و للرجال عليهن درجة، قيد متمم للجملة السابقة، و المراد بالجميع معنى واحد و هو: أن النساء أو المطلقات قد سوى الله بينهن و بين الرجال مع حفظ ما للرجال من الدرجة عليهن فجعل لهن مثل ما عليهن، من الحكم، و سنعود إلى هذه المسألة بزيادة توضيح في بحث علمي مخصوص بها.

قوله تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، المرة بمعنى الدفعة مأخوذة من المرور للدلالة على الواحد من الفعل كما أن الدفعة و الكرة و النزلة مثلها وزنا و معنى و اعتبارا.

و التسريح أصله الإطلاق في الرعي مأخوذ من سرحت الإبل و هو أن ترعيه السرح، و هو شجر له ثمر يرعاه الإبل، و قد استعير في الآية لإطلاق المطلقة بمعنى عدم الرجوع إليها في العدة، و التخلية عنها حتى تنقضي عدتها على ما سيجيء.

و المراد بالطلاق في قوله تعالى: الطلاق مرتان، الطلاق الذي يجوز فيه الرجعة و لذا أردفه بقوله بعد: فإمساك «إلخ»، و أما الثالث فالطلاق الذي يدل عليه قوله تعالى: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره الآية.

و المراد بتسريحها بإحسان ظاهرا التخلية بينها و بين البينونة و تركها بعد كل من التطليقتين الأوليين حتى تبين بانقضاء العدة و إن كان الأظهر أنه التطليقة الثالثة كما هو ظاهر الإطلاق في تفريع قوله: فإمساك «إلخ»، و على هذا فيكون قوله تعالى بعد: فإن طلقها «إلخ»، بيانا تفصيليا للتسريح بعد البيان الإجمالي.

و في تقييد الإمساك بالمعروف و التسريح بالإحسان من لطيف العناية ما لا يخفى، فإن الإمساك و الرد إلى حبالة الزوجية ربما كان للإضرار بها و هو منكر غير معروف، كمن يطلق امرأته ثم يخليها حتى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثم يطلق ثم يرجع كذلك، يريد بذلك إيذاءها و الإضرار بها و هو إضرار منكر غير معروف في هذه الشريعة منهي عنه، بل الإمساك الذي يجوزه الشرع أن يرجع إليها بنوع من أنواع الالتيام، و يتم به الأنس و سكون النفس الذي جعله الله تعالى بين الرجل و المرأة.

و كذلك التسريح ربما كان على وجه منكر غير معروف يعمل فيه عوامل السخط و الغضب، و يتصور بصورة الانتقام، و الذي يجوزه هذه الشريعة أن يكون تسريحا بنوع يتعارفه الناس و لا ينكره الشرع، و هو التسريح بالمعروف كما قال تعالى في الآية الآتية فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، و هذا التعبير هو الأصل في إفادة المطلوب الذي ذكرناه، و أما ما في هذه الآية أو تسريح بإحسان، حيث قيد التسريح بالإحسان و هو معنى زائد على المعروف فذلك لكون الجملة ملحوقة بما يوجب ذلك أعني قوله تعالى: و لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا.

بيانه: أن التقييد بالمعروف و الإحسان لنفي ما يوجب فساد الحكم المشرع المقصود، و المطلوب بتقييد الإمساك بالمعروف نفي الإمساك الواقع على نحو المضارة كما قال تعالى: و لا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، و المطلوب في مورد التسريح نفي أن يأخذ الزوج بعض ما آتاه للزوجة من المهر، و لا يكفي فيه تقييد التسريح بالمعروف كما فعل في الآية الآتية فإن مطالبة الزوج بعض ما آتاه زوجته و أخذه ربما لم ينكره التعارف الدائر بين الناس فزيد في تقييده بالإحسان في هذه الآية دون الآية الآتية ليستقيم قوله تعالى: و لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا، و ليتدارك بذلك ما يفوت المرأة من مزية الحياة التي في الزوجية و الالتيام النكاحي، و لو قيل: أو تسريح بمعروف و لا يحل لكم «إلخ»، فاتت النكتة.

قوله تعالى: إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، الخوف هو الغلبة على ظنهما أن لا يقيما حدود الله، و هي أوامره و نواهيه من الواجبات و المحرمات في الدين، و ذلك إنما يكون بتباعد أخلاقهما و ما يستوجبه حوائجهما و التباغض المتولد بينهما من ذلك.

قوله تعالى: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، العدول عن التثنية إلى الجمع في قوله: خفتم، كأنه للإشارة إلى لزوم أن يكون الخوف خوفا يعرفه العرف و العادة، لا ما ربما يحصل بالتهوس و التلهي أو بالوسوسة و نحوها، و لذلك عدل أيضا عن الإضمار فقيل ألا يقيما حدود الله، و لم يقل فإن خفتم ذلك لمكان اللبس.

و أما نفي الجناح عنهما مع أن النهي في قوله: و لا يحل لكم أن تأخذوا «إلخ»، إنما تعلق بالزوج فلأن حرمة الأخذ على الزوج توجب حرمة الإعطاء على الزوجة من باب الإعانة على الإثم و العدوان إلا في طلاق الخلع فيجوز توافقهما على الطلاق مع الفدية، فلا جناح على الزوج أن يأخذ الفدية، و لا جناح على الزوجة أن تعطي الفدية و تعين على الأخذ فلا جناح عليهما فيما افتدت به.

قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها و من يتعد حدود الله «إلخ»، المشار إليه هي المعارف المذكورة في الآيتين و هي أحكام فقهية مشوبة بمسائل أخلاقية، و أخرى علمية مبتنية على معارف أصلية، و الاعتداء و التعدي هو التجاوز.

و ربما استشعر من الآية عدم جواز التفرقة بين الأحكام الفقهية و الأصول الأخلاقية، و الاقتصار في العمل بمجرد الأحكام الفقهية و الجمود على الظواهر و التقشف فيها، فإن في ذلك إبطالا لمصالح التشريع و إماتة لغرض الدين و سعادة الحياة الإنسانية فإن الإسلام كما مر مرارا دين الفعل دون القول، و شريعة العمل دون الفرض، و لم يبلغ المسلمون إلى ما بلغوا من الانحطاط و السقوط إلا بالاقتصار على أجساد الأحكام و الإعراض عن روحها و باطن أمرها، و يدل على ذلك ما سيأتي من قوله تعالى: «و من يفعل ذلك فقد ظلم نفسه الآية:» البقرة - 231.

و في الآية التفات عن خطاب الجمع في قوله: و لا يحل لكم، و قوله: فإن خفتم إلى خطاب المفرد في قوله: تلك حدود الله، ثم إلى الجمع في قوله: فلا تعتدوها، ثم إلى المفرد في قوله: فأولئك هم الظالمون، فيفيد تنشيط ذهن المخاطب و تنبيهه للتيقظ و رفع الكسل في الإصغاء.

قوله تعالى: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره إلى آخر الآية، بيان لحكم التطليقة الثالثة و هو الحرمة حتى تنكح زوجا غيره، و قد نفى الحل عن نفس الزوجة مع أن المحرم إنما هو عقدها أو وطؤها ليدل به على تعلق الحرمة بهما جميعا، و ليشعر قوله تعالى: حتى تنكح زوجا غيره، على العقد و الوطء جميعا، فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليهما أي على المرأة و الزوج الأول أن يتراجعا إلى الزوجية بالعقد بالتوافق من الجانبين، و هو التراجع، و ليس بالرجوع الذي كان حقا للزوج في التطليقتين الأوليين، و ذلك إن ظنا أن يقيما حدود الله.

و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: و تلك حدود الله، لأن المراد بالحدود غير الحدود.

و في الآية من عجيب الإيجاز ما يبهت العقل، فإن الكلام على قصره مشتمل على أربعة عشر ضميرا مع اختلاف مراجعها و اختلاطها من غير أن يوجب تعقيدا في الكلام، و لا إغلاقا في الفهم.

و قد اشتملت هذه الآية و التي قبلها على عدد كثير من الأسماء المنكرة و الكنايات من غير رداءة في السياق كقوله تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أربعة أسماء منكرة، و قوله تعالى: مما آتيتموهن شيئا كنى به عن المهر، و قوله تعالى: فإن خفتم، كنى به عن وجوب كون الخوف جاريا على مجرى العادة المعروفة، و قوله تعالى: فيما افتدت به، كنى به عن مال الخلع، و قوله تعالى: فإن طلقها، أريد به التطليقة الثالثة، و قوله تعالى: فلا تحل له، أريد به تحريم العقد و الوطء، و قوله تعالى: حتى تنكح زوجا غيره، أريد به العقد و الوطء معا كناية مؤدبة، و قوله تعالى: أن يتراجعا، كنى به عن العقد.

و في الآيتين حسن المقابلة بين الإمساك و التسريح، و بين قوله إن يخافا ألا يقيما حدود الله و بين قوله: إن ظنا أن يقيما حدود الله، و التفنن في التعبير في قوله: فلا تعتدوها و قوله: و من يتعد.

قوله تعالى: و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن إلى قوله: لتعتدوا، المراد ببلوغ الأجل الإشراف على انقضاء العدة فإن البلوغ كما يستعمل في الوصول إلى الغاية كذلك يستعمل في الاقتراب منها، و الدليل على أن المراد به ذلك قوله تعالى: فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، إذ لا معنى للإمساك و لا التسريح بعد انقضاء العدة و في قوله تعالى: و لا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، نهى عن الرجوع بقصد المضارة كما نهى عن التسريح بالأخذ من المهر في غير الخلع.

قوله تعالى: و من يفعل ذلك فقد ظلم نفسه إلى آخر الآية إشارة إلى حكمة النهي عن الإمساك للمضارة فإن التزوج لتتميم سعادة الحياة، و لا يتم ذلك إلا بسكون كل من الزوجين إلى الآخر و إعانته في رفع حوائج الغرائز، و الإمساك خاصة رجوع إلى الاتصال و الاجتماع بعد الانفصال و الافتراق، و فيه جمع الشمل بعد شتاته، و أين ذلك من الرجوع بقصد المضارة.

فمن يفعل ذلك أي أمسك ضرارا فقد ظلم نفسه حيث حملها على الانحراف عن الطريقة التي تهدي إليها فطرته الإنسانية.

على أنه اتخذ آيات الله هزوا يستهزىء بها فإن الله سبحانه لم يشرع ما شرعه لهم من الأحكام تشريعا جامدا يقتصر فيه على أجرام الأفعال أخذا و إعطاء و إمساكا و تسريحا و غير ذلك، بل بناها على مصالح عامة يصلح بها فاسد الاجتماع، و يتم بها سعادة الحياة الإنسانية، و خلطها بأخلاق فاضلة تتربى بها النفوس، و تطهر بها الأرواح، و تصفو بها المعارف العالية: من التوحيد و الولاية و سائر الاعتقادات الزاكية، فمن اقتصر في دينه على ظواهر الأحكام و نبذ غيرها وراء ظهره فقد اتخذ آيات الله هزوا.

و المراد بالنعمة في قوله تعالى: و اذكروا نعمة الله عليكم، نعمة الدين أو حقيقة الدين و هي السعادة التي تنال بالعمل بشرائع الدين كسعادة الحياة المختصة بتألف الزوجين، فإن الله تعالى سمى السعادة الدينية نعمة كما في قوله تعالى: «و أتممت عليكم نعمتي:» المائدة - 3، و قوله تعالى: «و ليتم نعمته عليكم:» المائدة - 6، و قوله تعالى: «فأصبحتم بنعمته إخوانا:» آل عمران - 103.

و على هذا يكون قوله تعالى بعده: و ما أنزل عليكم من الكتاب و الحكمة يعظكم به، كالمفسر لهذه النعمة، و يكون المراد بالكتاب و الحكمة ظاهر الشريعة و باطنها أعني أحكامها و حكمها.

و يمكن أن يكون المراد بالنعمة مطلق النعم الإلهية، التكوينية و غيرها فيكون المعنى: اذكروا حقيقة معنى حياتكم و خاصة المزايا و محاسن التألف و السكونة بين الزوجين و ما بينه الله تعالى لكم بلسان الوعظ من المعارف المتعلقة بها في ظاهر الأحكام و حكمها فإنكم إن تأملتم ذلك أوشك أن تلزموا صراط السعادة، و لا تفسدوا كمال حياتكم و نعمة وجودكم، و اتقوا الله و لتتوجه نفوسكم إلى أن الله بكل شيء عليم، حتى لا يخالف ظاهركم باطنكم، و لا تجترءوا على الله بهدم باطن الدين في صورة تعمير ظاهره.

قوله تعالى: و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، العضل المنع، و الظاهر أن الخطاب في قوله: فلا تعضلوهن، لأوليائهن و من يجري مجراهم ممن لا يسعهن مخالفته، و المراد بأزواجهن، الأزواج قبل الطلاق، فالآية تدل على نهي الأولياء و من يجري مجراهم عن منع المرأة أن تنكح زوجها ثانيا بعد انقضاء العدة سخطا و لجاجا كما يتفق كثيرا، و لا دلالة في ذلك على أن العقد لا يصح إلا بولي.

أما أولا: فلأن قوله: فلا تعضلوهن، لو لم يدل على عدم تأثير الولاية في ذلك لم يدل على تأثيره.

و أما ثانيا: فلأن اختصاص الخطاب بالأولياء فقط لا دليل عليه بل الظاهر أنه أعم منهم، و أن النهي نهي إرشادي إلى ما يترتب على هذا الرجوع من المصالح و المنافع كما قال تعالى: ذلكم أزكى لكم و أطهر.

و ربما قيل: إن الخطاب للأزواج جريا على ما جرى به قوله: و إذا طلقتم النساء، و المعنى: و إذا طلقتم النساء يا أيها الأزواج فانقضت عدتهن فلا تمنعوهن أن ينكحن أزواجا يكونون أزواجهن، و ذلك بأن يخفى عنهن الطلاق لتضار بطول العدة و نحو ذلك.

يتبع...

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

و هذا الوجه لا يلائم قوله تعالى: أزواجهن، فإن التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال: أن ينكحن أو أن ينكحن أزواجا و هو ظاهر.

و المراد بقوله تعالى: فبلغن أجلهن، انقضاء العدة، فإن العدة لو لم تنقض لم يكن لأحد من الأولياء و غيرهم أن يمنع ذلك و بعولتهن أحق بردهن في ذلك.

على أن قوله تعالى: أن ينكحن، دون أن يقال: يرجعن و نحوه ينافي ذلك.

قوله تعالى: ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله و اليوم الآخر، هذا كقوله فيما مر: و لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله و اليوم الآخر الآية، و إنما خص الموردان من بين الموارد بالتقييد بالإيمان بالله و اليوم الآخر، و هو التوحيد، لأن دين التوحيد يدعو إلى الاتحاد دون الافتراق، و يقضي بالوصل دون الفصل.

و في قوله تعالى: ذلك يوعظ به من كان منكم التفات إلى خطاب المفرد عن خطاب الجمع ثم التفات عن خطاب المفرد إلى خطاب الجمع، و الأصل في هذا الكلام خطاب المجموع أعني خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمته جميعا لكن ربما التفت إلى خطاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده في غير جهات الأحكام كقوله: تلك حدود الله فلا تعتدوها، و قوله فأولئك هم الظالمون، و قوله: و بعولتهن أحق بردهن في ذلك، و قوله: ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله، حفظا لقوام الخطاب، و رعاية لحال من هو ركن في هذه المخاطبة و هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه هو المخاطب بالكلام من غير واسطة، و غيره فمخاطب بوساطته، و أما الخطابات المشتملة على الأحكام فجميعها موجهة نحو المجموع، و يرجع حقيقة هذا النوع من الالتفات الكلامي إلى توسعة الخطاب بعد تضييقه و تضييقه بعد توسعته فليتدبر فيه.

قوله تعالى: ذلكم أزكى لكم و أطهر، الزكاة هو النمو الصالح الطيب، و قد مر الكلام في معنى الطهارة، و المشار إليه بقوله: ذلكم عدم المنع عن رجوعهن إلى أزواجهن، أو نفس رجوعهن إلى أزواجهن، و المآل واحد، و ذلك أن فيه رجوعا من الانثلام و الانفصال إلى الالتيام و الاتصال، و تقوية لغريزة التوحيد في النفوس فينمو على ذلك جميع الفضائل الدينية، و فيه تربية لملكة العفة و الحياء فيهن و هو أستر لهن و أطهر لنفوسهن، و من جهة أخرى فيه حفظ قلوبهن عن الوقوع على الأجانب إذا منعن عن نكاح أزواجهن.

و الإسلام دين الزكاة و الطهارة و العلم، قال تعالى: «و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة:» آل عمران - 164، و قال تعالى: «و لكن يريد ليطهركم:» المائدة - 7.

قوله تعالى: و الله يعلم و أنتم لا تعلمون، أي إلا ما يعلمكم كما قال تعالى.

«و يعلمهم الكتاب و الحكمة»: آل عمران - 164، و قال تعالى: «و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء،: البقرة - 255، فلا تنافي بين هذه الآية و بين قوله تعالى: و تلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون الآية أي يعلمون بتعليم الله.

قوله تعالى: و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة.

الوالدات هن الأمهات، و إنما عدل عن الأمهات إلى الوالدات لأن الأم أعم من الوالدة كما أن الأب أعم من الوالد و الابن أعم من الولد، و الحكم في الآية مشروع في خصوص مورد الوالدة و الولد و المولود له، و أما تبديل الوالد بالمولود له، ففيه إشارة إلى حكمة التشريع فإن الوالد لما كان مولودا للوالد ملحقا به في معظم أحكام حياته لا في جميعها كما سيجيء بيانها في آية التحريم من سورة النساء إن شاء الله كان عليه أن يقوم بمصالح حياته و لوازم تربيته، و منها كسوة أمه التي ترضعه، و نفقتها، و كان على أمه أن لا تضار والدة لأن الولد مولود له.

و من أعجب الكلام ما ذكر بعض المفسرين: أنه إنما قيل: المولود له دون الوالد: ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهن لأن الأولاد للآباء و لذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات، و أنشد المأمون بن الرشيد: و إنما أمهات الناس أوعية.

مستودعات و للآباء أبناء.

انتهى ملخصا، و كأنه ذهل عن صدر الآية و ذيلها حيث يقول تعالى: أولادهن و يقول: بولدها، و أما ما أنشده من شعر المأمون فهو و أمثاله أنزل قدرا من أن يتأيد بكلامه كلام الله تعالى و تقدس.

و قد اختلط على كثير من علماء الأدب أمر اللغة، و أمر التشريع، حكم الاجتماع و أمر التكوين فربما استشهدوا باللغة على حكم اجتماعي، أو حقيقة تكوينية.

و جملة الأمر في الولد أن التكوين يلحقه بالوالدين معا لاستناده في وجوده إليهما معا، و الاعتبار الاجتماعي فيه مختلف بين الأمم: فبعض الأمم يلحقه بالوالدة، و بعضهم بالوالد و الآية تقرر قول هذا البعض، و تشير إليه بقوله: المولود له كما تقدم، و الإرضاع إفعال من الرضاعة و الرضع و هو مص الثدي بشرب اللبن منه، و الحول هو السنة سميت به لأنها تحول و إنما وصف بالكمال لأن الحول و السنة لكونه ذا أجزاء كثيرة ربما يسامح فيه فيطلق على الناقص كالكامل، فكثيرا ما يقال: أقمت هناك حولا أو حولين إذا أقيم مدة تنقص منه أياما.

و في قوله تعالى: لمن أراد أن يتم الرضاعة، دلالة على أن الحضانة و الإرضاع حق للوالدة المطلقة موكول إلى اختيارها و البلوغ إلى آخر المدة أيضا من حقها فإن شاءت إرضاعه حولين كاملين فلها ذلك و إن لم تشأ التكميل فلها ذلك، و أما الزوج فليس له في ذلك حق إلا إذا وافقت عليه الزوجة بتراض منهما كما يشير إليه قوله تعالى فإن أرادا فصالا «إلخ».

قوله تعالى: و على المولود له رزقهن و كسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها، المراد بالمولود له هو الوالد كما مر، و الرزق و الكسوة هما النفقة و اللباس، و قد نزلهما الله تعالى على المعروف و هو المتعارف من حالهما، و قد علل ذلك بحكم عام آخر رافع للحرج، و هو قوله تعالى: لا تكلف نفس إلا وسعها، و قد فرع عليه حكمين آخرين، أحدهما: حق الحضانة و الإرضاع الذي للزوجة و ما أشبهه فلا يحق للزوج أن يحول بين الوالدة و ولدها بمنعها عن حضانته أو رؤيته أو ما أشبه ذلك فإن ذلك مضارة و حرج عليها، و ثانيهما: نفي مضارة الزوجة للزوج بولده بأن تمنعه عن الرؤية و نحو ذلك، و ذلك قوله تعالى: لا تضار والدة بولدها و لا مولود له بولده، و النكتة في وضع الظاهر موضع الضمير أعني في قوله.

بولده دون أن يقول به رفع التناقض المتوهم، فإنه لو قيل: و لا مولود له به رجع الضمير إلى قوله ولدها و كان ظاهر المعنى: و لا مولود له بولد المرأة فأوهم التناقض لأن إسناد الولادة إلى الرجل يناقض إسنادها إلى المرأة، ففي الجملة مراعاة لحكم التشريع و التكوين معا أي أن الولد لهما معا تكوينا فهو ولده و ولدها و له فحسب تشريعا لأنه مولود له.

قوله تعالى: و على الوارث مثل ذلك، ظاهر الآية: أن الذي جعل على الوالد من الكسوة و النفقة فهو مجعول على وارثه إن مات، و قد قيل في معنى الآية أشياء أخر لا يوافق ظاهرها، و قد تركنا ذكرها لأنها بالبحث الفقهي أمس فلتطلب من هناك، و الذي ذكرناه هو الموافق لمذهب أئمة أهل البيت فيما نقل عنهم من الأخبار، و هو الموافق أيضا لظاهر الآية.

قوله تعالى: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما و تشاور إلى آخر الآية، الفصال الفطام، و التشاور: الاجتماع على المشورة، و الكلام تفريع على الحق المجعول للزوجة و نفي الحرج عن البين، فالحضانة و الرضاع ليس واجبا عليها غير قابل التغيير، بل هو حق يمكنها أن تتركه.

فمن الجائز أن يتراضيا بالتشاور على فصال الولد من غير جناح عليهما و لا بأس، و كذا من الجائز أن يسترضع الزوج لولده من غير الزوجة الوالدة إذا ردت الولد إليه بالامتناع عن إرضاعه، أو لعلة أخرى من انقطاع لبن أو مرض و نحوه إذا سلم لها ما تستحقها تسليما بالمعروف بحيث لا يزاحم في جميع ذلك حقها، و هو قوله تعالى: و إن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف.

قوله تعالى: و اتقوا الله و اعلموا أن الله بما تعملون بصير، أمر بالتقوى و أن يكون هذا التقوى بإصلاح صورة هذه الأعمال، فإنها أمور مرتبطة بالظاهر من الصورة و لذلك قال تعالى: و اعلموا أن الله بما تعملون بصير، و هذا بخلاف ما في ذيل قوله تعالى السابق: و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن الآية من قوله تعالى: و اتقوا الله و اعلموا أن الله بكل شيء عليم، فإن تلك الآية مشتملة على قوله تعالى: و لا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، و المضارة ربما عادت إلى النية من غير ظهور في صورة العمل إلا بحسب الأثر بعد.

قوله تعالى: و الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر و عشرا، التوفي هو الإماتة، يقال: توفاه الله إذا أماته فهو متوفى بصيغة اسم المفعول، و يذرون مثل يدعون بمعنى يتركون و لا ماضي لهما من مادتهما، و المراد بالعشر الأيام حذفت لدلالة الكلام عليه.

قوله تعالى: فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف المراد ببلوغ الأجل انقضاء العدة، و قوله: فلا جناح «إلخ» كناية عن إعطاء الاختيار لهن في أفعالهن فإن اخترن لأنفسهن الازدواج فلهن ذلك، و ليس لقرابة الميت منعهن عن شيء من ذلك استنادا إلى بعض العادات المبنية على الجهالة و العمى أو الشح و الحسد فإن لهن حقا في ذلك معروفا في الشرع و ليس لأحد أن ينهى عن المعروف.

و قد كانت الأمم على أهواء شتى في المتوفى عنها زوجها، بين من يحكم بإحراق الزوجة الحية مع زوجها الميت أو إلحادها و إقبارها معه، و بين من يقضي بعدم جواز ازدواجها ما بقيت بعده إلى آخر عمرها كالنصارى، و بين من يوجب اعتزالها عن الرجال إلى سنة من حين الوفاة كالعرب الجاهلي، أو ما يقرب من السنة كتسعة أشهر كما هو كذلك عند بعض الملل الراقية، و بين من يعتقد أن للزوج المتوفى حقا على الزوجة في الكف عن الازدواج حينا من غير تعيين للمدة، كل ذلك لما يجدونه من أنفسهم أن الازدواج للاشتراك في الحياة و الامتزاج فيها، و هو مبني على أساس الأنس و الألفة، و للحب حرمة يجب رعايتها، و هذا و إن كان معنى قائما بالطرفين، و مرتبطا بالزوج و الزوجة معا فكل منهما أخذته الوفاة كان على الآخر رعاية هذه الحرمة بعد صاحبه، غير أن هذه المراعاة على المرأة أوجب و ألزم، لما يجب عليها من مراعاة جانب الحياة و الاحتجاب و العفة، فلا ينبغي لها أن تبتذل فتكون كالسلعة المبتذلة الدائرة تعتورها الأيدي واحدة بعد واحدة، فهذا هو الموجب لما حكم به هذه الأقوام المختلفة في المتوفى عنها زوجها، و قد عين الإسلام هذا التربص بما يقرب من ثلث سنة، أعني أربعة أشهر و عشرا.

قوله تعالى: و الله بما تعملون خبير، لما كان الكلام مشتملا على تشريع عدة الوفاة و على تشريع حق الازدواج لهن بعدها، و كان كل ذلك تشخيصا للأعمال مستندا إلى الخبرة الإلهية كان الأنسب تعليله بأن الله خبير بالأعمال مشخص للمحظور منها عن المباح، فعليهن أن يتربصن في مورد و أن يخترن ما شئن لأنفسهن في مورد آخر، و لذا ذيل الكلام بقوله: و الله بما تعملون خبير.

قوله تعالى: لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم التعريض هو الميل بالكلام إلى جانب ليفهم المخاطب أمرا مقصودا للمتكلم لا يريد التصريح به، من العرض بمعنى الجانب فهو خلاف التصريح.

و الفرق بين التعريض و الكناية أن للكلام الذي فيه التعريض معنى مقصودا غير ما اعترض به كقول المخاطب للمرأة: إني حسن المعاشرة و أحب النساء، أي لو تزوجت بي سعدت بطيب العيش و صرت محبوبة، بخلاف الكناية إذ لا يقصد في الكناية غير المكنى عنه كقولك: فلان كثير الرماد تريد أنه سخي.

و الخطبة بكسر الخاء من الخطب بمعنى التكلم و المراجعة في الكلام، يقال: خطب المرأة خطبة بالكسر إذا كلمها في أمر التزوج بها فهو خاطب و لا يقال: خطيب و يقال خطب القوم خطبة بضم الخاء إذا كلمهم، و خاصة في الوعظ فهو خاطب من الخطاب و خطيب من الخطباء. و الإكنان من الكن بالفتح بمعنى الستر لكن يختص الإكنان بما يستر في النفس كما قال: أو أكننتم في أنفسكم، و الكن بما يستر بشيء من الأجسام كمحفظة أو ثوب أو بيت، قال تعالى: «كأنهن بيض مكنون:» الصافات - 49، و قال تعالى: «كأمثال اللؤلؤ المكنون:» الواقعة - 23، و المراد بالآية نفي البأس عن التعريض في الخطبة أو إخفاء أمور في القلب في أمرها.

قوله تعالى: علم الله أنكم ستذكرونهن، في مورد التعليل لنفي الجناح عن الخطبة و التعريض فيها، و المعنى: أن ذكركم إياهن أمر مطبوع في طباعكم و الله لا ينهى عن أمر تقضي به غريزتكم الفطرية و نوع خلقتكم، بل يجوزه، و هذا من الموارد الظاهرة في أن دين الإسلام مبني على أساس الفطرة.

قوله تعالى: و لا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، العزم عقد القلب على الفعل و تثبيت الحكم بحيث لا يبقى فيه وهن في تأثيره إلا أن يبطل من رأس، و العقدة من العقد بمعنى الشد.

و في الكلام تشبيه علقة الزوجية بالعقدة التي يعقد بها أحد الخيطين بالآخر بحيث يصيران واحدا بالاتصال، كان حبالة النكاح تصير الزوجين واحدا متصلا، ثم في تعليق عقدة النكاح بالعزم الذي هو أمر قلبي إشارة إلى أن سنخ هذه العقدة و العلقة أمر قائم بالنية و الاعتقاد فإنها من الاعتبارات العقلائية التي لا موطن لها إلا ظرف الاعتقاد و الإدراك، نظير الملك و سائر الحقوق الاجتماعية العقلائية كما مر بيانه في ذيل قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة الآية:» البقرة - 213، ففي الآية استعارة و كناية، و المراد بالكتاب هو المكتوب أي المفروض من الحكم و هو التربص الذي فرضه الله على المعتدات.

فمعنى الآية: و لا تجروا عقد النكاح حتى تنقضي عدتهن، و هذه الآية تكشف أن الكلام فيها و في الآية السابقة عليها أعني قوله تعالى: لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء الآية إنما هو في خطبة المعتدات و في عقدهن، و على هذا فاللام في قوله: النساء للعهد دون الجنس و غيره.

قوله تعالى: و اعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم «إلخ» إيراد ما ذكر من صفاته تعالى في الآية، أعني العلم و المغفرة و الحكم يدل على أن الأمور المذكورة في الآيتين و هي خطبة المعتدات و التعريض لهن و مواعدتهن سرا من موارد الهلكات لا يرتضيها الله سبحانه كل الارتضاء و إن كان قد أجاز ما أجازه منها.

قوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، المس كناية عن المواقعة، و المراد بفرض الفريضة تسمية المهر، و المعنى: أن عدم مس الزوجة لا يمنع عن صحة الطلاق و كذا عدم ذكر المهر.

قوله تعالى: و متعوهن على الموسع قدره و على المقتر قدره متاعا بالمعروف، التمتيع إعطاء ما يتمتع به، و المتاع و المتعة ما يتمتع به، و متاعا مفعول مطلق لقوله تعالى: و متعوهن، اعترض بينهما قوله تعالى: على الموسع قدره و على المقتر قدره، و الموسع اسم فاعل من أوسع إذا كان على سعة من المال و كأنه من الأفعال المتعدية التي كثر استعمالها مع حذف المفعول اختصارا حتى صار يفيد ثبوت أصل المعنى فصار لازما و المقتر اسم فاعل من أقتر إذا كان على ضيق من المعاش، و القدر بفتح الدال و سكونها بمعنى واحد.

و معنى الآية: يجب عليكم أن تمتعوا المطلقات عن غير فرض فريضة متاعا بالمعروف و إنما يجب على الموسع قدره أي ما يناسب حاله و يتقدر به وضعه من التمتيع، و على المقتر قدره من التمتيع، و هذا يختص بالمطلقة غير المفروضة لها التي لم يسم مهرها، و الدليل على أن هذا التمتيع المذكور مختص بها و لا يعم المطلقة المفروضة لها التي لم يدخل بها ما في الآية التالية من بيان حكمها.

قوله تعالى: حقا على المحسنين، أي حق الحكم حقا على المحسنين، و ظاهر الجملة و إن كان كون الوصف أعني الإحسان دخيلا في الحكم، و حيث ليس الإحسان واجبا استلزم كون الحكم استحبابيا غير وجوبي، إلا أن النصوص من طرق أهل البيت تفسر الحكم بالوجوب، و لعل الوجه فيه ما مر من قوله تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان الآية فأوجب الإحسان على المسرحين و هم المطلقون فهم - المحسنون، و قد حق الحكم في هذه الآية على المحسنين و هم المطلقون، و الله أعلم.

قوله تعالى: و إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن «إلخ»، أي و إن أوقعتم الطلاق قبل الدخول بهن و قد فرضتم لهن فريضة و سميتم المهر فيجب عليكم تأدية نصف ما فرضتم من المهر إلى أن يعفون هؤلاء المطلقات أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح من وليهن فيسقط النصف المذكور أيضا، أو الزوج فإن عقدة النكاح بيده أيضا، فلا يجب على الزوجة المطلقة رد نصف المهر الذي أخذت، و العفو على أي حال أقرب للتقوى لأن من أعرض عن حقه الثابت شرعا فهو عن الإعراض عما ليس له بحق من محارم الله سبحانه أقوى و أقدر.

قوله تعالى: و لا تنسوا الفضل بينكم «إلخ»، الفضل هو الزيادة كالفضول غير أن الفضل هو الزيادة في المكارم و المحامد و الفضول هو الزيادة غير المحمودة على ما قيل، و في الكلام ذكر الفضل الذي ينبغي أن يؤثره الإنسان في مجتمع الحياة فيتفاضل به البعض على بعض، و المراد به الترغيب في الإحسان و الفضل بالعفو عن الحقوق و التسهيل و التخفيف من الزوج للزوجة و بالعكس، و النكتة في قوله تعالى: إن الله بما تعملون بصير، كالنكتة فيما مر في ذيل قوله تعالى: و الوالدات يرضعن أولادهن الآية.

قوله تعالى: حافظوا على الصلوات إلى آخر الآية، حفظ الشيء ضبطه و هو في المعاني أعني حفظ النفس لما تستحضره أو تدركه من المعاني أغلب، و الوسطى مؤنث الأوسط، و الصلاة الوسطى هي الواقعة في وسطها، و لا يظهر من كلامه تعالى ما هو المراد من الصلاة الوسطى، و إنما تفسيره السنة، و سيجيء ما ورد من الروايات في تعيينه.

و اللام في قوله تعالى: قوموا لله، للغاية و القيام بأمر كناية عن تقلده و التلبس بفعله، و القنوت هو الخضوع بالطاعة، قال تعالى: «كل له قانتون:» البقرة - 116، و قال تعالى: «و من يقنت منكن لله و لرسوله:» الأحزاب - 31، فمحصل المعنى: تلبسوا بطاعة الله سبحانه بالخضوع مخلصين له و لأجله.

قوله تعالى: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا إلى آخر الآية، عطف الشرط على الجملة السابقة يدل على تقدير شرط محذوف أي حافظوا إن لم تخافوا، و إن خفتم فقدروا المحافظة بقدر ما يمكن من الصلاة راجلين وقوفا أو مشيا أو راكبين، و الرجال جمع راجل و الركبان جمع راكب، و هذه صلاة الخوف.

و الفاء في قوله تعالى: فإذا أمنتم، للتفريع أي إن المحافظة على الصلاة أمر غير ساقط من أصله بل إن لم تخافوا شيئا و أمكنت لكم وجبت عليكم و إن تعسر عليكم فقدروها بقدر ما يمكن لكم، و إن زال عنكم الخوف بتجدد الأمن ثانيا عاد الوجوب و وجب عليكم ذكر الله سبحانه.

و الكاف في قوله تعالى: كما علمكم، للتشبيه و قوله: ما لم تكونوا تعلمون من قبيل وضع العام موضع الخاص دلالة على الامتنان بسعة النعمة و التعليم، و المعنى على هذا: فاذكروا الله ذكرا يماثل ما علمكم من الصلاة المفروضة المكتوبة في حال الأمن في ضمن ما علمكم من شرائع الدين.

يتبع...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 1:04 pm

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

[color=darkblue]قوله تعالى: و الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجا وصية لأزواجهم.

وصية مفعول مطلق لمقدر، و التقدير ليوصوا وصية ينتفع به أزواجهم و يتمتعن متاعا إلى الحول بعد التوفي.

و تعريف الحول باللام لا يخلو عن دلالة على كون الآية نازلة قبل تشريع عدة الوفاة، أعني الأربعة أشهر و عشرة أيام فإن عرب الجاهلية كانت نساؤهم يقعدن بعد موت أزواجهن حولا كاملا، فالآية توصي بأن يوصي الأزواج لهن بمال يتمتعن به إلى تمام الحول من غير إخراجهن من بيوتهن، غير أن هذا لما كان حقا لهن و الحق يجوز تركه كان لهن أن يطالبن به، و أن يتركنه فإن خرجن فلا جناح للورثة و من يجري مجراهم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف، و هذا نظير ما أوصى الله به من حضره الموت أن يوصي للوالدين و الأقربين بالمعروف، قال تعالى: «كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين و الأقربين بالمعروف حقا على المتقين:» البقرة - 180.

و مما ذكرنا يظهر أن الآية منسوخة بآية عدة الوفاة و آية الميراث بالربع و الثمن.

قوله تعالى: و للمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين، الآية في حق مطلق المطلقات، و تعليق ثبوت الحكم بوصف التقوى مشعر بالاستحباب.

قوله تعالى: كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون، الأصل في معنى العقل العقد و الإمساك و به سمي إدراك الإنسان إدراكا يعقد عليه عقلا، و ما أدركه عقلا، و القوة التي يزعم أنها إحدى القوى التي يتصرف بها الإنسان يميز بها بين الخير و الشر و الحق و الباطل عقلا، و يقابله الجنون و السفه و الحمق و الجهل باعتبارات مختلفة.

و الألفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الإدراك كثيرة ربما بلغت العشرين، كالظن، و الحسبان، و الشعور، و الذكر، و العرفان، و الفهم، و الفقه، و الدراية، و اليقين، و الفكر، و الرأي، و الزعم، و الحفظ، و الحكمة، و الخبرة، و الشهادة، و العقل، و يلحق بها مثل القول، و الفتوى، و البصيرة و نحو ذلك.

و الظن هو التصديق الراجح و إن لم يبلغ حد الجزم و القطع، و كذا الحسبان، غير أن الحسبان كان استعماله في الإدراك الظني استعمال استعاري، كالعد بمعنى الظن و أصله من نحو قولنا: عد زيدا من الأبطال و حسبه منهم أي ألحقه بهم في العد و الحساب.

و الشعور هو الإدراك الدقيق مأخوذ من الشعر لدقته، و يغلب استعماله في المحسوس دون المعقول، و منه إطلاق المشاعر للحواس.

و الذكر هو استحضار الصورة المخزونة في الذهن بعد غيبته عن الإدراك أو حفظه من أن يغيب عن الإدراك.

و العرفان و المعرفة تطبيق الصورة الحاصلة في المدركة على ما هو مخزون في الذهن و لذا قيل: إنه إدراك بعد علم سابق.

و الفهم: نوع انفعال للذهن عن الخارج عنه بانتقاش الصورة فيه.

و الفقه: هو التثبت في هذه الصورة المنتقشة فيه و الاستقرار في التصديق.

و الدراية: هو التوغل في ذلك التثبت و الاستقرار حتى يدرك خصوصية المعلوم و خباياه و مزاياه، و لذا يستعمل في مقام تفخيم الأمر و تعظيمه، قال تعالى: «الحاقة ما الحاقة و ما أدراك ما الحاقة:» الحاقة - 2، و قال تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر، و ما أدراك ما ليلة القدر:» القدر - 2.

و اليقين: هو اشتداد الإدراك الذهني بحيث لا يقبل الزوال و الوهن.

و الفكر نحو سير و مرور على المعلومات الموجودة الحاضرة لتحصيل ما يلازمها من المجهولات.

و الرأي: هو التصديق الحاصل من الفكر و التروي، غير أنه يغلب استعماله في العلوم العملية مما ينبغي فعله و ما لا ينبغي دون العلوم النظرية الراجعة إلى الأمور التكوينية، و يقرب منه البصيرة، و الإفتاء، و القول، غير أن استعمال القول كأنه استعمال استعاري من قبيل وضع اللازم موضع الملزوم لأن القول في شيء يستلزم الاعتقاد بما يدل عليه.

و الزعم: هو التصديق من حيث إنه صورة في الذهن سواء كان تصديقا راجحا أو جازما قاطعا.

و العلم كما مر: هو الإدراك المانع من النقيض.

و - الحفظ -: ضبط الصورة المعلومة بحيث لا يتطرق إليه التغيير و الزوال.

و الحكمة: هي الصورة العلمية من حيث إحكامها و إتقانها.

و - الخبرة -: هو ظهور الصورة العلمية بحيث لا يخفى على العالم ترتب أي نتيجة على مقدماتها.

و الشهادة: هو نيل نفس الشيء و عينه إما بحس ظاهر كما في المحسوسات أو باطن كما في الوجدانيات نحو العلم و الإرادة و الحب و البغض و ما يضاهي ذلك.

و الألفاظ السابقة على ما عرفت من معانيها لا تخلو عن ملابسة المادة و الحركة و التغير، و لذلك لا تستعمل في مورده تعالى غير الخمسة الأخيرة منها أعني العلم و الحفظ و الحكمة و الخبرة و الشهادة، فلا يقال فيه تعالى: إنه يظن أو يحسب أو يزعم أو يفهم أو يفقه أو غير ذلك.

و أما الألفاظ الخمسة الأخيرة فلعدم استلزامها للنقص و الفقدان تستعمل في مورده تعالى، قال سبحانه: «و الله بكل شيء عليم:» النساء - 15، و قال تعالى: «و ربك على كل شيء حفيظ:» سبأ - 21، و قال تعالى: «و الله بما تعملون خبير»: البقرة - 234، و قال تعالى: «هو العليم الحكيم:» يوسف - 83، و قال تعالى: «إنه على كل شيء شهيد:» فصلت - 53.

و لنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: لفظ العقل على ما عرفت يطلق على الإدراك من حيث إن فيه عقد القلب بالتصديق، على ما جبل الله سبحانه الإنسان عليه من إدراك الحق و الباطل في النظريات، و الخير و الشر و المنافع و المضار في العمليات حيث خلقه الله سبحانه خلقة يدرك نفسه في أول وجوده، ثم جهزه بحواس ظاهرة يدرك بها ظواهر الأشياء، و بأخرى باطنه يدرك معاني روحية بها ترتبط نفسه مع الأشياء الخارجة عنها كالإرادة، و الحب و البغض، و الرجاء، و الخوف، و نحو ذلك، ثم يتصرف فيها بالترتيب و التفصيل و التخصيص و التعميم، فيقضي فيها في النظريات و الأمور الخارجة عن مرحلة العمل قضاء نظريا، و في العمليات و الأمور المربوطة بالعمل قضاء عمليا، كل ذلك جريا على المجرى الذي تشخصه له فطرته الأصلية، و هذا هو العقل.

لكن ربما تسلط بعض القوى على الإنسان بغلبته على سائر القوى كالشهوة و الغضب فأبطل حكم الباقي أو ضعفه، فخرج الإنسان بها عن صراط الاعتدال إلى أودية الإفراط و التفريط، فلم يعمل هذا العامل العقلي فيه على سلامته، كالقاضي الذي يقضي بمدارك أو شهادات كاذبة منحرفة محرفة، فإنه يحيد في قضائه عن الحق و إن قضى غير قاصد للباطل، فهو قاض و ليس بقاض، كذلك الإنسان يقضي في مواطن المعلومات الباطلة بما يقضي، و أنه و إن سمى عمله ذلك عقلا بنحو من المسامحة، لكنه ليس بعقل حقيقة لخروج الإنسان عند ذلك عن سلامة الفطرة و سنن الصواب.

و على هذا جرى كلامه تعالى، فإنه يعرف العقل بما ينتفع به الإنسان في دينه و يركب به هداه إلى حقائق المعارف و صالح العمل، و إذا لم يجر على هذا المجرى فلا يسمى عقلا، و إن عمل في الخير و الشر الدنيوي فقط، قال تعالى «و قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير:» الملك - 10.

و قال تعالى: «أ فلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور:» الحج - 46.

فالآيات كما ترى تستعمل العقل في العلم الذي يستقل الإنسان بالقيام عليه بنفسه، و السمع في الإدراك الذي يستعين فيه بغيره مع سلامة الفطرة في جميع ذلك، و قال تعالى: «و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه:» البقرة - 130، و قد مر أن الآية بمنزلة عكس النقيض لقوله (عليه السلام): العقل ما عبد به الرحمن الحديث.

فقد تبين من جميع ما ذكرنا: أن المراد بالعقل في كلامه تعالى هو الإدراك الذي يتم للإنسان مع سلامة فطرته، و به يظهر معنى قوله سبحانه: كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون، فبالبيان يتم العلم، و العلم مقدمة للعقل و وسيلة إليه كما قال تعالى: «و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون:» العنكبوت - 43.

بحث روائي

في سنن أبي داود، عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، قالت: طلقت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يكن للمطلقة عدة فأنزل حين طلقت العدة للطلاق: «و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» فكانت أول من أنزلت فيها العدة للطلاق.

و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء،: عن زرارة، قال: سمعت ربيعة الرأي و هو يقول: إن من رأيي أن الأقراء التي سمى الله في القرآن إنما هي الطهر فيما بين الحيضتين و ليس بالحيض، قال فدخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فحدثته بما قال ربيعة فقال: و لم يقل برأيه إنما بلغه عن علي (عليه السلام) فقلت: أصلحك الله أ كان علي (عليه السلام) يقول ذلك؟ قال: نعم، كان يقول: إنما القرء الطهر، تقرأ فيه الدم فتجمعه فإذا جاءت دفعته، قلت: أصلحك الله رجل طلق امرأته طاهرا من غير جماع بشهادة عدلين؟ قال: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها و حلت للأزواج، الحديث.

أقول: هذا المعنى مروي بعدة طرق عنه (عليه السلام)، و قوله: قلت: أصلحك الله أ كان علي (عليه السلام) يقول ذلك إنما استفهم ذلك بعد قوله (عليه السلام): إنما بلغه عن علي، لما اشتهر بين العامة عن علي أنه كان يقول إن القروء في الآية هي الحيض دون الأطهار كما في الدر المنثور، عن الشافعي و عبد الرزاق و عبد بن حميد و البيهقي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: تحل لزوجها الرجعة عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة و تحل للأزواج، لكن أئمة أهل البيت ينكرون ذلك و ينسبون إليه (عليه السلام): أن الأقراء الأطهار دون الحيض كما مرت في الرواية، و قد نسبوا هذا القول إلى عدة أخرى من الصحابة غيره (عليه السلام) كزيد بن ثابت و عبد الله بن عمر و عائشة و رووه عنهم.

و في المجمع، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى و لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن الآية: الحبل و الحيض.

و في تفسير القمي،: و قد فوض الله إلى النساء ثلاثة أشياء: الطهر و الحيض و الحبل.

و في تفسير القمي، أيضا: في قوله تعالى: و للرجال عليهن درجة، قال: قال (عليه السلام) حق الرجال على النساء أفضل من حق النساء على الرجال.

أقول: و هذا لا ينافي التساوي من حيث وضع الحقوق كما مر و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: الطلاق مرتان - فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: إن الله يقول الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان و التسريح بالإحسان هو التطليقة الثالثة.

و في التهذيب، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: طلاق السنة يطلقها تطليقة يعني على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين ثم يدعها حتى تمضي أقراؤها فإذا مضت أقراؤها فقد بانت منه و هو خاطب من الخطاب: إن شاءت نكحته، و إن شاءت فلا، و إن أراد أن يراجعها أشهد على رجعتها قبل أن تمضي أقراؤها، فتكون عنده على التطليقة الماضية، الحديث.

و في الفقيه، عن الحسن بن فضال، قال: سألت الرضا عن العلة التي من أجلها لا تحل المطلقة لعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره فقال (عليه السلام): إن الله عز و جل إنما أذن في الطلاق مرتين فقال عز و جل: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، يعني في التطليقة الثالثة، و لدخوله فيما كره الله عز و جل من الطلاق الذي حرمها عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره لئلا يوقع الناس في الاستخفاف بالطلاق و لا تضار النساء، الحديث.

أقول: مذهب أئمة أهل البيت: أن الطلاق بلفظ واحد أو في مجلس واحد لا يقع إلا تطليقة واحدة، و إن قال طلقتك ثلاثا على ما روته الشيعة، و أما أهل السنة و الجماعة فرواياتهم فيه مختلفة: بعضها يدل على وقوعه طلاقا واحدا، و بعضها يدل على وقوع الثلاثة، و ربما رووا ذلك عن علي و جعفر بن محمد (عليهما السلام)، لكن يظهر من بعض رواياتهم التي رواها أرباب الصحاح كمسلم و النسائي و أبي داود و غيرهم: أن وقوع الثلاث بلفظ واحد مما أجازه عمر بعد مضي سنتين أو ثلاثة من خلافته، ففي الدر المنثور:، أخرج عبد الرزاق و مسلم و أبو داود و النسائي و الحاكم و البيهقي عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبي بكر و سنتين من خلافة عمر. طلاق الثلاث واحدا فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضينا عليهم فأمضاه عليهم.

و في سنن أبي داود، عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة و نكح امرأة من مزينة فجاءت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، ففرق بيني و بينه فأخذت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حمية فدعا بركانه و إخوته ثم قال لجلسائه: أ ترون فلانا يشبه منه كذا و كذا و فلان منه كذا و كذا قالوا نعم، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعبد يزيد: طلقها ففعل، قال: راجع امرأتك أم ركانة فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: قد علمت أرجعها و تلا: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن.

و في الدر المنثور، عن البيهقي عن ابن عباس، قال: طلق ركانة امرأة ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف طلقتها؟ قال طلقتها ثلاثا في مجلس واحد، قال: نعم فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت فراجعها فكان ابن عباس يرى إنما الطلاق عند كل طهر فتلك السنة التي أمر الله بها: فطلقوهن لعدتهن.

أقول: و هذا المعنى مروي في روايات أخرى أيضا و الكلام على هذه الإجازة نظير الكلام المتقدم في متعة الحج.

و قد استدل على عدم وقوع الثلاث بلفظ واحد بقوله تعالى: الطلاق مرتان فإن المرتين و الثلاث لا يصدق على ما أنشىء بلفظ واحد كما في مورد اللعان بإجماع الكل، و في المجمع،: في قوله تعالى: أو تسريح بإحسان، قال: فيه قولان، أحدهما: أنه الطلقة الثالثة، و الثاني أنه يترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة،: عن السدي و الضحاك، و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: و الأخبار كما ترى تختلف في معنى قوله: أو تسريح بإحسان.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا - إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله الآية،: عن الصادق (عليه السلام) قال: الخلع لا يكون إلا أن تقول المرأة لزوجها: لا أبر لك قسما، و لأخرجن بغير إذنك، و لأوطئن فراشك غيرك و لا أغتسل لك من جنابة، أو تقول: لا أطيع لك أمرا أو تطلقني، فإذا قالت ذلك فقد حل له أن يأخذ منها جميع ما أعطاها و كل ما قدر عليه مما تعطيه من مالها، فإذا تراضيا على ذلك طلقها على طهر بشهود فقد بانت منه بواحدة، و هو خاطب من الخطاب، فإن شاءت زوجته نفسها، و إن شاءت لم تفعل، فإن زوجها فهي عنده على اثنتين باقيتين و ينبغي له أن يشترط عليها كما اشترط صاحب المباراة فإذا ارتجعت في شيء مما أعطيتني فأنا أملك ببضعك، و قال (عليه السلام): لا خلع و لا مباراة و لا تخيير إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين عدلين، و المختلعة إذا تزوجت زوجا آخر ثم طلقها يحل للأول أن يتزوج بها، و قال: لا رجعة للزوج على المختلعة و لا على المباراة إلا أن يبدو للمرأة فيرد عليها ما أخذ منها.

و في الفقيه، عن الباقر (عليه السلام) قال: إذا قالت المرأة لزوجها جملة: لا أطيع لك أمرا مفسرة أو غير مفسرة حل له أن يأخذ منها، و ليس له عليها رجعة. و في الدر المنثور،: أخرج أحمد عن سهل بن أبي حثمة، قال: كانت حبيبة ابنة سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس فكرهته، و كان رجلا دميما فجاءت و قالت: يا رسول الله إني لا أراه، فلو لا مخافة الله لبزقت في وجهه فقال لها: أ تردين عليه حديقته التي أصدقك؟ قالت: نعم فردت عليه حديقته و فرق بينهما، فكان ذلك أول خلع كان في الإسلام.

و في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام): في قول الله تبارك و تعالى: و تلك حدود الله فلا تعتدوها الآية فقال إن الله غضب على الزاني فجعل له مائة جلدة فمن غضب عليه فزاد فأنا إلى الله منه بريء فذلك قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها و في الكافي، عن أبي بصير قال: المرأة التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره، قال: هي التي تطلق ثم تراجع ثم تطلق الثالثة، و هي التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره و يذوق عسيلتها.

أقول: العسيلة الجماع، قال في الصحاح،: و في الجماع العسيلة شبهت تلك اللذة بالعسل، و صغرت بالهاء لأن الغالب في العسل التأنيث و يقال: إنما أنث لأنه أريد به العسلة و هي القطعة منه كما يقال للقطعة من الذهب: ذهبة، انتهى.

و قوله (عليه السلام): و يذوق عسيلتها، كالاقتباس من كلمة رسول الله لا حتى تذوقي عسيلته و يذوق عسيلتك، في قصة رفاعة.

ففي الدر المنثور،: عن البزاز و الطبراني و البيهقي: أن رفاعة بن سموال طلق امرأته فأتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله قد تزوجني عبد الرحمن و ما معه إلا مثل هذه، و أومأت إلى هدبة من ثوبها، فجعل رسول الله يعرض عن كلامها ثم قال لها: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة: لا حتى تذوقي عسيلته و يذوق عسيلتك.

أقول: و الرواية من المشهورات، رواها جمع كثير من الرواة من أرباب الصحاح و غيرهم من طرق أهل السنة، و الجماعة و بعض الخاصة، و ألفاظ الروايات و إن كانت مختلفة لكن أكثرها تشتمل على هذه اللفظة.

و في التهذيب، عن الصادق (عليه السلام): عن تزويج المتعة أ يحلل؟ قال: لا لأن الله يقول فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره - فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا، و المتعة ليس فيه طلاق.

يتبع...]
/color]
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 1:10 pm

و فيه، أيضا عن محمد بن مضارب قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن الخصي يحلل؟ قال: لا يحلل.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن إلى قوله و لا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا الآية، قال: قال (عليه السلام): إذا طلقها لم يجز له أن يراجعها إن لم يردها.

و في الفقيه، عن الصادق (عليه السلام) قال: لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأته ثم يراجعها، و ليس له فيها حاجة ثم يطلقها، فهذا الضرار الذي نهى الله عنه، إلا أن يطلق ثم يراجع و هو ينوي الإمساك.

و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: و لا تتخذوا آيات الله هزوا الآية،: عن عمر بن الجميع رفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث، قال: و من قرأ القرآن من هذه الأمة ثم دخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا، الحديث.

في صحيح البخاري،: في قوله تعالى: و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن، الآية أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها فتركها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت: فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن.

أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عنه و عن عدة من أرباب الصحاح كالنسائي و ابن ماجة و الترمذي و ابن داود و غيرهم.

و في الدر المنثور، أيضا عن السدي، قال: نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله الأنصاري كانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة و انقضت عدتها فأراد مراجعتها فأبى جابر فقال: طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها الثانية و كانت المرأة تريد زوجها فأنزل الله و إذا طلقتم النساء، الآية.

أقول: لا ولاية للأخ و لا لابن العم على مذهب أئمة أهل البيت فلو سلمت إحدى الروايتين كان النهي في الآية غير مسوق لتحديد ولاية، و لا لجعل حكم وضعي بل للإرشاد إلى قبح الحيلولة بين الزوجين أو لكراهة أو حرمة تكليفية متعلقة بكل من يعضلهن عن النكاح لا غير.

و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: و الوالدات يرضعن أولادهن، الآية: عن الصادق (عليه السلام)، قال: و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، قال: ما دام الولد في الرضاع فهو بين الأبوين بالسوية فإذا فطم فالوالد أحق به من العصبة و إن وجد الأب من يرضعه بأربعة دراهم، و قالت الأم: لا أرضعه إلا بخمسة دراهم فإن له أن ينزعه منها، إلا أن ذلك أجبر له و أقدم و أرفق به أن يترك مع أمه.

و فيه، أيضا عنه: في قوله تعالى: لا تضار والدة الآية، قال (عليه السلام): كانت المرأة ممن ترفع يدها إلى الرجل إذا أراد مجامعتها فتقول: لا أدعك، إني أخاف أن أحمل على ولدي، و يقول الرجل للمرأة: لا أجامعك إني أخاف أن تعلقي فأقتل ولدي، فنهى الله أن يضار الرجل المرأة و المرأة الرجل.

و فيه، أيضا عن أحدهما (عليهما السلام): في قوله تعالى: و على الوارث مثل ذلك قال: هو في النفقة: على الوارث مثل ما على الوالد.

و فيه، أيضا عن الصادق (عليه السلام): في الآية، قال لا ينبغي للوارث أيضا أن يضار المرأة فيقول: لا أدع ولدها يأتيها، و يضار ولدها إن كان لهم عنده شيء، و لا ينبغي له أن يقتر عليه.

و فيه، أيضا عن حماد عن الصادق (عليه السلام) قال: لا رضاع بعد فطام، قال: قلت له: جعلت فداك و ما الفطام؟ قال: الحولين الذي قال الله عز و جل.

أقول: قوله: الحولين، حكاية لما في لفظ الآية و لذا وصفه (عليه السلام) بقوله: الذي قال الله.

و في الدر المنثور،: أخرج عبد الرزاق في المصنف و ابن عدي عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يتم بعد حلم، و لا رضاع بعد فصال، و لا صمت يوم إلى الليل، و لا وصال في الصيام، و لا نذر في معصية، و لا نفقة في المعصية، و لا يمين في قطيعة رحم، و لا تعرب بعد الهجرة، و لا هجرة بعد الفتح، و لا يمين لزوجة مع زوج، و لا يمين لولد مع والد، و لا يمين لمملوك مع سيده، و لا طلاق قبل نكاح، و لا عتق قبل ملك.

و في تفسير العياشي، عن أبي بكر الحضرمي عن الصادق (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية: و الذين يتوفون منكم - و يذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر و عشرا جئن النساء يخاصمن رسول الله و قلن: لا نصبر، فقال لهن رسول الله: كانت إحداكن إذا مات زوجها أخذت بعرة فألقتها خلفها في دبرها في خدرها ثم قعدت فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول أخذتها ففتقتها، ثم اكتحلت بها، ثم تزوجت فوضع الله عنكن ثمانية أشهر.

و في التهذيب، عن الباقر (عليه السلام): كل النكاح إذا مات الزوج فعلى المرأة حرة كانت أو أمة، و على أي وجه كان النكاح منه متعة أو تزويجا أو ملك يمين فالعدة أربعة أشهر و عشرا.

و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك كيف صارت عدة المطلقة ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر و صارت عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر و عشرا؟ فقال: أما عدة المطلقة ثلاث قروء فلأجل استبراء الرحم من الولد، و أما عدة المتوفى عنها زوجها فإن الله شرط للنساء شرطا و شرط عليهن: و أما ما شرط لهن ففي الإيلاء أربعة أشهر إذ يقول: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فلن يجوز لأحد أكثر من أربعة أشهر لعلمه تبارك و تعالى أنها غاية صبر المرأة من الرجل، و أما ما شرط عليهن فإنه أمرها أن تعتد إذا مات زوجها أربعة أشهر و عشرا فأخذ له منها عند موته ما أخذ لها منه في حياته.

أقول: و هذا المعنى مروي أيضا عن الرضا و الهادي (عليهما السلام) بطرق أخرى و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و لا جناح عليكم - فيما عرضتم به من خطبة النساء، الآية: المرأة في عدتها تقول لها قولا جميلا ترغبها في نفسك، و لا تقول: إني أصنع كذا أو كذا أو أصنع كذا القبيح من الأمر في البضع و كل أمر قبيح، و في رواية أخرى تقول لها و هي في عدتها: يا هذه لا أحب إلا ما أسرك و لو قد مضى عدتك لا تفوتيني إن شاء الله، و لا تستبقي بنفسك، و هذا كله من غير أن يعزموا عقدة النكاح.

أقول: و في هذا المعنى روايات أخر عنهم (عليهم السلام).

و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء، الآية،: عن الصادق (عليه السلام)، قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلها نصف مهرها و إن لم يكن سمى لها مهرا فمتاع بالمعروف على الموسع قدره و على المقتر قدره و ليس لها عدة و تزوج من شاءت من ساعتها.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها قال: عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا و إن لم يكن فرض لها فليمتعها على نحو ما يمتع مثلها من النساء.

أقول: و فيه تفسير المتاع بالمعروف.

و في الكافي، و التهذيب، و تفسير العياشي، و غيرها عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): في قوله تعالى: الذي بيده عقدة النكاح، قالا: هو الولي.

أقول: و الروايات فيه كثيرة، و قد ورد في بعض الروايات من طرق أهل السنة و الجماعة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و علي (عليه السلام): أن الذي بيده عقدة النكاح الزوج.

في الكافي، و الفقيه، و تفسير العياشي، و القمي،: في قوله تعالى: حافظوا على الصلوات و الصلوة الوسطى الآية بطرق كثيرة عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): أن الصلاة الوسطى هي الظهر.

أقول: هذا هو المأثور عن أئمة أهل البيت في الروايات المروية عنهم لسانا واحدا.

نعم في بعضها أنها الجمعة إلا أن المستفاد منها أنهم أخذوا الظهر و الجمعة نوعا واحدا لا نوعين اثنين كما رواه في الكافي، و تفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) و اللفظ لما في الكافي: قال الله تعالى: حافظوا على الصلوات و الصلوة الوسطى، و هي صلاة الظهر أول صلاة صلاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هي وسط النهار، و وسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة و صلاة العصر، قال: و نزلت هذه الآية و رسول الله في سفره فقنت فيها رسول الله و تركها على حالها في السفر و الحضر و أضاف للمقيم ركعتين، و إنما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام فمن صلى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيام، الحديث، و الرواية كما ترى تعد الظهر و الجمعة صلاة واحدة و تحكم بأنها هي الصلاة الوسطى و لكن معظم الروايات مقطوعة، و ما كان منها مسندا فمتنه لا يخلو عن تشويش كرواية الكافي، و هي مع ذلك غير واضحة الانطباق على الآية، و الله العالم.

و في الدر المنثور،: أخرج أحمد و ابن المنيع و النسائي و ابن جرير و الشاشي و الضياء من طريق الزبرقان: أن رهطا من قريش مر بهم زيد بن ثابت و هم مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر، ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه فقال: هي الظهر، إن رسول الله كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف و الصفان، و الناس في قائلتهم و تجارتهم فأنزل الله: حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى و قوموا لله قانتين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهن.

أقول: و روي هذا السبب عن زيد بن ثابت و غيره بطرق أخرى.

و اعلم: أن الأقوال في تفسير الصلاة الوسطى مختلفة معظمها ناش من اختلاف روايات القوم: فقيل إنها صلاة الصبح و رووه عن علي (عليه السلام) و بعض الصحابة، و قيل: إنها صلاة الظهر و رووه عن النبي و عدة من الصحابة، و قيل: إنها صلاة العصر و رووه عن النبي و عدة من الصحابة، و قد روى السيوطي في الدر المنثور، فيه بضعا و خمسين رواية، و قيل: إنها صلاة المغرب، و قيل إنها مخفية بين الصلوات كليلة القدر بين الليالي، و روي فيهما روايات عن الصحابة، و قيل: إنها صلاة العشاء و قيل: إنها الجمعة.

و في المجمع،: في قوله تعالى: و قوموا لله قانتين، قال: هو الدعاء في الصلاة حال القيام،: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: و روي ذلك عن بعض الصحابة.

و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في الآية: إقبال الرجل على صلاته و محافظته على وقتها حتى لا يلهيه عنها و لا يشغله شيء.

أقول: و لا منافاة بين الروايتين و هو ظاهر.

في الكافي، عن الصادق: في قوله تعالى: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا الآية، إذا خاف من سبع أو لص يكبر و يومىء إيماء.

و في الفقيه، عنه (عليه السلام): في صلاة الزحف، قال: تكبير و تهليل ثم تلا الآية.

و فيه، عنه (عليه السلام): إن كنت في أرض مخوفة فخشيت لصا أو سبعا فصل الفريضة و أنت على دابتك.

و فيه، عن الباقر (عليه السلام): الذي يخاف اللصوص يصلي إيماء على دابته.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة.

و في تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله: و الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجا - وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج، قال (عليه السلام): هي منسوخة، قلت: و كيف كانت؟ قال: كان الرجل إذا مات أنفق على امرأته من صلب المال حولا ثم أخرجت بلا ميراث ثم نسختها آية الربع و الثمن، فالمرأة ينفق عليها من نصيبها.

و فيه، عن معاوية بن عمار قال: سألته عن قول الله: و الذين يتوفون «إلخ»، قال: منسوخة نسختها آية يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر و عشرا، و نسختها آية الميراث.

و في الكافي، و تفسير العياشي،: سئل الصادق (عليه السلام) عن الرجل يطلق امرأته يمتعها؟ قال: نعم، أ ما يحب أن يكون من المحسنين أ ما يحب أن يكون من المتقين؟

بحث علمي

من المعلوم أن الإسلام - و الذي شرعه هو الله عز اسمه - لم يبن شرائعه على أصل التجارب كما بنيت عليه سائر القوانين لكنا في قضاء العقل في شرائعه ربما احتجنا إلى التأمل في الأحكام و القوانين و الرسوم الدائرة بين الأمم الحاضرة و القرون الخالية، ثم البحث عن السعادة الإنسانية و تطبيق النتيجة على المحصل من مذاهبهم و مسالكهم حتى نزن به مكانته و مكانتها، و نميز به روحه الحية الشاعرة من أرواحها، و هذا هو الموجب للرجوع إلى تواريخ الملل و سيرها، و استحضار ما عند الموجودين منهم من الخصائل و المذاهب في الحياة.

و لذلك فإنا نحتاج في البحث عما يراه الإسلام و يعتقده في.

1 - هوية المرأة و المقايسة بينها و بين هوية الرجل.

2 - وزنها في الاجتماع حتى يعلم مقدار تأثيرها في حياة العالم الإنساني.

3 - حقوقها و الأحكام التي شرعت لأجلها.

4 - الأساس الذي بنيت عليه الأحكام المربوطة بها.

إلى استحضار ما جرى عليه التاريخ في حياتها قبل طلوع الإسلام و ما كانت الأمم غير المسلمة يعاملها عليه حتى اليوم من المتمدنة و غيرها، و الاستقصاء في ذلك و إن كان خارجا عن طوق الكتاب، لكنا نذكر طرفا منه:

حياة المرأة في الأمم غير المتمدنة

كانت حياة النساء في الأمم و القبائل الوحشية كالأمم القاطنين بإفريقيا و أستراليا و الجزائر المسكونة بالأوقيانوسية و أمريكا القديمة و غيرها بالنسبة إلى حياة الرجال كحياة الحيوانات الأهلية من الأنعام و غيرها بالنسبة إلى حياة الإنسان.

فكما أن الإنسان لوجود قريحة الاستخدام فيه يرى لنفسه حقا أن يمتلك الأنعام و سائر الحيوانات الأهلية و يتصرف فيها كيفما شاء و في أي حاجة من حوائجه شاء، يستفيد من شعرها و وبرها و لحمها و عظمها و دمها و جلدها و حليبها و حفظها و حراستها و سفادها و نتاجها و نمائها، و في حمل الأثقال، و في الحرث، و في الصيد، إلى غير ذلك من الأغراض التي لا تحصى كثرة.

و ليس لهؤلاء العجم من الحيوانات من مبتغيات الحياة و آمال القلوب في المأكل و المشرب و المسكن و السفاد و الراحة إلا ما رضي به الإنسان الذي امتلكها و لن يرض إلا بما لا ينافي أغراضه في تسخيرها و له فيه نفع في الحياة، و ربما أدى ذلك إلى تهكمات عجيبة و مجازفات غريبة في نظر الحيوان المستخدم لو كان هو الناظر في أمر نفسه: فمن مظلوم من غير أي جرم كان أجرمه، و مستغيث و ليس له أي مغيث يغيثه، و من ظالم من غير مانع يمنعه، و من سعيد من غير استحقاق كفحل الضراب يعيش في أنعم عيش و ألذه عنده، و من شقي من غير استحقاق كحمار الحمل و فرس الطاحونة.

و ليس لها من حقوق الحياة إلا ما رآه الإنسان المالك لها حقا لنفسه فمن تعدى إليها لا يؤاخذ إلا لأنه تعدى إلى مالكها في ملكه، لا إلى الحيوان في نفسه، كل ذلك لأن الإنسان يرى وجودها تبعا لوجود نفسه و حياتها فرعا لحياته و مكانتها مكانة الطفيلي.

كذلك كانت حياة النساء عند الرجال في هذه الأمم و القبائل حياة تبعية، و كانت النساء مخلوقة عندهم «لأجل الرجال» بقول مطلق: كانت النساء تابعة الوجود و الحياة لهم من غير استقلال في حياة، و لا في حق فكان آباؤهن ما لم ينكحن، و بعولتهن بعد النكاح أولياء لهن على الإطلاق.

كان للرجل أن يبيع المرأة ممن شاء و كان له أن يهبها لغيره، و كان له أن يقرضها لمن استقرضها للفراش أو الاستيلاد أو الخدمة أو غير ذلك، و كان له أن يسوسها حتى بالقتل، و كان له أن يخلي عنها، ماتت أو عاشت، و كان له أن يقتلها و يرتزق بلحمها كالبهيمة و خاصة في المجاعة و في المآدب، و كان له ما للمرأة من المال و الحق و خاصة من حيث إيقاع المعاملات من بيع و شرى و أخذ و رد.

و كان على المرأة أن تطيع الرجل، أباها أو زوجها، في ما يأمر به طوعا أو كرها، و كان عليها أن لا تستقل عنه في أمر يرجع إليه أو إليها، و كان عليها أن تلي أمور البيت و الأولاد و جميع ما يحتاج إليه حياة الرجل فيه، و كان عليها أن تتحمل من الأشغال أشقها كحمل الأثقال و عمل الطين و ما يجري مجراهما و من الحرف و الصناعات أرداها و سفسافها، و قد بلغ عجيب الأمر إلى حيث إن المرأة الحامل في بعض القبائل إذا وضعت حملها قامت من فورها إلى حوائج البيت، و نام الرجل على فراشها أياما يتمرض و يداوي نفسه، هذه كليات ما له و عليها، و لكل جيل من هذه الأجيال الوحشية خصائل و خصائص من السنن و الآداب القومية باختلاف عاداتها الموروثة مناطق حياتها و الأجواء المحيطة بها يطلع عليه من راجع الكتب المؤلفة في هذه الشئون.

حياة المرأة في الأمم المتمدنة قبل الإسلام

نعني بهم الأمم التي كانت تعيش تحت الرسوم الملية المحفوظة بالعادات الموروثة من غير استناد إلى كتاب أو قانون كالصين و الهند و مصر القديم و إيران و نحوها.

تشترك جميع هؤلاء الأمم: في أن المرأة عندهم ما كانت ذات استقلال و حرية، لا في إرادتها و لا في أعمالها، بل كانت تحت الولاية و القيمومة، لا تنجز شيئا من قبل نفسها و لا كان لها حق المداخلة في الشئون الاجتماعية من حكومة أو قضاء أو غيرهما.

و كان عليها: أن تشارك الرجل في جميع أعمال الحياة من كسب و غير ذلك.

و كان عليها: أن تختص بأمور البيت و الأولاد، و كان عليها أن تطيع الرجل في جميع ما يأمرها و يريد منها.

و كانت المرأة عند هؤلاء أرفه حالا بالنسبة إليها في الأمم غير المتمدنة، فلم تكن تقتل و تؤكل لحمها، و لم تحرم من تملك المال بالكلية بل كانت تتملك في الجملة من إرث أو ازدواج أو غير ذلك و إن لم تكن لها أن تتصرف فيها بالاستقلال، و كان للرجل أن يتخذ زوجات متعددة من غير تحديد و كان لها تطليق من شاء منهن، و كان للزوج أن يتزوج بعد موت الزوجة و لا عكس غالبا و كانت ممنوعة عن معاشرة خارج البيت غالبا.

و لكل أمة من هذه الأمم مختصات بحسب اقتضاء المناطق و الأوضاع: كما أن تمايز الطبقات في إيران ربما أوجب تميزا لنساء الطبقات العالية من المداخلة في الملك و الحكومة أو نيل السلطنة و نحو ذلك أو الازدواج بالمحارم من أم أو بنت أو أخت أو غيرها.

و كما أنه كان بالصين الازدواج بالمرأة نوعا من اشتراء نفسها و مملوكيتها، و كانت هي ممنوعة من الإرث و من أن تشارك الرجال حتى أبنائها في التغذي، و كان للرجال أن يتشارك أكثر من واحد منهم في الازدواج بمرأة واحدة يشتركون في التمتع بها، و الانتفاع من أعمالها، و يلحق الأولاد بأقوى الأزواج غالبا.

و كما أن النساء كانت بالهند من تبعات أزواجهن لا يحل لهن الازدواج بعد توفي أزواجهن أبدا، بل إما أن يحرقن بالنار مع جسد أزواجهن أو يعشن مذللات، و هن في أيام الحيض أنجاس خبيثات لازمة الاجتناب و كذا ثيابها و كل ما لامستها بالبشرة.

و يمكن أن يلخص شأنها في هذه الأمم: أنها كالبرزخ بين الحيوان و الإنسان يستفاد منها استفادة الإنسان المتوسط الضعيف الذي لا يحق له إلا أن يمد الإنسان المتوسط في أمور حياته كالولد الصغير بالنسبة إلى وليه غير أنها تحت الولاية و القيمومة دائما.

و هاهنا أمم أخرى

كانت الأمم المذكورة آنفا أمما تجري معظم آدابهم و رسومهم الخاصة على أساس اقتضاء المناطق و العادات الموروثة و نحوها من غير أن تعتمد على كتاب أو قانون ظاهرا لكن هناك أمم أخرى كانت تعيش تحت سيطرة القانون أو الكتاب، مثل الكلدة و الروم و اليونان.

أما الكلدة و الآشور فقد حكم فيهم شرع «حامورابي» بتبعية المرأة لزوجها و سقوط استقلالها في الإرادة و العمل، حتى أن الزوجة لو لم تطع زوجها في شيء من أمور المعاشرة أو استقل بشيء فيها كان له أن يخرجها من بيته، أو يتزوج عليها و يعامل معها بعد ذلك معاملة ملك اليمين محضا، و لو أخطأت في تدبير البيت بإسراف أو تبذير كان له أن يرفع أمرها إلى القاضي ثم يغرقها في الماء بعد إثبات الجرم.

و أما الروم فهي أيضا من أقدم الأمم وضعا للقوانين المدنية، وضع القانون فيها أول ما وضع في حدود سنة أربعمائة قبل الميلاد ثم أخذوا في تكميله تدريجا، و هو يعطي للبيت نوع استقلال في إجراء الأوامر المختصة به، و لرب البيت و هو زوج المرأة و أبو أولادها نوع ربوبية كان يعبده لذلك أهل البيت كما كان يعبد هو من تقدمه من آبائه السابقين عليه في تأسيس البيت، و كان له الاختيار التام و المشية النافذة في جميع ما يريده و يأمر به على أهل البيت من زوجة و أولاد حتى القتل لو رأى أن الصلاح فيه، و لا يعارضه في ذلك معارض، و كانت النساء نساء البيت كالزوجة و البنت و الأخت أردأ حالا من الرجال حتى الأبناء التابعين محضا لرب البيت، فإنهن لم يكن أجزاء للاجتماع المدني فلا تسمع لهن شكاية، و لا ينفذ منهن معاملة، و لا تصح منهن في الأمور الاجتماعية مداخلة لكن الرجال أعني الإخوة و الذكور من الأولاد حتى الأدعياء فإن التبني و إلحاق الولد بغير أبيه كان معمولا شائعا عندهم و كذا في يونان و إيران و العرب كان من الجائز أن يأذن لهم رب البيت في الاستقلال بأمور الحياة مطلقا لأنفسهم.

و لم يكن أجزاء أصيلة في البيت بل كان أهل البيت هم الرجال، و أما النساء فتبع، فكانت القرابة الاجتماعية الرسمية المؤثرة في التوارث و نحوها مختصة بما بين الرجال، و أما النساء فلا قرابة بينهن أنفسهن كالأم مع البنت و الأخت مع الأخت، و لا بينهن و بين الرجال كالزوجين أو الأم مع الابن أو الأخت مع الأخ أو البنت مع الأب و لا توارث فيما لا قرابة رسمية، نعم القرابة الطبيعية و هي التي يوجبها الاتصال في الولادة كانت موجودة بينهم، و ربما يظهر أثرها في نحو الازدواج بالمحارم، و ولاية رئيس البيت و ربه لها.

و بالجملة كانت المرأة عندهم طفيلية الوجود تابعة الحياة في المجتمع المجتمع المدني و البيتي زمام حياتها و إرادتها بيد رب البيت من أبيها إن كانت في بيت الأب أو زوجها إن كانت في بيت الزوج أو غيرهما، يفعل بها ربها ما يشاء و يحكم فيها ما يريد، فربما باعها، و ربما وهبها، و ربما أقرضها للتمتع، و ربما أعطاها في حق يراد استيفاؤه منه كدين و خراج و نحوهما، و ربما ساسها بقتل أو ضرب أو غيرهما، و بيده تدبير مالها إن ملكت شيئا بالازدواج أو الكسب مع إذن وليها لا بالإرث لأنها كانت محرومة منه، و بيد أبيها أو واحد من سراة قومها تزويجها و بيد زوجها تطليقها.

و أما اليونان فالأمر عندهم في تكون البيوت و ربوبية أربابها فيها كان قريب الوضع من وضع الروم.

فقد كان الاجتماع المدني و كذا الاجتماع البيتي عندهم متقوما بالرجال، و النساء تبع لهم، و لذا لم يكن لها استقلال في إرادة و لا فعل إلا تحت ولاية الرجال، لكنهم.

جميعا ناقضوا أنفسهم بحسب الحقيقة في ذلك، فإن قوانينهم الموضوعة كانت تحكم عليهن بالاستقلال و لا تحكم لهن إلا بالتبع إذا وافق نفع الرجال، فكانت المرأة عندهم تعاقب بجميع جرائمها بالاستقلال، و لا تثاب لحسناتها و لا تراعى جانبها إلا بالتبع و تحت ولاية الرجل.

و هذا بعينه من الشواهد الدالة على أن جميع هذه القوانين ما كانت تراها جزءا ضعيفا من المجتمع الإنساني ذات شخصية تبعية، بل كانت تقدر أنها كالجراثيم المضرة مفسدة لمزاج الاجتماع مضرة بصحتها غير أن للمجتمع حاجة ضرورية إليها من حيث بقاء النسل، فيجب أن يعتنى بشأنها، و تذاق وبال أمرها إذا جنت أو أجرمت، و يحتلب الرجال درها إذا أحسنت أو نفعت، و لا تترك على حيال إرادتها صونا من شرها كالعدو القوي الذي يغلب فيؤخذ أسيرا مسترقا يعيش طول حياته تحت القهر، أن جاء بالسيئة يؤاخذ بها و إن جاء بالحسنة لم يشكر لها.

و هذا الذي سمعته: أن الاجتماع كان متقوما عندهم بالرجال هو الذي ألزمهم أن يعتقدوا أن الأولاد بالحقيقة هم الذكور، و أن بقاء النسل ببقائهم، و هذا هو منشأ ظهور عمل التبني و الإلحاق بينهم، فإن البيت الذي ليس لربه ولد ذكر كان محكوما بالخراب، و النسل مكتوبا عليه الفناء و الانقراض، فاضطر هؤلاء إلى اتخاذ أبناء صونا عن الانقراض و موت الذكر، فدعوا غير أبنائهم لأصلابهم أبناء لأنفسهم فكانوا أبناء رسما يرثون و يورثون و يرتب عليهم آثار الأبناء الصلبيين، و كان الرجل منهم إذا زعم أنه عاقر لا يولد منه ولد عمد إلى بعض أقاربه كأخيه و ابن أخيه فأورده فراش أهله لتعلق منه فتلد ولدا يدعوه لنفسه، و يقوم بقاء بيته.

و كان الأمر في التزويج و التطليق في اليونان قريبا منهما في الروم، و كان من الجائز عندهم تعدد الزوجات غير أن الزوجة إذا زادت على الواحدة كانت واحدة منهن زوجة رسمية و الباقية غير رسمية.

حال المرأة عند العرب و محيط حياتهم محيط نزول القرآن

و قد كانت العرب قاطنين في شبه الجزيرة و هي منطقة حارة جدبة الأرض، و المعظم من أمتهم قبائل بدوية بعيدة عن الحضارة و المدنية، يعيشون بشن الغارات، و هم متصلون بإيران من جانب و بالروم من جانب و ببلاد الحبشة و السودان من آخر.

و لذلك كانت العمدة من رسومهم رسوم التوحش، و ربما وجد خلالها شيء من عادات الروم و إيران، و من عادات الهند و مصر القديم أحيانا.

كانت العرب لا ترى للمرأة استقلالا في الحياة و لا حرمة و لا شرافة إلا حرمة البيت و شرافته، و كانت لا تورث النساء، و كانت تجوز تعدد الزوجات من غير تحديد بعدد معين كاليهود، و كذا في الطلاق، و كانت تئد البنات، ابتدأ بذلك بنو تميم لوقعة كانت لهم مع النعمان بن المنذر، أسرت فيه عدة من بناتهم، و القصة معروفة فأغضبهم ذلك فابتدروا به، ثم سرت السجية في غيرهم، و كانت العرب تتشأم إذا ولدت للرجل منهم بنت يعدها عارا لنفسه، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، لكن يسره الابن مهما كثر و لو بالدعاء و الإلحاق حتى أنهم كانوا يتبنون الولد لزنا محصنة ارتكبوه، و ربما نازع رجال من صناديدهم و أولي الطول منهم في ولد ادعاه كل لنفسه.

و ربما لاح في بعض البيوت استقلال لنسائهم و خاصة للبنات في أمر الازدواج فكان يراعي فيه رضى المرأة و انتخابها، فيشبه ذلك منهم دأب الأشراف بإيران الجاري على تمايز الطبقات.

و كيف كان فمعاملتهم مع النساء كانت معاملة مركبة من معاملة أهل المدنية من الروم و إيران كتحريم الاستقلال في الحقوق، و الشركة في الأمور العامة الاجتماعية كالحكم و الحرب و أمر الازدواج إلا استثناء، و من معاملة أهل التوحش و البربرية، فلم يكن حرمانهن مستندا إلى تقديس رؤساء البيوت و عبادتهم، بل من باب غلبة القوي و استخدامه للضعيف.

و أما العبادة فكانوا يعبدون جميعا رجالا و نساء أصناما يشبه أمرها أمر الأصنام عند الصابئين أصحاب الكواكب و أرباب الأنواع، و تتميز أصنامهم بحسب تميز القبائل و أهوائها المختلفة، فيعبدون الكواكب و الملائكة و هم بنات الله سبحانه بزعمهم و يتخذونها على صور صورتها لهم أوهامهم، و من أشياء مختلفة كالحجارة و الخشب، و قد بلغ هواهم في ذلك إلى مثل ما نقل عن بني حنيفة أنهم اتخذوا لهم صنما من الحيس فعبدوه دهرا طويلا ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه فقيل فيهم: أكلت حنيفة ربها.

زمن التقحم و المجاعة.

لم يحذروا من ربهم.

سوء العواقب و التباعة.

و ربما عبدوا حجرا حتى إذا وجدوا حجرا أحسن منه طرحوا الأول و أخذوا بالثاني، و إذا لم يجدوا شيئا جمعوا حفنة من تراب ثم جاءوا بغنم فحلبوه عليها ثم طافوا بها يعبدونها.

و قد أودعت هذا الحرمان و الشقاء في نفوس النساء ضعفا في الفكرة يصور لها أوهاما و خرافات عجيبة في الحوادث و الوقائع المختلفة ضبطتها كتب السير و التاريخ.

فهذه جمل من أحوال المرأة في المجتمع الإنساني من أدواره المختلفة قبل الإسلام و زمن ظهوره، آثرنا فيها الاختصار التام، و يستنتج من جميع ذلك: أولا: أنهم كانوا يرونها إنسانا في أفق الحيوان العجم، أو إنسانا ضعيف الإنسانية منحطا لا يؤمن شره و فساده لو أطلق من قيد التبعية، و اكتسب الحرية في حياته، و النظر الأول أنسب لسيرة الأمم الوحشية و الثاني لغيرهم، و ثانيا: أنهم كانوا يرون في وزنها الاجتماعي أنها خارجة من هيكل المجتمع المركب غير داخلة فيه، و إنما هي من شرائطه التي لا غناء عنها كالمسكن لا غناء عن الالتجاء إليه، أو أنها كالأسير المسترق الذي هي من توابع المجتمع الغالب، ينتفع من عمله و لا يؤمن كيده على اختلاف المسلكين، و ثالثا: أنهم كانوا يرون حرمانها في عامة الحقوق التي أمكن انتفاعها منها إلا بمقدار يرجع انتفاعها إلى انتفاع الرجال القيمين بأمرها، و رابعا: أن أساس معاملتهم معها فيما عاملوا هو غلبة القوي على الضعيف و بعبارة أخرى قريحة الاستخدام، هذا في الأمم غير المتمدنة، و أما الأمم المتمدنة فيضاف عندهم إلى ذلك ما كانوا يعتقدونه في أمرها: أنها إنسان ضعيف الخلقة لا تقدر على الاستقلال بأمرها، و لا يؤمن شرها، و ربما اختلط الأمر اختلاطا باختلاف الأمم و الأجيال.

ما ذا أبدعه الإسلام في أمرها

لا زالت بأجمعها ترى في أمر المرأة ما قصصناه عليك، و تحبسها في سجن الذلة و الهوان حتى صار الضعف و الصغار طبيعة ثانية لها، عليها نبتت لحمها و عظمها و عليها كانت تحيا و تموت، و عادت ألفاظ المرأة و الضعف و الهوان كاللغات المترادفة بعد ما وضعت متباينة، لا عند الرجال فقط بل و عند النساء - و من العجب ذلك - و لا ترى أمة من الأمم وحشيها و مدنيها إلا و عندهم أمثال سائرة في ضعفها و هوان أمرها، و في لغاتهم على اختلاف أصولها و سياقاتها و ألحانها أنواع من الاستعارة و الكناية و التشبيه مربوطة بهذه اللفظة المرأة يقرع بها الجبان، و يؤنب بها الضعيف، و يلام بها المخذول المستهان و المستذل المنظلم، و يوجد من نحو قول القائل: و ما أدري و ليت أخال أدري.

أ قوم آل حصن أم نساء.

مئات و ألوف من النظم و النثر في كل لغة.

و هذا في نفسه كاف في أن يحصل للباحث ما كانت تعتقده الجامعة الإنسانية في أمر المرأة و إن لم يكن هناك ما جمعته كتب السير و التواريخ من مذاهب الأمم و الملل في أمرها، فإن الخصائل الروحية و الجهات الوجودية في كل أمة تتجلى في لغتها و آدابها.

و لم يورث من السابقين ما يعتني بشأنها و يهم بأمرها إلا بعض ما في التوراة و ما وصى به عيسى بن مريم (عليهما السلام) من لزوم التسهيل عليها و الإرفاق بها.

و أما الإسلام أعني الدين الحنيف النازل به القرآن فإنه أبدع في حقها أمرا ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن بها قاطنوها، و خالفهم جميعا في بناء بنية فطرية عليها كانت الدنيا هدمتها من أول يوم و أعفت آثارها، و ألغى ما كانت تعتقده الدنيا في هويتها اعتقادا و ما كانت تسير فيها سيرتها عملا.

أما هويتها: فإنه بين أن المرأة كالرجل إنسان و أن كل إنسان ذكرا أو أنثى فإنه إنسان يشترك في مادته و عنصره إنسانان ذكر و أنثى و لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، قال تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم:» الحجرات - 13، فجعل تعالى كل إنسان مأخوذا مؤلفا من إنسانين ذكر و أنثى هما معا و بنسبة واحدة مادة كونه و وجوده، و هو سواء كان ذكرا أو أنثى مجموع المادة المأخوذة منهما، و لم يقل تعالى: مثل ما قاله القائل.

و إنما أمهات الناس أوعية.

و لا قال مثل ما قاله الآخر: بنونا بنو أبنائنا و بناتنا.

بنوهن أبناء الرجال الأباعد.

بل جعل تعالى كلا مخلوقا مؤلفا من كل.

فعاد الكل أمثالا، و لا بيان أتم و لا أبلغ من هذا البيان، ثم جعل الفضل في التقوى.

و قال تعالى: «أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض:» آل عمران - 195، فصرح أن السعي غير خائب و العمل غير مضيع عند الله و علل ذلك بقوله: بعضكم من بعض فعبر صريحا بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة: إنا خلقناكم من ذكر و أنثى، و هو أن الرجل و المرأة جميعا من نوع واحد من غير فرق في الأصل و السنخ.

ثم بين بذلك أن عمل كل واحد من هذين الصنفين غير مضيع عند الله لا يبطل في نفسه، و لا يعدوه إلى غيره، كل نفس بما كسبت رهينة، لا كما كان يقوله الناس: إن عليهن سيئاتهن، و للرجال حسناتهن من منافع وجودهن، و سيجيء لهذا الكلام مزيد توضيح.

و إذا كان لكل منهما ما عمل و لا كرامة إلا بالتقوى، و من التقوى الأخلاق الفاضلة كالإيمان بدرجاته، و العلم النافع، و العقل الرزين، و الخلق الحسن، و الصبر، و الحلم فالمرأة المؤمنة بدرجات الإيمان، أو المليئة علما، أو الرزينة عقلا، أو الحسنة خلقا أكرم ذاتا و أسمى درجة ممن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الإسلام، كان من كان، فلا كرامة إلا للتقوى و الفضيلة.

و في معنى الآية السابقة و أوضح منها قوله تعالى: «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون»: النحل - 97، و قوله تعالى: «و من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب:» المؤمن - 40، و قوله تعالى: «و من يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة و لا يظلمون نقيرا»: النساء - 124.

و قد ذم الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله و هو من أبلغ الذم: «و إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا و هو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أ يمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون»: النحل - 59، و لم يكن تواريهم إلا لعدهم ولادتها عارا على المولود له، و عمدة ذلك أنهم كانوا يتصورون أنها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتع بها، و ذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن، فيعود عاره إلى بيتها و أبيها، و لذلك كانوا يئدون البنات و قد سمعت السبب الأول فيه فيما مر و قد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه حيث قال: «و إذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت«: التكوير - 9.

و قد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من أسلافهم، و لم يغسل رينها من قلوبهم المربون، فتراهم يعدون الزنا عارا لازما على المرأة و بيتها و إن تابت دون الزاني و إن أصر، مع أن الإسلام قد جمع العار و القبح كله في المعصية، و الزاني و الزانية سواء فيها.

و أما وزنها الاجتماعي: فإن الإسلام ساوى بينها و بين الرجل من حيث تدبير شئون الحياة بالإرادة و العمل فإنهما متساويان من حيث تعلق الإرادة بما تحتاج إليه البنية الإنسانية في الأكل و الشرب و غيرهما من لوازم البقاء، و قد قال تعالى: «بعضكم من بعض:» آل عمران - 195، فلها أن تستقل بالإرادة و لها أن تستقل بالعمل و تمتلك نتاجهما كما للرجل ذلك من غير فرق، «لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت».

فهما سواء فيما يراه الإسلام و يحقه القرآن و الله يحق الحق بكلماته غير أنه قرر فيها خصلتين ميزها بهما الصنع الإلهي: إحداهما: أنها بمنزلة الحرث في تكون النوع و نمائه فعليها يعتمد النوع في بقائه فتختص من الأحكام بمثل ما يختص به الحرث، و تمتاز بذلك من الرجل. و الثانية أن وجودها مبني على لطافة البنية و رقة الشعور، و لذلك أيضا تأثير في أحوالها و الوظائف الاجتماعية المحولة إليها.

فهذا وزنها الاجتماعي، و بذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع، و إليه تنحل جميع الأحكام المشتركة بينهما و ما يختص به أحدهما في الإسلام، قال تعالى: «و لا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا و للنساء نصيب مما اكتسبن و اسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما:» النساء - 32، يريد أن الأعمال التي يهديها كل من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختص به من الفضل، و أن من هذا الفضل ما تعين لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث، و فضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمناه متمن، و منه ما لم يتعين إلا بعمل العامل كائنا من كان كفضل الإيمان و العلم و العقل و التقوى و سائر الفضائل التي يستحسنها الدين، و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، و اسألوا الله من فضله، و الدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعده: الرجال قوامون، على ما سيجيء بيانه.

و أما الأحكام المشتركة و المختصة: فهي تشارك الرجل في جميع الأحكام العبادية و الحقوق الاجتماعية فلها أن تستقل فيما يستقل به الرجل من غير فرق في إرث و لا كسب و لا معاملة و لا تعليم و تعلم و لا اقتناء حق و لا دفاع عن حق و غير ذلك إلا في موارد يقتضي طباعها ذلك.

و عمدة هذه المورد: أنها لا تتولى الحكومة و القضاء، و لا تتولى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور و الإعانة على الأمر كمداواة الجرحى مثلا، و لها نصف سهم الرجل في الإرث، و عليها: الحجاب و ستر مواضع الزينة، و عليها: أن تطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتع منها، و تدورك ما فاتها بأن نفقتها في الحياة على الرجل: الأب أو الزوج، و أن عليه أن يحمي عنها منتهى ما يستطيعه، و أن لها حق تربية الولد و حضانته.

و قد سهل الله لها أنها محمية النفس و العرض حتى عن سوء الذكر، و أن العبادة موضوعة عنها أيام عادتها و نفاسها، و أنها لازمة الإرفاق في جميع الأحوال.

و المتحصل من جميع ذلك: أنها لا يجب عليها في جانب العلم إلا العلم بأصول المعارف و العلم بالفروع الدينية أحكام العبادات و القوانين الجارية في الاجتماع، و أما في جانب العمل فأحكام الدين و طاعة الزوج فيما يتمتع به منها، و أما تنظيم الحياة - الفردية بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة و كذا الورود فيما يقوم به نظام البيت و كذا - المداخلة في ما يصلح المجتمع العام كتعلم العلوم و اتخاذ الصناعات و الحرف المفيدة - للعامة و النافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شيء من ذلك، و لازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية و نحو ذلك كلها فضلا لها تتفاضل به، و فخرا لها تتفاخر به، و قد جوز الإسلام بل ندب إلى التفاخر بينهن، مع أن الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب.

و السنة النبوية تؤيد ما ذكرناه، و لو لا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طرفا من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع زوجته خديجة و مع بنته سيدة النساء فاطمة (عليها السلام) و مع نسائه و مع نساء قومه و ما وصى به في أمر النساء و المأثور من طريقة أئمة أهل البيت و نسائهم كزينب بنت علي و فاطمة و سكينة بنتي الحسين و غيرهن على جماعتهم السلام، و وصاياهم في أمر النساء.

و لعلنا نوفق لنقل شطر منها في الأبحاث الروائية المتعلقة بآيات النساء فليرجع المراجع إليها.

و أما الأساس الذي بنيت عليه هذه الأحكام و الحقوق فهو الفطرة، و قد علم من الكلام في وزنها الاجتماعي كيفية هذا البناء و نزيده هاهنا إيضاحا فنقول: لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الاجتماع و ما يتصل بها من المباحث العلمية أن الوظائف الاجتماعية و التكاليف الاعتبارية المتفرعة عليها يجب انتهاؤها بالأخرة إلى الطبيعة، فخصوصية البنية الطبيعية الإنسانية هي التي هدت الإنسان إلى هذا الاجتماع النوعي الذي لا يكاد يوجد النوع خاليا عنه في زمان، و إن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحة إلى مجرى الفساد كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخلقة، أو عن صحته الطبيعية إلى السقم و العاهة.

فالاجتماع بجميع شئونه و جهاته سواء كان اجتماعا فاضلا أو اجتماعا فاسدا ينتهي بالأخرة إلى الطبيعة و إن اختلف القسمان من حيث إن الاجتماع الفاسد يصادف في طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الاجتماع الفاضل.

فهذه حقيقة، و قد أشار إليها تصريحا أو تلويحا الباحثون عن هذه المباحث و قد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهي فبينه بأبدع البيان قال تعالى: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى:» طه - 50، و قال تعالى: «الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى: الأعلى - 3، و قال تعالى: «و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقويها»: الشمس - 8، إلى غير ذلك من آيات القدر.

فالأشياء و من جملتها الإنسان إنما تهتدي في وجودها و حياتها إلى ما خلقت له و جهزت بما يكفيه و يصلح له من الخلقة، و الحياة القيمة بسعادة الإنسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة و الفطرة انطباقا تاما، و تنتهي وظائفها و تكاليفها إلى الطبيعة انتهاء صحيحا، و هذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم:» الروم - 30.

و الذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف و الحقوق الاجتماعية بين الأفراد - على أن الجميع إنسان ذو فطرة بشرية - أن يساوي بينهم في الحقوق و الوظائف من غير أن يحبا بعض و يضطهد آخرون بإبطال حقوقهم، لكن ليس مقتضى هذه التسوية التي يحكم بها العدل الاجتماعي أن يبذل كل مقام اجتماعي لكل فرد من أفراد المجتمع، فيتقلد الصبي مثلا على صباوته و السفيه على سفاهته ما يتقلده الإنسان العاقل المجرب، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القوي المتقدر من الشئون و الدرجات، فإن في تسوية حال الصالح و غير الصالح إفسادا لحالهما معا.

بل الذي يقتضيه العدل الاجتماعي و يفسر به معنى التسوية أن يعطى كل ذي حق حقه و ينزل منزلته، فالتساوي بين الأفراد و الطبقات إنما هو في نيل كل ذي حق خصوص حقه من غير أن يزاحم حق حقا، أو يهمل أو يبطل حق بغيا أو تحكما و نحو ذلك، و هذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: و لهن مثل الذي عليهن بالمعروف و للرجال عليهن درجة الآية، كما مر بيانه، فإن الآية تصرح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن و بين الرجال.

ثم إن اشتراك القبيلين أعني الرجال و النساء في أصول المواهب الوجودية أعني، الفكر و الإرادة المولدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرية الفكر و الإرادة أعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرف في جميع شئون حياتها الفردية و الاجتماعية عدا ما منع عنه مانع و قد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال و الحرية على أتم الوجوه كما سمعت فيما تقدم، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلة بنفسها منفكة الإرادة و العمل عن الرجال و ولايتهم و قيمومتهم، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع أدوارها و خلت عنه صحائف تاريخ وجودها، قال تعالى: «فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف» الآية،: البقرة - 234.

لكنها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة أخرى، فإن المتوسطة من النساء تتأخر عن المتوسط من الرجال في الخصوصيات الكمالية من بنيتها كالدماغ و القلب و الشرائين و الأعصاب و القامة و الوزن على ما شرحه فن وظائف الأعضاء، و استوجب ذلك أن جسمها ألطف و أنعم كما أن جسم الرجل أخشن و أصلب، و أن الإحساسات اللطيفة كالحب و رقة القلب و الميل إلى الجمال و الزينة أغلب عليها من الرجل كما أن التعقل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسية كما أن حياة الرجل حياة تعقلية.

و لذلك فرق الإسلام بينهما في الوظائف و التكاليف العامة الاجتماعية التي يرتبط قوامها بأحد الأمرين أعني التعقل، و الإحساس، فخص مثل الولاية و القضاء و القتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقل و الحياة التعقلية إنما هي للرجل دون المرأة، و خص مثل حضانة الأولاد و تربيتها و تدبير المنزل بالمرأة، و جعل نفقتها على الرجل، و جبر ذلك له بالسهمين في الإرث و هو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين ثم تعطى المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أن ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكا و عينا و ثلثيها للنساء انتفاعا فالتدبير الغالب إنما هو للرجال لغلبة تعقلهم، و الانتفاع و التمتع الغالب للنساء لغلبة إحساسهن.

و سنزيده إيضاحا في الكلام على آيات الإرث إن شاء الله تعالى ثم تمم ذلك بتسهيلات و تخفيفات في حق المرأة مرت الإشارة إليها.

فإن قلت: ما ذكر من الإرفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب انعطالها في العمل فإن ارتفاع الحاجة الضرورية إلى لوازم الحياة بتخديرها، و كفاية مئونتها بإيجاب الإنفاق على الرجل يوجب إهمالها و كسلها و تثاقلها عن تحمل مشاق الأعمال و الأشغال فتنمو على ذلك نماء رديا و تنبت نباتا سيئا غير صالح لتكامل الاجتماع، و قد أيدت التجربة ذلك.

قلت: وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمر، و إجراء ذلك بالسيرة الصالحة و التربية الحسنة التي تنبت الإنسان نباتا حسنا أمر آخر، و الذي أصيب به الإسلام في مدة سيرها الماضي هو فقد الأولياء الصالحين و القوام المجاهدين فارتدت بذلك أنفاس الأحكام، و توقفت التربية ثم رجعت القهقرى.

و من أوضح ما أفاده التجارب القطعي: أن مجرد النظر و الاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ و التربية الصالحين، و المسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيمين بأمورهم تربية صالحة يجتمع فيها العلم و العمل، فهذا معاوية، يقول على منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله: إني ما كنت أقاتلكم لتصلوا أو تصوموا فذلك إليكم و إنما كنت أقاتلكم لأتأمر عليكم و قد فعلت، و هذا غيره من الأمويين و العباسيين فمن دونهم.

و لو لا استضاءة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ و الله متم نوره و لو كره الكافرون لقضي عليه منذ عهد قديم.

حرية المرأة في المدنية الغربية

لا شك أن الإسلام له التقدم الباهر في إطلاقها عن قيد الإسارة، و إعطائها الاستقلال في الإرادة و العمل، و أن أمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنما قلدوا الإسلام - و إن أساءوا التقليد و المحاذاة - فإن سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثرة أتم التأثير في سلسلة السير الاجتماعية و هي متوسطة متخللة، و من المحال أن يتصل ذيل السلسلة بصدرها دونها.

و بالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامة بين الرجل و المرأة في الحقوق في هذه الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخر الكمالي بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله.

و الرأي العام عندهم تقريبا: أن تأخر المرأة في الكمال و الفضيلة مستند إلى سوء التربية التي دامت عليها و مكثت قرونا لعلها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل.

و يتوجه عليه: أن الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 1:21 pm

و يتوجه عليه: أن الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على تأخرها عن الرجل في الجملة، و لو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه و لو في بعض الأحيان و لتغيرت خلقة أعضائها الرئيسة و غيرها إلى مثل ما في الرجل.

و يؤيد ذلك أن المدنية الغربية مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما، و لم يزل الإحصاءات في جميع ما قدم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية و القضاء و القتال تقدم الرجال و تؤخر النساء، و أما ما الذي أورثته هذه التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسر لنا منه في محله إن شاء الله تعالى.

بحث علمي آخر

عمل النكاح من أصول الأعمال الاجتماعية، و البشر منذ أول تكونه و تكثره حتى اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعي، و قد عرفت أن هذه الأعمال لا بد لها من أصل طبيعي ترجع إليه ابتداء أو بالأخرة.

و قد وضع الإسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقه الفحولة و الأناس إذ من البين أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل و المرأة - و هو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور و الإناث - لم يوضع هباء باطلا، و من البين عند كل من أجاد التأمل أن طبيعة الإنسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلا الإناث و كذا العكس، و أن هذا التجهيز لا غاية له إلا توليد المثل و إبقاء النوع بذلك، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة و جميع الأحكام المتعلقة به تدور مدارها، و لذلك وضع التشريع على ذلك أي على البضع، و وضع عليه أحكام العفة و المواقعة و اختصاص الزوجة بالزوج و أحكام الطلاق و العدة و الأولاد و الإرث و نحو ذلك.

و أما القوانين الآخر الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلدي و نحو ذلك، و لذلك لا ترى القوانين الحاضرة متعرضة لشيء مما تعرض له الإسلام من أحكام العفة و نحو ذلك.

و هذا البناء على ما يتفرع عليه من أنواع المشكلات و المحاذير الاجتماعية على ما سنبين إن شاء الله العزيز لا ينطبق على أساس الخلقة و الفطرة أصلا، فإن غاية ما نجده في الإنسان من الداعي الطبيعي إلى الاجتماع و تشريك المساعي هو أن بنيته في سعادة حياته تحتاج إلى أمور كثيرة و أعمال شتى لا يمكنه وحده أن يقوم بها جميعا إلا بالاجتماع و التعاون فالجميع يقوم بالجميع، و الأشواق الخاصة المتعلق كل واحد منها بشغل من الأشغال و نحو من أنحاء الأعمال متفرقة في الأفراد يحصل من مجموعها مجموع الأشغال و الأعمال.

و هذا الداعي إنما يدعو إلى الاجتماع و التعاون بين الفرد و الفرد أيا ما كانا، و أما الاجتماع الكائن من رجل و امرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه، فبناء - الازدواج على أساس التعاون الحيوي انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعي للتناسل و التوالد إلى غيره مما لا دعوة من الطبيعة و الفطرة بالنسبة إليه.

و لو كان الأمر على هذا، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون و الاشتراك في الحياة كان من اللازم أن لا يختص أمر الازدواج من الأحكام الاجتماعية بشيء أصلا إلا الأحكام العامة الموضوعة لمطلق الشركة و التعاون، و في ذلك إبطال فضيلة العفة رأسا و إبطال أحكام الأنساب و المواريث كما التزمته الشيوعية، و في ذلك إبطال جميع الغرائز الفطرية التي جهز بها الذكور و الإناث من الإنسان، و سنزيده إيضاحا في محل يناسبه إن شاء الله، هذا إجمال الكلام في النكاح، و أما الطلاق فهو من مفاخر هذه الشريعة الإسلامية، و قد وضع جوازه على الفطرة إذ لا دليل من الفطرة يدل على المنع عنه، و أما خصوصيات القيود المأخوذة في تشريعه فسيجيء الكلام فيها في سورة الطلاق إن شاء الله العزيز.

و قد اضطرت الملل المعظمة اليوم إلى إدخاله في قوانينهم المدنية بعد ما لم يكن. و يتوجه عليه: أن الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على تأخرها عن الرجل في الجملة، و لو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه و لو في بعض الأحيان و لتغيرت خلقة أعضائها الرئيسة و غيرها إلى مثل ما في الرجل.

و يؤيد ذلك أن المدنية الغربية مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما، و لم يزل الإحصاءات في جميع ما قدم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية و القضاء و القتال تقدم الرجال و تؤخر النساء، و أما ما الذي أورثته هذه التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسر لنا منه في محله إن شاء الله تعالى.

بحث علمي آخر

عمل النكاح من أصول الأعمال الاجتماعية، و البشر منذ أول تكونه و تكثره حتى اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعي، و قد عرفت أن هذه الأعمال لا بد لها من أصل طبيعي ترجع إليه ابتداء أو بالأخرة.

و قد وضع الإسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقه الفحولة و الأناس إذ من البين أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل و المرأة - و هو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور و الإناث - لم يوضع هباء باطلا، و من البين عند كل من أجاد التأمل أن طبيعة الإنسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلا الإناث و كذا العكس، و أن هذا التجهيز لا غاية له إلا توليد المثل و إبقاء النوع بذلك، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة و جميع الأحكام المتعلقة به تدور مدارها، و لذلك وضع التشريع على ذلك أي على البضع، و وضع عليه أحكام العفة و المواقعة و اختصاص الزوجة بالزوج و أحكام الطلاق و العدة و الأولاد و الإرث و نحو ذلك.

و أما القوانين الآخر الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلدي و نحو ذلك، و لذلك لا ترى القوانين الحاضرة متعرضة لشيء مما تعرض له الإسلام من أحكام العفة و نحو ذلك.

و هذا البناء على ما يتفرع عليه من أنواع المشكلات و المحاذير الاجتماعية على ما سنبين إن شاء الله العزيز لا ينطبق على أساس الخلقة و الفطرة أصلا، فإن غاية ما نجده في الإنسان من الداعي الطبيعي إلى الاجتماع و تشريك المساعي هو أن بنيته في سعادة حياته تحتاج إلى أمور كثيرة و أعمال شتى لا يمكنه وحده أن يقوم بها جميعا إلا بالاجتماع و التعاون فالجميع يقوم بالجميع، و الأشواق الخاصة المتعلق كل واحد منها بشغل من الأشغال و نحو من أنحاء الأعمال متفرقة في الأفراد يحصل من مجموعها مجموع الأشغال و الأعمال.

و هذا الداعي إنما يدعو إلى الاجتماع و التعاون بين الفرد و الفرد أيا ما كانا، و أما الاجتماع الكائن من رجل و امرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه، فبناء - الازدواج على أساس التعاون الحيوي انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعي للتناسل و التوالد إلى غيره مما لا دعوة من الطبيعة و الفطرة بالنسبة إليه.

و لو كان الأمر على هذا، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون و الاشتراك في الحياة كان من اللازم أن لا يختص أمر الازدواج من الأحكام الاجتماعية بشيء أصلا إلا الأحكام العامة الموضوعة لمطلق الشركة و التعاون، و في ذلك إبطال فضيلة العفة رأسا و إبطال أحكام الأنساب و المواريث كما التزمته الشيوعية، و في ذلك إبطال جميع الغرائز الفطرية التي جهز بها الذكور و الإناث من الإنسان، و سنزيده إيضاحا في محل يناسبه إن شاء الله، هذا إجمال الكلام في النكاح، و أما الطلاق فهو من مفاخر هذه الشريعة الإسلامية، و قد وضع جوازه على الفطرة إذ لا دليل من الفطرة يدل على المنع عنه، و أما خصوصيات القيود المأخوذة في تشريعه فسيجيء الكلام فيها في سورة الطلاق إن شاء الله العزيز.

و قد اضطرت الملل المعظمة اليوم إلى إدخاله في قوانينهم المدنية بعد ما لم يكن.


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (243)

بيان

قوله تعالى: أ لم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف حذر الموت، الرؤية هاهنا بمعنى العلم، عبر بذلك لدعوى ظهوره بحيث يعد فيه العلم رؤية فهو كقوله تعالى: «أ لم تر أن الله خلق السموات و الأرض بالحق»: إبراهيم - 19، و قوله تعالى: «أ لم تر كيف خلق الله سبع سموات طباقا:» نوح - 15.

و قد ذكر الزمخشري أن لفظ أ لم تر جرى مجرى المثل، يؤتى به في مقام التعجيب فقولنا: أ لم تر كذا و كذا معناه أ لا تعجب لكذا و كذا، و حذر الموت مفعول له، و يمكن أن يكون مفعولا مطلقا و التقدير يحذرون الموت حذرا.

قوله تعالى: فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم، الأمر تكويني و لا ينافي كون موتهم واقعا عن مجرى طبيعي كما ورد في الروايات: أن ذلك كان بالطاعون، و إنما عبر بالأمر، دون أن يقال: فأماتهم الله ثم أحياهم ليكون أدل على نفوذ القدرة و غلبة الأمر، فإن التعبير بالإنشاء في التكوينيات أقوى و آكد من التعبير بالإخبار كما أن التعبير بصورة الإخبار الدال على الوقوع في التشريعيات أقوى و آكد من الإنشاء، و لا يخلو قوله تعالى: ثم أحياهم عن الدلالة على أن الله أحياهم ليعيشوا فعاشوا بعد حياتهم، إذ لو كان إحياؤهم لعبرة يعتبر بها غيرهم أو لإتمام حجة أو لبيان حقيقة لذكر ذلك على ما هو دأب القرآن في بلاغته كما في قصة أصحاب الكهف، على أن قوله تعالى بعد: إن الله لذو فضل على الناس، يشعر بذلك أيضا.

قوله تعالى: و لكن أكثر الناس لا يشكرون، الإظهار في موضع الإضمار أعني تكرار لفظ الناس ثانيا لما فيه من الدلالة على انخفاض سطح أفكارهم، على أن هؤلاء الذين تفضل الله عليهم بالإحياء طائفة خاصة، و ليس المراد كون الأكثر منهم بعينهم غير شاكرين بل الأكثر من جميع الناس، و هذه الآية لا تخلو عن مناسبة ما مع ما بعدها من الآيات المتعرضة لفرض القتال، لما في الجهاد من إحياء الملة بعد موتها.

و قد ذكر بعض المفسرين أن الآية مثل ضربه الله لحال الأمة في تأخرها و موتها باستخزاء الأجانب إياها ببسط السلطة و السيطرة عليها، ثم حياتها بنهضتها و دفاعها عن حقوقها الحيوية و استقلالها في حكومتها على نفسها.

قال ما حاصله: إن الآية لو كانت مسوقة لبيان قصة من قصص بني إسرائيل كما يدل عليه أكثر الروايات أو غيرهم كما في بعضها لكان من الواجب الإشارة إلى كونهم من بني إسرائيل، و إلى النبي الذي أحياهم كما هو دأب القرآن في سائر قصصه مع أن الآية خالية عن ذلك على أن التوراة أيضا لم تتعرض لذلك في قصص حزقيل النبي على نبينا و آله و عليه السلام فليست الروايات إلا من الإسرائيليات التي دستها اليهود، مع أن الموت و الحياة الدنيويتين ليستا إلا موتا واحدا أو حياة واحدة كما يدل عليه قوله تعالى: «لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى:» الدخان - 56، و قوله تعالى: «و أحييتنا اثنتين»: المؤمن - 11، فلا معنى لحياتين في الدنيا هذا، فالآية مسوقة سوق المثل، و المراد بها قوم هجم عليهم أولوا القدرة و القوة من أعدائهم باستذلالهم و استخزائهم و بسط السلطة فيهم و التحكم عليهم فلم يدافعوا عن استقلالهم، و خرجوا من ديارهم و هم ألوف لهم كثرة و عزيمة حذر الموت، فقال لهم الله موتوا موت الخزي و الجهل، فإن الجهل و الخمود موت كما أن العلم و إباء الضيم حياة، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم:» الأنفال - 24، و قال تعالى: أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها:» الأنعام - 122.

و بالجملة فهؤلاء يموتون بالخزي و تمكن الأعداء منهم و يبقون أمواتا، ثم أحياهم الله بإلقاء روح النهضة و الدفاع عن الحق فيهم، فقاموا بحقوق أنفسهم و استقلوا في أمرهم، و هؤلاء الذين أحياهم الله و إن كانوا بحسب الأشخاص غير الذين أماتهم الله إلا أن الجميع أمة واحدة ماتت في حين و حييت في حين بعد حين، و قد عد الله تعالى القوم واحدا مع اختلاف الأشخاص كقوله تعالى في بني إسرائيل: «أنجيناكم من آل فرعون»: الأعراف - 141، و قوله تعالى: «ثم بعثناكم من بعد موتكم»: البقرة - 56، و لو لا ما ذكرناه من كون الآية مسوقا للتمثيل لم يستقم ارتباط الآية بما يتلوها من آيات القتال و هو ظاهر، انتهى ما ذكره ملخصا.

و هذا الكلام كما ترى مبني أولا: على إنكار المعجزات و خوارق العادات أو بعضها كإحياء الموتى و قد مر إثباتها، على أن ظهور القرآن في إثبات خرق العادة بإحياء الموتى و نحو ذلك مما لا يمكن إنكاره و لو لم يسع لنا إثبات صحته من طريق العقل.

و ثانيا: على دعوى أن القرآن يدل على امتناع أكثر من حياة واحدة في الدنيا كما استدل بمثل قوله تعالى: «لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى:» الدخان - 56، و قوله تعالى: «أحييتنا اثنتين»: المؤمن - 11.

و فيه أن جميع الآيات الدالة على إحياء الموتى كما في قصص إبراهيم و موسى و عيسى و عزير، بحيث لا تدفع دلالتها، يكفي في رد ما ذكره، على أن الحياة الدنيا لا تصير بتخلل الموت حياتين كما يستفاد أحسن الاستفادة من قصة عزير، حيث لم يتنبه لموته الممتد، و المراد بما أورده من الآيات الدالة على نوع الحياة.

و ثالثا: على أن الآية لو كانت مسوقة لبيان القصة لتعرضت لتعيين قومهم و تشخيص النبي الذي أحياهم.

و أنت تعلم أن مذاهب البلاغة مختلفة متشتتة، و الكلام كما ربما يجري مجرى الإطناب كذلك يجري مجرى الإيجاز، و للآية نظائر في القرآن كقوله تعالى: «قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود و هم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود»: البروج - 7، و قوله تعالى: «و ممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون»: الأعراف - 181.

و رابعا: على أن الآية لو لم تحمل على التمثيل لم ترتبط بما بعدها من الآيات بحسب المعنى، و أنت تعلم أن نزول القرآن نجوما يغني عن كل تكلف بارد في ربط الآيات بعضها ببعض إلا ما كان منها ظاهر الارتباط، بين الاتصال على ما هو شأن الكلام البليغ.

فالحق أن الآية كما هو ظاهرها مسوقة لبيان القصة، و ليت شعري أي بلاغة في أن يلقي الله سبحانه للناس كلاما لا يرى أكثر الناظرين فيه إلا أنه قصة من قصص الماضين، و هو في الحقيقة تمثيل مبني على التخييل من غير حقيقة.

مع أن دأب كلامه تعالى على تمييز المثل عن غيره في جميع الأمثال الموضوعة فيه بنحو قوله: «مثلهم كمثل الذي»: البقرة - 17، و قوله: «إنما مثل الحياة الدنيا»: يونس - 24، و قوله: «مثل الذين حملوا»: الجمعة - 5، إلى غير ذلك.

بحث روائي

في الإحتجاج، عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال (عليه السلام): أحيا الله قوما خرجوا من أوطانهم هاربين من الطاعون، لا يحصى عددهم، فأماتهم الله دهرا طويلا حتى بليت عظامهم، و تقطعت أوصالهم، و صاروا ترابا، فبعث الله في وقت أحب أن يرى خلقه نبيا يقال له: حزقيل، فدعاهم فاجتمعت أبدانهم، و رجعت فيها أرواحهم، و قاموا كهيئة يوم ماتوا، لا يفتقدون في أعدادهم رجلا فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا.

أقول: و روى هذا المعنى الكليني و العياشي بنحو أبسط، و في آخره: و فيهم نزلت هذه الآية.


وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

بيان

الاتصال البين بين الآيات أعني الارتباط الظاهر بين فرض القتال، و الترغيب في القرض الحسن، و المعنى المحصل من قصة طالوت و داود و جالوت يعطي أن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة، و المراد بيان ما للقتال من شئون الحياة، و الروح الذي به تقدم الأمة في حياتهم الدينية، و الدنيوية، و سعادتهم الحقيقية، يبين سبحانه فيها فرض الجهاد، و يدعو إلى الإنفاق و البذل في تجهيز المؤمنين و تهيئة العدة و القوة، و سماه إقراضا لله لكونه في سبيله، مع ما فيه من كمال الاسترسال و الإيذان بالقرب، ثم يقص قصة طالوت و جالوت و داود ليعتبر بها هؤلاء المؤمنون المأمورون بالقتال مع أعداء الدين و يعلموا أن الحكومة و الغلبة للإيمان و التقوى و إن قل حاملوهما، و الخزي و الفناء للنفاق و الفسق و إن كثر جمعهما، فإن بني إسرائيل، و هم أصحاب القصة، كانوا أذلاء مخزيين ما داموا على الخمود و الكسل و التواني، فلما قاموا لله و قاتلوا في سبيل الله و استظهروا بكلمة الحق و إن كان الصادق منهم في قوله القليل منهم، و تولى أكثرهم عند إنجاز القتال أولا، و بالاعتراض على طالوت ثانيا، و بالشرب من النهر ثالثا، و بقولهم: لا طاقة لنا بجالوت و جنوده رابعا، نصرهم الله تعالى على عدوهم فهزموهم بإذن الله و قتل داود جالوت و استقر الملك فيهم، و عادت الحياة إليهم، و رجع إليهم سؤددهم و قوتهم، و لم يكن ذلك كله إلا لكلمة أجراها الإيمان و التقوى على لسانهم لما برزوا لجالوت و جنوده، و هي قولهم: ربنا أفرغ علينا صبرا و ثبت أقدامنا و انصرنا على القوم الكافرين، فكذلك ينبغي للمؤمنين أن يسيروا بسيرة الصالحين من الماضين، فهم الأعلون إن كانوا مؤمنين.

قوله تعالى: و قاتلوا في سبيل الله الآية، فرض و إيجاب للجهاد، و قد قيده تعالى هاهنا و سائر المواضع من كلامه بكونه في سبيل الله لئلا يسبق إلى الوهم و لا يستقر في الخيال أن هذه الوظيفة الدينية المهمة لإيجاد السلطة الدنيوية الجافة، و توسعة المملكة الصورية، كما تخيله الباحثون اليوم في التقدم الإسلامي من الاجتماعيين و غيرهم، بل هو لتوسعة سلطة الدين التي فيها صلاح الناس في دنياهم و آخرتهم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 1:31 pm

و في قوله تعالى: و اعلموا أن الله سميع عليم، تحذير للمؤمنين في سيرهم هذا السير أن لا يخالفوا بالقول إذا أمر الله و رسوله بشيء، و لا يضمروا نفاقا كما كان ذلك من بني إسرائيل حيث تكلموا في أمر طالوت فقالوا: أنى يكون له الملك علينا «إلخ»، و حيث قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت و جنوده، و حيث فشلوا و تولوا لما كتب عليهم القتال و حيث شربوا من النهر بعد ما نهاهم طالوت عن شربه.

قوله تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا إلى قوله أضعافا كثيرة، القرض معروف و قد عد الله سبحانه ما ينفقونه في سبيله قرضا لنفسه لما مر أنه للترغيب، و لأنه إنفاق في سبيله، و لأنه مما سيرد إليهم أضعافا مضاعفة.

و قد غير سياق الخطاب من الأمر إلى الاستفهام فقيل بعد قوله: و قاتلوا في سبيل الله: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا، و لم يقل: قاتلوا في سبيل الله و أقرضوا، لينشط بذلك ذهن المخاطب بالخروج من حيز الأمر غير الخالي من كلفة التكليف إلى حيز الدعوة و الندب فيستريح بذلك و يتهيج.

قوله تعالى: و الله يقبض و يبصط و إليه ترجعون، - القبض - الأخذ بالشيء إليك و يقابله البسط، و - البصط - هو البسط قلب سينه صادا لمجاورته حرف الإطباق و التفخيم و هو الطاء.

و إيراد صفاته الثلاثة أعني: كونه قابضا و باسطا و مرجعا يرجعون إليه للإشعار بأن ما أنفقوه بإقراضه تعالى لا يعود باطلا و لا يستبعد تضعيفه أضعافا كثيرة فإن الله هو القابض الباسط، ينقص ما شاء، و يزيد ما شاء، و إليه يرجعون فيوفيهم ما أقرضوه أحسن التوفية.

قوله تعالى: أ لم تر إلى الملإ من بني إسرائيل إلى قوله: في سبيل الله، - الملأ - كما قيل: الجماعة من الناس على رأي واحد، سميت بالملإ لكونها تملأ العيون عظمة و أبهة.

و قولهم لنبيهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، على ما يعطيه السياق يدل على أن الملك المسمى بجالوت كان قد تملكهم، و سار فيهم بما افتقدوا به جميع شئون حياتهم المستقلة من الديار و الأولاد بعد ما كان الله أنجاهم من آل فرعون، يسومونهم سوء العذاب ببعثة موسى و ولايته و ولاية من بعده من أوصيائه، و بلغ من اشتداد الأمر عليهم ما انتبه به الخامد من قواهم الباطنة، و عاد إلى أنفسهم العصبية الزائلة المضعفة فعند ذلك سأل الملأ منهم نبيهم أن يبعث لهم ملكا ليرتفع به اختلاف الكلمة من بينهم و تجتمع به قواهم المتفرقة الساقطة عن التأثير، و يقاتلوا تحت أمره في سبيل الله.

قوله تعالى: قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، كان بنو إسرائيل سألوا نبيهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله و ليس ذلك للنبي بل الأمر في ذلك إلى الله سبحانه، و لذلك أرجع نبيهم الأمر في القتال و بعث الملك إلى الله تعالى، و لم يصرح باسمه تعظيما لأن الذي أجابهم به هو السؤال عن مخالفتهم و كانت مرجوة منهم ظاهرة من حالهم بوحيه تعالى فنزه اسمه تعالى من التصريح به بل إنما أشار إلى أن الأمر منه و إليه تعالى بقوله: إن كتب، و - الكتابة - و هي الفرض إنما تكون من الله تعالى.

و قد كانت المخالفة و التولي عن القتال مرجوا منهم لكنه أورده بطريق الاستفهام ليتم الحجة عليهم بإنكارهم فيما سيجيبون به من قولهم: و ما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله.

قوله تعالى: قالوا: و ما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله و قد أخرجنا، - الإخراج - من البلاد لما كان ملازما للتفرقة بينهم و بين أوطانهم المألوفة، و منعهم عن التصرف فيها و التمتع بها، كني به عن مطلق التصرف و التمتع، و لذلك نسب الإخراج إلى الأبناء أيضا كما نسب إلى البلاد.

قوله تعالى: فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم و الله عليم بالظالمين، تفريع على قول نبيهم: هل عسيتم «إلخ»، و قولهم: و ما لنا أن لا نقاتل، و في قوله تعالى: و الله عليم بالظالمين، دلالة على أن قول نبيهم لهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، إنما كان لوحي من الله سبحانه: أنهم سيتولون عن القتال.

قوله تعالى: و قال لهم نبيهم إن الله قد بعث إلى قوله: من المال في جوابه (عليه السلام) هذا حيث نسب بعث الملك إلى الله تنبيه بما فات منهم إذ قالوا لنبيهم ابعث لنا ملكا نقاتل و لم يقولوا: اسأل الله أن يبعث لنا ملكا و يكتب لنا القتال.

و بالجملة التصريح باسم طالوت هو الذي أوجب منهم الاعتراض على ملكه و ذلك لوجود صفتين فيه كانتا تنافيان عندهم الملك، و هما ما حكاهما الله تعالى من قولهم أنى يكون له الملك علينا و نحن أحق بالملك منه، و من المعلوم أن قولهم هذا لنبيهم، و لم يستدلوا على كونهم أحق بالملك منه بشيء يدل على أن دليله كان أمرا بينا لا يحتاج إلى الذكر، و ليس إلا أن بيت النبوة و بيت الملك في بني إسرائيل و هما بيتان مفتخران بموهبة النبوة و الملك كانتا غير البيت الذي كان منه طالوت، و بعبارة أخرى لم يكن طالوت من بيت الملك و لا من بيت النبوة و لذلك اعترضوا على ملكه بأنى، و هم أهل بيت الملك أو الملك و النبوة معا، أحق بالملك منه لأن الله جعل الملك فينا فكيف يقبل الانتقال إلى غيرنا، و هذا الكلام منهم من فروع قولهم بنفي البداء و عدم جواز النسخ و التغيير حيث قالوا: يد الله مغلولة غلت أيديهم، و قد أجاب عنه نبيهم بقوله: إن الله اصطفاه عليكم فهذه إحدى الصفتين المنافيتين للملك عندهم، و الصفة الثانية ما في قولهم: و لم يؤت سعة من المال و قد كان طالوت فقيرا، و قد أجاب عنه نبيهم بقوله: و زاده بسطة في العلم و الجسم «إلخ».

قوله تعالى: قال: إن الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم و الجسم، الاصطفاء و الاستصفاء - الاختيار و أصله الصفو، و - البسطة - هي السعة و القدرة، و هذان جوابان عن اعتراضهم.

أما اعتراضهم بكونهم أحق بالملك من طالوت لشرف بيتهم، فجوابه: أن هذه مزية كان الله سبحانه خص بيتهم بها و إذا اصطفى عليهم غيرهم كان أحق بالملك منهم، و كان الشرف و التقدم لبيته على بيوتهم و لشخصه على أشخاصهم، فإنما الفضل يتبع تفضيله تعالى.

و أما اعتراضهم بأنه لم يؤت سعة من المال، فجوابه: أن الملك و هو استقرار السلطة على مجتمع من الناس حيث كان الغرض الوحيد منه أن يتلاءم الإرادات المتفرقة من الناس و تجتمع تحت إرادة واحدة و تتحد الأزمة باتصالها بزمام واحد فيسير بذلك كل فرد من أفراد المجتمع طريق كماله اللائق به فلا يزاحم بذلك فرد فردا، و لا يتقدم فرد من غير حق، و لا يتأخر فرد من غير حق.

و بالجملة الغرض من الملك أن يدبر صاحبه المجتمع تدبيرا يوصل كل فرد من أفراده إلى كماله اللائق به، و يدفع كل ما يمانع ذلك، و الذي يلزم وجوده في نيل هذا المطلوب أمران: أحدهما: العلم بجميع مصالح حياة الناس و مفاسدها، و ثانيهما: القدرة الجسمية على إجراء ما يراه من مصالح المملكة، و هما اللذان يشير إليهما قوله تعالى: و زاده بسطة في العلم و الجسم، و أما سعة المال فعده من مقومات الملك من الجهل.

ثم جمع الجميع تحت حجة واحدة ذكرها بقوله تعالى: و الله يؤتي ملكه من يشاء، و هو أن الملك لله وحده ليس لأحد فيه نصيب إلا ما آتاه الله سبحانه منه و هو مع ذلك لله كما يفيده الإضافة في قوله تعالى، يؤتي ملكه، و إذا كان كذلك فله تعالى التصرف في ملكه كيف شاء و أراد، ليس لأحد أن يقول: لما ذا أو بما ذا أي أن يسأل عن علة التصرف لأن الله تعالى هو السبب المطلق، و لا عن متمم العلية و أداة الفعل لأن الله تعالى تام لا يحتاج إلى متمم فلا ينبغي السؤال عن نقل الملك من بيت إلى بيت، أو تقليده أحدا ليس له أسبابه الظاهرة من الجمع و المال.

و الإيتاء و الإفاضة الإلهية و إن كانت كيف شاء و لمن شاء غير أنها مع ذلك لا تقع جزافا خالية عن الحكم و المصالح، فإن المقصود من قولنا: إنه تعالى يفعل ما يشاء، و يؤتي الملك من يشاء و نظائر ذلك ليس أن الله سبحانه لا يراعي في فعله جانب المصلحة أو أنه يفعل فعلا فإن اتفق أن صادف المصلحة فقد صادف و إن لم يصادف فقد صار جزافا و لا محذور لأن الملك له فله أن يفعل ما يشاء هذا، فإن هذا مما يبطله الظواهر الدينية و البراهين العقلية.

بل المقصود بذلك: أن الله سبحانه حيث ينتهي إليه كل خلق و أمر فالمصالح و جهات الخير مثل سائر الأشياء مخلوقة له تعالى، و إذا كان كذلك لم يكن الله سبحانه في فعله مقهورا لمصلحة من المصالح محكوما بحكمها، كما أننا في أفعالنا كذلك، فإذا فعل سبحانه فعلا أو خلق خلقا و لا يفعل إلا الجميل، و لا يخلق إلا الحسن كان فعله ذا مصلحة مرعيا فيه صلاح العباد غير أنه تعالى غير محكوم و لا مقهور للمصلحة.

و من هنا صح اجتماع هذا التعليل مع ما تقدمه، أعني اجتماع قوله تعالى: و الله يؤتي ملكه من يشاء، مع قوله تعالى: إن الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم و الجسم، فإن الحجة الأولى مشتملة على التعليل بالمصالح و الأسباب، و الحجة الثانية على إطلاق الملك الذي يفعل ما يشاء، و لو لا أن إطلاق الملك و كونه تعالى يفعل ما يشاء لا ينافي كون أفعاله مقارنة للمصالح و الحكم لم يصح الجمع بين الكلامين فضلا عن تأييد أحدهما أو تتميمه بالآخر.

و قد أوضح هذا المعنى أحسن الإيضاح تذييل الآية بقوله تعالى: و الله واسع عليم فإن الواسع يدل على عدم ممنوعيته تعالى عن فعل و إيتاء أصلا و العليم يدل على أن فعله تعالى فعل يقع عن علم ثابت غير مخطىء فهو سبحانه يفعل كل ما يشاء و لا يفعل إلا فعلا ذا مصلحة.

و - الوسعة و السعة - في الأصل حال في الجسم به يقبل أشياء أخر من حيث التمكن كسعة الإناء لما يصب فيه، و الصندوق لما يوضع فيه، و الدار لمن يحل فيها ثم استعير للغني و لكن لا كل غني و من كل جهة، بل من جهة إمكان البذل معه كان المال يسع بذل ما أريد بذله و بهذا المعنى يطلق عليه سبحانه، فهو سبحانه واسع أي غني لا يعجزه بذل ما أراد بذله بل يقدر على ذلك.

قوله تعالى: و قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم، التابوت - هو الصندوق، و هو على ما قيل فعلوت من التوب بمعنى الرجوع لأن الإنسان يرجع إلى الصندوق رجوعا بعد رجوع.

كلام في معنى السكينة

و السكينة من السكون خلاف الحركة و تستعمل في سكون القلب و هو استقرار الإنسان و عدم اضطراب باطنه في تصميم إرادته على ما هو حال الإنسان الحكيم من الحكمة باصطلاح فن الأخلاق صاحب العزيمة في أفعاله، و الله سبحانه جعلها من خواص الإيمان في مرتبة كماله، و عدها من مواهبه السامية.

بيان ذلك: أن الإنسان بغريزته الفطرية يصدر أفعاله عن التعقل، و هو تنظيم مقدمات عقلية مشتملة على مصالح: الأفعال، و تأثيرها في سعادته في حياته و الخير المطلوب في اجتماعه، ثم استنتاج ما ينبغي أن يفعله و ما ينبغي أن يتركه.

و هذا العمل الفكري إذا جرى الإنسان على أسلوب فطرته و لم يقصد إلا ما ينفعه نفعا حقيقيا في سعادته يجري على قرار من النفس و سكون من الفكر من غير اضطراب و تزلزل، و أما إذا أخلد الإنسان في حياته إلى الأرض و اتبع الهوى اختلط عليه الأمر، و داخل الخيال بتزييناته و تنميقاته في أفكاره و عزائمه فأورث ذلك انحرافه عن سنن الصواب تارة، و تردده و اضطرابه في عزمه و تصميم إرادته و إقدامه على شدائد الأمور و هزاهزها أخرى.

و المؤمن بإيمانه بالله تعالى مستند إلى سناد لا يتحرك و ركن لا ينهدم.

بانيا أموره على معارف حقة لا تقبل الشك و الريب، مقدما في أعماله عن تكليف إلهي لا يرتاب فيها، ليس إليه من الأمر شيء حتى يخاف فوته، أو يحزن لفقده، أو يضطرب في تشخيص خيره من شره.

و أما غير المؤمن فلا ولي له يتولى أمره، بل خيره و شره يرجعان إليه نفسه فهو واقع في ظلمات هذه الأفكار التي تهجم عليه من كل جانب من طريق الهوى و الخيال و الإحساسات المشئومة، قال تعالى: «و الله ولي المؤمنين»: آل عمران - 68، و قال تعالى: «ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم:» محمد - 11، و قال تعالى: «الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات:» البقرة - 257، و قال تعالى: «إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون:» الأعراف - 27، و قال تعالى: «ذلكم الشيطان يخوف أولياءه:» آل عمران - 175، و قال تعالى: «الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء و الله يعدكم مغفرة:» البقرة - 268، و قال تعالى: «و من يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم و يمنيهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا - إلى أن قال - وعد الله حقا و من أصدق من الله قيلا:» النساء - 122، و قال تعالى: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون:» يونس - 62، و الآيات كما ترى تضع كل خوف و حزن و اضطراب و غرور في جانب الكفر، و ما يقابلها من الصفات في جانب الإيمان.

و قد بين الأمر أوضح من ذلك بقوله تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها:» الأنعام - 122، فدل على أن خبط الكافر في مشيه لكونه واقعا في الظلمات لا يبصر شيئا، لكن المؤمن له نور إلهي يبصر به طريقه، و يدرك به خيره و شره، و ذلك لأن الله أفاض عليه حياة جديدة على حياته التي يشاركه فيها الكافر، و تلك الحياة هي المستتبعة لهذا النور الذي يستنير به، و في معناه قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به و يغفر لكم»: الحديد - 28.

ثم قال تعالى: «لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله و لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه:» المجادلة - 22، فأفاد أن هذه الحياة إنما هي بروح منه، و تلازم لزوم الإيمان و استقراره في القلب فهؤلاء المؤمنون مؤيدون بروح من الله تستتبع استقرار الإيمان في قلوبهم، و الحياة الجديدة في قوالبهم، و النور المضيء قدامهم.

و هذه الآية كما ترى قريبة الانطباق على قوله تعالى: «هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم و لله جنود السموات و الأرض و كان الله عليما حكيما:» الفتح - 4، فالسكينة في هذه الآية تنطبق على الروح في الآية السابقة و ازدياد الإيمان على الإيمان في هذه على كتابة الإيمان في تلك، و يؤيد هذا التطبيق قوله تعالى في ذيل الآية: و لله جنود السموات و الأرض، فإن القرآن يطلق الجند على مثل الملائكة و الروح.

و يقرب من هذه الآية سياقا قوله تعالى: «فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و ألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها و أهلها:» الفتح - 26، و كذا قوله تعالى: «فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها:» التوبة - 40.

و قد ظهر مما مر أنه يمكن أن يستفاد من كلامه تعالى أن السكينة روح إلهي أو تستلزم روحا إلهيا من أمر الله تعالى يوجب سكينة القلب و استقرار النفس و ربط الجأش، و من المعلوم أن ذلك لا يوجب خروج الكلام عن معناه الظاهر و استعمال السكينة التي هي بمعنى سكون القلب و عدم اضطرابه في الروح الإلهي، و بهذا المعنى ينبغي أن يوجه ما سيأتي من الروايات.

قوله تعالى: و بقية مما ترك آل موسى و آل هرون تحمله الملائكة «إلخ»، آل الرجل خاصته من أهله و يدخل فيهم نفسه إذا أطلق، فآل موسى و آل هارون هم موسى و هارون و خاصتهما من أهلهما، و قوله: تحمله الملائكة، حال عن التابوت، و في قوله تعالى: إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين، كسياق صدر الآية دلالة على أنهم سألوا نبيهم آية على صدق ما أخبر به: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا.

قوله تعالى: فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر إلى قوله منهم، الفصل هاهنا مفارقة المكان كما في قوله تعالى: «فلما فصلت العير:» يوسف - 94، و ربما استعمل بمعنى القطع و هو إيجاد المفارقة بين الشيئين كما قال تعالى: «و هو خير الفاصلين»: الأنعام - 57، فالكلمة مما يتعدى و لا يتعدى.

و الجند المجتمع الغليظ من كل شيء و سمي العسكر جندا لتراكم الأشخاص فيه و غلظتهم، و في جمع الجند في الكلام دلالة على أنهم كانوا من الكثرة على حد يعتنى به و خاصة مع ما فيه المؤمنين من القلة بعد جواز النهر و تفرق الناس، و نظير هذه النكتة موجود في قوله تعالى: فلما فصل طالوت بالجنود.

و في مجموع الكلام إشارة إلى حق الأمر في شأن بني إسرائيل و إيفائهم بميثاق الله، فإنهم سألوا بعث الملك جميعا و شدوا الميثاق، و قد كانوا من الكثرة بحيث لما تولوا إلا قليلا منهم عن القتال كان ذلك القليل الباقي جنودا و هذه الجنود، أيضا لم تغن عنهم شيئا بل تخلفوا بشرب النهر و لم يبق إلا القليل من القليل مع شائبة فشل و نفاق بينهم من جهة المغترفين، و مع ذلك كان النصر للذين آمنوا و صبروا مع ما كان عليه جنود طالوت من الكثرة.

و الابتلاء الامتحان، و النهر مجرى الماء الفائض، و الاغتراف و الغرف رفع الشيء و تناوله، يقال: غرف الماء غرفة و اغترفه غرفة إذا رفعه ليتناوله و يشربه.

و في استثناء قوله تعالى: إلا من اغترف غرفة بيده عن مطلق الشرب دلالة على أنه كان المنهي عنه هو الشرب على حالة خاصة، و قد كان الظاهر أن يقال: فمن شرب منه فليس مني إلا من اغترف غرفة بيده غير أن وضع قوله تعالى: و من لم يطعمه فإنه مني، في الكلام مع تبديل الشرب بالطعم و معناه الذوق أوجب تحولا في الكلام من جهة المعنى إذ لو لم تضف الجملة الثانية كان مفاد الكلام أن جميع الجنود كانوا من طالوت، و الشرب يوجب انقطاع جمع منه و الاغتراف يوجب الانقطاع من المنقطع أي الاتصال و أما لو أضيفت الجملة الثانية، أعني قوله تعالى: و من لم يطعمه فإنه مني إلى الجملة الأولى كان مفاد الكلام أن الأمر غير مستقر بحسب الحقيقة بعد إلا بحسب الظاهر فالجنود في الظاهر مع طالوت لكن لم يتحقق بعد أن الذين هم مع طالوت من هم، ثم النهر الذي سيبتليهم الله به سيحقق كلا الفريقين و يشخصهما فيعين به من ليس منه و هو من شرب من النهر، و يتعين به من هو منه و هو من لم يطعمه، و إذا كان هذا هو المفاد من الكلام لم يفد قوله في الاستثناء إلا من اغترف غرفة بيده كون المغترفين من طالوت لأن ذلك إنما كان مفادا لو كان المذكور هناك الجملة الأولى فقط، و أما مع وجود الجملتين فيتعين الطائفتان: أعني الذين ليسوا منه و هم الشاربون، و الذين هم منه و هم غير الطاعمين، و من المعلوم أن الإخراج من الطائفة الأولى إنما يوجب الخروج منها لا الدخول في الثانية، و لازم ذلك أن الكلام يوجب وجود ثلاث طوائف: الذين ليسوا منه، و الذين هم منه، و المغترفون، و على هذا فالباقون معه بعد الجواز طائفتان: الذين هم منه، و الذين ليسوا من الخارجين، فجاز أن يختلف حالهم في الصبر و الجزع و الاعتماد بالله و القلق و الاضطراب.

قوله تعالى: فلما جاوزه هو و الذين آمنوا معه إلى آخر الآية، الفئة القطعة من الناس، و التدبر في الآيات يعطي أن يكون القائلون: لا طاقة لنا، هم المغترفون، و المجيبون لهم هم الذين لم يطعموه أصلا، و الظن بلقاء الله إما بمعنى اليقين به و إما كناية عن الخشوع.

و لم يقولوا: يمكن أن تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإذن الله، بل قالوا: كم من فئة «إلخ»، أخذا بالواقع في الاحتجاج بآرائه المصداق ليكون أقنع للخصم.

قوله تعالى: و لما برزوا لجالوت و جنوده «إلخ»، البروز هو الظهور، و منه البراز و هو الظهور للحرب، و الإفراغ صب نحو المادة السيالة في القالب و المراد إفاضة الله سبحانه الصبر عليهم على قدر ظرفيتهم فهو استعارة بالكناية لطيفة، و كذا تثبيت الأقدام كناية عن الثبات و عدم الفرار.

قوله تعالى: فهزموهم بإذن الله «إلخ»، الهزم الدفع.

قوله تعالى: و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض إلى آخر الآية، من المعلوم أن المراد بفساد الأرض فساد من على الأرض أي فساد الاجتماع الإنساني و لو استتبع فساد الاجتماع فسادا في أديم الأرض فإنما هو داخل في الغرض بالتبع لا بالذات، و هذه حقيقة من الحقائق العلمية ينبه لها القرآن.

بيان ذلك: أن سعادة هذه النوع لا تتم إلا بالاجتماع و التعاون.

و من المعلوم أن هذا الأمر لا يتم إلا مع حصول وحدة ما في هيكل الاجتماع بها تتحد أعضاء الاجتماع و أجزاؤه بعضها مع بعض بحيث يعود الجميع كالفرد الواحد يفعل و ينفعل عن نفس واحدة و بدن واحد، و الوحدة الاجتماعية و مركبها الذي هو اجتماع أفراد النوع حالهما شبيه حال الوحدة الاجتماعية التي في الكون و مركبها الذي هو اجتماع أجزاء هذا العالم المشهود، و من المعلوم أن وحدة هذا النظام أعني نظام التكوين إنما هي نتيجة التأثير و التأثر الموجودين بين أجزاء العالم فلو لا المغالبة بين الأسباب التكوينية و غلبة بعضها على بعض و اندفاع بعضها الآخر عنه و مغلوبيتها له لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض بل بقي كل على فعليته التي هي له، و عند ذلك بطل الحركات فبطل عالم الوجود.

كذلك نظام الاجتماع الإنساني لو لم يقم على أساس التأثير و التأثر، و الدفع و الغلبة لم يرتبط أجزاء النظام بعضها ببعض، و لم يتحقق حينئذ نظام و بطلت سعادة النوع، فإنا لو فرضنا ارتفاع الدفع بهذا المعنى، و هو الغلبة و تحميل الإرادة من البين كان كل فرد من أفراد الاجتماع فعل فعلا ينافي منافع الآخر سواء منافعه المشروعة أو غيرها لم يكن للآخر إرجاعه إلى ما يوافق منافعه و يلائمها و هكذا، و بذلك تنقطع الوحدة من بين الأجزاء و بطل الاجتماع، و هذا البحث هو الذي بحثنا عنه فيما مر: أن الأصل الأول الفطري للإنسان المكون للاجتماع هو الاستخدام، و أما التعاون و المدنية فمتفرع عليه و أصل ثانوي، و قد مر تفصيل الكلام في تفسير قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة»: البقرة - 213.

و في الحقيقة معنى الدفع و الغلبة معنى عام سار في جميع شئون الاجتماع الإنساني و حقيقته حمل الغير بأي وجه أمكن على ما يريده الإنسان، و دفعه عما يزاحمه و يمانعه عليه، و هذا معنى عام موجود في الحرب و السلم معا، و في الشدة و الرخاء، و الراحة و العناء جميعا، و بين جميع الأفراد في جميع شعوب الاجتماع، نعم إنما يتنبه الإنسان له عند ظهور المخالفة و مزاحمة بعض الأفراد بعضهم في حقوق الحياة أو في الشهوات و الميول و نحوها، فيشرع الإنسان في دفع الإنسان المزاحم الممانع عن حقه أو عن مشتهاه و معلوم أن هذا على مراتب ضعيفة و شديدة، و القتال و الحرب إحدى مراتبه.

و أنت تعلم أن هذه الحقيقة أعني كون الدفع و الغلبة من الأصول الفطرية عند الإنسان أصل فطري أعم من أن يكون هذا الدفع دفعا بالعدل عن حق مشروع أو بغير ذلك، إذ لو لم يكن في فطرة الإنسان أصل مسلم على هذه الوتيرة لم يتحقق منه، لا دفاع مشروع على الحق لا غيره، فإن أعمال الإنسان تستند إلى فطرته كما مر بيانه سابقا فلو لا اشتراك الفطرة بين المؤمن و الكافر لم يمكن أن يختص المؤمن بفطرة يبني عليها أعماله.

و هذا الأصل الفطري ينتفع به الإنسان في إيجاد أصل الاجتماع على ما مر من البيان، ثم ينتفع به في تحميل إرادته على غيره و تمالك ما بيده تغلبا و بغيا، و ينتفع به في دفعه و استرداد ما تملكه تغلبا و بغيا، و ينتفع به في إحياء الحق بعد موته جهلا بين الناس و تحميل سعادتهم عليهم، فهو أصل فطري ينتفع به الإنسان أكثر مما يستضر به.

و هذا الذي ذكرناه «لعله» هو المراد بقوله تعالى: و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، و يؤيد ذلك تذييله بقوله تعالى: «و لكن الله ذو فضل على العالمين».

و قد ذكر بعض المفسرين أن المراد بالدفع في الآية دفع الله الكافرين بالمؤمنين كما أن المورد أيضا كذلك و ربما أيده أيضا قوله تعالى: «و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله:» الحج - 40.

و فيه أنه في نفسه معنى صحيح لكن ظاهر الآية أن المراد بصلاح الأرض مطلق الصلاح الدائم المبقي للاجتماع دون الصلاح الخاص الموجود في أحيان يسيرة كقصة طالوت و قصص أخرى يسيرة معدودة.

و ربما ذكر آخرون: أن المراد بها دفع الله العذاب و الهلاك عن الفاجر بسبب البر، و قد وردت فيه من طرق العامة و الخاصة روايات كما في المجمع، و الدر المنثور، عن جابر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله يصلح بصلاح الرجل المسلم ولده و ولد ولده و أهل دويرته و دويرات حوله، و لا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم، و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام)، قال: إن الله ليدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا و لو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، و إن الله ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي و لو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، و إن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج و لو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا الحديث، و مثلهما غيرهما.

و فيه: أن عدم انطباق الآيتين على معنى الحديثين مما لا يخفى إلا أن تنطبق عليهما من جهة أن موردهما أيضا من مصاديق دفع الناس.

و ربما ذكر بعضهم: أن المراد دفع الله الظالمين بالظالمين، و هو كما ترى.

قوله تعالى: تلك آيات الله «إلخ»، كالخاتمة يختم بها الكلام و القصة غير أن آخر الآية: و إنك لمن المرسلين، لا يخلو عن ارتباط بالآية التالية.

بحث روائي

في الدر المنثور:، أخرج عبد الرزاق و ابن جرير عن زيد بن أسلم، قال: لما نزلت من الذي يقرض الله قرضا حسنا الآية، جاء أبو الدحداح إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا نبي الله، أ لا أرى ربنا يستقرضنا مما أعطانا لأنفسنا و إن لي أرضين: إحداهما بالعالية و الأخرى بالسافلة، و إني قد جعلت خيرهما صدقة، و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: كم من عذق مذلل لأبي الدحداح في الجنة.

أقول: و الرواية مروية بطرق كثيرة.

و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): لما نزلت هذه الآية: من جاء بالحسنة فله خير منها قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم زدني فأنزل الله من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم زدني فأنزل الله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة، فعلم رسول الله أن الكثير من الله لا يحصى و ليس له منتهى.

أقول: و روى الطبرسي في المجمع، و العياشي في تفسيره نظيره و روي قريب منه من طرق أهل السنة أيضا، قوله (عليه السلام): فعلم رسول الله، يومىء إليه آخر الآية: و الله يقبض و يبصط، إذ لا حد يحد عطاءه تعالى، و قد قال: «و ما كان عطاء ربك محظورا:» الإسراء - 20.

و في تفسير العياشي، عن أبي الحسن (عليه السلام): في الآية، قال: هي صلة الإمام: أقول: و روي مثله في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) و هو من باب عد المصداق.

و في المجمع،: في قوله تعالى: إذ قالوا: لنبي لهم الآية هو إشموئيل، و هو بالعربية إسماعيل.

أقول: و هو مروي من طرق أهل السنة أيضا: و شموئيل هو الذي يوجد في العهدين بلفظ صموئيل.

و في تفسير القمي، عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن هارون بن خارجة عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): أن بني إسرائيل بعد موت موسى عملوا بالمعاصي، و غيروا دين الله، و عتوا عن أمر ربهم، و كان فيهم نبي يأمرهم و ينهاهم فلم يطيعوه، و روي أنه أرميا النبي على نبينا و آله و عليه السلام فسلط الله عليهم جالوت و هو من القبط، فأذلهم و قتل رجالهم و أخرجهم من ديارهم و أموالهم، و استعبد نساءهم، ففزعوا إلى نبيهم، و قالوا: سل الله أن يبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله و كانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، و الملك و السلطان في بيت آخر، و لم يجمع الله النبوة و الملك في بيت واحد، فمن أجل ذلك قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، فقال لهم نبيهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا؟ فقالوا: و ما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله و قد أخرجنا من ديارنا و أبنائنا، فكان كما قال الله: فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم - و الله عليم بالظالمين، فقال لهم نبيهم: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا، فغضبوا من ذلك و قالوا: أنى يكون له الملك علينا؟ و نحن أحق بالملك منه و لم يؤت سعة من المال، و كانت النبوة في بيت لاوي، و الملك في بيت يوسف، و كان طالوت من ولد إبنيامين أخي يوسف لأمه و أبيه، و لم يكن من بيت النبوة و لا من بيت المملكة، فقال لهم نبيهم: إن الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم و الجسم و الله يؤتي ملكه من يشاء و الله واسع عليم، و كان أعظمهم جسما و كان قويا و كان أعلمهم، إلا أنه كان فقيرا فعابوه بالفقر، فقالوا لم يؤت سعة من المال، فقال لهم نبيهم: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم و بقية مما ترك آل موسى و آل هارون تحمله الملائكة، و كان التابوت الذي أنزل الله على موسى فوضعته فيه أمه و ألقته في اليم فكان في بني إسرائيل يتبركون به، فلما حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح و درعه و ما كان عنده من آيات النبوة، و أودعه عند يوشع وصيه، و لم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به، و كان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عز و شرف ما دام التابوت عندهم، فلما عملوا بالمعاصي و استخفوا بالتابوت رفعه الله عنهم، فلما سألوا النبي بعث الله عليهم طالوت ملكا فقاتل معهم فرد الله عليهم التابوت كما قال: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت - فيه سكينة من ربكم و بقية مما ترك آل موسى و آل هرون - تحمله الملائكة، قال: البقية ذرية الأنبياء.

أقول: قوله: و روي أنه أرميا النبي، رواية معترضة في رواية، قوله (عليه السلام): فكان كما قال الله «إلخ»، أي تولى الكثيرون و لم يبق على تسليم حكم القتال إلا قليل منهم، و في بعض الأخبار أن هذا القليل كانوا ستين ألفا، روى ذلك القمي في تفسيره عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام)، و رواه العياشي عن الباقر (عليه السلام).

و قوله: و كانت النبوة في بيت لاوي، و الملك في بيت يوسف، و قد قيل: إن الملك كان في بيت يهوذا و قد اعترض عليه أن لم يكن بينهم ملك قبل طالوت و داود و سليمان حتى يكون في بيت يهوذا، و هذا يؤيد ما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت أن الملك كان في بيت يوسف فإن كون يوسف ملكا مما لا ينكر.

و قوله: قال: و البقية ذرية الأنبياء، وهم من الراوي، و إنما فسر (عليه السلام) بقوله: ذرية الأنبياء قوله: آل موسى و آل عمران، و يؤيد ما ذكرناه ما في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): أنه سئل عن قول الله: و بقية مما ترك آل موسى و آل هرون تحمله الملائكة، فقال: ذرية الأنبياء.

و في الكافي، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن خالد، و الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: و قال الله: إن الله مبتليكم بنهر - فمن شرب منه فليس مني و من لم يطعمه فإنه مني فشربوا منه إلا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، منهم من اغترف، و منهم من لم يشرب، فلما برزوا لجالوت قال الذين اغترفوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت و جنوده، و قال الذين لم يغترفوا: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله و الله مع الصابرين.

أقول: و أما كون الباقين مع طالوت ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا بعدد أهل بدر فقد كثر فيه الروايات من طرق الخاصة و العامة، و أما كون القائلين: لا طاقة لنا، هم المغترفين، و كون القائلين كم من فئة «إلخ»، هم الذين لم يشربوا أصلا فيمكن استفادته من نحو الاستثناء في الآية على ما بيناه: من معنى الاستثناء.

و في الكافي، بإسناده عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب عن يحيى الحلبي عن عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: إن آية ملكه إلى قوله تحمله الملائكة قال: كانت تحمله في صورة البقرة.

و اعلم أن الوجه في ذكر سند هذا الحديث مع أنه ليس من دأب الكتاب ذلك لأن إسقاط الأسانيد فيه إنما هو لمكان موافقة القرآن و معه لا حاجة إلى ذكر سند الحديث، أما فيما لا يطرد فيه الموافقة و لا يتأتى التطبيق فلا بد من ذكر الإسناد، و نحن مع ذلك نختار للإيراد روايات صحيحة الإسناد أو مؤيدة بالقرائن.

و في تفسير العياشي، عن محمد الحلبي عن الصادق (عليه السلام)، قال: كان داود و إخوة له أربعة، و معهم أبوهم شيخ كبير، و تخلف داود في غنم لأبيه، ففصل طالوت بالجنود فدعاه أبو داود و هو أصغرهم، فقال: يا بني اذهب إلى إخوتك بهذا الذي صنعناه لهم يتقووا به على عدوهم و كان رجلا قصيرا أزرق قليل الشعر طاهر القلب، فخرج و قد تقارب القوم بعضهم من بعض فذكر عن أبي بصير، قال سمعته يقول: فمر داود على حجر فقال الحجر: يا داود خذني و اقتل بي جالوت فإني إنما خلقت لقتله، فأخذه فوضعه في مخلاته التي تكون فيها حجارته التي يرمي بها عن غنمه بمقذافه، فلما دخل العسكر سمعهم يتعظمون أمر جالوت، فقال لهم داود ما تعظمون من أمره فوالله لئن عاينته لأقتلنه فحدثوا بخبره حتى أدخل على طالوت، فقال يا فتى و ما عندك من القوة؟ و ما جربت من نفسك؟ قال: كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه فآخذ برأسه فأفك لحييه منها فآخذها من فيه قال: فقال: ادع لي بدرع سابغة فأتي بدرع فقذفها في عنقه فتملأ منها حتى راع طالوت و من حضره من بني إسرائيل، فقال طالوت: و الله لعسى الله أن يقتله به، قال: فلما أن أصبحوا و رجعوا إلى طالوت و التقى الناس قال داود: أروني جالوت فلما رآه أخذ الحجر فجعله في مقذافه فرماه فصك به بين عينيه فدمغه و نكس عن دابته، و قال الناس: قتل داود جالوت، و ملكه الناس حتى لم يكن يسمع لطالوت ذكر، و اجتمعت بنو إسرائيل على داود، و أنزل الله عليه الزبور، و علمه صنعة الحديد فلينه له، و أمر الجبال و الطير يسبحن معه، قال: و لم يعط أحد مثل صوته، فأقام داود في بني إسرائيل مستخفيا، و أعطي قوة في عبادة.

أقول: المقذاف المقلاع الذي يكون للرعاة يرمون به الأحجار، و قد اتفقت ألسنة الأخبار من طرق الفريقين أن داود قتل جالوت بالحجر.

في المجمع، قال: إن السكينة التي كانت فيه ريح هفافة من الجنة لها وجه كوجه الإنسان: عن علي (عليه السلام).

أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن سفيان بن عيينة و ابن جرير من طريق سلمة بن كهيل عن علي (عليه السلام) و كذا عن عبد الرزاق و أبي عبيد و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم، و صححه و ابن عساكر و البيهقي في الدلائل، من طريق أبي الأحوص عن علي (عليه السلام) مثله.

و في تفسير القمي، عن أبيه عن علي بن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام): السكينة ريح من الجنة لها وجه كوجه الإنسان.

أقول: و روى هذا المعنى أيضا الصدوق في المعاني، و العياشي في تفسيره عن الرضا (عليه السلام)، و هذه الأخبار الواردة في معنى السكينة و إن كانت آحادا إلا أنها قابلة التوجيه و التقريب إلى معنى الآية، فإن المراد بها على تقدير صحتها: أن السكينة مرتبة من مراتب النفس في الكمال توجب سكون النفس و طمأنينتها إلى أمر الله، و أمثال هذه التعبيرات المشتملة على التمثيل كثيرة في كلام الأئمة، فينطبق حينئذ على روح الإيمان، و قد عرفت في البيان السابق أن السكينة منطبقة على روح الإيمان.

و على هذا المعنى ينبغي أن يحمل ما في المعاني، عن أبي الحسن (عليه السلام): في السكينة، قال (عليه السلام): روح الله يتكلم، كانوا إذا اختلفوا في شيء كلمهم و أخبرهم، الحديث فإنما هو روح الإيمان يهدي المؤمن إلى الحق المختلف فيه.

بحث علمي و اجتماعي

ذكر علماء الطبيعة أن التجارب العلمي ينتج أن هذه الموجودات الطبيعية المجبولة على حفظ وجودها و بقائها، و الفعالة بقواها المقتضية لما يناسبها من الأفعال ينازع بعضها البعض في البقاء، و حيث كانت هذه المنازعة من جهة بسط التأثير في الغير و التأثر المتقابل من الغير و بالعكس كانت الغلبة للأقوى منهما و الأكمل وجودا، و يستنتج من ذلك أن الطبيعة لا تزال تنتخب من بين الأفراد من نوع أو نوعين أكملها و أمثلها فيتوحد للبقاء، و يفنى سائر الأفراد و ينقرض تدريجا، فهناك قاعدتان طبيعيتان: إحداهما: تنازع البقاء، و الثانية: الانتخاب الطبيعي و بقاء الأمثل.

و حيث كان الاجتماع متكئا في وجوده على الطبيعة جرى فيه أيضا نظير القانونين: أعني: قانوني تنازع البقاء، و الانتخاب و بقاء الأمثل.

فالاجتماع الكامل و هو الاجتماع المبني على أساس الاتحاد الكامل المحكم المرعى فيه حقوق الأفراد: الفردية و الاجتماعية أحق بالبقاء، و غيره أحق بالفناء و الانقراض، و التجارب قاض ببقاء الأمم الحية المراقبة لوظائفها الاجتماعية المحافظة على سلوك صراطها الاجتماعي، و انقراض الأمم بتفرق القلوب، و فشو النفاق و شيوع الظلم و الفساد و إتراف الكبراء و انهدام بنيان الجد فيهم، و الاجتماع يحاكي في ذلك الطبيعة كما ذكر.

فالبحث في الآثار الأرضية يوصلنا إلى وجود أنواع من الحيوان في العهود الأولية الأرضية هي اليوم من الحيوانات المنقرضة الأنواع كالحيوان المسمى برونتوساروس أو التي لم يبق من أنواعها إلا أنموذجات يسيرة كالتمساح و الضفدع و لم يعمل في إفنائها و انفراضها إلا تنازع البقاء، و الانتخاب الطبيعي و بقاء الأمثل، و كذلك الأنواع الموجودة اليوم لا تزال تتغير تحت عوامل التنازع و الانتخاب، و لا يصلح منها للبقاء إلا الأمثل و الأقوى وجودا، ثم يجره حكم الوراثة إلى استمرار الوجود و بقاء النوع، و على هذه الوتيرة كانت الأنواع و التراكيب الموجودة في أصل تكونها فإنما هي أجزاء المادة المنبثة في الجو حدثت بتراكمها و تجمعها الكرات و الأنواع الحادثة فيها، فما كان منها صالحا للبقاء بقي ثم توارث الوجود، و ما كان منها غير صالح لذلك لمنازعة ما هو أقوى منه معه فسد و انقرض، فهذا ما ذكره علماء الطبيعة و الاجتماع... و قد ناقضه المتأخرون بكثير من الأنواع الضعيفة الوجود الباقية بين الأنواع حتى اليوم، و بكثير من أصناف الأنواع النباتية و الحيوانية، فإن وقوع التربية بتأهيل كثير من أنواع النبات و الحيوان و إخراجها من البرية و الوحشية، و سيرها بالتربية إلى جودة الجنس و كمال النوع مع بقاء البري و الوحشي منها على الرداءة، و سيرهما إلى الضعف يوما فيوما، و استقرار التوارث فيها على تلك الصفة، كل ذلك يقضي بعدم اطراد القاعدتين أعني تنازع البقاء و الانتخاب الطبيعي.

و لذلك علل بعضهم هذه الصفة الموجودة بين الطبيعيات بفرضية أخرى، و هي تبعية المحيط فالمحيط الموجود و هو مجموع العوامل الطبيعية تحت شرائط خاصة زمانية و مكانية يستدعي تبعية الموجود في جهات وجوده له، و كذلك الطبيعة الموجودة في الفرد توجب تطبيق وجوده بالخصوصيات الموجودة في محيط حياته، و لذلك كانت لكل نوع من الأنواع التي تعيش في البر أو البحر أو في مختلف المناطق الأرضية القطبية أو الإستوائية و غير ذلك، من الأعضاء و الأدوات و القوى ما يناسب منطقة حياته و عيشته، فمحيط الحياة هو الذي يوجب البقاء عند انطباق وجود الموجود بمقتضياته و الزوال و الفناء عند عدم انطباقه بمقتضياته، فالقاعدتان ينبغي أن تنتزعا من هذا القانون أعني: أن الأصل في قانوني تنازع البقاء و الانتخاب الطبيعي هو تبعية المحيط، ففيما لا اطراد للقاعدتين لا محيط مؤثر يوجب التأثير، و لكن لقاعدة تبعية المحيط من النقض في اطرادها نظير ما للقاعدتين، و قد فصلوها في مظانها.

و لو كان تبعية المحيط تامة في تأثيرها و مطردة في حكمها كان من الواجب أن لا يوجد نوع أو فرد غير تابع، و لا أن يتغير محيط في نفسه كما أن القاعدتين لو كانتا تامتين مطردتين في حكمهما وجب أن لا يبقى شيء من الموجودات الضعيفة الوجود مع القوية منها و لا أن يجري حكم التوارث في الأصناف الردية من النبات و الحيوان.

فالحق كما ربما اعترفت به الأبحاث العلمية أن هذه القواعد على ما فيها من الصحة في الجملة غير مطردة.

و النظر الفلسفي الكلي في هذا الباب: أن أمر حدوث الحوادث المادية سواء كان من حيث أصل وجودها أو التبدلات و التغيرات الحادثة في أطراف وجودها يدور مدار قانون العلية و المعلولية، فكل موجود من الموجودات المادية بما لها من الصورة الفعالة لنفع وجوده يوجه أثره إلى غيره ليوجد فيه صورة تناسب صورة نفسه، و هذه حقيقة لا محيص عن الاعتراف بها عند التأمل في حال الموجودات بعضها مع بعض، و يستوجب ذلك أن ينقص كل من كل لنفع وجود نفسه فيضم ما نقصه إلى وجود نفسه بنحو، و لازم ذلك أن يكون كل موجود فعالا لإبقاء وجوده و حياته، و على هذا صح أن يقال: إن بين الموجودات تنازعا في البقاء، و كذلك لازم التأثير العلي أن يتصرف الأقوى في الأضعف بإفنائه لنفع نفسه أو بتغييره بنحو ينتفع به لنفسه، و بذلك يمكن أن يوجه القانونان أعني: الانتخاب الطبيعي و تبعية المحيط، فإن النوع لما كان تحت تأثير العوامل المضادة فإنما يمكنه أن يقاومها إذا كان قوي الوجود قادرا على الدفاع عن نفسه، و كذلك الحال في أفراد نوع واحد، إنما يصلح للبقاء منها ما قوي وجوده قبال المنافيات و الأضداد التي تتوجه إليه، و هذا هو الانتخاب الطبيعي و بقاء الأمثل، و كذا إذا اجتمعت عدة كثيرة من العوامل ثم اتحدت أكثرها أو تقاربت من حيث العمل فلا بد أن يتأثر منها الموجود الذي توسط بينها الأثر الذي يناسب عملها، و هذا هو تبعية المحيط.

و مما يجب أن يعلم: أن أمثال هذه النواميس أعني: تبعية المحيط و غيرها إنما يؤثر فيما صح أن يؤثر، في عوارض وجود الشيء و لواحقه، و أما نفس الذات بأن يصير نوعا آخر فلا، لكن القوم حيث كانوا لا يقولون بوجود الذات الجوهري بل يبنون البحث على أن كل موجود مجموع من العوارض المجتمعة الطارئة على المادة، و بذلك يمتاز نوع من نوع، و بالحقيقة لا نوع جوهري يباين نوعا جوهريا آخر، بل جميع الأنواع تتحلل إلى المادة الواحدة نوعا المختلفة بحسب التراكيب المتنوعة، و من هنا تراهم يحكمون بتبدل الأنواع و بتبعية المحيط أو تأثير سائر العوامل الطبيعية و لا يبالون بتبدل الذات فيها، و للبحث ذيل ممتد سيمر بك إن شاء الله تفصيل القول فيه.

و نرجع إلى أول الكلام فنقول: ذكر بعض المفسرين: أن قوله تعالى، و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض و لكن الله ذو فضل على العالمين الآية إشارة إلى قانوني تنازع البقاء و الانتخاب الطبيعي.

قال: و يقرر ذلك قوله تعالى: «أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و لله عاقبة الأمور»: الحج - 41، فهذا إرشاد إلى تنازع البقاء و الدفاع عن الحق، و أنه ينتهي ببقاء الأمثل و حفظ الأفضل.

و مما يدل على هذه القاعدة من القرآن المجيد قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال:» الرعد - 17، فهو يفيد أن سيول الحوادث و ميزان التنازع تقذف زبد الباطل الضار في الاجتماع و تدفعه و تبقى إبليز الحق النافع الذي ينمو فيه العمران، و إبريز المصلحة التي يتحلى به الإنسان، انتهى.

أقول: أما إن قاعدة تنازع البقاء و كذا قاعدة الانتخاب الطبيعي بالمعنى الذي مر بيانه حق في الجملة، و أن القرآن يعتني بهما فلا كلام فيه، لكن هذين الصنفين الذين أوردهما من الآيات غير مسوقين لبيان شيء من القاعدتين، فإن الصنف الأول من الآيات مسوق لبيان أن الله سبحانه غير مغلوب في إرادته، و أن الحق و هو الذي يرتضيه الله من المعارف الدينية غير مغلوب، و أن حامله إذا حمله على الحق و الصدق لم يكن مغلوبا البتة، و على ذلك يدل قوله تعالى أولا: بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير، و قوله تعالى ثانيا: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، فإن الجملتين في مقام بيان أن المؤمنين سيغلبون أعداءهم لا لمكان التنازع و بقاء الأمثل الأقوى، فإن الأمثل و الأقوى عند الطبيعة هو الفرد القوي في تجهيزه الطبيعي دون القوي من حيث الحق و الأمثل بحسب المعنى، بل سيغلبون لأنهم مظلومون ظلموا على قول الحق و الله سبحانه حق و ينصر الحق في نفسه، بمعنى أن الباطل لا يقدر على أن يدحض حجة الحق إذا تقابلا، و ينصر حامل الحق إذا كان صادقا في حمله كما ذكره الله بقوله: و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة «إلخ»، أي هم صادقون في قولهم الحق و حملهم إياه ثم ختم الكلام بقوله تعالى: و لله عاقبة الأمور، يشير به إلى عدة آيات تفيد أن الكون يسير في طريق كماله إلى الحق و الصدق و السعادة الحقيقية، و لا ريب أيضا في دلالة القرآن على أن الغلبة لله و لجنده البتة كما يدل عليه قوله: «كتب الله لأغلبن أنا و رسلي»: المجادلة - 21، و قوله تعالى: «و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم الغالبون:» الصافات - 173، و قوله تعالى: «و الله غالب على أمره»: يوسف - 21. و كذا الآية الثانية التي أوردها أعني قو
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 1:40 pm

و كذا الآية الثانية التي أوردها أعني قوله تعالى: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها «إلخ»، مسوقة لبيان بقاء الحق و زهوق الباطل سواء كان على نحو التنازع كما في الحق و الباطل الذين هما معا من سنخ الماديات و البقاء بينهما بنحو التنازع، أو لم يكن على نحو التنازع و المضادة كما في الحق و الباطل الذين هما بين الماديات و المعنويات فإن المعنى، و نعني به الموجود المجرد عن المادة، مقدم على المادة غير مغلوب في حال أصلا، فالتقدم و البقاء للمعنى على الصورة من غير تنازع، و كما في الحق و الباطل الذين هما معا من سنخ المعنويات و المجردات، و قد قال تعالى: «و عنت الوجوه للحي القيوم»: طه - 111، و قال تعالى: «له ما في السموات و الأرض كل له قانتون:» البقرة - 116، و قال تعالى: «و أن إلى ربك المنتهى:» النجم - 42، فهو تعالى، غالب على كل شيء، و هو الواحد القهار.

و أما الآية التي نحن فيها أعني قوله تعالى: و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض الآية، فقد عرفت أنها في مقام الإشارة إلى حقيقة يتكي عليه الاجتماع الإنساني الذي به عمارة الأرض، و باختلاله يختل العمران و تفسد الأرض، و هي غريزة الاستخدام الذي جبل عليه الإنسان، و تأديتها إلى التصالح في المنافع أعني التمدن و الاجتماع التعاوني، و هذا المعنى و إن كان بعض أعراقه و أصوله التنازع في البقاء و الانتخاب الطبيعي، لكنه مع ذلك هو السبب القريب الذي يقوم عليه عمارة الأرض و مصونيتها عن الفساد، فينبغي أن تحمل الآية التي تريد إعطاء السبب في عدم طروق الفساد على الأرض عليه لا على ما ذكر من القاعدتين.

و بعبارة أخرى واضحة: القاعدتان و هما التنازع في البقاء و الانتخاب الطبيعي توجبان انحلال الكثرة و عودتها إلى الواحدة فإن كلا من المتنازعين يريد بالنزاع إفناء الآخر و ضم ما له من الوجود و مزاياه إلى نفسه، و الطبيعة بالانتخاب تريد أن يكون الواحد الذي هو الباقي منهما أقواهما و أمثلهما فنتيجة جريان القاعدتين فساد الكثرة و بطلانها و تبدلها إلى واحد أمثل، و هذا أمر ينافي الاجتماع و التعاون و الاشتراك في الحياة الذي يطلبه الإنسان بفطرته و يهتدي إليه بغريزته و به عمارة الأرض بهذا النوع، لا إفناء قوم منه قوما، و أكل بعضهم بعضا، و الدفع الذي تعمر به الأرض و يصان عن الفساد هو الدفع الذي يدعو إلى الاجتماع و الاتحاد المستقر على الكثرة و الجماعة دون الدفع الذي يدعو إلى إبطال الاجتماع و إيجاد الوحدة المفنية للكثرة، فالقتال سبب لعمارة الأرض و عدم فسادها من حيث إنه يحيا به حقوق اجتماعية حيوية لقوم مستهلكين مستذلين لا من حيث يتشتت به الجمع و يهلك به العين و يمحى به الأثر فافهم.

بحث في التاريخ و ما يعتني به القرآن منه

التاريخ النقلي و نعني به ضبط الحوادث الكلية و الجزئية بالنقل و الحديث مما لم يزل الإنسان من أقدم عهود حياته و أزمان وجوده في الأرض مهتما به، ففي كل عصر من الأعصار على ما نعلمه عدة من حفظته أو كتابه و المؤلفين فيه، و آخرون يعتورون ما ضبطه أولئك و يأخذون ما أتحفوهم به، و الإنسان ينتفع به في جهات شتى من حياته كالاجتماع و الاعتبار و القص و الحديث و التفكه و أمور أخرى سياسية أو اقتصادية أو صناعية و غير ذلك.

و أنه على شرافته و كثرة منافعه لم يزل و لا يزال يعمل فيه عاملان بالفساد يوجبان انحرافه عن صحة الطبع و صدق البيان إلى الباطل و الكذب: أحدهما: أنه لا يزال في كل عصر محكوما للحكومة الحاضرة التي بيدها القوة و القدرة يميل إلى إظهار ما ينفعها و يغمض عما يضرها و يفسد الأمر عليها، و ليس ذلك إلا ما لا نشك فيه أن الحكومات المقتدرة في كل عصر تهتم بإفشاء ما تنتفع به من الحقائق و ستر ما تستضر به أو تلبيسها بلباس تنتفع به أو تصوير الباطل و الكذب بصورة الحق و الصدق، فإن الفرد من الإنسان و المجتمع منه مفطوران على جلب النفع و دفع الضرر بأي نحو أمكن، و هذا أمر لا يشك فيه من له أدنى شعور يشعر به الأوضاع العامة الحاضرة في زمان حياته و يتأمل به في تاريخ الأمم الماضية و البعيدة.

و ثانيهما: أن المتحملين للأخبار و الناقلين لها و المؤلفين فيها جميعهم لا يخلون من إعمال الإحساسات الباطنية و العصبيات القومية فيما يتحملون منها أو يقضون فيها، فإن جملة الأخبار في الماضين، و الحكومة في أعصارهم حكومة الدين، كانوا منتحلين بنحلة و متدينين كل بدين، و كانت الإحساسات المذهبية فيهم قوية و العصبيات القومية شديدة فلا محالة كانت تداخل الأخبار التاريخية من حيث اشتمالها على أحكام و أقضية كما أن العصبية المادية و الإحساسات القوية اليوم للحرية على الدين و للهوى على العقل يوجب مداخلات من أهل الأخبار اليوم نظير مداخلات القدماء فيما ضبطوه أو نقلوه، و من هنا أنك لا ترى أهل دين و نحلة فيما ألف أو جمع من الأخبار أودع شيئا يخالف مذهبه فما ضبطه أهل كل مذهب موافق لأصول مذهبه، و كذا الأمر في النقل اليوم لا ترى كلمة تاريخية عملته أيديهم إلا و فيه بعض التأييد للمذهب المادي.

على أن هاهنا عوامل أخرى تستدعي فساد التاريخ، و هو فقدان وسائل الضبط و الأخذ و التحمل و النقل و التأليف و الحفظ عن التغير و الفقدان سابقا و هذه النقيصة و إن ارتفعت اليوم بتقارب البلاد و تراكم وسائل الاتصال و سهولة نقل الأخبار و الانتقال و التحول لكن عمت البلية من جهة أخرى و هي: أن السياسة داخلت جميع شئون الإنسان في حياته، فالدنيا اليوم تدور مدار السياسة الفنية، و بحسب تحولها تتحول الأخبار من حال إلى حال، و هذا مما يوجب سوء الظن بالتاريخ حتى كاد أن يورده مورد السقوط، و وجود هذه النواقص أو النواقض في التاريخ النقلي هو السبب أو عمدة السبب في إعراض العلماء اليوم عنه إلى تأسيس القضايا التاريخية على أساس الآثار الأرضية، و هذا و إن سلمت عن بعض الإشكالات المذكورة كالأول مثلا، لكنها غير خالية عن الباقي، و عمدته مداخلة المؤرخ بما عنده من الإحساس و العصبية في الأقضية، و تصرف السياسة فيها إفشاء و كتمانا و تغييرا و تبديلا، فهذا حال التاريخ و ما معه من جهات الفساد الذي لا يقبل الإصلاح أبدا.

و من هنا يظهر: أن القرآن الشريف لا يعارض في قصصه بالتاريخ إذا خالفه، فإنه وحي إلهي منزه عن الخطإ مبرأ عن الكذب، فلا يعارضه من التاريخ ما لا مؤمن له يؤمنه من الكذب و الخطإ، فأغلب القصص القرآنية كنفس هذه القصة قصة طالوت يخالف ما يوجد في كتب العهدين، و لا ضير فيه فإن كتب العهدين لا تزيد على التواريخ المعمولة التي قد علمت كيفية تلاعب الأيدي فيها و بها، على أن مؤلف هذه القصة و هي قصة صموئيل و شارل بلسان العهدين، غير معلوم الشخص أصلا، و كيف كان فلا نبالي بمخالفة القرآن لما يوجد منافيا له في التواريخ و خاصة في كتب العهدين، فالقرآن هو الكلام الحق من الحق عز اسمه.

على أن القرآن ليس بكتاب تاريخ و لا أنه يريد في قصصه بيان التاريخ على حد ما يرومه كتاب التاريخ، و إنما هو كلام إلهي مفرغ في قالب الوحي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، و لذلك لا تراه يقص قصة بتمام أطرافها و جهات وقوعها، و إنما يأخذ من القصة نكات متفرقة يوجب الإمعان و التأمل فيها حصول الغاية من عبرة أو حكمة أو موعظة أو غيرها.

كما هو مشهود في هذه القصة قصة طالوت و جالوت حيث يقول تعالى: أ لم تر إلى الملإ من بني إسرائيل، ثم يقول: و قال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا «إلخ»، ثم يقول: و قال لهم نبيهم: إن آية ملكه، ثم يقول: فلما فصل طالوت «إلخ»، ثم يقول و لما برزوا لجالوت، و من المعلوم أن اتصال هذه الجمل بعضها إلى بعض في تمام الكلام يحتاج إلى قصة طويلة، و قد نبهناك بمثله فيما مر من قصة البقرة، و هو مطرد في جميع القصص المقتصة في القرآن، لا يختص بالذكر منها إلا مواضع الحاجة فيها: من عبرة و موعظة و حكمة أو سنة إلهية في الأيام الخالية و الأمم الدارجة، قال تعالى: «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب»: يوسف - 111، و قال تعالى: «يريد الله ليبين لكم و يهديكم سنن الذين من قبلكم:» النساء - 26، و قال تعالى: «قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس و هدى و موعظة للمتقين:» آل عمران - 138، إلى غير ذلك من الآيات


تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

بيان

سياق هاتين الآيتين لا يبعد كل البعد من سياق الآيات السابقة التي كانت تأمر بالجهاد و تندب إلى الإنفاق ثم تقص قصة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون، و قد ختمت القصة بقوله تعالى: و إنك لمن المرسلين الآية، و افتتحت هاتان الآيتان بقوله: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، ثم ترجع إلى شأن قتال أمم الأنبياء بعدهم، و قد قال في القصة السابقة أعني: قصة طالوت: أ لم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى، فأتى بقوله: من بعد موسى، قيدا، ثم ترجع إلى الدعوة إلى الإنفاق من قبل أن يأتي يوم، فهذا كله يؤيد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات السابقة، و الجميع نازلة معا.

و بالجملة الآية في مقام دفع ما ربما يتوهم: أن الرسالة و خاصة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البينات الدالة على حقية الرسالة ينبغي أن يختم بها بلية القتال: إما من جهة أن الله سبحانه لما أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية و الأخروية بإرسال الرسل و إيتاء الآيات البينات كان من الحري أن يصرفهم عن القتال بعد، و يجمع كلمتهم على الهداية فما هذه الحروب و المشاجرات بعد الأنبياء في أممهم و خاصة بعد انتشار دعوة الإسلام الذي يعد الاتحاد و الاتفاق من أركان أحكامه و أصول قوانينه؟ و إما من جهة أن إرسال الرسل و إيتاء بينات الآيات للدعوة إلى الحق لغرض الحصول على إيمان القلوب، و الإيمان من الصفات القلبية التي لا توجد في القلب عنوة و قهرا فما ذا يفيده القتال بعد استقرار النبوة؟ و هذا هو الإشكال الذي تقدم تقريره و الجواب عنه في الكلام على آيات القتال.

و الذي يجيب تعالى به: أن القتال معلول الاختلاف الذي بين الأمم إذ لو لا وجود الاختلاف لم ينجر أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم و لو شاء الله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأسا، و لو شاء لأعقم هذا السبب بعد وجوده لكن الله سبحانه يفعل ما يريد، و قد أراد جري الأمور على سنة الأسباب، فوجد الاختلاف فوجد القتال فهذا إجمال ما تفيده الآية.

قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، إشارة إلى فخامة أمر الرسل و علو مقامهم و لذلك جيء في الإشارة بكلمة تلك الدالة على الإشارة إلى بعيد، و فيه دلالة على التفضيل الإلهي الواقع بين الأنبياء (عليهم السلام) ففيهم من هو أفضل و فيهم من هو مفضل عليه، و للجميع فضل فإن الرسالة في نفسها فضيلة و هي مشتركة بين الجميع، ففيما بين الرسل أيضا اختلاف في المقامات و تفاوت في الدرجات كما أن بين الذين بعدهم اختلافا على ما يدل عليه ذيل الآية إلا أن بين الاختلافين فرقا، فإن الاختلاف بين الأنبياء اختلاف في المقامات و تفاضل في الدرجات مع اتحادهم في أصل الفضل و هو الرسالة، و اجتماعهم في مجمع الكمال و هو التوحيد، و هذا بخلاف الاختلاف الموجود بين أمم الأنبياء بعدهم فإنه اختلاف بالإيمان و الكفر، و النفي و الإثبات، و من المعلوم أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف، و لذلك فرق تعالى بينهما من حيث التعبير فسمى ما للأنبياء تفضيلا و نسبه إلى نفسه، و سمى ما عند الناس بالاختلاف و نسبه إلى أنفسهم، فقال في مورد الرسل فضلنا، و في مورد أممهم اختلفوا.

و لما كان ذيل الآية متعرضا لمسألة القتال مرتبطا بها و الآيات المتقدمة على الآية أيضا راجعة إلى القتال بالأمر به و الاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه القطعة من الكلام أعني قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا إلى قوله بروح القدس مقدمة لتبيين ما في ذيل الآية من قوله: و لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم إلى قوله تعالى: و لكن الله يفعل ما يريد.

و على هذا فصدر الآية لبيان أن مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل (عليهم السلام) مقام تنمو فيه الخيرات و البركات، و تنبع فيه الكمال و السعادة و درجات القربى و الزلفى كالتكليم الإلهي و إيتاء البينات و التأييد بروح القدس، و هذا المقام على ما فيه من الخير و الكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم.

و بعبارة أخرى محصل معنى الآية أن الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام تنمو فيه الخيرات كلما انعطفت إلى جانب منه وجدت فضلا جديدا، و كلما ملت إلى نحو من أنحائه ألفيت غضا طريا، و هذا المقام على ما فيه من البهاء و السناء و الإتيان بالآيات البينات لا يتم به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر و الإيمان، فإن هذا الاختلاف إنما يستند إلى أنفسهم فهم أنفسهم أوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى في موضع آخر: «إن الدين عند الله الإسلام و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم:» آل عمران - 19، و قد مر بيانه في قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة:» البقرة - 213.

و لو شاء الله لمنع من هذا القتال الواقع بعدهم منعا تكوينيا، لكنهم اختلفوا فيما بينهم بغيا و قد أجرى الله في سنة الإيجاد سببية و مسببية بين الأشياء و الاختلاف من علل التنازع، و لو شاء الله تعالى لمنع من هذا القتال منعا تشريعيا أو لم يأمر به؟ و لكنه تعالى أمر به و أراد بأمره البلاء و الامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب و ليعلمن الله الذين آمنوا و ليعلمن الكاذبين.

و بالجملة القتال بين أمم الأنبياء بعدهم لا مناص عنه لمكان الاختلاف عن بغي، و الرسالة و بيناتها إنما تدحض الباطل و تزيل الشبه.

و أما البغي و اللجاج و ما يشابههما من الرذائل فلا سبيل إلى تصفية الأرض منها، و إصلاح النوع فيها إلا القتال، فإن التجارب يعطي أن الحجة لم تنجح وحدها قط إلا إذا شفع بالسيف، و لذلك كان كلما اقتضت المصلحة أمر الله سبحانه بالقيام للحق و الجهاد في سبيل الله كما في عهد إبراهيم و بني إسرائيل، و بعد بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد مر بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير آيات القتال سابقا.

قوله تعالى: منهم من كلم الله و رفع بعضهم درجات، في الجملتين التفات من الحضور إلى الغيبة، و الوجه فيه و الله أعلم - أن الصفات الفاضلة على قسمين: منها ما هو بحسب نفس مدلول الاسم يدل على الفضيلة كالآيات البينات، و كالتأييد بروح القدس كما ذكر لعيسى (عليه السلام) فإن هذه الخصال بنفسها غالية سامية، و منها: ما ليس كذلك، و إنما يدل على الفضيلة و يستلزم المنقبة بواسطة الإضافة كالتكليم، فإنه لا يعد في نفسه منقبة و فضيلة إلا أن يضاف إلى شيء فيكتسب منه البهاء و الفضل كإضافته إلى الله عز اسمه، و كذا رفع الدرجات لا فضيلة فيه بنفسه إلا أن يقال: رفع الله الدرجات مثلا فينسب الرفع إلى الله، إذا عرفت هذا علمت: أن هذا هو الوجه في الالتفات من الحضور إلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث حيث قال تعالى: فمنهم من كلم الله و رفع بعضهم درجات و آتينا عيسى بن مريم البينات، فحول وجه الكلام من التكلم إلى الغيبة في الجملتين الأوليين حتى إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الأول و هو التكلم فقال تعالى: و آتينا عيسى بن مريم.

و قد اختلف المفسرون في المراد من الجملتين من هو؟ فقيل المراد بمن كلم الله: موسى (عليه السلام) لقوله تعالى: «و كلم الله موسى تكليما:» النساء - 164، و غيره من الآيات، و قيل المراد به رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لما كلمه الله تعالى ليلة المعراج حيث قربه إليه تقريبا سقطت به الوسائط جملة فكلمه بالوحي من غير واسطة، قال تعالى: «ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى:» النجم - 10، و قيل المراد به الوحي مطلقا لأن الوحي تكليم خفي، و قد سماه الله تعالى تكليما حيث قال: «و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب:» الآية الشورى - 51، و هذا الوجه لا يلائم من التبعيضية التي في قوله تعالى: منهم من كلم الله.

و الأوفق بالمقام كون المراد به موسى (عليه السلام) لأن تكليمه هو المعهود من كلامه تعالى النازل قبل هذه السورة المدنية، قال تعالى: «و لما جاء موسى لميقاتنا و كلمه ربه إلى أن قال: قال يا موسى: إني اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي: الأعراف - 143، و هي آية مكية فقد كان كون موسى مكلما معهودا عند نزول هذه الآية.

و كذا في قوله: و رفع بعضهم درجات، قيل المراد به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الله رفع درجته في تفضيله على جميع الرسل ببعثته إلى كافة الخلق كما قال تعالى: و ما أرسلناك إلا كافة للناس: السبأ - 28، و بجعله رحمة للعالمين كما قال تعالى: و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين: الأنبياء - 107، و بجعله خاتما للنبوة كما قال تعالى: و لكن رسول الله و خاتم النبيين: الأحزاب - 40، و بإيتائه قرآنا مهيمنا على جميع الكتب و تبيانا لكل شيء و محفوظا من تحريف المبطلين، و معجزا باقيا ببقاء الدنيا كما قال تعالى: و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه: المائدة - 48، و قال تعالى: و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء: النحل - 89، و قال تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون: الحجر - 6 و قال تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا: الإسراء - 88، و باختصاصه بدين قيم يقوم على جميع مصالح الدنيا و الآخرة، قال تعالى: فأقم وجهك للدين القيم: الروم - 43، و قيل المراد به ما رفع الله من درجة غير واحد من الأنبياء كما يدل عليه قوله تعالى في نوح: سلام على نوح في العالمين: الصافات - 79، و قوله تعالى في إبراهيم (عليه السلام): و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما: البقرة - 124، و قوله تعالى فيه و اجعل لي لسان صدق في الآخرين: الشعراء - 84، و قوله تعالى في إدريس (عليه السلام) و رفعناه مكانا عليا: مريم - 57، و قوله تعالى في يوسف: نرفع درجات من نشاء: يوسف - 76، و قوله في داود (عليه السلام): و آتينا داود زبورا: النساء - 163، إلى غير ذلك من مختصات الأنبياء.

و كذا قيل: إن المراد بالرسل في الآية هم الذين اختصوا بالذكر في سورة البقرة كإبراهيم و موسى و عيسى و عزير و أرميا و شموئيل و داود و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد ذكر موسى و عيسى من بينهم و بقي الباقون، فالبعض المرفوع الدرجة هو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إلى الباقين، و قيل: لما كان المراد بالرسل في الآية هم الذين ذكرهم الله قبيل الآية في القصة و هم موسى و داود و شموئيل و محمد، و قد ذكر ما اختص به موسى من التكليم ثم ذكر رفع الدرجات و ليس له إلا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يمكن أن يوجه التصريح باسم عيسى على هذا القول: بأن يقال: إن الوجه فيه عدم سبق ذكره (عليه السلام) فيمن ذكر من الأنبياء في هذه الآيات.

و الذي ينبغي أن يقال: إنه لا شك أن ما رفع الله به درجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مقصود في الآية غير أنه لا وجه لتخصيص الآية به، و لا بمن ذكر في هذه الآيات أعني أرميا و شموئيل و داود و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لا بمن ذكر في هذه السورة من الأنبياء فإن كل ذلك تحكم من غير وجه ظاهر، بل الظاهر من إطلاق الآية شمول الرسل لجميع الرسل (عليهم السلام) و شمول البعض في قوله تعالى: و رفع بعضهم درجات، لكل من أنعم الله عليه منهم برفع الدرجة.

و ما قيل: إن الأسلوب يقتضي كون المراد به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن السياق في بيان العبرة للأمم التي تقتتل بعد رسلهم مع كون دينهم دينا واحدا، و الموجود منهم اليهود و النصارى و المسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر، و قد ذكر منهم موسى و عيسى بالتفصيل في الآية، فتعين أن يكون البعض الباقي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم).

فيه: أن القرآن يقضي بكون جميع الرسل رسلا إلى جميع الناس، قال تعالى: «لا نفرق بين أحد منهم:» البقرة - 136، فإتيان الرسل جميعا بالآيات البينات كان ينبغي أن يقطع دابر الفساد و القتال بين الذين بعدهم لكن اختلفوا بغيا بينهم فكان ذلك أصلا يتفرع عليه القتال فأمر الله تعالى به حين تقتضيه المصلحة ليحق الحق بكلماته و يقطع دابر المبطلين، فالعموم وجيه في الآية.

كلام في الكلام

ثم إن قوله تعالى: منهم من كلم الله، يدل على وقوع التكليم منه لبعض الناس في الجملة أي أنه يدل على وقوع أمر حقيقي من غير مجاز و تمثيل و قد سماه الله في كتابه بالكلام، سواء كان هذا الإطلاق إطلاقا حقيقيا أو إطلاقا مجازيا، فالبحث في المقام من جهتين: الجهة الأولى: أن كلامه تعالى يدل على أن ما خص الله تعالى به أنبياءه و رسله من النعم التي تخفى على إدراك غيرهم من الناس مثل الوحي و التكليم و نزول الروح و الملائكة و مشاهدة الآيات الإلهية الكبرى، أو أخبرهم به كالملك و الشيطان و اللوح و القلم و سائر الآيات الخفية على حواس الناس، كل ذلك أمور حقيقية واقعية من غير مجاز في دعاويهم مثل أن يسموا القوى العقلية الداعية إلى الخير ملائكة، و ما تلقيه هذه القوى إلى إدراك الإنسان بالوحي، و المرتبة العالية من هذه القوى و هي التي تترشح منها الأفكار الطاهرة المصلحة للاجتماع الإنساني بروح القدس و الروح الأمين، و القوى الشهوية و الغضبية النفسانية الداعية إلى الشر و الفساد بالشياطين و الجن، و الأفكار الرديئة المفسدة للاجتماع الصالح أو الموقعة لسيىء العمل بالوسوسة و النزعة، و هكذا.

فإن الآيات القرآنية و كذا ما نقل إلينا من بيانات الأنبياء الماضين ظاهرة في كونهم لم يريدوا بها المجاز و التمثيل، بحيث لا يشك فيه إلا مكابر متعسف و لا كلام لنا معه، و لو جاز حمل هذه البيانات إلى أمثال هذه التجوزات جاز تأويل جميع ما أخبروا به من الحقائق الإلهية من غير استثناء إلى المادية المحضة النافية لكل ما وراء المادة، و قد مر بعض الكلام في المقام في بحث الإعجاز.

ففي مورد التكليم الإلهي لا محالة أمر حقيقي متحقق يترتب عليه من الآثار ما يترتب على التكلمات الموجودة فيما بيننا.

توضيح ذلك: أنه سبحانه عبر عن بعض أفعاله بالكلام و التكليم كقوله تعالى: «و كلم الله موسى تكليما»: النساء - 163، و قوله تعالى: «منهم من كلم الله الآية، و قد فسر تعالى هذا الإطلاق المبهم الذي في هاتين الآيتين و ما يشبههما بقوله تعالى: «و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء:» الشورى - 51، فإن الاستثناء في قوله تعالى: إلا وحيا «إلخ»، لا يتم إلا إذا كان التكليم المدلول عليه بقوله: أن يكلمه الله، تكليما حقيقة، فتكليم الله تعالى للبشر تكليم لكن بنحو خاص، فحد أصل التكليم حقيقة غير منفي عنه.

و الذي عندنا من حقيقة الكلام: هو أن الإنسان لمكان احتياجه إلى الاجتماع و المدنية يحتاج بالفطرة إلى جميع ما يحتاج إليه هذا الاجتماع التعاوني، و منها التكلم و قد ألجأت الفطرة الإنسان أن يسلك إلى الدلالة على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم، و يجعل الأصوات المؤلفة و المختلطة أمارات دالة على المعاني المكنونة في الضمير التي لا طريق إليها إلا من جهة العلائم الاعتبارية الوضعية، فالإنسان محتاج إلى التكلم من جهة أنه لا طريق له إلى التفهيم و التفهم إلا جعل الألفاظ و الأصوات المؤتلفة علائم جعلية و أمارات وضعية، و لذلك كانت اللغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة، أعني: الاحتياجات التي تنبه لها الإنسان في حياته الحاضرة، و لذلك أيضا كانت اللغات لا تزال تزيد و تتسع بحسب تقدم الاجتماع في صراطه، و تكثر الحوائج الإنسانية في حياته الاجتماعية.

و من هنا يظهر: أن الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالأصوات المؤتلفة الدالة عليه بالوضع و الاعتبار إنما يتم في الإنسان و هو واقع في ظرف الاجتماع، و ربما لحق به بعض أنواع الحيوان مما لنوعه نحو اجتماع و له شيء من جنس الصوت، على ما نحسب و أما الإنسان في غير ظرف الاجتماع التعاوني فلا تحقق للكلام معه، فلو كان ثم إنسان واحد من غير أي اجتماع فرض لم تمس الحاجة إلى التكلم قطعا لعدم مساس الحاجة إلى التفهيم و التفهم، و كذلك غير الإنسان مما لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعي و الحياة المدنية كالملك و الشيطان مثلا. فالكلام لا يصدر منه تعالى على حد ما يصدر الكلام منا أعني بنحو خروج الصوت من الحنجرة و اعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمة إليه، الدلالة الاعتبارية الوضعية، فإنه تعالى أجل شأنا و أنزه ساحة أن يتجهز بالتجهيزات الجسمانية، أو يستكمل بالدعاوي الوهمية الاعتبارية و قد قال تعالى: «ليس كمثله شيء:» الشورى - 11.

لكنه سبحانه فيما مر من قوله: «و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب:» الشورى - 51، يثبت لشأنه و فعله المذكور حقيقة التكليم و إن نفي عنه المعنى العادي المعهود بين الناس، فالكلام بحده الاعتباري المعهود مسلوب عن الكلام الإلهي لكنه بخواصه و آثاره ثابت له، و مع بقاء الأثر و الغاية يبقى المحدود في الأمور الاعتبارية الدائرة في اجتماع الإنسان نظير الذرع و الميزان و المكيال و السراج و السلاح و نحو ذلك، و قد تقدم بيانه.

فقد: ظهر أن ما يكشف به الله سبحانه عن معنى مقصود إفهامه للنبي كلام حقيقة، و هو سبحانه و إن بين لنا إجمالا أنه كلام حقيقة على غير الصفة التي نعدها من الكلام الذي نستعمله، لكنه تعالى لم يبين لنا و لا نحن تنبهنا من كلامه أن هذا الذي يسميه كلاما يكلم به أنبياءه ما حقيقته؟ و كيف يتحقق؟ غير أنه على أي حال لا يسلب عنه خواص الكلام المعهود عندنا و يثبت عليه آثاره و هي تفهيم المعاني المقصودة و إلقاؤها في ذهن السامع.

و على هذا فالكلام منه تعالى كالإحياء و الإماتة و الرزق و الهداية و التوبة و غيرها فعل من أفعاله تعالى يحتاج في تحققه إلى تمامية الذات قبله لا كمثل العلم و القدرة و الحياة مما لا تمام للذات الواجبة بدونه من الصفات التي هي عين الذات، كيف و لا فرق بينه و بين سائر أفعاله التي تصدر عنه بعد فرض تمام الذات! و ربما قبل الانطباق على الزمان قال تعالى: «و لما جاء موسى لميقاتنا و كلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني:» الأعراف - 143، و قال تعالى «و قد خلقتك من قبل و لم تك شيئا:» مريم - 9، و قال تعالى: «فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم:» البقرة - 243، و قال تعالى: «نحن نرزقكم و إياهم:» الأنعام - 151، و قال تعالى: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»: طه - 50، و قال تعالى: «ثم تاب عليهم ليتوبوا:» التوبة - 118، فالآيات كما ترى تفيد زمانية الكلام كما تفيد زمانية غيره من الأفعال كالخلق و الإماتة و الإحياء و الرزق و الهداية و التوبة على حد سواء.

فهذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى، و البحث التفسيري المقصور على الآيات القرآنية في معنى الكلام، أما ما يقتضيه البحث الكلامي على ما اشتغل به السلف من المتكلمين أو البحث الفلسفي فسيأتيك نبأه.

و اعلم: أن الكلام أو التكليم مما لم يستعلمه تعالى في غير مورد الإنسان، نعم الكلمة أو الكلمات قد استعملت في غير مورده، قال تعالى: «و كلمته ألقاها إلى مريم:» النساء - 171، أريد به نفس الإنسان، و قال تعالى: «و كلمة الله هي العليا»: التوبة - 40، و قال تعالى: «و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا»: الأنعام - 155، و قال تعالى: «ما نفدت كلمات الله:» لقمان - 27، و قد أريد بها القضاء أو نوع من الخلق على ما سيجيء الإشارة إليه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 1:44 pm

و أما لفظ القول فقد عم في كلامه تعالى الإنسان و غيره فقال تعالى في مورد الإنسان: «فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك و لزوجك:» طه - 117، و قال تعالى في مورد الملائكة: «و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة:» البقرة - 30، و قال أيضا: «إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين:» ص - 71، و قال في مورد إبليس «قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي:» ص - 75، و قال تعالى في غير مورد أولي العقل: «ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين:» فصلت - 11، و قال تعالى: «قلنا يا نار كوني بردا و سلاما على إبراهيم:» الأنبياء - 69، و قال تعالى: و قيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي: هود - 44، و يجمع الجميع على كثرة مواردها و تشتتها قوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون: يس - 82، و قوله تعالى: إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون: مريم - 35.

و الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى حيث يستعمل القول في الموارد المذكورة مما له سمع و إدراك بالمعنى المعهود عندنا كالإنسان مثلا، و مما سبيله التكوين و ليس له سمع و إدراك بالمعنى المعهود عندنا كالأرض و السماء، و حيث إن الآيتين الأخيرتين بمنزلة التفسير لما يتقدمهما من الآيات أن القول منه تعالى إيجاد أمر يدل على المعنى المقصود.

فأما في التكوينيات فنفس الشيء الذي أوجده تعالى و خلقه هو شيء مخلوق موجود، و هو بعينه قول له تعالى لدلالته بوجوده على خصوص إرادته سبحانه فإن من المعلوم أنه إذا أراد شيئا فقال له كن فكان ليس هناك لفظ متوسط بينه تعالى و بين الشيء، و ليس هناك غير نفس وجود الشيء، فهو بعينه مخلوق و هو بعينه قوله، كن، فقوله في التكوينيات نفس الفعل و هو الإيجاد و هو الوجود و هو نفس الشيء.

و أما في غير التكوينيات كمورد الإنسان مثلا فبإيجاده تعالى أمرا يوجب علما باطنيا في الإنسان بأن كذا كذا، و ذلك إما بإيجاد صوت عند جسم من الأجسام، أو بنحو آخر لا ندركه، أو لا ندرك كيفية تأثيره في نفس النبي بحيث يوجد معه علم في نفسه بأن كذا كذا على حد ما مر في الكلام.

و كذلك القول في قوله تعالى للملائكة أو الشيطان، لكن يختص هذان النوعان و ما شابههما لو كان لهما شبيه بخصوصية، و هي أن الكلام و القول المعهود فيما بيننا إنما هو باستخدام الصوت أو الإشارة بضميمة الاعتبار الوضعي الذي يستوجبه فينا فطرتنا الحيوانية الاجتماعية، و من المعلوم على ما يعطيه كلامه تعالى أن الملك و الشيطان ليس وجودهما من سنخ وجودنا الحيواني الاجتماعي و ليس في وجودهما هذا التكامل التدريجي العلمي الذي يستدعي وضع الأمور الاعتبارية.

و يظهر من ذلك: أن ليس فيما بين الملائكة و لا فيما بين الشياطين هذا النوع من التفهيم و التفهم الذهني المستخدم فيه الاعتبار اللغوي و الأصوات المؤلفة الموضوعة للمعاني، و على هذا فلا يكون تحقق القول فيما بينهم أنفسهم نظير تحققه فيما بيننا أفراد الإنسان بصدور صوت مؤلف تأليفا لفظيا وضعيا من فم مشقوق ينضم إليه أعضاء فعالة للصوت من واحد، و التأثر من ذلك بإحساس أذن مشقوق ينضم إليها أعضاء آخذة للصوت المقروع من واحد آخر و هو ظاهر، لكن حقيقة القول موجودة فيما بين نوعيهما بحيث يترتب عليه أثر القول و خاصته و هو فهم المعنى المقصود و إدراكه فبين الملائكة أو الشياطين قول لا كنحو قولنا، و كذا بين الله سبحانه و بينهم قول لا بنحو إيجاد الصوت و اللفظ الموضوع و إسماعه لهم كما سمعت.

و كذلك القول في ما ينسب إلى نوع الحيوانات العجم من القول في القرآن الكريم كقوله تعالى: قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم: النمل - 18، و قال تعالى فقال أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبإ بنبإ يقين: النمل - 22، و كذا ما يذكر فيه من قول الله تعالى و وحيه إليهم كقوله تعالى: و أوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا و من الشجر و مما يعرشون: النحل - 68.

و هناك ألفاظ أخر ربما استعمل في معنى القول و الكلام أو ما يقرب من معناهما كالوحي، قال تعالى: «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى الذين من قبلك:» النساء - 163، و الإلهام، قال تعالى: و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها: الشمس - 8، و النبأ، قال تعالى: قال نبأني العليم الخبير: التحريم - 3، و القص، قال تعالى: يقص الحق: الأنعام - 57، و القول في جميع هذه الألفاظ من حيث حقيقة المعنى هو الذي قلناه في أول الكلام من لزوم تحقق أمر حقيقي معه يترتب عليه أثر القول و خاصته سواء علمنا بحقيقة هذا الأمر الحقيقي المتحقق بالضرورة أو لم نعلم بحقيقته تفصيلا، و في الوحي خاصة كلام سيأتي التعرض له في سورة الشورى إن شاء الله.

و أما اختصاص بعض الموارد ببعض هذه الألفاظ مع كون المعنى المشترك المذكور موجودا في الجميع كتسمية بعضها كلاما و بعضها قولا و بعضها وحيا مثلا لا غير فهو يدور مدار ظهور انطباق العناية اللفظية على المورد، فالقول يسمى كلاما نظرا إلى السبب الذي يفيد وقوع المعنى في الذهن و لذلك سمي هذا الفعل الإلهي في مورد بيان تفضيل الأنبياء و تشريفهم كلاما لأن العناية هناك إنما هو بالمخاطبة و التكليم، و يسمى قولا بالنظر إلى المعنى المقصود إلقاؤه و تفهيمه و لذلك سمي هذا الأمر الإلهي في مورد القضاء و القدر و الحكم و التشريع و نحو ذلك قولا كقوله تعالى: قال الحق و الحق أقول لأملأن: ص - 85، و يسمى وحيا بعناية كونه خفيا عن غير الأنبياء و لذلك عبر في موردهم (عليهم السلام) بالوحي كقوله: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى الذين من قبلك الآية: النساء - 163.

الجهة الثانية: و هي البحث من جهة كيفية الاستعمال فقد عرفت أن مفردات اللغة إنما انتقل الإنسان إلى معانيها و وضع الألفاظ بحذائها و استعملها فيها في المحسوسات من الأمور الجسمانية ابتداء ثم انتقل تدريجا إلى المعنويات، و هذا و إن أوجب كون استعمال اللفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالا مجازيا ابتداء لكنه سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال و حصول التبادر، و كذلك ترقي الاجتماع و تقدم الإنسان في المدنية و الحضارة يوجب التغير في الوسائل التي ترفع حاجته الحيوية، و التبدل فيها دائما مع بقاء الأسماء فالأسماء لا تزال تتبدل مصاديق معانيها مع بقاء الأغراض المرتبة، و ذلك كما أن السراج في أول ما تنبه الإنسان لإمكان رفع بعض الحوائج به كان مثلا شيئا من الدهن أو الدهنيات مع فتيله متصلة بها في ظرف يحفظها فكانت تشتعل الفتيلة للاستضاءة بالليل، فركبته الصناعة على هذه الهيئة أولا و سماه الإنسان بالسراج، ثم لم يزل يتحول طورا بعد طور، و يركب طبقا عن طبق، حتى انتهت إلى هذه السرج الكهربائية التي لا يوجد فيها و معها شيء من أجزاء السراج المصنوع أولا، الموضوع بحذائه لفظ السراج من دهن و فتيلة و قصعة خزفية أو فلزية، و مع ذلك نحن نطلق لفظ السراج عليها و على سائر أقسام السراج على حد سواء، و من غير عناية، و ليس ذلك إلا أن الغاية و الغرض من السراج أعني الأثر المقصود منه المترتب على المصنوع أولا يترتب بعينه على المصنوع أخيرا من غير تفاوت، و هو الاستضاءة، و نحن لا نقصد شيئا من وسائل الحياة و لا نعرفها إلا بغايتها في الحياة و أثرها المترتب، فحقيقة السراج ما يستضاء بضوئه بالليل، و مع بقاء هذه الخاصة و الأثر يبقى حقيقة السراج و يبقى اسم السراج على حقيقة معناه من غير تغير و تبدل، و إن تغير الشكل أحيانا أو الكيفية أو الكمية أو أصل أجزاء الذات كما عرفت في المثال، و على هذا فالملاك في بقاء المعنى الحقيقي و عدم بقائه بقاء الأثر المطلوب من الشيء على ما كان من غير تغير، و قلما يوجد اليوم في الأمور المصنوعة و وسائل الحياة - و هي ألوف و ألوف - شيء لم يتغير ذاته عما حدث عليه أولا، غير أن بقاء الأثر و الخاصة أبقى لكل واحد منها اسمه الأول الذي وضع له.

و في اللغات شيء كثير من القسم الأول و هو اللفظ المنقول من معنى محسوس إلى معنى معقول يعثر عليه المتتبع البصير.

فقد تحصل أن استعمال الكلام و القول فيما مر مع فرض بقاء الأثر و الخاصة استعمال حقيقي لا مجازي.

فظهر من جميع ما بيناه: أن إطلاق الكلام و القول في مورده تعالى يحكي عن أمر حقيقي واقعي، و أنه من مراتب المعنى الحقيقي لهاتين اللفظتين و إن اختلف من حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام، كما أن سائر الألفاظ المشتركة الاستعمال بيننا و بينه تعالى كالحياة و العلم و الإرادة و الإعطاء كذلك.

و اعلم: أن القول في معنى رفع الدرجات من قوله تعالى: و رفع بعضهم درجات، من حيث اشتماله على أمر حقيقي واقعي غير اعتباري كالقول في معنى الكلام بعينه فقد توهم أكثر الباحثين في المعارف الدينية: أن ما اشتملت عليه هذه البيانات أمور اعتبارية و معاني وهمية نظير ما يوجد بيننا معاشر أهل الاجتماع من الإنسان من مقامات الرئاسة و الزعامة و الفضيلة و التقدم و التصدر و نحو ذلك، فلزمهم أن يجعلوا ما يرتبط بها من الحقائق كمقامات الآخرة من جنة و نار و سؤال و غير ذلك مرتبطة مترتبة نظير ترتب الآثار الخارجية على هذه المقامات الاجتماعية الاعتبارية، أي أن الرابطة بين المقامات المعنوية المذكورة و بين النتائج المرتبة عليها رابطة الاعتبار و الوضع، و لزمهم - اضطرارا - كون جاعل هذه الروابط و هو الله تعالى و تقدس، محكوما بالآراء الاعتبارية و مبعوثا عن الشعور الوهمي كالإنسان الواقع في عالم المادة، و النازل في منزل الحركة و الاستكمال، و لذلك تراهم يستنكفون عن القول باختصاص المقربين من أنبيائه و أوليائه بالكمالات الحقيقية المعنوية التي تثبتها لهم ظواهر الكتاب و السنة إلا أن تنسلخ عن حقيقتها و ترجع إلى نحو من الاعتباريات.

قوله تعالى: و آتينا عيسى بن مريم البينات و أيدناه بروح القدس، رجوع إلى أصل السياق و هو التكلم دون الغيبة كما مر.

و الوجه في التصريح باسم عيسى مع عدم ذكر غيره من الرسل في الآية: أن ما ذكره له (عليه السلام) من جهات التفضيل و هو إيتاء البينات، و التأييد بروح القدس مشترك بين الرسل جميعا ليس مما يختص ببعضهم دون بعض، قال تعالى: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات:» الحديد - 25، و قال تعالى: «ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا»: النمل - 2، لكنهما في عيسى بنحو خاص فجميع آياته كإحياء الموتى و خلق الطير بالنفخ و إبراء الأكمه و الأبرص، و الإخبار عن المغيبات كانت أمورا متكئة على الحياة مترشحة عن الروح، فلذلك نسبها إلى عيسى (عليه السلام) و صرح باسمه إذ لو لا التصريح لم يدل على كونه فضيلة خاصة كما لو قيل: و آتينا بعضهم البينات و أيدناه بروح القدس، إذ البينات و روح القدس كما عرفت مشتركة غير مختصة، فلا يستقيم نسبتها إلى البعض بالاختصاص إلا مع التصريح باسمه ليعلم أنها فيه بنحو خاص غير مشترك تقريبا، على أن في اسم عيسى (عليه السلام) خاصة أخرى و آية بينة و هي أنه ابن مريم لا أب له، قال تعالى: «و جعلناها و ابنها آية للعالمين:» الأنبياء - 91، فمجموع الابن و الأم آية بينة إلهية و فضيلة اختصاصية أخرى.

قوله تعالى: و لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، العدول إلى الغيبة ثانيا لأن المقام مقام إظهار أن المشية و الإرادة الربانية غير مغلوبة، و القدرة غير باطلة، فجميع الحوادث على طرفي إثباتها و نفيها غير خارجة عن السلطنة الإلهية، و بالجملة وصف الألوهية هي التي تنافي تقيد القدرة و توجب إطلاق تعلقها بطرفي الإيجاب و السلب فمست حاجة المقام إلى إظهار هذه الصفة المتعالية أعني الألوهية للذكر فقيل: و لو شاء الله ما اقتتل، و لم يقل: و لو شئنا ما اقتتل، و هذا هو الوجه أيضا في قوله تعالى في ذيل الآية: و لو شاء الله ما اقتتلوا، و قوله: و لكن الله يفعل ما يريد، و هو الوجه أيضا في العدول عن الإضمار إلى الإظهار.

قوله تعالى: و لكن اختلفوا فمنهم من آمن و منهم من كفر، نسب الاختلاف إليهم لا إلى نفسه لأنه تعالى ذكر في مواضع من كلامه: أن الاختلاف بالإيمان و الكفر و سائر المعارف الأصلية المبينة في كتب الله النازلة على أنبيائه إنما حدث بين الناس بالبغي، و حاشا أن ينتسب إليه سبحانه بغي أو ظلم.

قوله تعالى: و لو شاء ما اقتتلوا و لكن الله يفعل ما يريد، أي و لو شاء الله لم يؤثر الاختلاف في استدعاء القتال و لكن الله يفعل ما يريد و قد أراد أن يؤثر هذا الاختلاف في سوقه الناس إلى الاقتتال جريا على سنة الأسباب.

و محصل معنى الآية و الله العالم: أن الرسل التي أرسلوا إلى الناس عباد لله مقربون عند ربهم، مرتفع عن الناس أفقهم و هم مفضل بعضهم على بعض على ما لهم من الأصل الواحد و المقام المشترك، فهذا حال الرسل و قد أتوا للناس بآيات بينات أظهروا بها الحق كل الإظهار و بينوا طريق الهداية أتم البيان، و كان لازمه أن لا ينساق الناس بعدهم إلا إلى الوحدة و الألفة و المحبة في دين الله من غير اختلاف و قتال لكن كان هناك سبب آخر أعقم هذا السبب، و هو الاختلاف عن بغي منهم و انشعابهم إلى مؤمن و كافر، ثم التفرق بعد ذلك في سائر شئون الحياة و السعادة، و لو شاء الله لأعقم هذا السبب أعني الاختلاف فلم يوجب الاقتتال و ما اقتتلوا، و لكن لم يشأ و أجرى هذا السبب كسائر الأسباب و العلل على سنة الأسباب التي أرادها الله في عالم الصنع و الإيجاد، و الله يفعل ما يريد.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا «إلخ»، معناه واضح و في ذيل الآية دلالة على أن الاستنكاف عن الإنفاق كفر و ظلم.

بحث روائي

في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا «إلخ»، في هذا ما يستدل به على أن أصحاب محمد قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن و منهم من كفر.

و في تفسير العياشي، عن أصبغ بن نباتة، قال: كنت واقفا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم الجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين كبر القوم و كبرنا، و هلل القوم و هللنا، و صلى القوم و صلينا، فعلى ما نقاتلهم؟! فقال (عليه السلام): على هذه الآية «تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض - منهم من كلم الله و رفع بعضهم درجات - و آتينا عيسى بن مريم البينات و أيدناه بروح القدس - و لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم فنحن الذين من بعدهم و لكن اختلفوا فمنهم من آمن - و منهم من كفر و لو شاء الله ما اقتتلوا - و لكن الله يفعل ما يريد» فنحن الذين آمنا و هم الذين كفروا فقال الرجل: كفر القوم و رب الكعبة ثم حمل فقاتل حتى قتل رحمه الله.

أقول: و روى هذه القصة المفيد و الشيخ في أماليهما، و القمي في تفسيره، و الرواية تدل على أنه (عليه السلام) أخذ الكفر في الآية بالمعنى الأعم من الكفر الخاص المصطلح الذي له أحكام خاصة في الدين، فإن النقل المستفيض و كذا التاريخ يشهدان أنه (عليه السلام) ما كان يعامل مع مخالفيه من أصحاب الجمل و أصحاب صفين و الخوارج معاملة الكفار من غير أهل الكتاب و لا معاملة أهل الكتاب و لا معاملة أهل الردة من الدين، فليس إلا أنه عدهم كافرين على الباطن دون الظاهر، و قد كان (عليه السلام) يقول: أقاتلهم على التأويل دون التنزيل.

و ظاهر الآية يساعد هذا المعنى، فإنه يدل على أن البينات التي جاءت بها الرسل لم تنفع في رفع الاقتتال من الذين من بعدهم لمكان الاختلاف المستند إليهم أنفسهم فوقوع الاختلاف مما لا تنفع فيه البينات من الرسل بل هو مما يؤدي إليه الاجتماع الإنساني الذي لا يخلو عن البغي و الظلم، فالآية في مساق قوله تعالى: «و ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون:» يونس: 19، و قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة - إلى أن قال -: و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه:» البقرة - 213، و قوله تعالى: «و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك:» هود - 119، كل ذلك يدل على أن الاختلاف في الكتاب - و هو الاختلاف في الدين - بين أتباع الأنبياء بعدهم مما لا مناص عنه، و قد قال تعالى في خصوص هذه الأمة: «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم:» البقرة - 214، و قال تعالى حكاية عن رسوله ليوم القيامة: «و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا:» الفرقان - 30، و في مطاوى الآيات تصريحات و تلويحات بذلك.

و أما إن ذيل هذا الاختلاف منسحب إلى زمان الصحابة بعد الرحلة فالمعتمد من التاريخ و المستفيض أو المتواتر من الأخبار يدل على أن الصحابة أنفسهم كان يعامل بعضهم مع بعض في الفتن و الاختلافات الواقعة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المعاملة، من غير أن يستثنوا أنفسهم من ذلك استنادا إلى عصمة أو بشارة أو اجتهاد أو استثناء من الله و رسوله، و الزائد على هذا المقدار من البحث لا يناسب وضع هذا الكتاب.

و في أمالي المفيد، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لم يزل الله جل اسمه عالما بذاته و لا معلوم، و لم يزل قادرا بذاته و لا مقدور، قلت: جعلت فداك فلم يزل متكلما؟ قال: الكلام محدث، كان الله عز و جل و ليس بمتكلم ثم أحدث الكلام.

و في الإحتجاج، عن صفوان بن يحيى، قال: سأل أبو قرة المحدث عن الرضا (عليه السلام) فقال: أخبرني جعلت فداك عن كلام الله لموسى فقال: الله أعلم بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنما أسألك عن هذا اللسان فقال أبو الحسن (عليه السلام): سبحان الله عما تقول و معاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون و لكنه سبحانه ليس كمثله شيء و لا كمثله قائل فاعل، قال: كيف؟ قال: كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق، لمخلوق و لا يلفظ بشق فم و لسان، و لكن يقول له كن فكان، بمشيته ما خاطب به موسى من الأمر و النهي من غير تردد في نفس الخبر.

و في نهج البلاغة، في خطبة له (عليه السلام): متكلم لا بروية، مريد لا بهمة، الخطبة.

و في النهج، أيضا في خطبة له (عليه السلام): الذي كلم موسى تكليما، و أراه من آياته عظيما، بلا جوارح و لا أدوات و لا نطق و لا لهوات، الخطبة.

أقول: و الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة، و هي مطبقة على أن كلامه تعالى الذي يسميه الكتاب و السنة كلاما صفة فعل لا صفة ذات.

بحث فلسفي

ذكر الحكماء: أن ما يسمى عند الناس قولا و كلاما و هو نقل الإنسان المتكلم ما في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلفة موضوعة لمعنى فإذا قرع سمع المخاطب أو السامع نقل المعنى الموضوع له الذي في ذهن المتكلم إلى ذهن المخاطب أو السامع، فحصل بذلك الغرض منه و هو التفهيم و التفهم، قالوا: و حقيقة الكلام متقومة بما يدل على معنى خفي مضمر، و أما بقية الخصوصيات ككونه بالصوت الحادث في صدر الإنسان و مروره من طريق الحنجرة و اعتماده على مقاطع الفم و كونه بحيث يقبل أن يقع مسموعا لا أزيد عددا أو أقل مما ركبت عليه أسماعنا فهذه خصوصيات تابعة للمصاديق و ليست بدخيلة في حقيقة المعنى الذي يتقوم بها الكلام.

فالكلام اللفظي الموضوع الدال على ما في الضمير كلام، و كذا الإشارة الوافية لإراءة المعنى كلام كما أن إشارتك بيدك: أن اقعد أو تعال و نحو ذلك أمر و قول، و كذا الوجودات الخارجية لما كانت معلولة لعللها، و وجود المعلول لمسانخته وجود علته و كونه رابطا متنزلا له يحكي بوجوده وجود علته، و يدل بذاته على خصوصيات ذات علته الكاملة في نفسها لو لا دلالة المعلول عليها.

فكل معلول بخصوصيات وجوده كلام لعلته تتكلم به عن نفسها و كمالاتها، و مجموع تلك الخصوصيات بطور اللف كلمة من كلمات علته، فكل واحد من الموجودات بما أن وجوده مثال لكمال علته الفياضة، و كل مجموع منها، و مجموع العالم الإمكاني كلام الله سبحانه يتكلم به فيظهر المكنون من كمال أسمائه و صفاته، فكما أنه تعالى خالق للعالم و العالم مخلوقه كذلك هو تعالى متكلم بالعالم مظهر به خبايا الأسماء و الصفات و العالم كلامه.

بل الدقة في معنى الدلالة على المعنى يوجب القول بكون الذات بنفسه دالا على نفسه فإن الدلالة بالآخرة شأن وجودي ليس و لا يكون لشيء بنحو الأصالة إلا لله و بالله سبحانه، فكل شيء دلالته على بارئه و موجده فرع دلالة ما منه على نفسه و دلالته لله بالحقيقة، فالله سبحانه هو الدال على نفس هذا الشيء الدال، و على دلالته لغيره.

فهو سبحانه هو الدال على ذاته بذاته و هو الدال على جميع مصنوعاته فيصدق على مرتبة الذات الكلام كما يصدق على مرتبة الفعل الكلام بالتقريب المتقدم، فقد تحصل بهذا البيان أن من الكلام ما هو صفة الذات و هو الذات من حيث دلالته على الذات، و منه ما هو صفة الفعل، و هو الخلق و الإيجاد من حيث دلالة الموجود على ما عند موجده من الكمال.

أقول: ما نقلنا عنهم على تقدير صحته لا يساعد عليه اللفظ اللغوي، فإن الذي أثبته الكتاب و السنة هو أمثال قوله تعالى: منهم من كلم الله و قوله: و كلم الله موسى تكليما.

و قوله: قال الله يا عيسى، و قوله: و قلنا يا آدم، و قوله: إنا أوحينا إليك، و قوله: نبأني العليم الخبير، و من المعلوم أن الكلام و القول بمعنى عين الذات لا ينطبق على شيء من هذه الموارد.

و اعلم أن بحث الكلام من أقدم الأبحاث العلمية التي اشتغلت به الباحثون من المسلمين و بذلك سمي علم الكلام به و هي أن كلام الله سبحانه هل هو قديم أو حادث؟ ذهبت الأشاعرة إلى القدم غير أنهم فسروا الكلام بأن المراد بالكلام هو المعاني الذهنية التي يدل عليه الكلام اللفظي، و تلك المعاني علوم الله سبحانه قائمة بذاته قديمة بقدمها، و أما الكلام اللفظي و هو الأصوات و النغمات فهي حادثة زائدة على الذات بالضرورة.

و ذهبت المعتزلة إلى الحدوث غير أنهم فسروا الكلام بالألفاظ الدالة على المعنى التام دلالة وضعية فهذا هو الكلام عند العرف، قالوا: و أما المعاني النفسية التي تسميه الأشاعرة كلاما نفسيا فهي صور علمية و ليست بالكلام.

و بعبارة أخرى: إنا لا نجد في نفوسنا عند التكلم بكلام غير المفاهيم الذهنية التي هي صور علمية فإن أريد بالكلام النفسي ذلك كان علما لا كلاما، و إن أريد به أمر آخر وراء الصورة العلمية فإنا لا نجد وراءها شيئا بالوجدان هذا.

و ربما أمكن أن يورد عليه بجواز أن يكون شيء واحد بجهتين أو باعتبارين مصداقا لصفتين أو أزيد و هو ظاهر، فلم لا يجوز أن تكون الصورة الذهنية علما من جهة كونه انكشافا للواقع، و كلاما من جهة كونه علما يمكن إفاضته للغير؟.

أقول: و الذي يحسم مادة هذا النزاع من أصله أن وصف العلم في الله سبحانه بأي معنى أخذناه أي سواء أخذ علما تفصيليا بالذات و إجماليا بالغير، أو أخذ علما تفصيليا بالذات و بالغير في مقام الذات، و هذان المعنيان من العلم الذي هو عين الذات، أو أخذ علما تفصيليا قبل الإيجاد بعد الذات أو أخذ علما تفصيليا بعد الإيجاد و بعد الذات جميعا، فالعلم الواجبي على جميع تصاويره علم حضوري غير حصولي.

و الذي ذكروه و تنازعوا عليه إنما هو من قبيل العلم الحصولي الذي يرجع إلى وجود مفاهيم ذهنية مأخوذة من الخارج بحيث لا يترتب عليها آثارها الخارجية فقد أقمنا البرهان في محله: أن المفاهيم و الماهيات لا تتحقق إلا في ذهن الإنسان أو ما قاربه جنسا من أنواع الحيوان التي تعمل الأعمال الحيوية بالحواس الظاهرة و الإحساسات الباطنة.

و بالجملة فالله سبحانه أجل من أن يكون له ذهن يذهن به المفاهيم و الماهيات الاعتبارية مما لا ملاك لتحقيقه إلا الوهم فقط نظير مفهوم العدم و المفاهيم الاعتبارية في ظرف الاجتماع، و لو كان كذلك لكان ذاته المقدسة محلا للتركيب، و معرضا لحدوث الحوادث، و كلامه محتملا للصدق و الكذب إلى غير ذلك من وجوه الفساد تعالى عنها و تقدس.

و أما معنى علمه بهذه المفاهيم الواقعة تحت الألفاظ فسيجيء إن شاء الله بيانه في موضع يليق به
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 1:50 pm

اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
بيان

قوله تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قد تقدم في سورة الحمد بعض الكلام في لفظ الجلالة، و أنه سواء أخذ من أله الرجل بمعنى تاه و وله أو من أله بمعنى عبد فلازم معناه الذات المستجمع لجميع صفات الكمال على سبيل التلميح.

و قد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: لا إله إلا هو، في قوله تعالى: «و إلهكم إله واحد:» البقرة - 163، و ضمير هو و إن رجع إلى اسم الجلالة لكن اسم الجلالة لما كان علما بالغلبة يدل على نفس الذات من حيث إنه ذات و إن كان مشتملا على بعض المعاني الوصفية التي يلمح باللام أو بالإطلاق إليها، فقوله: لا إله إلا هو، يدل على نفي حق الثبوت عن الآلهة التي تثبت من دون الله.

و أما اسم الحي فمعناه ذو الحياة الثابتة على وزان سائر الصفات المشبهة في دلالتها على الدوام و الثبات.

و الناس في بادىء مطالعتهم لحال الموجودات وجدوها على قسمين: قسم منها لا يختلف حاله عند الحس ما دام وجوده ثابتا كالأحجار و سائر الجمادات، و قسم منها ربما تغيرت حاله و تعطلت قواه و أفعاله مع بقاء وجودها على ما كان عليه عند الحس، و ذلك كالإنسان و سائر أقسام الحيوان و النبات فإنا ربما نجدها تعطلت قواها و مشاعرها و أفعالها ثم يطرأ عليها الفساد تدريجا، و بذلك أذعن الإنسان بأن هناك وراء الحواس أمرا آخر هو المبدأ للإحساسات و الإدراكات العلمية و الأفعال المبتنية على العلم و الإرادة و هو المسمى بالحياة و يسمى بطلانه بالموت، فالحياة نحو وجود يترشح عنه العلم و القدرة.

و قد ذكر الله سبحانه هذه الحياة في كلامه ذكر تقرير لها، قال تعالى: «اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها:» الحديد - 17، و قال تعالى: «إنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى:» فصلت - 39، و قال تعالى: «و ما يستوي الأحياء و لا الأموات:» الفاطر - 22، و قال تعالى: «و جعلنا من الماء كل شيء حي:» الأنبياء - 30، فهذه تشمل حياة أقسام الحي من الإنسان و الحيوان و النبات.

و كذلك القول في أقسام الحياة، قال تعالى: «و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها»: يونس - 7، و قال تعالى: «ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين:» المؤمن - 11، و الإحياءان المذكوران يشتملان على حياتين: إحداهما: الحياة البرزخية، و الثانية: الحياة الآخرة، فللحياة أقسام كما للحي أقسام.

و الله سبحانه مع ما يقرر هذه الحياة الدنيا يعدها في مواضع كثيرة من كلامه شيئا رديا هينا لا يعبأ بشأنه كقوله تعالى: «و ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع:» الرعد - 26، و قوله تعالى: «تبتغون عرض الحياة الدنيا:» النساء - 94، و قوله تعالى: «تريد زينة الحياة الدنيا:» الكهف - 28، و قوله تعالى: «و ما الحياة الدنيا إلا لعب و لهو:» الأنعام - 32، و قوله تعالى: «و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور:» الحديد - 20، فوصف الحياة الدنيا بهذه الأوصاف فعدها متاعا و المتاع ما يقصد لغيره، و عدها عرضا و العرض ما يتعرض ثم يزول، و عدها زينة و - الزينة - هو الجمال الذي يضم على الشيء ليقصد الشيء لأجله فيقع غير ما قصد و يقصد غير ما وقع، و عدها لهوا و - اللهو - ما يلهيك و يشغلك بنفسه عما يهمك، و عدها لعبا و اللعب هو الفعل الذي يصدر لغاية خيالية لا حقيقية، و عدها متاع الغرور و هو ما يغر به الإنسان.

و يفسر جميع هذه الآيات و يوضحها قوله تعالى: «و ما الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون:» العنكبوت - 64، يبين أن الحياة الدنيا إنما تسلب عنها حقيقة الحياة أي كمالها في مقابل ما تثبت للحياة الآخرة حقيقة الحياة و كمالها، و هي الحياة التي لا موت بعدها، قال تعالى: «آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى:» الدخان - 56، و قال تعالى: لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد:» ق - 35، فلهم في حياتهم الآخرة أن لا يعتريهم الموت، و لا يعترضهم نقص في العيش و تنغص، لكن الأول من الوصفين أعني الأمن هو الخاصة الحقيقة للحياة الضرورية له.

فالحياة الأخروية هي الحياة بحسب الحقيقة لعدم إمكان طرو الموت عليها بخلاف الحياة الدنيا، لكن الله سبحانه مع ذلك أفاد في آيات أخر كثيرة أنه تعالى هو المفيض للحياة الحقيقية الأخروية و المحيي للإنسان في الآخرة، و بيده تعالى أزمة الأمور، فأفاد ذلك أن الحياة الأخروية أيضا مملوكة لا مالكة و مسخرة لا مطلقة أعني أنها إنما ملكت خاصتها المذكورة بالله لا بنفسها.

و من هنا يظهر أن الحياة الحقيقية يجب أن تكون بحيث يستحيل طرو الموت عليها لذاتها و لا يتصور ذلك إلا بكون الحياة عين ذات الحي غير عارضة لها و لا طارئة عليها بتمليك الغير و إفاضته، قال تعالى: «و توكل على الحي الذي لا يموت:» الفرقان - 58، و على هذا فالحياة الحقيقية هي الحياة الواجبة، و هي كون وجوده بحيث يعلم و يقدر بالذات.

و من هنا يعلم: أن القصر في قوله تعالى: «هو الحي لا إله إلا هو» قصر حقيقي غير إضافي، و أن حقيقة الحياة التي لا يشوبها موت و لا يعتريها فناء و زوال هي حياته تعالى.

فالأوفق فيما نحن فيه من قوله تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم الآية، و كذا في قوله تعالى: «الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم:» آل عمران - 1 أن يكون لفظ الحي خبرا بعد خبر فيفيد الحصر لأن التقدير، الله الحي فالآية تفيد أن الحياة لله محضا إلا ما أفاضه لغيره.

و أما اسم القيوم فهو على ما قيل: فيعول كالقيام فيعال من القيام وصف يدل على المبالغة و - القيام - هو حفظ الشيء و فعله و تدبيره و تربيته و المراقبة عليه و القدرة عليه، كل ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب للملازمة العادية بين الانتصاب و بين كل منها.

و قد أثبت الله تعالى أصل القيام بأمور خلقه لنفسه في كلامه حيث قال تعالى: «أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت:» الرعد - 33، و قال تعالى و هو أشمل من الآية السابقة -: «شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم:» آل عمران - 18، فأفاد أنه قائم على الموجودات بالعدل فلا يعطي و لا يمنع شيئا في الوجود و ليس الوجود إلا الإعطاء و المنع إلا بالعدل بإعطاء كل شيء ما يستحقه ثم بين أن هذا القيام بالعدل مقتضى اسميه الكريمين: العزيز الحكيم فبعزته يقوم على كل شيء و بحكمته يعدل فيه.

و بالجملة لما كان تعالى هو المبدىء الذي يبتدي منه وجود كل شيء و أوصافه و آثاره لا مبدأ سواه إلا و هو ينتهي إليه، فهو القائم على كل شيء من كل جهة بحقيقة القيام الذي لا يشوبه فتور و خلل، و ليس ذلك لغيره قط إلا بإذنه بوجه، فليس له تعالى إلا القيام من غير ضعف و فتور، و ليس لغيره إلا أن يقوم به، فهناك حصران: حصر القيام عليه، و حصره على القيام، و أول الحصرين هو الذي يدل عليه كون القيوم في الآية خبرا بعد خبر لله الله القيوم، و الحصر الثاني هو الذي تدل عليه الجملة التالية أعني قوله: لا تأخذه سنة و لا نوم.

و قد ظهر من هذا البيان أن اسم القيوم أم الأسماء الإضافية الثابتة له تعالى جميعا و هي الأسماء التي تدل على معان خارجة عن الذات بوجه كالخالق و الرازق و المبدىء و المعيد و المحيي و المميت و الغفور و الرحيم و الودود و غيرها.

قوله تعالى: لا تأخذه سنة و لا نوم، السنة بكسر السين الفتور الذي يأخذ الحيوان في أول النوم، و النوم هو الركود الذي يأخذ حواس الحيوان لعوامل طبيعية تحدث في بدنه، و الرؤيا غيره و هي ما يشاهده النائم في منامه.

و قد أورد على قوله: سنة و لا نوم إنه على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة فإن المقام مقام الترقي، و الترقي في الإثبات إنما هو من الأضعف إلى الأقوى كقولنا: فلان يقدر على حمل عشرة أمنان بل عشرين، و فلان يجود بالمئات بل بالألوف و في النفي بالعكس كما نقول: لا يقدر فلان على حمل عشرين و لا عشرة، و لا يجود بالألوف و لا بالمئات، فكان ينبغي أن يقال: لا تأخذه نوم و لا سنة.

و الجواب: أن الترتيب المذكور لا يدور مدار الإثبات و النفي دائما كما يقال: فلان يجهده حمل عشرين بل عشرة و لا يصح العكس، بل المراد هو صحة الترقي و هي مختلفة بحسب الموارد، و لما كان أخذ النوم أقوى تأثيرا و أضر على القيومية من السنة كان مقتضى ذلك أن ينفي تأثير السنة و أخذها أولا ثم يترقى إلى نفي تأثير ما هو أقوى منه تأثيرا، و يعود معنى لا تأخذه سنة و لا نوم إلى مثل قولنا: لا يؤثر فيه هذا العامل الضعيف بالفتور في أمره و لا ما هو أقوى منه.

قوله تعالى: له ما في السماوات و ما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه لما كانت القيومية التامة التي له تعالى لا تتم إلا بأن يملك السماوات و الأرض و ما فيهما بحقيقة الملك ذكره بعدهما، كما أن التوحيد التام في الألوهية لا يتم إلا بالقيومية، و لذلك ألحقها بها أيضا.

و هاتان جملتان كل واحدة منهما مقيدة أو كالمقيدة بقيد في معنى دفع الدخل، أعني قوله تعالى: له ما في السماوات و ما في الأرض، مع قوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، و قوله تعالى: يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم، مع قوله تعالى: و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.

فأما قوله تعالى: له ما في السماوات و ما في الأرض، فقد عرفت معنى ملكه تعالى بالكسر للموجودات و ملكه تعالى بالضم لها، و الملك بكسر الميم و هو قيام ذوات الموجودات و ما يتبعها من الأوصاف و الآثار بالله سبحانه هو الذي يدل عليه قوله تعالى: له ما في السماوات و ما في الأرض، فالجملة تدل على ملك الذات و ما يتبع الذات من نظام الآثار.

و قد تم بقوله: القيوم لا تأخذه سنة و لا نوم له ما في السماوات و ما في الأرض إن السلطان المطلق في الوجود لله سبحانه لا تصرف إلا و هو له و منه، فيقع من ذلك في الوهم أنه إذا كان الأمر على ذلك فهذه الأسباب و العلل الموجودة في العالم ما شأنها؟ و كيف يتصور فيها و منها التأثير و لا تأثير إلا لله سبحانه؟ فأجيب بأن تصرف هذه العلل و الأسباب في هذه الموجودات المعلولة توسط في التصرف، و بعبارة أخرى شفاعة في موارد المسببات بإذن الله سبحانه، فإنما هي شفعاء، و الشفاعة - و هي بنحو توسط في إيصال الخير أو دفع الشر، و تصرف ما من الشفيع في أمر المستشفع - إنما تنافي السلطان الإلهي و التصرف الربوبي المطلق إذا لم ينته إلى إذن الله، و لم يعتمد على مشية الله تعالى بل كانت مستقلة غير مرتبطة و ما من سبب من الأسباب و لا علة من العلل إلا و تأثيره بالله و نحو تصرفه بإذن الله، فتأثيره و تصرفه نحو من تأثيره و تصرفه تعالى فلا سلطان في الوجود إلا سلطانه و لا قيومية إلا قيوميته المطلقة عز سلطانه.

و على ما بيناه فالشفاعة هي التوسط المطلق في عالم الأسباب و الوسائط أعم من الشفاعة التكوينية و هي توسط الأسباب في التكوين، و الشفاعة التشريعية أعني التوسط في مرحلة المجازاة التي تثبتها الكتاب و السنة في يوم القيامة على ما تقدم البحث عنها في قوله تعالى: «و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا:» البقرة - 48، و ذلك أن الجملة أعني قوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده، مسبوقة بحديث القيومية و الملك المطلق الشاملين للتكوين و التشريع معا، بل المتماسين بالتكوين ظاهرا فلا موجب لتقييدهما بالقيومية و السلطنة التشريعيتين حتى يستقيم تذييل الكلام بالشفاعة المخصوصة بيوم القيامة.

فمساق هذه الآية في عموم الشفاعة مساق قوله تعالى: «إن ربكم الله الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه»: يونس - 3، و قوله تعالى: «الله الذي خلق السماوات و الأرض و ما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع:» الم السجدة - 4، و قد عرفت في البحث عن الشفاعة أن حدها كما ينطبق على الشفاعة التشريعية كذلك ينطبق على السببية التكوينية، فكل سبب من الأسباب يشفع عند الله لمسببه بالتمسك بصفات فضله و جوده و رحمته لإيصال نعمة الوجود إلى مسببه، فنظام السببية بعينه ينطبق على نظام الشفاعة كما ينطبق على نظام الدعاء و المسألة، قال تعالى: «يسأله من في السماوات و الأرض كل يوم هو في شأن:» الرحمن - 29، و قال تعالى: «و آتيكم من كل ما سألتموه:» إبراهيم - 34، و قد مر بيانه في تفسير قوله تعالى: «و إذا سألك عبادي عني»: البقرة - 186.

قوله تعالى: يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، سياق الجملة مع مسبوقيتها بأمر الشفاعة يقرب من سياق قوله تعالى: بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من خشيته مشفقون:» الأنبياء - 28، فالظاهر أن ضمير الجمع الغائب راجع إلى الشفعاء الذي تدل عليه الجملة السابقة معنى فعلمه تعالى بما بين أيديهم و ما خلفهم كناية عن كمال إحاطته بهم، فلا يقدرون بواسطة هذه الشفاعة و التوسط المأذون فيه على إنفاذ أمر لا يريده الله سبحانه و لا يرضى به في ملكه، و لا يقدر غيرهم أيضا أن يستفيد سوءا من شفاعتهم و وساطتهم فيداخل في ملكه تعالى فيفعل فيه ما لم يقدره.

و إلى نظير هذا المعنى يدل قوله تعالى: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و ما كان ربك نسيا:» مريم - 64، و قوله تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم و أحاط بما لديهم و أحصى كل شيء عددا»: الجن - 28، فإن الآيات تبين إحاطته تعالى بالملائكة و الأنبياء لئلا يقع منهم ما لم يرده، و لا يتنزلوا إلا بأمره، و لا يبلغوا إلا ما يشاؤه.

و على ما بيناه فالمراد بما بين أيديهم: ما هو حاضر مشهود معهم، و بما خلفهم: ما هو غائب عنهم بعيد منهم كالمستقبل من حالهم، و يؤول المعنى إلى الشهادة و الغيب.

و بالجملة قوله: يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم، كناية عن إحاطته تعالى بما هو حاضر معهم موجود عندهم و بما هو غائب عنهم آت خلفهم، و لذلك عقبه بقوله تعالى: و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، تبيينا لتمام الإحاطة الربوبية و السلطة الإلهية أي أنه تعالى عالم محيط بهم و بعلمهم و هم لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.

و لا ينافي إرجاع ضمير الجمع المذكر العاقل و هو قوله «هم» في المواضع الثلاث إلى الشفعاء ما قدمناه من أن الشفاعة أعم من السببية التكوينية و التشريعية، و أن الشفعاء هم مطلق العلل و الأسباب، و ذلك لأن الشفاعة و الوساطة و التسبيح و التحميد لما كان المعهود من حالها أنها من أعمال أرباب الشعور و العقل شاع التعبير عنها بما يخص أولي العقل من العبارة.

و على ذلك جرى ديدن القرآن في بياناته كقوله تعالى: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم:» الإسراء - 44، و قوله تعالى: «ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين»: فصلت - 11، إلى غير ذلك من الآيات.

و بالجملة قوله: و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، يفيد معنى تمام التدبير و كماله، فإن من كمال التدبير أن يجهل المدبر بالفتح بما يريده المدبر بالكسر من شأنه و مستقبل أمره لئلا يحتال في التخلص عما يكرهه من أمر التدبير فيفسد على المدبر بالكسر تدبيره، كجماعة مسيرين على خلاف مشتهاهم و مرادهم فيبالغ في التعمية عليهم حتى لا يدروا من أين سيروا، و في أين نزلوا، و إلى أين يقصد بهم.

فيبين تعالى بهذه الجملة أن التدبير له و بعلمه بروابط الأشياء التي هو الجاعل لها، و بقية الأسباب و العلل و خاصة أولوا العلم منها و إن كان لها تصرف و علم لكن ما عندهم من العلم الذي ينتفعون به و يستفيدون منه فإنما هو من علمه تعالى و بمشيته و إرادته، فهو من شئون العلم الإلهي، و ما تصرفوا به فهو من شئون التصرف الإلهي و أنحاء تدبيره، فلا يسع لمقدم منهم أن يقدم على خلاف ما يريده الله سبحانه من التدبير الجاري في مملكته إلا و هو بعض التدبير.

و في قوله تعالى: و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، على تقدير أن يراد بالعلم المعنى المصدري أو معنى اسم المصدر لا المعلوم دلالة على أن العلم كله لله و لا يوجد من العلم عند عالم إلا و هو شيء من علمه تعالى، و نظيره ما يظهر من كلامه تعالى من اختصاص القدرة و العزة و الحياة بالله تعالى، قال تعالى: «و لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا:» البقرة - 165، و قال تعالى: «أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا:» النساء - 139، و قال تعالى: «هو الحي لا إله إلا هو»: المؤمن - 65، و يمكن أن يستدل على ما ذكرناه من انحصار العلم بالله تعالى بقوله: «إنه هو العليم الحكيم:» يوسف - 83، و قوله تعالى: «و الله يعلم و أنتم لا تعلمون:» آل عمران - 66، إلى غير ذلك من الآيات، و في تبديل العلم بالإحاطة في قوله: و لا يحيطون بشيء من علمه، لطف ظاهر.

قوله تعالى: وسع كرسيه السموات و الأرض، الكرسي معروف و سمي به لتراكم بعض أجزائه بالصناعة على بعض، و ربما كني بالكرسي عن الملك فيقال كرسي الملك، و يراد منطقة نفوذه و متسع قدرته.

و كيف كان فالجمل السابقة على هذه الجملة أعني قوله: له ما في السموات و ما في الأرض «إلخ»، تفيد أن المراد بسعة الكرسي إحاطة مقام السلطنة الإلهية، فيتعين للكرسي من المعنى: أنه المقام الربوبي الذي يقوم به ما في السماوات و الأرض من حيث إنها مملوكة مدبرة معلومة، فهو من مراتب العلم، و يتعين للسعة من المعنى: أنها حفظ كل شيء مما في السماوات و الأرض بذاته و آثاره، و لذلك ذيله بقوله: و لا يؤوده حفظهما.

قوله تعالى: و لا يؤوده حفظهما و هو العلي العظيم، يقال: آده يؤوده أودا إذا ثقل عليه و أجهده و أتعبه، و الظاهر أن مرجع الضمير في يؤوده، هو الكرسي و إن جاز رجوعه إليه تعالى، و نفي الأود و التعب عن حفظ السماوات و الأرض في ذيل الكلام ليناسب ما افتتح به من نفي السنة و النوم في القيومية على ما في السماوات و الأرض.

و محصل ما تفيده الآية من المعنى: أن الله لا إله إلا هو له كل الحياة و له القيومية المطلقة من غير ضعف و لا فتور، و لذلك وقع التعليل بالاسمين الكريمين: العلي العظيم فإنه تعالى لعلوه لا تناله أيدي المخلوقات فيوجبوا بذلك ضعفا في وجوده و فتورا في أمره، و لعظمته لا يجهده كثرة الخلق و لا يطيقه عظمة السماوات و الأرض، و جملة: و هو العلي العظيم، لا تخلو عن الدلالة على الحصر، و هذا الحصر إما حقيقي كما هو الحق، فإن العلو و العظمة من الكمال و حقيقة كل كمال له تعالى، و أما دعوى لمسيس الحاجة إليه في مقام التعليل ليختص العلو و العظمة به تعالى دعوى، فيسقط السماوات و الأرض عن العلو و العظمة في قبال علوه و عظمته تعالى.

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال أبو ذر: يا رسول الله ما أفضل ما أنزل عليك؟ قال: آية الكرسي، ما السماوات السبع و الأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ثم قال: و إن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة: أقول: و روى صدر الرواية السيوطي في الدر المنثور، عن ابن راهويه في مسنده عن عوف بن مالك عن أبي ذر، و رواه أيضا عن أحمد و ابن الضريس و الحاكم و صححه و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي ذر.

و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني عن أبي أمامة، قال: قلت: يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، آية الكرسي: أقول: و روي فيه هذا المعنى أيضا عن الخطيب البغدادي في تاريخه عن أنس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و فيه، أيضا عن الدارمي عن أيفع بن عبد الله الكلاغي، قال: قال رجل: يا رسول الله أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، الحديث.

أقول: تسمية هذه الآية بآية الكرسي مما قد اشتهرت في صدر الإسلام حتى في زمان حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى في لسانه كما تفيده الروايات المنقولة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و عن الصحابة.

و ليس إلا للاعتناء التام بها و تعظيم أمرها، و ليس إلا لشرافة ما تدل عليه من المعنى و رقته و لطفه، و هو التوحيد الخالص المدلول عليه بقوله: الله لا إله إلا هو، و معنى القيومية المطلقة التي يرجع إليه جميع الأسماء الحسنى ما عدا أسماء الذات على ما مر بيانه، و تفصيل جريان القيومية في ما دق و جل من الموجودات من صدرها إلى ذيلها ببيان أن ما خرج منها من السلطنة الإلهية فهو من حيث إنه خارج منها داخل فيها، و لذلك ورد فيها أنها أعظم آية في كتاب الله، و هو كذلك من حيث اشتمالها على تفصيل البيان، فإن مثل قوله تعالى: «الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى:» طه - 8، و إن اشتملت على ما تشتمل عليه آية الكرسي غير أنها مشتملة على إجمال المعنى دون تفصيله، و لذا ورد في بعض الأخبار: أن آية الكرسي سيدة آي القرآن: رواها في الدر المنثور، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ورد في بعضها: أن لكل شيء ذروة و ذروة القرآن آية الكرسي:، رواها العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه السلام).

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن أبي أمامة الباهلي: أنه سمع علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: ما أرى رجلا أدرك عقله الإسلام أو ولد في الإسلام يبيت ليلة سوادها. قلت: و ما سوادها؟ قال: جميعها حتى يقرأ هذه الآية: الله لا إله إلا هو - الحي القيوم فقرأ الآية إلى قوله: و لا يؤوده حفظهما - و هو العلي العظيم. قال: فلو تعلمون ما هي أو قال: ما فيها ما تركتموها على حال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش، و لم يؤتها نبي كان قبلي، قال علي فما بت ليلة قط منذ سمعتها من رسول الله إلا قرأتها، الحديث.

أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عبيد و ابن أبي شيبة و الدارمي و محمد بن نصر و ابن الضريس عنه (عليه السلام)، و رواه أيضا عن الديلمي عنه (عليه السلام)، و الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة في فضلها كثيرة، و قوله (عليه السلام): إن رسول الله قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش، روي في هذا المعنى أيضا في الدر المنثور، عن البخاري في تاريخه، و ابن الضريس عن أنس أن النبي قال: أعطيت آية الكرسي من تحت العرش، فيه إشارة إلى كون الكرسي تحت العرش و محاطا له و سيأتي الكلام في بيانه.

و في الكافي، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: وسع كرسيه السموات و الأرض، السماوات و الأرض وسعن الكرسي أو الكرسي وسع السماوات و الأرض؟ فقال (عليه السلام): إن كل شيء في الكرسي.

أقول: و هذا المعنى مروي عنهم في عدة روايات بما يقرب من هذا السؤال و الجواب و هو بظاهره غريب، إذ لم يرو قراءة كرسيه بالنصب و السماوات و الأرض بالرفع حتى يستصح بها هذا السؤال، و الظاهر أنه مبني على ما يتوهمه الأفهام العامية أن الكرسي جسم مخصوص موضوع فوق السماوات أو السماء السابعة أعني فوق عالم الأجسام منه يصدر أحكام العالم الجسماني، فيكون السماوات و الأرض وسعته إذ كان موضوعا عليها كهيئة الكرسي على الأرض، فيكون معنى السؤال أن الأنسب أن السماوات و الأرض وسعت الكرسي فما معنى سعته لها؟، و قد قيل بنظير ذلك في خصوص العرش فأجيب بأن الوسعة من غير سنخ سعة بعض الأجسام لبعض... و في المعاني، عن حفص بن الغياث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: وسع كرسيه السموات و الأرض، قال: علمه.

و فيه، أيضا عنه (عليه السلام): في الآية: السموات و الأرض و ما بينهما في الكرسي، و العرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره.

أقول: و يظهر من الروايتين: أن الكرسي من مراتب علمه تعالى كما مر استظهاره، و في معناهما روايات أخرى.

و كذا يظهر منهما و مما سيجيء: أن في الوجود مرتبة من العلم غير محدودة أعني أن فوق هذا العالم الذي نحن من أجزائها عالما آخر موجوداتها أمور غير محدودة في وجودها بهذه الحدود الجسمانية، و التعينات الوجودية التي لوجوداتنا، و هي في عين أنها غير محدودة معلومة لله سبحانه أي أن وجودها عين العلم، كما أن الموجودات المحدودة التي في الوجود معلومة لله سبحانه في مرتبة وجودها أي أن وجودها نفس علمه تعالى بها و حضورها عنده، و لعلنا نوفق لبيان هذا العلم المسمى بالعلم الفعلي فيما سيأتي من قوله تعالى: «و ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في السموات و لا في الأرض:» يونس - 61.

و ما ذكرناه من علم غير محدود هو الذي يرشد إليه قوله (عليه السلام) في الرواية، و العرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره، و من المعلوم أن عدم التقدير و التحديد ليس من حيث كثرة معلومات هذا العلم عددا، لاستحالة وجود عدد غير متناه، و كل عدد يدخل الوجود فهو متناه، لكونه أقل مما يزيد عليه بواحد، و لو كان عدم تناهي العلم أعني العرش لعدم تناهي معلوماته كثرة لكان الكرسي بعض العرش لكونه أيضا علما و إن كان محدودا، بل عدم التناهي و التقدير إنما هو من جهة كمال الوجود أي إن الحدود و القيود الوجودية يوجب التكثر و التميز و التمايز بين موجودات عالمنا المادي، فتوجب انقسام الأنواع بالأصناف و الأفراد، و الأفراد بالحالات، و الإضافات غير موجودة فينطبق على قوله تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم:» الحجر - 21، و سيجيء تمام الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

و هذه الموجودات كما أنها معلومة بعلم غير مقدر أي موجودة في ظرف العلم وجودا غير مقدر كذلك هي معلومة بحدودها، موجودة في ظرف العلم بأقدارها و هذا هو الكرسي على ما يستظهر.

و ربما لوح إليه أيضا قوله تعالى فيها: يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم، حيث جعل المعلوم: ما بين أيديهم و ما خلفهم، و هما أعني ما بين الأيدي و ما هو خلف غير مجتمع الوجود في هذا العالم المادي، فهناك مقام يجتمع فيه جميع المتفرقات الزمانية و نحوها، و ليست هذه الوجودات وجودات غير متناهية الكمال غير محدودة و لا مقدرة و إلا لم يصح الاستثناء من الإحاطة في قوله تعالى: و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، فلا محالة هو مقام يمكن لهم الإحاطة ببعض ما فيه، فهو مرحلة العلم بالمحدودات و المقدرات من حيث هي محدودة مقدرة و الله أعلم.

و في التوحيد، عن حنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العرش و الكرسي فقال (عليه السلام) إن للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كل سبب و صنع في القرآن صفة على حدة، فقوله: رب العرش العظيم يقول: رب الملك العظيم، و قوله: الرحمن على العرش استوى، يقول: على الملك احتوى، و هذا علم الكيفوفية في الأشياء، ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي، لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، و هما جميعا غيبان، و هما في الغيب مقرونان، لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع و منه الأشياء كلها، و العرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف و الكون و القدر و الحد و المشية و صفة الإرادة و علم الألفاظ و الحركات و الترك و علم العود و البدء، فهما في العلم بابان مقرونان، لأن ملك العرش سوى ملك الكرسي، و علمه أغيب من علم الكرسي، فمن ذلك قال: رب العرش العظيم، أي صفته أعظم من صفة الكرسي، و هما في ذلك مقرونان: قلت: جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسي، قال (عليه السلام): إنه صار جارها لأن علم الكيفوفية فيه و فيه، الظاهر من أبواب البداء و إنيتها و حد رتقها و فتقها، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الظرف، و بمثل صرف العلماء، و ليستدلوا على صدق دعواهما لأنه يختص برحمته من يشاء و هو القوي العزيز.

أقول: قوله (عليه السلام): لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب، قد عرفت الوجه فيه إجمالا، فمرتبة العلم المقدر المحدود أقرب إلى عالمنا الجسماني المقدر المحدود مما لا قدر له و لا حد، و سيجيء شرح فقرات الرواية في الكلام على قوله تعالى: «إن ربكم الله الذي خلق السموات:» الأعراف - 54، و قوله (عليه السلام): و بمثل صرف العلماء، إشارة إلى أن هذه الألفاظ من العرش و الكرسي و نظائرها أمثال مصرفة مضروبة للناس و ما يعقلها إلا العالمون.

و في الإحتجاج، عن الصادق (عليه السلام): في حديث: كل شيء خلق الله في جوف الكرسي خلا عرشه فإنه أعظم من أن يحيط به الكرسي.

أقول: و قد تقدم توضيح معناه، و هو الموافق لسائر الروايات، فما وقع في بعض الأخبار أن العرش هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه و رسله، و الكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا كما رواه الصدوق عن المفضل عن الصادق (عليه السلام) كأنه من وهم الراوي بتبديل موضعي اللفظين أعني العرش و الكرسي، أو أنه مطروح كالرواية المنسوبة إلى زينب العطارة.

و في تفسير العياشي، عن علي (عليه السلام) قال: إن السماء و الأرض و ما بينهما من خلق مخلوق في جوف الكرسي، و له أربعة أملاك يحملونه بأمر الله، أقول: و رواه الصدوق عن الأصبغ بن نباتة عنه (عليه السلام)، و لم يرو عنهم (عليهم السلام) للكرسي حملة إلا في هذه الرواية، بل الأخبار إنما تثبت الحملة للعرش وفقا لكتاب الله تعالى كما قال: «الذين يحملون العرش و من حوله الآية:» المؤمن - 7، و قال تعالى، «و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية:» الحاقة - 17، و يمكن أن يصحح الخبر بأن الكرسي - كما سيجيء بيانه - يتحد مع العرش بوجه اتحاد ظاهر الشيء بباطنه.

و بذلك يصح عد حملة أحدهما حملة للآخر.

و في تفسير العياشي، أيضا عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) قال: قلت: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه قال: نحن أولئك الشافعون.

أقول: و رواه البرقي أيضا في المحاسن، و قد عرفت أن الشفاعة في الآية مطلقة تشمل الشفاعة التكوينية و التشريعية معا، فتشمل شفاعتهم (عليهم السلام)، فالرواية من باب الجري


لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

بيان

قوله تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، الإكراه هو الإجبار و الحمل على الفعل من غير رضى، و الرشد بالضم و الضمتين: إصابة وجه الأمر و محجة الطريق و يقابله الغي، فهما أعم من الهدى و الضلال، فإنهما إصابة الطريق الموصل و عدمها على ما قيل، و الظاهر أن استعمال الرشد في إصابة محجة الطريق من باب الانطباق على المصداق، فإن إصابة وجه الأمر من سالك الطريق أن يركب المحجة و سواء السبيل، فلزومه الطريق من مصاديق إصابة وجه الأمر، فالحق أن معنى الرشد و الهدى معنيان مختلفان ينطبق أحدهما بعناية خاصة على مصاديق الآخر و هو ظاهر، قال تعالى: «فإن آنستم منهم رشدا»: النساء - 6، و قال تعالى: «و لقد آتينا إبراهيم رشده من قبل:» الأنبياء - 51، و كذلك القول في الغي و الضلال، و لذلك ذكرنا سابقا: أن الضلال هو العدول عن الطريق مع ذكر الغاية و المقصد، و الغي هو العدول مع نسيان الغاية فلا يدري الإنسان الغوي ما ذا يريد و ما ذا يقصد.

و في قوله تعالى: لا إكراه في الدين، نفى الدين الإجباري، لما أن الدين و هو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات، و الاعتقاد و الإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإكراه و الإجبار، فإن الإكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهرية و الأفعال و الحركات البدنية المادية، و أما الاعتقاد القلبي فله علل و أسباب أخرى قلبية من سنخ الاعتقاد و الإدراك، و من المحال أن ينتج الجهل علما، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقا علميا، فقوله: لا إكراه في الدين، إن كان قضية إخبارية حاكية عن حال التكوين أنتج حكما دينيا بنفي الإكراه على الدين و الاعتقاد، و إن كان حكما إنشائيا تشريعيا كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله: قد تبين الرشد من الغي، كان نهيا عن الحمل على الاعتقاد و الإيمان كرها، و هو نهي متك على حقيقة تكوينية، و هي التي مر بيانها أن الإكراه إنما يعمل و يؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية.

و قد بين تعالى هذا الحكم بقوله: قد تبين الرشد من الغي، و هو في مقام التعليل فإن الإكراه و الإجبار إنما يركن إليه الأمر الحكيم و المربي العاقل في الأمور المهمة التي لا سبيل إلى بيان وجه الحق فيها لبساطة فهم المأمور و رداءة ذهن المحكوم، أو لأسباب و جهات أخرى، فيتسبب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر بالتقليد و نحوه، و أما الأمور المهمة التي تبين وجه الخير و الشر فيها، و قرر وجه الجزاء الذي يلحق فعلها و تركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل و عاقبتي الثواب و العقاب، و الدين لما انكشفت حقائقه و اتضح طريقه بالبيانات الإلهية الموضحة بالسنة النبوية فقد تبين أن الدين رشد و الرشد في اتباعه، و الغي في تركه و الرغبة عنه، و على هذا لا موجب لأن يكره أحد أحدا على الدين.

و هذه إحدى الآيات الدالة على أن الإسلام لم يبتن على السيف و الدم، و لم يفت بالإكراه و العنوة على خلاف ما زعمه عدة من الباحثين من المنتحلين و غيرهم أن الإسلام دين السيف استدلوا عليه: بالجهاد الذي هو أحد أركان هذا الدين.

و قد تقدم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال و ذكرنا هناك أن القتال الذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدم و بسط الدين بالقوة و الإكراه، بل لإحياء الحق و الدفاع عن أنفس متاع للفطرة و هو التوحيد،، و أما بعد انبساط التوحيد بين الناس و خضوعهم لدين النبوة و لو بالتهود و التنصر فلا نزاع لمسلم مع موحد و لا جدال، فالإشكال ناش عن عدم التدبر.

و يظهر مما تقدم أن الآية أعني قوله: لا إكراه في الدين غير منسوخة بآية السيف كما ذكره بعضهم.

و من الشواهد على أن الآية غير منسوخة التعليل الذي فيها أعني قوله: قد تبين الرشد من الغي، فإن الناسخ ما لم ينسخ علة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإن الحكم باق ببقاء سببه، و معلوم أن تبين الرشد من الغي في أمر الإسلام أمر غير قابل للارتفاع بمثل آية السيف، فإن قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلا، أو قوله: و قاتلوا في سبيل الله الآية لا يؤثران في ظهور حقية الدين شيئا حتى ينسخا حكما معلولا لهذا الظهور.

و بعبارة أخرى الآية تعلل قوله: لا إكراه في الدين بظهور الحق: و هو معنى لا يختلف حاله قبل نزول حكم القتال و بعد نزوله، فهو ثابت على كل حال، فهو غير منسوخ.

قوله تعالى: فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى «إلخ»، الطاغوت هو الطغيان و التجاوز عن الحد و لا يخلو عن مبالغة في المعنى كالملكوت و الجبروت، و يستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله كالأصنام و الشياطين و الجن و أئمة الضلال من الإنسان و كل متبوع لا يرضى الله سبحانه باتباعه، و يستوي فيه المذكر و المؤنث و المفرد و التثنية و الجمع.

و إنما قدم الكفر على الإيمان في قوله: فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله، ليوافق الترتيب الذي يناسبه الفعل الواقع في الجزاء أعني الاستمساك بالعروة الوثقى، لأن الاستمساك بشيء إنما يكون بترك كل شيء و الأخذ بالعروة، فهناك ترك ثم أخذ، فقدم الكفر و هو ترك على الإيمان و هو أخذ ليوافق ذلك، و الاستمساك هو الأخذ و الإمساك بشدة، و العروة: ما يؤخذ به من الشيء كعروة الدلو و عروة الإناء، و العروة هي كل ما له أصل من النبات و ما لا يسقط ورقه، و أصل الباب التعلق يقال: عراه و اعتراه أي تعلق به.

و الكلام أعني قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى، موضوع على الاستعارة للدلالة على أن الإيمان بالنسبة إلى السعادة بمنزلة عروة الإناء بالنسبة إلى الإناء و ما فيه، فكما لا يكون الأخذ أخذا مطمئنا حتى يقبض على العروة كذلك السعادة الحقيقية لا يستقر أمرها و لا يرجى نيلها إلا أن يؤمن الإنسان بالله و يكفر بالطاغوت.

قوله تعالى: لا انفصام لها و الله سميع عليم، الانفصام: الانقطاع و الانكسار، و الجملة في موضع الحال من العروة تؤكد معنى العروة الوثقى، ثم عقبه بقوله: و الله سميع عليم، لكون الإيمان و الكفر متعلقا بالقلب و اللسان.

قوله تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم إلى آخر الآية، قد مر شطر من الكلام في معنى إخراجه من النور إلى الظلمات، و قد بينا هناك أن هذا الإخراج و ما يشاكله من المعاني أمور حقيقية غير مجازية خلافا لما توهمه كثير من المفسرين و سائر الباحثين أنها معان مجازية يراد بها الأعمال الظاهرية من الحركات و السكنات البدنية، و ما يترتب عليها من الغايات الحسنة و السيئة، فالنور مثلا هو الاعتقاد الحق بما يرتفع به ظلمة الجهل و حيرة الشك و اضطراب القلب، و النور هو صالح العمل من حيث إن رشده بين، و أثره في السعادة جلي، كما أن النور الحقيقي على هذه الصفات.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 1:56 pm

و الظلمة هو الجهل في الاعتقاد و الشبهة و الريبة و طالح العمل، كل ذلك بالاستعارة.

و الإخراج من الظلمة إلى النور الذي ينسب إلى الله تعالى كالإخراج من النور إلى الظلمات الذي ينسب إلى الطاغوت نفس هذه الأعمال و العقائد فليس وراء هذه الأعمال و العقائد، لا فعل من الله تعالى و غيره كالإخراج مثلا و لا أثر لفعل الله تعالى و غيره كالنور و الظلمة و غيرهما، هذا ما ذكره قوم من المفسرين و الباحثين.

و ذكر آخرون: أن الله يفعل فعلا كالإخراج من الظلمات إلى النور و إعطاء الحياة و السعة و الرحمة و ما يشاكلها و يترتب على فعله تعالى آثار كالنور و الظلمة و الروح و الرحمة و نزول الملائكة، لا ينالها أفهامنا و لا يسعها مشاعرنا، غير أنا نؤمن بحسب ما أخبر به الله - و هو يقول الحق - بأن هذه الأمور موجودة و أنها أفعال له تعالى و إن لم نحط بها خبرا، و لازم هذا القول أيضا كالقول السابق أن يكون هذه الألفاظ أعني أمثال النور و الظلمة و الإخراج و نحوها مستعملة على المجاز بالاستعارة، و إنما الفرق بين القولين أن مصاديق النور و الظلمة و نحوهما على القول الأول نفس أعمالنا و عقائدنا، و على القول الثاني أمور خارجة عن أعمالنا و عقائدنا لا سبيل لنا إلى فهمها، و لا طريق إلى نيلها و الوقوف عليها.

و القولان جميعا خارجان عن صراط الاستقامة كالمفرط و المفرط، و الحق في ذلك أن هذه الأمور التي أخبر الله سبحانه بإيجادها و فعلها عند الطاعة و المعصية إنما هي أمور حقيقية واقعية من غير تجوز غير أنها لا تفارق أعمالنا و عقائدنا بل هي لوازمها التي في باطنها، و قد مر الكلام في ذلك، و هذا لا ينافي كون قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، و قوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، كنايتين عن هداية الله سبحانه و إضلال الطاغوت، لما تقدم في بحث الكلام أن النزاع في مقامين: أحدهما كون النور و الظلمة و ما شابههما ذا حقيقة في هذه النشأة أو مجرد تشبيه لا حقيقة له، و ثانيهما: أنه على تقدير تسليم أن لها حقائق و واقعيات هل استعمال اللفظ كالنور مثلا في الحقيقة التي هي حقيقة الهداية حقيقة أو مجاز؟ و على أي حال فالجملتان أعني: قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، و قوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، كنايتان عن الهداية و الإضلال و إلا لزم أن يكون لكل من المؤمن و الكافر نور و ظلمة معا، فإن لازم إخراج المؤمن من الظلمة إلى النور أن يكون قبل الإيمان في ظلمة و بالعكس في الكافر، فعامة المؤمنين و الكفار - و هم الذين عاشوا مؤمنين فقط أو عاشوا كفارا فقط - إذا بلغوا مقام التكليف فإن آمنوا خرجوا من الظلمات إلى النور، و إن كفروا خرجوا من النور إلى الظلمات، فهم قبل ذلك في نور و ظلمة معا و هذا كما ترى.

لكن يمكن أن يقال: إن الإنسان بحسب خلقته على نور الفطرة، هو نور إجمالي يقبل التفصيل، و أما بالنسبة إلى المعارف الحقة و الأعمال الصالحة تفصيلا فهو في ظلمة بعد لعدم تبين أمره، و النور و الظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان و لا يمتنع اجتماعهما، و المؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف و الطاعات تفصيلا، و الكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر و المعاصي التفصيلية، و الإتيان بالنور مفردا و بالظلمات جمعا في قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، و قوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، للإشارة إلى أن الحق واحد لا اختلاف فيه كما أن الباطل متشتت مختلف لا وحدة فيه، قال تعالى: «و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم:» الأنعام - 153.

بحث روائي

في الدر المنثور، أخرج أبو داود و النسائي و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس في ناسخه و ابن منده في غرائب شعبه و ابن حبان و ابن مردويه و البيهقي في سننه و الضياء في المختارة عن ابن عباس قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله لا إكراه في الدين.

أقول: و روي أيضا هذا المعنى بطرق أخرى عن سعيد بن جبير و عن الشعبي.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن مجاهد قال: كانت النضير أرضعت رجالا من الأوس، فلما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإجلائهم، قال أبناؤهم من الأوس: لنذهبن معهم و لندينن دينهم، فمنعهم أهلوهم و أكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية لا إكراه في الدين.

أقول: و هذا المعنى أيضا مروي بغير هذا الطريق، و هو لا ينافي ما تقدم من نذر النساء اللاتي ما كان يعيش أولادها أن يهودنهم.

و فيه، أيضا: أخرج ابن إسحاق و ابن جرير عن ابن عباس: في قوله: لا إكراه في الدين قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له ابنان نصرانيان، و كان هو رجلا مسلما فقال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أ لا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): قال: النور آل محمد و الظلمات أعداؤهم.

أقول: و هو من قبيل الجري أو من باب الباطن أو التأويل


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

بيان

الآيات مشتملة على معنى التوحيد و لذلك كانت غير خالية عن الارتباط بما قبلها من الآيات فمن المحتمل أن تكون نازلة معها.

قوله تعالى: أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه، المحاجة إلقاء الحجة قبال الحجة لإثبات المدعى أو لإبطال ما يقابله، و أصل الحجة هو القصد، غلب استعماله فيما يقصد به إثبات دعوى من الدعاوي، و قوله: في ربه متعلق بحاج، و الضمير لإبراهيم كما يشعر به قوله تعالى فيما بعد: قال إبراهيم ربي الذي يحيي و يميت، و هذا الذي حاج إبراهيم (عليه السلام) في ربه هو الملك الذي كان يعاصره و هو نمرود من ملوك بابل على ما يذكره التاريخ و الرواية.

و بالتأمل في سياق الآية، و الذي جرى عليه الأمر عند الناس و لا يزال يجري عليه يعلم معنى هذه المحاجة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، و الموضوع الذي وقعت فيه محاجتهما.

بيان ذلك: أن الإنسان لا يزال خاضعا بحسب الفطرة للقوى المستعلية عليه، المؤثرة فيه، و هذا مما لا يرتاب فيه الباحث عن أطوار الأمم الخالية المتأمل في حال الموجودين من الطوائف المختلفة و قد بينا ذلك فيما مر من المباحث.

و هو بفطرته يثبت للعالم صانعا مؤثرا فيه بحسب التكوين و التدبير، و قد مر أيضا بيانه، و هذا أمر لا يختلف في القضاء عليه حال الإنسان سواء قال بالتوحيد كما يبتني عليه دين الأنبياء و تعتمد عليه دعوتهم أو ذهب إلى تعدد الآلهة كما عليه الوثنيون أو نفي الصانع كما عليه الدهريون و الماديون، فإن الفطرة لا تقبل البطلان ما دام الإنسان إنسانا و إن قبلت الغفلة و الذهول.

لكن الإنسان الأولي الساذج لما كان يقيس الأشياء إلى نفسه، و كان يرى من نفسه أن أفعاله المختلفة تستند إلى قواه و أعضائه المختلفة، و كذا الأفعال المختلفة الاجتماعية تستند إلى أشخاص مختلفة في الاجتماع، و كذا الحوادث المختلفة إلى علل قريبة مختلفة و إن كانت جميع الأزمة تجتمع عند الصانع الذي يستند إليه مجموع عالم الوجود لا جرم أثبت لأنواع الحوادث المختلفة أربابا مختلفة دون الله سبحانه فتارة كان يثبت ذلك باسم أرباب الأنواع كرب الأرض و رب البحار و رب النار و رب الهواء و الأرياح و غير ذلك، و تارة كان يثبته باسم الكواكب و خاصة السيارات التي كان يثبت لها على اختلافها تأثيرات مختلفة في عالم العناصر و المواليد كما نقل عن الصابئين ثم كان يعمل صورا و تماثيل لتلك الأرباب فيعبدها لتكون وسيلة الشفاعة عند صاحب الصنم و يكون صاحب الصنم شفيعا له عند الله العظيم سبحانه، ينال بذلك سعادة الحياة و الممات.

و لذلك كانت الأصنام مختلفة بحسب اختلاف الأمم و الأجيال لأن الآراء كانت مختلفة في تشخيص الأنواع المختلفة و تخيل صور أرباب الأنواع المحكية بأصنامها، و ربما لحقت بذلك أميال و تهوسات أخرى.

و ربما انجر الأمر تدريجا إلى التشبث بالأصنام و نسيان أربابها حتى رب الأرباب لأن الحس و الخيال كان يزين ما ناله لهم، و كان يذكرها و ينسى ما وراءها، فكان يوجب ذلك غلبة جانبها على جانب الله سبحانه، كل ذلك إنما كان منهم لأنهم كانوا يرون لهذه الأرباب تأثيرا في شئون حياتهم بحيث تغلب إرادتها إرادتهم، و تستعلي تدبيرها على تدبيرهم.

و ربما كان يستفيد بعض أولي القوة و السطوة و السلطة من جبابرة الملوك من اعتقادهم ذلك و نفوذ أمره في شئون حياتهم المختلفة، فيطمع في المقام و يدعي الألوهية كما ينقل عن فرعون و نمرود و غيرهما، فيسلك نفسه في سلك الأرباب و إن كان هو نفسه يعبد الأصنام كعبادتهم، و هذا و إن كان في بادىء الأمر على هذه الوتيرة لكن ظهور تأثيره و نفوذ أمره عند الحس كان يوجب تقدمه عند عباده على سائر الأرباب و غلبة جانبه على جانبها، و قد تقدمت الإشارة إليه آنفا كما يحكيه الله تعالى من قول فرعون لقومه: «أنا ربكم الأعلى:» النازعات - 24، فقد كان يدعي أنه أعلى الأرباب مع كونه ممن يتخذ الأرباب كما قال تعالى: «و يذرك و آلهتك:» الأعراف - 127، و كذلك كان يدعي نمرود على ما يستفاد من قوله: أنا أحيي و أميت، في هذه الآية على ما سنبين.

و ينكشف بهذا البيان معنى هذه المحاجة الواقعة بين إبراهيم (عليه السلام) و نمرود، فإن نمرود كان يرى لله سبحانه ألوهية، و لو لا ذلك لم يسلم لإبراهيم (عليه السلام) قوله: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، و لم يبهت عند ذلك بل يمكنه أن يقول: أنا آتي بها من المشرق دون من زعمت أو أن بعض الآلهة الأخرى يأتي بها من المشرق، و كان يرى أن هناك آلهة أخرى دون الله سبحانه، و كذلك قومه كانوا يرون ذلك كما يدل عليه عامة قصص إبراهيم (عليه السلام) كقصة الكوكب و القمر و الشمس و ما كلم به أباه في أمر الأصنام و ما خاطب به قومه و جعله الأصنام جذاذا إلا كبيرا لهم و غير ذلك، فقد كان يرى لله تعالى ألوهية، و أن معه آلهة أخرى لكنه كان يرى لنفسه ألوهية، و أنه أعلى الآلهة، و لذلك استدل على ربوبيته عند ما حاج إبراهيم (عليه السلام) في ربه، و لم يذكر من أمر الآلهة الأخرى شيئا. و من هنا يستنتج أن المحاجة التي وقعت بينه و بين إبراهيم (عليه السلام) هي، أن إبراهيم (عليه السلام) كان يدعي أن ربه الله لا غير و نمرود كان يدعي أنه رب إبراهيم و غيره و لذلك لما احتج إبراهيم (عليه السلام) على دعواه بقوله: ربي الذي يحيي و يميت، قال: أنا أحيي و أميت، فادعى أنه متصف بما وصف به إبراهيم ربه فهو ربه الذي يجب عليه أن يخضع له و يشتغل بعبادته دون الله سبحانه و دون الأصنام، و لم يقل: و أنا أحيي و أميت لأن لازم العطف أن يشارك الله في ربوبيته و لم يكن مطلوبه ذلك بل كان مطلوبه التعين بالتفوق كما عرفت، و لم يقل أيضا: و الآلهة تحيي و تميت.

و لم يعارض إبراهيم (عليه السلام) بالحق، بل بالتمويه و المغالطة و تلبيس الأمر على من حضر، فإن إبراهيم (عليه السلام) إنما أراد بقوله: ربي الذي يحيي و يميت، الحياة و الموت المشهودين في هذه الموجودات الحية الشاعرة المريدة فإن هذه الحياة المجهولة لكنه لا يستطيع أن يوجدها إلا من هو واجد لها فلا يمكن أن يعلل بالطبيعة الجامدة الفاقدة لها، و لا بشيء من هذه الموجودات الحية، فإن حياتها هي وجودها، و موتها عدمها، و الشيء لا يقوى لا على إيجاد نفسه و لا على إعدام نفسه، و لو كان نمرود أخذ هذا الكلام بالمعنى الذي له لم يمكنه معارضته بشيء لكنه غالط فأخذ الحياة و الموت بمعناهما المجازي أو الأعم من معناهما الحقيقي و المجازي فإن الإحياء كما يقال على جعل الحياة في شيء كالجنين إذا نفخت فيه الحياة كذلك يقال: على تلخيص إنسان من ورطة الهلاك، و كذا الإماتة تطلق على التوفي و هو فعل الله و على مثل القتل بآلة قتالة، و عند ذلك أمر بإحضار رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما و إطلاق الآخر فقتل هذا و أطلق ذاك فقال: أنا أحيي و أميت، و لبس الأمر على الحاضرين فصدقوه فيه، و لم يستطع لذلك إبراهيم (عليه السلام) أن يبين له وجه المغالطة، و أنه لم يرد بالإحياء و الإماتة هذا المعنى المجازي، و أن الحجة لا تعارض الحجة، و لو كان في وسعه (عليه السلام) ذلك لبينه، و لم يكن ذلك إلا لأنه شاهد حال نمرود في تمويهه، و حال الحضار في تصديقهم لقوله الباطل على العمياء، فوجد أنه لو بين وجه المغالطة لم يصدقه أحد، فعدل إلى حجة أخرى لا يدع المكابر أن يعارضه بشيء فقال إبراهيم (عليه السلام): إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، و ذلك أن الشمس و إن كانت من جملة الآلهة عندهم أو عند بعضهم كما يظهر من ما يرجع إلى الكوكب و القمر من قصته (عليه السلام) لكنها و ما يلحق وجودها من الأفعال كالطلوع و الغروب مما يستند بالآخرة إلى الله الذي كانوا يرونه رب الأرباب، و الفاعل الإرادي إذا اختار فعلا بالإرادة كان له أن يختار خلافه كما اختار نفسه فإن الأمر يدور مدار الإرادة، و بالجملة لما قال إبراهيم ذلك بهت نمرود، إذ ما كان يسعه أن يقول: إن هذا الأمر المستمر الجاري على وتيرة واحدة و هو طلوعها من المشرق دائما أمر اتفاقي لا يحتاج إلى سبب، و لا كان يسعه أن يقول: إنه فعل مستند إليها غير مستند إلى الله فقد كان يسلم خلاف ذلك، و لا كان يسعه أن يقول: إني أنا الذي آتيها من المشرق و إلا طولب بإتيانها من المغرب، فألقمه الله حجرا و بهته، و الله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: أن آتيه الله الملك، ظاهر السياق: أنه من قبيل قول القائل: أساء إلي فلان لأني أحسنت إليه يريد: أن إحساني إليه كان يستدعي أن يحسن إلي لكنه بدل الإحسان من الإساءة فأساء إلي، و قولهم: و اتق شر من أحسنت إليه، قال الشاعر: جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر.

و حسن فعل كما يجزى سنمار.

فالجملة أعني قوله: أن آتيه الله الملك بتقدير لام التعليل و هي من قبيل وضع الشيء موضع ضده للشكوى و الاستعداء و نحوه، فإن عدوان نمرود و طغيانه في هذه المحاجة كان ينبغي أن يعلل بضد إنعام الله عليه بالملك، لكن لما لم يتحقق من الله في حقه إلا الإحسان إليه و إيتاؤه الملك فوضع في موضع العلة فدل على كفرانه لنعمة الله فهو بوجه كقوله تعالى: «فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا و حزنا:» القصص - 8، فهذه نكتة في ذكر إيتائه الملك.

و هناك نكتة أخرى و هي: الدلالة على رداءة دعواه من رأس، و ذلك أنه إنما كان يدعي هذه الدعوى لملك آتاه الله تعالى من غير أن يملكه لنفسه، فهو إنما كان نمرود الملك ذا السلطة و السطوة بنعمة من ربه، و أما هو في نفسه فلم يكن إلا واحدا من سواد الناس لا يعرف له وصف، و لا يشار إليه بنعت، و لهذا لم يذكر اسمه و عبر عنه بقوله: الذي حاج إبراهيم في ربه، دلالة على حقارة شخصه و خسة أمره.

و أما نسبة ملكه إلى إيتاء الله تعالى فقد مر في المباحث السابقة: أنه لا محذور فيه، فإن الملك و هو نوع سلطنة منبسطة على الأمة كسائر أنواع السلطنة و القدرة نعمة من الله و فضل يؤتيه من يشاء، و قد أودع في فطرة الإنسان معرفته، و الرغبة فيه، فإن وضعه في موضعه كان نعمة و سعادة، قال تعالى: «و ابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة:» القصص - 77، و إن عدا طوره و انحرف به عن الصراط كان في حقه نقمة و بوارا، قال تعالى: «أ لم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار:» إبراهيم - 28، و قد مر بيان أن لكل نسبة إليه تعالى على ما يليق بساحة قدسه تعالى و تقدس من جهة الحسن الذي فيه دون جهة القبح و المساءة.

و من هنا يظهر سقوط ما ذكره بعض المفسرين: أن الضمير في قوله أن آتيه الله الملك، يعود إلى إبراهيم (عليه السلام)، و المراد بالملك ملك إبراهيم كما قال تعالى: «أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة و آتيناهم ملكا عظيما:» النساء - 54، لا ملك نمرود لكونه ملك جور و معصية لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه.

ففيه أولا: أن القرآن ينسب هذا الملك و ما في معناه كثيرا إليه تعالى كقوله حكاية عن مؤمن آل فرعون: «يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض:» المؤمن - 29 و، قوله تعالى حكاية عن فرعون - و قد أمضاه بالحكاية -: «يا قوم أ ليس لي ملك مصر:» الزخرف - 51، و قد قال تعالى: «له الملك:» التغابن - 1، فقصر كل الملك لنفسه فما من ملك إلا و هو منه تعالى، و قال تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام): «ربنا إنك آتيت فرعون و ملأه زينة:» يونس - 88، و قال تعالى في قارون: «و آتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة:» القصص - 76، و قال تعالى خطابا لنبيه: «ذرني و من خلقت وحيدا و جعلت له مالا ممدودا» - إلى أن قال -: «و مهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد:» المدثر - 15، إلى غير ذلك.

و ثانيا: أن ذلك لا يلائم ظاهر الآية فإن ظاهرها أن نمرود كان ينازع إبراهيم في توحيده و إيمانه لا أنه كان ينازعه و يحاجه في ملكه فإن ملك الظاهر كان لنمرود، و ما كان يرى لإبراهيم ملكا حتى يشاجره فيه.

و ثالثا: أن لكل شيء نسبة إلى الله سبحانه و الملك من جملة الأشياء و لا محذور في نسبته إليه تعالى و قد مر تفصيل بيانه.

قوله تعالى: قال إبراهيم ربي الذي يحيي و يميت، الحياة و الموت و إن كانا يوجدان في غير جنس الحيوان أيضا كالنبات، و قد صدقه القرآن كما مر بيانه في تفسير آية الكرسي، لكن مراده (عليه السلام) منهما إما خصوص الحياة و الممات الحيوانيين أو الأعم الشامل له لإطلاق اللفظ، و الدليل على ذلك قول نمرود: أنا أحيي و أميت، فإن هذا الذي ادعاه لنفسه لم يكن من قبيل إحياء النبات بالحرث و الغرس مثلا، و لا إحياء الحيوان بالسفاد و التوليد مثلا، فإن ذلك و أشباهه كان لا يختص به بل يوجد في غيره من أفراد الإنسان، و هذا يؤيد ما وردت به الروايات: أنه أمر بإحضار رجلين ممن كان في سجنه فأطلق أحدهما و قتل الآخر، و قال عند ذلك: أنا أحيي و أميت.

و إنما أخذ (عليه السلام) في حجته الإحياء و الإماتة لأنهما أمران ليس للطبيعة الفاقدة للحياة فيهما صنع، و خاصة الحياة التي في الحيوان حيث تستتبع الشعور و الإرادة و هما أمران غير ماديين قطعا، و كذا الموت المقابل لها، و الحجة على ما فيها من السطوع و الوضوح لم تنجح في حقهم، لأن انحطاطهم في الفكر و خبطهم في التعقل كان فوق ما كان يظنه (عليه السلام) في حقهم، فلم يفهموا من الإحياء و الإماتة إلا المعنى المجازي الشامل لمثل الإطلاق و القتل، فقال نمرود: أنا أحيي و أميت و صدقه من حضره، و من سياق هذه المحاجة يمكن أن يحدس المتأمل ما بلغ إليه الانحطاط الفكري يومئذ في المعارف و المعنويات، و لا ينافي ذلك الارتقاء الحضاري و التقدم المدني الذي يدل عليه الآثار و الرسوم الباقية من بابل كلدة و مصر الفراعنة و غيرهما، فإن المدنية المادية أمر و التقدم في معنويات المعارف أمر آخر، و في ارتقاء الدنيا الحاضرة في مدنيتها و انحطاطها في الأخلاق و المعارف المعنوية ما تسقط به هذه الشبهة.

و من هنا يظهر: وجه عدم أخذه (عليه السلام) في حجته مسألة احتياج العالم بأسره إلى الصانع الفاطر للسماوات و الأرض كما أخذ به في استبصار نفسه في بادي أمره على ما يحكيه الله عنه بقوله: إني وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين:» الأنعام - 79، فإن القوم على اعترافهم بذلك بفطرتهم إجمالا كانوا أنزل سطحا من أن يعقلوه على ما ينبغي أن يعقل عليه بحيث ينجح احتجاجه و يتضح مراده (عليه السلام)، و ناهيك في ذلك ما فهموه من قوله: ربي الذي يحيي و يميت.

قوله تعالى: قال أنا أحيي و أميت، أي فأنا ربك الذي وصفته بأنه يحيي و يميت.

قوله تعالى: قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر، لما أيس (عليه السلام) من مضي احتجاجه بأن ربه الذي يحيي و يميت، لسوء فهم الخصم و تمويهه و تلبيسه الأمر على من حضر عندهما عدل عن بيان ما هو مراده من الإحياء و الإماتة إلى حجة أخرى، إلا أنه بنى هذه الحجة الثانية على دعوى الخصم في الحجة الأولى كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله: فإن الله «إلخ»، و المعنى: إن كان الأمر كما تقول: إنك ربي و من شأن الرب أن يتصرف في تدبير أمر هذا النظام الكوني فالله سبحانه يتصرف في الشمس بإتيانها من المشرق فتصرف أنت بإتيانها من المغرب حتى يتضح أنك رب كما أن الله رب كل شيء أو أنك الرب فوق الأرباب فبهت الذي كفر، و إنما فرع الحجة على ما تقدمها لئلا يظن أن الحجة الأولى تمت لنمرود و أنتجت ما ادعاه، و لذلك أيضا قال: فإن الله و لم يقل: فإن ربي لأن الخصم استفاد من قوله: ربي سوءا و طبقه على نفسه بالمغالطة فأتى (عليه السلام) ثانيا بلفظة الجلالة ليكون مصونا عن مثل التطبيق السابق! و قد مر بيان أن نمرود ما كان يسعه أن يتفوه في مقابل هذه الحجة بشيء دون أن يبهت فيسكت.

قوله تعالى: و الله لا يهدي القوم الظالمين، ظاهر السياق أنه تعليل لقوله فبهت الذي كفر فبهته هو عدم هداية الله سبحانه إياه لا كفره، و بعبارة أخرى معناه أن الله لم يهده فبهت لذلك و لو هداه لغلب على إبراهيم في الحجة لا أنه لم يهده فكفر لذلك و ذلك لأن العناية في المقام متوجهة إلى محاجته إبراهيم (عليه السلام) لا إلى كفره و هو ظاهر.

و من هنا يظهر: أن في الوصف إشعارا بالعلية أعني: أن السبب لعدم هداية الله الظالمين هو ظلمهم كما هو كذلك في سائر موارد هذه الجملة من كلامه تعالى كقول: «و من أظلم ممن افترى على الله الكذب و هو يدعى إلى الإسلام و الله لا يهدي القوم الظالمين:» الصف - 7، و قوله: «مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله و الله لا يهدي القوم الظالمين:» الجمعة - 5، و نظير الظلم الفسق في قوله تعالى: «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم و الله لا يهدي القوم الفاسقين:» الصف - 5.

و بالجملة الظلم و هو الانحراف عن صراط العدل و العدول عما ينبغي من العمل إلى غير ما ينبغي موجب لعدم الاهتداء إلى الغاية المقصودة، و مؤد إلى الخيبة و الخسران بالأخرة، و هذه من الحقائق الناصعة التي ذكرها القرآن الشريف و أكد القول فيها في آيات كثيرة.

كلام في الإحسان و هدايته و الظلم و إضلاله

هذه حقيقة ثابتة بينها القرآن الكريم كما ذكرناه آنفا و هي كلية لا تقبل الاستثناء و قد ذكرها بالسنة مختلفة، و بنى عليها حقائق كثيرة من معارفه، قال تعالى: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى:» طه - 50، دل على أن كل شيء بعد تمام خلقه يهتدي بهداية من الله سبحانه إلى مقاصد وجوده و كمالات ذاته، و ليس ذلك إلا بارتباطه مع غيره من الأشياء و استفادته منها بالفعل و الانفعال بالاجتماع و الافتراق و الاتصال و الانفصال و القرب و البعد و الأخذ و الترك و نحو ذلك، و من المعلوم أن الأمور التكوينية لا تغلط في آثارها، و القصود الواقعية لا تخطي و لا تخبط في تشخيص غاياتها و مقاصدها، فالنار في مسها الحطب مثلا و هي حارة لا تريد تبريده، و النامي كالنبات مثلا و هو نام لا يقصد إلا عظم الحجم دون صغره و هكذا، و قد قال تعالى: «إن ربي على صراط مستقيم:» هود - 56، فلا تخلف و لا اختلاف في الوجود.

و لازم هاتين المقدمتين أعني عموم الهداية و انتفاء الخطإ في التكوين أن يكون لكل شيء روابط حقيقية مع غيره، و أن يكون بين كل شيء و بين الآثار و الغايات التي يقصد لها طريق أو طرق مخصوصة هي المسلوكة للبلوغ إلى غايته و الأثر المخصوص المقصود منه، و كذلك الغايات و المقاصد الوجودية إنما تنال إذا سلك إليها من الطرق الخاصة بها و السبل الموصلة إليها، فالبذرة إنما تنبت الشجرة التي في قوتها إنباتها مع سلوك الطريق المؤدي إليها بأسبابها و شرائطها الخاصة، و كذلك الشجرة إنما تثمر الثمرة التي من شأنها أثمارها، فما كل سبب يؤدي إلى كل مسبب، قال تعالى: «و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا:» الأعراف - 58، و العقل و الحس يشهدان بذلك و إلا اختل قانون العلية العام.

و إذا كان كذلك فالصنع و الإيجاد يهدي كل شيء إلى غاية خاصة، و لا يهديه إلى غيرها، و يهدي إلى كل غاية من طريق خاص لا يهدي إليها من غيره، صنع الله التي أتقن كل شيء، فكل سلسلة من هذه السلاسل الوجودية الموصلة إلى غاية و أثر إذا فرضنا تبدل حلقة من حلقاتها أوجب ذلك تبدل أثرها لا محالة، هذا في الأمور التكوينية.

و الأمور غير التكوينية من الاعتبارات الاجتماعية و غيرها على هذا الوصف أيضا من حيث إنها نتائج الفطرة المتكئة على التكوين، فالشئون الاجتماعية و المقامات التي فيه و الأفعال التي تصدر عنها كل منها مرتبط بآثار و غايات لا تتولد منه إلا تلك الآثار و الغايات و لا تتولد هي إلا منه، فالتربية الصالحة لا تتحقق إلا من مرب صالح و المربي الفاسد لا يترتب على تربيته إلا الأثر الفاسد ذاك الفساد المكمون في نفسه و إن تظاهر بالصلاح و لازم الطريق المستقيم في تربيته، و ضرب على الفساد المطوي في نفسه بمائة ستر و احتجب دونه بألف حجاب، و كذلك الحاكم المتغلب في حكومته، و القاضي الواثب على مسند القضاء بغير لياقة في قضائه، و كل من تقلد منصبا اجتماعيا من غير طريقه المشروع، و كذلك كل فعل باطل بوجه من وجوه البطلان إذا تشبه بالحق و حل بذلك محل الفعل الحق، و القول الباطل إذا وضع موضع القول الحق كالخيانة موضع الأمانة و الإساءة موضع الإحسان و المكر موضع النصح و الكذب موضع الصدق فكل ذلك سيظهر أثرها و يقطع دابرها و إن اشتبه أمرها أياما، و تلبس بلباس الصدق و الحق أحيانا، سنة الله التي جرت في خلقه و لن تجد لسنة الله تحويلا و لن تجد لسنة الله تبديلا.

فالحق لا يموت و لا يتزلزل أثره، و إن خفي على إدراك المدركين أويقات، و الباطل لا يثبت و لا يبقى أثره، و إن كان ربما اشتبه أمره و وباله، قال تعالى: «ليحق الحق و يبطل الباطل:» الأنفال: - 8، من تحقيق الحق تثبيت أثره، و من إبطال الباطل ظهور فساده و انتزاع ما تلبس به من لباس الحق بالتشبه و التمويه، و قال تعالى: «أ لم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها و يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء:» إبراهيم - 27، و قد أطلق الظالمين فالله يضلهم في شأنهم، و لا شأن لهم إلا أنهم يريدون آثار الحق من غير طريقها أعني: من طريق الباطل كما قال تعالى - حكاية عن يوسف الصديق: «قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون:» يوسف - 23، فالظالم لا يفلح في ظلمه، و لا أن ظلمه يهديه إلى ما يهتدي إليه المحسن بإحسانه و المتقي بتقواه، قال تعالى: «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين»: العنكبوت - 69، و قال تعالى: «و العاقبة للتقوى:» طه - 132.

و الآيات القرآنية في هذه المعاني كثيرة على اختلافها في مضامينها المتفرقة، و من أجمعها و أتمها بيانا فيه قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاءا و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال:» الرعد - 17.

و قد مرت الإشارة إلى أن العقل يؤيده، فإن ذلك لازم كلية قانون العلية و المعلولية الجارية بين أجزاء العالم و إن التجربة القطعية الحاصلة من تكرر الحس تشهد به، فما منا من أحد إلا و في ذكره أخبار محفوظة من عاقبة أمر الظالمين و انقطاع دابرهم.

قوله تعالى: أو كالذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها، الخاوية هي الخالية يقال: خوت الدار تخوي خواء إذا خلت، و العروش جمع العرش و هو ما يعمل مثل السقف للكرم قائما على أعمدة، قال تعالى: «جنات معروشات و غير معروشات:» الأنعام - 141، و من هنا أطلق على سقف البيت العرش، لكن بينهما فرقا، فإن السقف هو ما يقوم من السطح على الجدران و العرش هو السقف مع الأركان التي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم، و لذا صح أن يقال في الديار إنها خالية على عروشها و لا يصح أن يقال: خالية على سقفها.

و قد ذكر المفسرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى: أو كالذي، فقيل: إنه عطف على قوله في الآية السابقة: الذي حاج إبراهيم، و الكاف اسمية، و المعنى أو هل رأيت مثل الذي مر على قرية «إلخ»، و قد جيء بهذا الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد، و قيل: بل الكاف زائدة، و المعنى: أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو الذي مر على قرية «إلخ»، و قيل: إنه عطف محمول على المعنى، و المعنى: أ لم تر كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية، و قيل: إنه من كلام إبراهيم جوابا عن دعوى الخصم أنه يحيي و يميت، و التقدير: و إن كنت تحيي فأحي كإحياء الذي مر على قرية «إلخ» فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكن الجميع كما ترى.

و أظن - و الله أعلم - أن العطف على المعنى كما مر في الوجه الثالث إلا أن التقدير غير التقدير، توضيحه: أن الله سبحانه لما ذكر قوله: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، تحصل من ذلك: أنه يهدي المؤمنين إلى الحق و لا يهدي الكافر في كفره بل يضله أولياؤه الذين اتخذته من دون الله أولياء، ثم ذكر لذلك شواهد ثلاث يبين بها أقسام هدايته تعالى، و هي مراتب ثلاث مترتبة: أولاها: الهداية إلى الحق بالبرهان و الاستدلال كما في قصة الذي حاج إبراهيم في ربه، حيث هدى إبراهيم إلى حق القول، و لم يهد الذي حاجه بل أبهته و أضله كفره، و إنما لم يصرح بهداية إبراهيم بل وضع عمدة الكلام في أمر خصمه ليدل على فائدة جديدة يدل عليها قوله: و الله لا يهدي القوم الظالمين.

و الثانية: الهداية إلى الحق بالإراءة و الإشهاد كما في قصة الذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها فإنه بين له ما أشكل عليه من أمر الإحياء بإماتته و إحيائه و سائر ما ذكره في الآية، كل ذلك بالإراءة و الإشهاد.

الثالثة: الهداية إلى الحق و بيان الواقعة بإشهاد الحقيقة و العلة التي تترشح منه الحادثة، و بعبارة أخرى بإراءة السبب و المسبب معا، و هذا أقوى مراتب الهداية و البيان و أعلاها و أسناها كما أن من كان لم ير الجبن مثلا و ارتاب في أمره تزاح شبهته تارة بالاستشهاد بمن شاهده و أكل منه و ذاق طعمه.

و تارة بإراءته قطعة من الجبن و إذاقته طعمه و تارة بإحضار الحليب و عصارة الإنفحة و خلط مقدار منها به حتى يجمد ثم إذاقته شيئا منه و هي أنفى المراتب للشبهة.

إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن المقام في الآيات الثلاث - و هو مقام الاستشهاد - يصح فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: إن الله يهدي المؤمنين إلى الحق: أ لم تر إلى قصة إبراهيم و نمرود، أو لم تر إلى قصة الذي مر على قرية، أو لم تر إلى قصة إبراهيم و الطير، أو يقال إن الله يهدي المؤمنين إلى الحق: إما كما هدى إبراهيم في قصة المحاجة و هي نوع من الهداية، أو كالذي مر على قرية و هي نوع آخر، أو كما في قصة إبراهيم و الطير و هي نوع آخر، أو يقال: إن الله يهدي المؤمنين إلى الحق و أذكرك ما يشهد بذلك فاذكر قصة المحاجة، و اذكر الذي مر على قرية، و اذكر إذ قال إبراهيم رب أرني.

فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير أن الله سبحانه أخذ بالتفنن في البيان و خص كل واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلاث تنشيطا لذهن المخاطب و استيفاء لجميع الفوائد السياقية الممكنة الاستيفاء.

و من هنا يظهر: أن قوله تعالى: أو كالذي، معطوف على مقدر يدل عليه الآية السابقة، و التقدير: إما كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية، و يظهر أيضا أن قوله في الآية التالية: و إذ قال إبراهيم، معطوف على مقدر مدلول عليه بالآية السابقة و التقدير: اذكر قصة المحاجة و قصة الذي مر على قرية، و اذكر إذ قال إبراهيم رب أرني «إلخ».

و قد أبهم الله سبحانه اسم هذا الذي مر على قرية و اسم القرية و القوم الذين كانوا يسكنونها، و القوم الذين بعث هذا المار آية لهم كما يدل عليه قوله و لنجعلك آية للناس، مع أن الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.

لكن الآية و هي الإحياء بعد الموت و كذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لما كانت أمرا عظيما، و قد وقعت موقع الاستبعاد و الاستعظام، كان مقتضى البلاغة أن يعبر عنها المتكلم الحكيم القدير بلحن الاستهانة و الاستصغار لكسر سورة استبعاد المخاطب و السامعين كما أن العظماء يتكلمون عن عظماء الرجال و عظائم الأمور بالتصغير و التهوين تعظيما لمقام أنفسهم، و لذلك أبهم في الآية كثير من جهات القصة مما لا يتقوم به أصلها ليدل على هوان أمرها على الله، و لذلك أيضا أبهم خصم إبراهيم في الآية السابقة و أبهم جهات القصة من أسماء الطيور و أسماء الجبال و عدد الأجزاء و غيرها في الآية اللاحقة.

و أما التصريح باسم إبراهيم (عليه السلام) فإن للقرآن عناية تشريف به (عليه السلام)، قال تعالى: «و تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه:» الأنعام - 83، و قال تعالى: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين:» الأنعام - 75، ففي ذكره (عليه السلام) بالاسم عناية خاصة.

و لما ذكرناه من النكتة ترى أنه تعالى يذكر أمر الإحياء و الإماتة في غالب الموارد من كلامه بما لا يخلو من الاستهانة و الاستصغار، قال تعالى: «و هو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده و هو أهون عليه و له المثل الأعلى في السموات و الأرض و هو العزيز الحكيم:» الروم - 27، و قال تعالى: «قال رب أنى يكون لي غلام - إلى قوله: - قال ربك هو علي هين و قد خلقتك من قبل و لم تك شيئا:» مريم - 9.

قوله تعالى: قال أنى يحيي هذه الله، أي أنى يحيي الله أهل هذه القرية ففيه مجاز كما في قوله تعالى: «و اسأل القرية»: يوسف - 82.

و إنما قال هذا القول استعظاما للأمر و لقدرة الله سبحانه من غير استبعاد يؤدي إلى الإنكار أو ينشأ منه، و الدليل على ذلك قوله على ما حكى الله تعالى عنه في آخر القصة: أعلم أن الله على كل شيء قدير و لم يقل: الآن كما في ما يماثله من قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: «الآن حصحص الحق»: يوسف - 51، و سيجيء توضيحه قريبا.

على أن الرجل نبي مكلم و آية مبعوثة إلى الناس و الأنبياء معصومون حاشاهم عن الشك و الارتياب في البعث الذي هو أحد أصول الدين.

قوله تعالى: فأماته الله مائة عام ثم بعثه، ظاهره توفيه بقبض روحه و إبقاؤه على هذا الحال مائة عام ثم إحياؤه برد روحه إليه.

و قد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالموت هو الحال المسمى عند الأطباء بالسبات و هو أن يفقد الموجود الحي الحس و الشعور مع بقاء أصل الحياة مدة من الزمان، أياما أو شهورا أو سنين، كما أنه الظاهر من قصة أصحاب الكهف و رقودهم ثلاثمائة و تسع سنين ثم بعثهم عن الرقدة و احتجاجه تعالى به على البعث فالقصة تشبه القصة.

قال: و الذي وجد من موارد اتفاقه لا يزيد على سنين معدودة فسبات مائة سنة أمر غير مألوف و خارق للعادة لكن القادر على توفي الإنسان بالسبات زمانا كعدة سنين قادر على إلقاء السبات مائة سنة، و لا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النص من آيات الله تعالى و أخذها على ظاهرها إلا أن تكون من الممكنات دون المستحيلات، فقد احتج الله بهذا السبات و رجوع الحس و الشعور إليه ثانيا بعد سلبه مائة سنة على إمكان رجوع الحياة إلى الأموات بعد سلبها عنهم ألوفا من السنين، هذا ملخص ما ذكره.

و ليت شعري كيف يصح الحكم بكون الإماتة المذكورة في الآية من قبيل السبات من جهة كون قصة أصحاب الكهف من قبيل السبات «على تقدير تسليمه» بمجرد شباهة ما بين القصتين مع ظهور قوله تعالى: فأماته الله، في الموت المعهود دون السبات الذي اختلقه للآية؟ و هل هو إلا قياس فيما لم يقل بالقياس فيه أحد، و هو أمر الدلالة؟ و إذا جاز أن يلقي الله على رجل سبات مائة سنة مع كونه خرقا للعادة فليجز له إماتته مائة سنة ثم إحياؤه، فلا فرق عنده تعالى بين خارق و خارق إلا أن هذا القائل يرى إحياء الموتى في الدنيا محالا من غير دليل يدل عليه، و قد تأول لذلك أيضا قوله تعالى في ذيل الآية: و انظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، و سيجيء التعرض له.

و بالجملة دلالة قوله تعالى: فأماته الله مائة عام، من حيث ظهور اللفظ و بالنظر إلى قوله قبله: أنى يحيي هذه الله، و قوله بعده: فانظر إلى طعامك و شرابك لم يتسنه و انظر إلى حمارك و قوله: و انظر إلى العظام، مما لا ريب فيه.

قوله تعالى: قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام، اللبث هو المكث و ترديد الجواب بين اليوم و بعض اليوم يدل على اختلاف وقت إماتته و إحيائه كأوائل النهار و أواخره، فحسب الموت و الحياة نوما و انتباها، ثم شاهد اختلاف وقتيهما فتردد في تخلل الليلة بين الوقتين و عدم تخللها فقال يوما لو تخللت الليلة أو بعض يوم لو لم تتخلل قال: بل لبثت مائة عام.

قوله تعالى: فانظر إلى طعامك و شرابك لم يتسنه إلى قوله لحما، سياق هذه الجمل في أمره عجيب فقد كرر فيها قوله: انظر ثلاث مرات و كان الظاهر أن يكتفي بواحد منها، و ذكر فيها أمر الطعام و الشراب و الحمار و الظاهر السابق إلى الذهن أنه لم يكن إلى ذكرها حاجة، و جيء بقوله: و لنجعلك متخللا في الكلام و كان الظاهر أن يتأخر عن جملة: و انظر إلى العظام، على أن بيان ما استعظمه هذا المار بالقرية - و هو إحياء الموتى بعد طول المدة و عروض كل تغير عليها - قد حصل بإحيائه نفسه بعد الموت فما الموجب لأن يؤمر ثانيا بالنظر إلى العظام؟ لكن التدبر في أطراف الآية الشريفة يوضح خصوصيات القصة إيضاحا ينحل به العقدة و تنجلي به الشبهة المذكورة.

القصة

التدبر في الآية يعطي أن الرجل كان من صالحي عباد الله، عالما بمقام ربه، مراقبا لأمره، بل نبيا مكلما فإن ظاهر قوله: أعلم أن الله، أنه بعد تبين الأمر له رجع إلى ما لم يزل يعلمه من قدرة الله المطلقة، و ظاهر قوله تعالى: ثم بعثه قال كم لبثت، إنه كان مأنوسا بالوحي و التكليم، و أن هذا لم يكن أول وحي يوحى إليه و إلا كان حق الكلام أن يقال: فلما بعثه قال «إلخ» أو ما يشبهه كقوله تعالى في موسى (عليه السلام): «فلما أتيها نودي يا موسى إني أنا ربك»: طه - 12، و قوله تعالى فيه أيضا: «فلما أتيها نودي من شاطىء الوادي الأيمن:» القصص - 30.

و كيف كان فقد كان (عليه السلام) خرج من داره قاصدا مكانا بعيدا عن قريته التي كان بها، و الدليل عليه خروجه مع حمار يركبه، و حمله طعاما و شرابا يتغذى بهما، فلما سار إلى ما كان يقصده مر بالقرية التي ذكر الله تعالى أنها كانت خاوية على عروشها، و لم يكن قاصدا نفس القرية، و إنما مر بها مرورا ثم وقف معتبرا بما يشاهده من أمر القرية الخربة التي كان قد أبيد أهلها و شملتهم نازلة الموت و عظامهم الرميمة بمرأى و منظر منه (عليه السلام)، فإنه يشير إلى الموتى بقوله: أنى يحيي هذه الله، و لو كان مراده بذلك عمران نفس القرية بعد خرابها و الإشارة إلى نفس القرية لكان حق الكلام أن يقال: أنى يعمر هذه الله.

على أن القرية الخربة ليس من المترقب عمرانها بعد خرابها، و لا أن عمرانها بعد الخراب مما يستعظم عادة، و لو كانت الأموات المشار إليهم مقبورين و قد اعتبر بمقابرهم لكان من اللازم ذكره و الصفح عن ذكر نفس القرية على ما يليق بأبلغ الكلام.

ثم إنه تعمق في الاعتبار فهاله ما شاهده منها فاستعظم طول مدة مكثها مع ما يصاحبه من تحولها من حال إلى حال، و تطورها من صورة إلى صورة بحيث يصير الأصل نسيا منسيا، و عند ذلك قال: أنى يحيي هذه الله، و قد كان هذا الكلام ينحل إلى جهتين: «إحداهما»: استعظام طول المدة و الإحياء مع ذلك، «و الثانية»: استعظام رجوع الأجزاء إلى صورتها الأولى الفانية بعد عروض هذه التغيرات غير المحصورة، فبين الله له الأمر من الجهتين جميعا: أما من الجهة الأولى فبإماتته ثم إحيائه و سؤاله و أما من الجهة الثانية فبإحياء العظام بمنظر و مرأى منه.

فأماته الله مائة عام ثم بعثه، و قد كان الإماتة و الإحياء في وقتين مختلفين من النهار كما مر ذكره، قال كم لبثت، قال لبثت يوما أو بعض يوم نظرا إلى اختلاف الوقتين، و قد كان موته في الطرف المقدم من النهار و بعثه في الطرف المؤخر منه و لو كان بالعكس من ذلك لقال: لبثت يوما من غير ترديد، فرد الله سبحانه عليه و قال: بل لبثت مائة عام، فرأى من نفسه أنه شاهد مائة سنة كيوم أو بعض يوم، فكان فيه جواب ما استعظمه من طول المكث.

ثم استشهد تعالى على قوله: بل لبثت مائة عام بقوله: فانظر إلى طعامك و شرابك لم يتسنه و انظر إلى حمارك! و ذلك: أن قوله: لبثت يوما أو بعض يوم يدل على أنه لم يحس بشيء من طول المدة و قصره، و إنما استدل على ما ذكره بما شاهد من حال النهار من شمس أو ظل و نحوهما، فلما أجيب بقوله تعالى: بل لبثت مائة عام كان الجواب في مظنة أن يرتاب فيه من جهة ما كان يشاهد نفسه و لم يتغير شيء من هيئة بدنه، و الإنسان إذا مات و مضى عليه مائة سنة على طولها تغير لا محالة بدنه عما هو عليه من النضارة و الطراوة و كان ترابا و عظاما رميمة، فدفع الله تعالى هذا الذي يمكن أن يخطر بباله بأمره أن ينظر إلى طعامه و شرابه لم يتغير شيء منهما عما كان عليه و أن ينظر إلى الحمار و قد صار عظاما رميمة، فحال الحمار يدل على طول مدة المكث و حال الطعام و الشراب يدل على إمكان أن يبقى طول هذه المدة على حال واحد من غير أن يتغير شيء من هيئته عما هي عليه.

و من هنا يظهر أن الحمار أيضا قد أميت و كان رميما و كان السكوت عن ذكر إماتته معه لما عليه القرآن من الأدب البارع.

و بالجملة تم عند ذلك البيان الإلهي: أن استعظامه طول المدة قد كان في غير محله حيث أخذ الله منه الاعتراف بأن مائة سنة - مدة لبثه - كيوم أو بعض يوم كما يأخذ اعتراف أهل الجمع يوم القيامة بمثل ما اعترف به، فبين له أن تخلل الزمان بين الإماتة و الإحياء بالطول و القصر لا يؤثر في قدرته الحاكمة على كل شيء، فليست قدرة مادية زمانية حتى يتخلف حالها بعروض تغيرات أقل أو أزيد على المحل، فيكون إحياء الموتى القديمة أصعب عليه من إحياء الموتى الجديدة، بل البعيد عنده كالقريب من غير فرق كما قال تعالى: «إنهم يرونه بعيدا و نريه قريبا»: المعارج - 7، و قال تعالى: «و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر:» النحل - 77.

ثم قال تعالى: و لنجعلك آية للناس، عطف الغاية يدل على أن هناك غيرها من الغايات، و المعنى أنا فعلنا بك ما فعلنا لنبين لك كذا و كذا و لنجعلك آية للناس فبين أن الغرض الإلهي لم يكن في ذلك منحصرا في بيان الأمر له نفسه بل هناك غاية أخرى و هي جعله آية للناس، فالغرض من قوله: و انظر إلى العظام «إلخ» بيان الأمر له فقط و من إماتته و إحيائه بيان الأمر له و جعله آية للناس، و لذلك قدم قوله: و لنجعلك «إلخ» على قوله: و انظر إلى العظام «إلخ».

و مما بينا يظهر وجه تكرار قوله انظر، ثلاث مرات في الآية، فلكل واحد من الموارد الثلاث غرض خاص به لا يشاركه فيه غيره.

و كان في إماتته و إحيائه و بيان ذلك له بيان ما يجده الميت من نفسه إذا أحياه الله ليوم البعث كما قال تعالى: «و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون و قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث و لكنكم كنتم لا تعلمون:» الروم - 56.

ثم بين الله له الجهة الث
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 2:02 pm

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

و ثانيا: على أن إبراهيم (عليه السلام) إنما سأل أن يشاهد كيفية الإحياء لا أصل الإحياء كما أنه ظاهر قوله: كيف تحيي الموتى، و هذا السؤال متصور على وجهين: الوجه الأول: أن يكون سؤالا عن كيفية قبول الأجزاء المادية الحياة، و تجمعها بعد التفرق و التبدد، و تصورها بصورة الحي، و يرجع محصله إلى تعلق القدرة بالإحياء بعد الموت و الفناء.

الوجه الثاني: أن يكون عن كيفية إفاضة الله الحياة على الأموات و فعله بأجزائها الذي به تلبس الحياة، و يرجع محصله إلى السؤال عن السبب و كيفية تأثيره، و هذا بوجه هو الذي يسميه الله سبحانه بملكوت الأشياء في قوله عز من قائل: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء:» يس - 83.

و إنما سأل إبراهيم (عليه السلام) عن الكيفية بالمعنى الثاني دون المعنى الأول: أما أولا: فلأنه قال: كيف تحيي الموتى، بضم التاء من الإحياء فسأل عن كيفية الإحياء الذي هو فعل ناعت لله تعالى و هو سبب حياة الحي بأمره، و لم يقل: كيف تحيي الموتى، بفتح التاء من الحياة حتى يكون سؤالا عن كيفية تجمع الأجزاء و عودها إلى صورتها الأولى و قبولها الحياة، و لو كان السؤال عن الكيفية بالمعنى الثاني لكان من الواجب أن يرد على الصورة الثانية، و أما ثانيا: فلأنه لو كان سؤاله عن كيفية قبول الأجزاء للحياة لم يكن لإجراء الأمر بيد إبراهيم وجه، و لكفى في ذلك أن يريد الله إحياء شيء من الحيوان بعد موته، و أما ثالثا: فلأنه كان اللازم على ذلك أن يختم الكلام بمثل أن يقال: و أعلم أن الله على كل شيء قدير لا بقوله: و اعلم أن الله عزيز حكيم، على ما هو المعهود من دأب القرآن الكريم فإن المناسب للسؤال المذكور هو صفة القدرة دون صفتي العزة و الحكمة فإن العزة و الحكمة - و هما وجدان الذات كل ما تفقده و تستحقه الأشياء و إحكامه في أمره - إنما ترتبطان بإفاضة الحياة لا استفاضة المادة لها فافهم ذلك.

و مما ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين: أن إبراهيم (عليه السلام) إنما سأل بقوله: رب أرني حصول العلم بكيفية حصول الإحياء دون مشاهدة كيفية الإحياء، و أن الذي أجيب به في الآية لا يدل على أزيد من ذلك، قال: ما محصله: أنه ليس في الكلام ما يدل على أن الله سبحانه أمره بالإحياء، و لا أن إبراهيم (عليه السلام) فعل ما أمره به، فما كل أمر يقصد به الامتثال، فإن من الخبر ما يأتي بصورة الإنشاء كما إذا سألك سائل كيف يصنع الحبر مثلا؟ فتقول: خذ كذا و كذا و أفعل به كذا و كذا يكن حبرا تريد أن هذه كيفيته، و لا تريد به أن تأمره أن يصنع الحبر بالفعل.

قال: و في القرآن شيء كثير مما ورد فيه الخبر في صورة الأمر، و الكلام هاهنا مثل لإحياء الموتى، و معناه خذ أربعة من الطير فضمها إليك و آنسها بك حتى تأنس و تصير بحيث تجيب دعوتك إذا دعوتها فإن الطيور من أشد الحيوان استعدادا لذلك ثم اجعل كل واحد منها على جبل ثم ادعها فإنها تسرع إليك من غير أن يمنعها تفرق أمكنتها و بعدها، كذلك أمر ربك إذا أراد إحياء الموتى يدعوهم بكلمة التكوين: كونوا أحياء، فيكونون أحياء كما كان شأنه في بدء الخلقة، ذلك إذ قال للسماوات و الأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا: أتينا طائعين.

قال: و الدليل على ذلك من الآية قوله تعالى: فصرهن، فإن معناه أملهن أي أوجد ميلها إليك و أنسها بك، و يشهد به تعديته بإلى فإن صار إذا تعدى بإلى كان بمعنى الإمالة، و ما ذكره المفسرون من كونه بمعنى التقطيع أي قطعهن أجزاء بعد الذبح لا يساعد عليه تعديته بإلى، و أما ما قيل: إن قوله: إليك متعلق بقوله: فخذ دون قوله: فصرهن و المعنى: خذ إليك أربعة من الطير فقطعهن فخلاف ظاهر الكلام.

و ثانيا: أن الظاهر: أن ضمائر فصرهن و منهن و ادعهن و يأتينك جميعا راجعة إلى الطير، و يلزم على قولهم: إن المراد تقطيعها و تفريق أجزائها، و وضع كل جزء منها على جبل ثم دعوتهن أن يفرق بين الضمائر فيعود الأولان إلى الطيور، و الثالث و الرابع إلى الأجزاء و هو خلاف الظاهر.

و أضاف إلى ذلك بعض من وافقه في معنى الآية وجوها أخرى نتبعها بها.

و ثالثا: أن إراءة كيفية الخلقة إن كان بمعنى مشاهدة كيفية تجمع أجزائها و تغير صورها إلى الصورة الأولى الحية فهي مما لا تحصل على ما ذكروه من تقطيعه الأجزاء و مزجه إياها و وضعه على جبل بعيد، جزءا منها فكيف يتصور على هذا مشاهدة ما يعرض ذرات الأجزاء من الحركات المختلفة و التغيرات المتنوعة، و إن كان المراد إراءة كيفية الإحياء بمعنى الإحاطة على كنه كلمة التكوين التي هي الإرادة الإلهية المتعلقة بوجود الشيء و حقيقة نطقها بالأشياء فظاهر القرآن و هو ما عليه المسلمون أن هذا غير ممكن للبشر، فصفات الله منزهة عن الكيفية.

و رابعا: أن قوله: ثم اجعل، يدل على التراخي الذي هو المناسب لمعنى التأنيس و كذلك قوله: فصرهن بخلاف ما ذكروه من معنى الذبح و التقطيع.

و خامسا: أنه لو كان كما يقولون لكان الأنسب هو ختم الآية باسم القدير دون الاسمين: العزيز الحكيم فإن العزيز هو الغالب الذي لا ينال، هذا ما ذكروه.

و أنت بالتأمل في ما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكروه، فإن اشتمال الآية على السؤال بلفظ أرني و قوله: كيف تحيي و إجراء الأمر بيد إبراهيم على ما مر بيانها كل ذلك ينافي هذا المعنى، على أن الجزء في قوله تعالى: ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ظاهره جزء الطير لا واحد من الطيور.

و أما الوجوه التي ذكروها فالجواب عن الأول: أن معنى صرهن قطعهن، و تعديته بإلى لمكان تضمينه معنى الإمالة كما في قوله تعالى: «الرفث إلى نسائكم»: البقرة - 187، حيث ضمن معنى الإفضاء.

و عن الثاني: أن جميع الضمائر الأربع راجعة إلى الطيور، و الوجه في رجوع ضمير ادعهن و يأتينك إليها مع أنها غير موجودة بأجزائها و صورها بل هي موجودة بأجزائها فقط هو الوجه في رجوع الضمير إلى السماء مع عدم وجودها إلا بمادتها في قوله تعالى: «ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين:» فصلت - 10، و قوله تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن:» يس - 82، و حقيقة الأمر: أن الخطاب اللفظي فرع وجود المخاطب قبل الخطاب، و أما الخطاب التكويني فالأمر فيه بالعكس، و المخاطب فيه فرع الخطاب، فإن الخطاب فيه هو الإيجاد و من المعلوم أن الوجود فرع الإيجاد، كما يشير إليه قوله تعالى: أن نقول له كن فيكون الآية فقوله فيكون إشارة إلى وجود الشيء المتفرع على قوله كن و هو خطاب الأمر.

و عن الثالث: أنا نختار الشق الثاني و أن السؤال إنما هو عن كيفية فعل الله سبحانه و إحيائه لا عن كيفية قبول المادة و حياتها، و قوله: إن البشر لا يمكنه أن ينال كنه الإرادة الإلهية التي هي من صفاته كما يدل ظاهر القرآن و عليه المسلمون.

قلنا: إن الإرادة من صفات الفعل المنتزعة منه كالخلق و الإحياء و نحوهما، و الذي لا سبيل إليه هو الذات المتعالية كما قال تعالى: «و لا يحيطون به علما:» طه - 110.

فالإراده منتزعة من الفعل، و هو الإيجاد المتحد مع وجود الشيء، و هو كلمة كن في قوله تعالى: أن نقول له كن فيكون، و قد ذكر الله في تالي الآية أن هذه الكلمة - كلمة كن - هي ملكوت كل شيء إذ قال: فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء الآية، و قد ذكر الله تعالى أنه أرى إبراهيم ملكوت خلقه إذ قال: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين:» الأنعام - 75، و من الملكوت إحياء الطيور المذكورة في الآية.

و منشأ هذه الشبهة و نظائرها من هؤلاء الباحثين أنهم يظنون أن دعوة إبراهيم (عليه السلام) للطيور في إحيائها، و قول عيسى (عليه السلام) لميت عند إحيائه: قم بإذن الله و جريان الريح بأمر سليمان و غيرها مما يشتمل عليه الكتاب و السنة إنما هو لأثر وضعه الله تعالى في ألفاظهم المؤلفة من حروف الهجاء، أو في إدراكهم التخيلي الذي تدل عليه ألفاظهم نظير النسبة التي بين ألفاظنا العادية و معانيها و قد خفي عليهم أن ذلك إنما هو عن اتصال باطني بقوة إلهية غير مغلوبة و قدرة غير متناهية هي المؤثرة الفاعلة بالحقيقة.

و عن الرابع: أن التراخي المدلول عليه بقوله: ثم كما يناسب معنى التربية و التأنيس كما ذكروه يناسب معنى التقطيع و تفريق الأجزاء و وضعها على الجبال كما هو ظاهر.

و عن الخامس: أن الإشكال مقلوب عليهم فإن الذي ذكروه هو أن الله إنما بين كيفية الإحياء لإبراهيم بالبيان العلمي النظري دون الشهودي، فيرد عليهم أن المناسب حينئذ ختم الآية بصفة القدرة دون العزة و الحكمة، و قد عرفت مما قدمنا أن الأنسب على ما بيناه من معنى الآية هو الختم بالاسمين: العزيز الحكيم كما في الآية.

و يظهر مما ذكرنا أيضا فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين: أن المراد بالسؤال في الآية إنما هو السؤال عن إشهاد كيفية الإحياء بمعنى كيفية قبول الأجزاء صورة الحياة.

قال: ما محصله: أن السؤال لم يكن في أمر ديني - و العياذ بالله - و لكنه سؤال عن كيفية الإحياء ليحيط علما بها، و كيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها فإبراهيم (عليه السلام) طلب علم لا يتوقف الإيمان على علمه، و يدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف، و موضوعها السؤال عن الحال، و نظير هذا أن يقول القائل كيف يحكم زيد في الناس، فهو لا يشك أنه يحكم فيهم، و لكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته، و لو كان سائلا عن ثبوت ذلك لقال: أ يحكم زيد في الناس، و إنما جاء التقرير أعني قوله، أ و لم تؤمن، بعده لأن تلك الصيغة و إن كانت تستعمل ظاهرا في السؤال عن الكيفية كما علمت إلا أنها قد تستعمل أيضا في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع: أنه يحمل ثقلا من الأثقال و أنت تعلم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا تريد أنك عاجز عن حمله، و الله سبحانه لما علم براءة إبراهيم (عليه السلام) عن الحوم حول هذا الحمى أراد أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى لكون إيمانه مخلصا بعبارة تنص عليه بحيث يفهمها كل من سمعها فهما لا يتخالجه فيه شك، و معنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الإحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد، و عدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجودة، و رؤية الكيفية لم يزد في إيمانه المطلوب منه شيئا، و إنما أفادت أمرا لا يجب الإيمان به.

ثم قال بعد كلام له طويل: إن الآية تدل على فضل إبراهيم (عليه السلام) حيث أراه الله سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه، و أرى عزيرا ما أراه بعد ما أماته مائة عام.

و أنت بالتدبر في الآية و التأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط ما ذكره فإن السؤال إنما وقع عن كيفية إحيائه تعالى لا عن كيفية قبول الأجزاء الحياة ثانيا فقد قيل: كيف تحيي، بضم التاء لا بفتحها، على أن إجراء الأمر على يد إبراهيم (عليه السلام) يدل على ذلك و لو كان السؤال عن كيفية القبول لكفى في ذلك إراءة شيء من الموتى يحييه الله كما في قصة المار على القرية الخاوية في الآية السابقة حيث قال تعالى: و انظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، و لم تكن حاجة إلى إجراء الإحياء على يد إبراهيم (عليه السلام)، و هذا هو الذي أشرنا إليه آنفا: أنهم يقيسون نفوس الأنبياء في تلقيهم المعارف الإلهية و مصدريتهم للأمور الخارقة بنفوسهم العادية فينتج ذلك مثلا: أن لا فرق بين تكون الحياة بيد إبراهيم و تكونه في الخارج بالنسبة إلى حال إبراهيم، و هذا أمر لا يخطر على بال الباحث عن الحقائق الخبير بها، لكن هؤلاء لإهمالهم أمر الحقائق وقعوا فيما وقعوا فيه من الفساد، و كلما أمعنوا في البحث زادوا بعدا عن الحق.

أ لا ترى أنه فسر الطمأنينة بارتفاع الخطورات في الصور المحتملة في التكون و الأشكال المتصورة مع أن هذا التردد الفكري من اللغو الذي لا سبيل له إلى ساحة مثل إبراهيم (عليه السلام)، مع أن الجواب المنقول في الآية لم يأت في ذلك بشيء فإن إبراهيم (عليه السلام) قال: كيف تحيي الموتى؟ فأطلق الموتى و هو يريد موتى الإنسان أو الأعم منه و من غيره و الله سبحانه ما أراه إلا تكون الحياة في أربعة من الطير.

ثم ذكر فضل إبراهيم (عليه السلام) على عزير يريد به صاحب القصة في الآية السابقة بما ذكر فأخذ القصة في الآيتين من نوع واحد و هو السؤال عن الكيفية التي فسرها بما فسرها و الجواب عنها، فاختلط عليه معنى الآيتين جميعا، مع أن الآيتين جميعا - على ما فيهما من غرر البيان و دقائق المعاني - أجنبيتان عن الكيفية بالمعنى الذي ذكره كل ذلك واضح بالرجوع إلى ما مر فيهما.

على أن المناسب لبيان الكيفية ختم الآية بصفة القدرة لا بصفتي العزة و الحكمة كما في قوله تعالى: «و من آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير:» فصلت - 39، فالآية كما ترى في مقام بيان الكيفية و قد ختمت بصفة القدرة المطلقة، و نظيره قوله تعالى: «أ و لم يروا أن الله الذي خلق السموات و الأرض و لم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير:» الأحقاف - 33، ففيه أيضا بيان الكيفية بإراءة الأمثال ثم ختم الكلام بصفة القدرة.

قوله تعالى: قال: أ و لم تؤمن قال بلى و لكن ليطمئن قلبي، بلى كلمة يرد به النفي و لذلك ينقلب به النفي إثباتا كقوله تعالى: «أ لست بربكم قالوا بلى:» الأعراف - 172، و لو قالوا نعم لكان كفرا، و الطمأنينة و الاطمينان سكون النفس بعد انزعاجها و اضطرابها، و هو مأخوذ من قولهم: اطمأنت الأرض و أرض مطمئنة إذا كانت فيه انخفاض يستقر فيها الماء إذا سال إليها و الحجر إذا هبط إليها.

و قد قال تعالى: أ و لم تؤمن، و لم يقل: أ لم تؤمن للإشعار بأن للسؤال و الطلب محلا لكنه لا ينبغي أن يقارن عدم الإيمان بالإحياء: و لو قيل: أ لم تؤمن دل على أن المتكلم تلقى السؤال منبعثا عن عدم الإيمان، فكان عتابا و ردعا عن مثل هذا السؤال، و ذلك أن الواو للجميع، فكان الاستفهام معه استفهاما عن أن هذا السؤال هل يقارنه عدم الإيمان، لا استفهاما عن وجه السؤال حتى ينتج عتابا و ردعا.

و الإيمان مطلق في كلامه تعالى، و فيه دلالة على أن الإيمان بالله سبحانه لا يتحقق مع الشك في أمر الإحياء و البعث، و لا ينافي ذلك اختصاص المورد بالإحياء لأن المورد لا يوجب تخصيص عموم اللفظ و لا تقييد إطلاقه.

و كذا قوله تعالى حكاية عنه (عليه السلام): ليطمئن قلبي، مطلق يدل على كون مطلوبه (عليه السلام) من هذا السؤال حصول الاطمينان المطلق و قطع منابت كل خطور قلبي و أعراقه، فإن الوهم في إدراكاتها الجزئية و أحكامها لما كانت معتكفة على باب الحس و كان جل أحكامها و تصديقاتها في المدركات التي تتلقاها من طريق الحواس فهي تنقبض عن مطاوعة ما صدقه العقل، و إن كانت النفس مؤمنة موقنة به، كما في الأحكام الكلية العقلية الحقة من الأمور الخارجة عن المادة الغائبة عن الحس فإنها تستنكف عن قبولها و إن سلمت مقدماتها المنتجة لها، فتخطر بالبال أحكاما مناقضة لها، ثم تثير الأحوال النفسانية المناسبة لاستنكافها فتقوى و تتأيد بذلك في تأثيرها المخالف، و إن كانت النفس من جهة عقلها موقنة بالحكم مؤمنة بالأمر فلا تضرها إلا أذى، كما أن من بات في دار مظلمة فيها جسد ميت فإنه يعلم: أن الميت جماد من غير شعور و إرادة فلا يضر شيئا، لكن الوهم تستنكف عن هذه النتيجة و تستدعي من المتخيلة أن تصور للنفس صورا هائلة موحشة من أمر الميت ثم تهيج صفة الخوف فتتسلط على النفس، و ربما بلغ إلى حيث يزول العقل أو تفارق النفس.

فقد ظهر: أن وجود الخطورات المنافية للعقائد اليقينية لا ينافي الإيمان و التصديق دائما، غير أنها تؤذي النفس، و تسلب السكون و القرار منها، و لا يزول وجود هذه الخواطر إلا بالحس أو المشاهدة، و لذلك قيل: إن للمعاينة أثرا لا يوجد مع العلم، و قد أخبر الله تعالى موسى في الميقات بضلال قومه بعبادة العجل فلم يوجب ذلك ظهور غضبه حتى إذا جاءهم و شاهدهم و عاين أمرهم غضب و ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه.

و قد ظهر من هنا و مما مر سابقا أن إبراهيم (عليه السلام) ما كان يسأل المشاهدة بالحس الذي يتعلق بقبول أجزاء الموتى الحياة بعد فقدها، بل إنما كان يسأل مشاهدة فعل الله سبحانه و أمره في إحياء الموتى، و ليس ذلك بمحسوس و إن كان لا ينفك عن الأمر المحسوس الذي هو قبول الأجزاء المادية للحياة بالاجتماع و التصور بصورة الحي، فهو (عليه السلام) إنما كان يسأل حق اليقين.

قوله تعالى: قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا.

صرهن بضم الصاد على إحدى القراءتين من صار يصور إذا قطع أو أمال، أو بكسر الصاد على القراءة الأخرى من صار يصير بأحد المعنيين، و قرائن الكلام يدل على إرادة معنى القطع، و تعديته بإلى تدل على تضمين معنى الإمالة.

فالمعنى: أقطعهن مميلا إليك أو أملهن إليك قاطعا إياهن على الخلاف في التضمين من حيث التقدير.

و كيف كان فقوله تعالى: خذ أربعة من الطير «إلخ»، جواب عن ما سأله إبراهيم (عليه السلام) بقوله: رب أرني كيف تحيي الموتى، و من المعلوم وجوب مطابقة الجواب للسؤال، فبلاغة الكلام و حكمة المتكلم يمنعان عن اشتمال الكلام على ما هو لغو زائد لا يترتب على وجوده فائدة عائدة إلى الغرض المقصود من الكلام و خاصة القرآن الذي هو خير كلام ألقاه خير متكلم إلى خير سامع واع، و ليست القصة على تلك البساطة التي تتراءى منها في بادي النظر، و لو كان كذلك لتم الجواب بإحياء ميت ما كيف كان، و لكان الزائد على ذلك لغوا مستغنى عنه و ليس كذلك، و لقد أخذ فيها قيود و خصوصيات زائدة على أصل المعنى، فاعتبر في ما أريد إحياؤه أن يكون طيرا، و أن يكون حيا، و أن يكون ذا عدد أربعة، و أن يقتل و يخلط و يمزج أجزاؤها، و أن يفرق الأجزاء المختلطة أبعاضا ثم يوضع كل بعض في مكان بعيد من الآخر كقلة هذا الجبل و ذاك الحبل، و أن يكون الإحياء بيد إبراهيم (عليه السلام) نفس السائل بدعوته إياهن، و أن يجتمع الجميع عنده.

فهذه كما ترى خصوصيات زائدة في القصة، هي لا محالة دخيلة في المعنى المقصود إفادته، و قد ذكروا لها وجوها من النكات لا تزيد الباحث إلا عجبا يعلم صحة ما ذكرناه بالرجوع إلى مفصلات التفاسير.

و كيف كان فهذه الخصوصيات لا بد أن تكون مرتبطة بالسؤال، و الذي يوجد في السؤال - و هو قوله: رب أرني كيف تحيي الموتى - أمران.

أحدهما: ما اشتمل عليه قوله: تحيي و هو أن المسئول مشاهدة الإحياء من حيث إنه وصف لله سبحانه لا من حيث إنه وصف لأجزاء المادة الحاملة للحياة.

و ثانيهما: ما اشتمل عليه لفظ الموتى من معنى الجمع فإنه خصوصية زائدة.

أما الأول: فيرتبط به في الجواب إجراء هذا الأمر بيد إبراهيم نفسه حيث يقول: فخذ، فصرهن، ثم اجعل، بصيغة الأمر و يقول ثم ادعهن يأتينك، فإنه تعالى جعل إتيانهن سعيا و هو الحياة مرتبطا متفرعا على الدعوة، فهذه الدعوة هي السبب الذي يفيض عنه حياة ما أريد إحياؤه، و لا إحياء إلا بأمر الله، فدعوة إبراهيم إياهن بأمر الله، قد كانت متصلة نحو اتصال بأمر الله الذي منه تترشح حياة الأحياء، و عند ذلك شاهده إبراهيم و رأى كيفية فيضان الأمر بالحياة، و لو كانت دعوة إبراهيم إياهن غير متصلة بأمر الله الذي هو أن يقول لشيء أراده: كن فيكون، كمثل أقوالنا غير المتصلة إلا بالتخيل كان هو أيضا كمثلنا إذ قلنا لشيء كن فلا يكون، فلا تأثير جزافي في الوجود.

و أما الثاني: فقوله كيف تحيي الموتى تدل على أن لكثرة الأموات و تعددها دخلا في السؤال، و ليس إلا أن الأجساد بموتها و تبدد أجزائها و تغير صورها و تحول أحوالها تفقد حالة التميز و الارتباط الذي بينها فتضل في ظلمة الفناء و البوار، و تصير كالأحاديث المنسية لا خبر عنها في خارج و لا ذهن فكيف تحيط بها القوة المحيية و لا محاط في الواقع.

و هذا هو الذي أورده فرعون على موسى (عليه السلام) و أجاب عنه موسى بالعلم كما حكاه الله تعالى بقوله: «قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي و لا ينسى:» طه - 51.

و بالجملة فأجابه الله تعالى بأن أمره بأن يأخذ أربعة من الطير و لعل اختيار الطير لكون هذا العمل فيها أسهل و أقل زمانا فيشاهد حياتها و يرى اختلاف أشخاصها و صورها، و يعرفها معرفة تامة أولا، ثم يقتلها و يخلط أجزاءها خلطا دقيقا ثم يجعل ذلك أبعاضا، و كل بعض منها على جبل لتفقد التميز و التشخص، و تزول المعرفة، ثم يدعوهن يأتينه سعيا، فإنه يشاهد حينئذ أن التميز و التصور بصورة الحياة كل ذلك تابع للدعوة التي تتعلق بأنفسها، أي إن أجسادها تابعة لأنفسها لا بالعكس فإن البدن فرع تابع للروح لا بالعكس، بل نسبة البدن إلى الروح بوجه نسبة الظل إلى الشاخص، فإذا وجد الشاخص تبع وجوده وجود الظل و إلى أي حال تحول الشاخص أو أجزاؤه تبعه فيه الظل حتى إذا انعدم تبعه في الانعدام، و الله سبحانه إذا أوجد حيا من الأحياء، أو أعاد الحياة إلى أجزاء مسبوقة بالحياة فإنما يتعلق إيجاده بالروح الواجدة للحياة أولا ثم يتبعه أجزاء المادة بروابط محفوظة عند الله سبحانه لا نحيط بها علما فيتعين الجسد بتعين الروح من غير فصل و لا مانع و بذلك يشعر قوله تعالى: ثم ادعهن يأتينك سعيا أي مسرعات مستعجلات.

و هذا هو الذي يستفاد من قوله تعالى: «و قالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون:» السجدة - 11، و قد مر بعض الكلام في الآية في البحث عن تجرد النفس، و سيأتي تفصيل الكلام في محله إن شاء الله.

فقوله تعالى: فخذ أربعة من الطير إنما أمر بذلك ليعرفها فلا يشك فيها عند إعادة الحياة إليها و لا ينكرها، و أ ما هي عليه من الاختلاف و التميز أولا و زوالهما ثانيا، و قوله: فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا أي اذبحهن و بدد أجزاءهن و اخلطها ثم فرقها على الجبال الموجودة هناك لتتباعد الأجزاء و هي غير متميزة، و هذا من الشواهد على أن القصة إنما وقعت بعد مهاجرة إبراهيم من أرض بابل إلى سورية فإن أرض بابل لا جبل بها، و قوله ثم ادعهن، أي ادع الطيور يا طاووس و يا فلان و يا فلان، و يمكن أن يستفاد ذلك مضافا إلى دلالة ضمير «هن» الراجعة إلى الطيور من قوله: ادعهن، فإن الدعوة لو كانت لأجزاء الطيور دون أنفسها كان الأنسب أن يقال: ثم نادهن فإنها كانت على جبال بعيدة عن موقفه (عليه السلام) و اللفظ المستعمل في البعيد خاصة هو النداء دون الدعاء، و قوله: يأتينك سعيا، أي يتجسدن و اتصفن بالإتيان و الإسراع إليك.

قوله تعالى: و اعلم أن الله عزيز حكيم، أي عزيز لا يفقد شيئا بزواله عنه، حكيم لا يفعل شيئا إلا من طريقه اللائق به، فيوجد الأجساد بإحضار الأرواح و إيجادها دون العكس.

و في قوله تعالى: و اعلم أن «إلخ»، دون أن يقال إن الله «إلخ»، دلالة على أن الخطور القلبي الذي كان إبراهيم يسأل ربه المشاهدة ليطمئن قلبه من ناحيته كان راجعا إلى حقيقة معنى الاسمين: العزيز الحكيم، فأفاده الله سبحانه بهذا الجواب العلم بحقيقتهما.

بحث روائي

في الدر المنثور،: في قوله تعالى: أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه الآية:، أخرج الطيالسي و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: الذي حاج إبراهيم في ربه هو نمرود بن كنعان.

و في تفسير البرهان،: أبو علي الطبرسي قال: اختلف في وقت هذه المحاجة فقيل عند كسر الأصنام قبل إلقائه في النار، عن مقاتل، و قيل بعد إلقائه في النار و جعلها عليه بردا و سلاما، عن الصادق (عليه السلام).

أقول: الآية و إن لم تتعرض لكونها قبل أو بعد لكن الاعتبار يساعد كونها بعد الإلقاء في النار، فإن قصصه المذكورة في القرآن في بدو أمره من محاجته أباه و قومه و كسره الأصنام تعطي أن أول ما لاقى إبراهيم (عليه السلام) نمرود و كان حين رفع أمره إليه في قضية كسر الأصنام مجرما عندهم، فحكم عليه بالإحراق، و كان القضاء عليه في جرمه شاغلا عن تكليمه في أمر ربه: أ هو الله أو نمرود؟ و لو حاجه نمرود حينئذ لحاجه في أمر الله و أمر الأصنام دون أمر الله و أمر نفسه!.

و في عدة من الروايات التي روتها العامة و الخاصة في قوله تعالى: أو كالذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها الآية أن صاحب القصة أرميا النبي، و في عدة منها: أنها عزير، إلا أنها آحاد غير واجبة القبول، و في أسانيدها بعض الضعف، و لا شاهد لها من ظاهر الآيات، و القصة غير مذكورة في التوراة، و التي في الروايات من القصة طويلة فيها بعض الاختلاف لكنها خارجة عن غرضنا من أرادها فليرجع إلى مظانها.

و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى الآية: في حديث قال (عليه السلام): و هذه آية متشابهة، و معناها أنه سأل عن الكيفية و الكيفية من فعل الله عز و جل، متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب، و لا عرض في توحيده نقص، الحديث.

أقول: و قد اتضح معنى الحديث مما مر.

و في تفسير العياشي، عن علي بن أسباط: أن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) سئل عن قول الله: قال بلى و لكن ليطمئن قلبي أ كان في قلبه شك قال لا و لكن أراد من الله الزيادة، الحديث.

أقول: و روي هذا المعنى في الكافي، عن الصادق و عن العبد الصالح (عليه السلام) و قد مر بيانه.

و في تفسير القمي، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي أيوب عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام)، قال: إن إبراهيم نظر إلى جيفة على ساحل البحر تأكلها سباع البحر، ثم يثب السباع بعضها على بعض فيأكل بعضها، بعضا فتعجب إبراهيم فقال: يا رب أرني كيف تحيي الموتى؟ فقال الله: أ و لم تؤمن؟ قال بلى - و لكن ليطمئن قلبي قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك - ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن - يأتينك سعيا و اعلم أن الله عزيز حكيم، فأخذ إبراهيم الطاووس و الديك و الحمام و الغراب، فقال الله عز و جل: فصرهن إليك أي قطعهن ثم اخلط لحمهن، و فرقهن على عشرة جبال، ثم دعاهن فقال: أحيي بإذن الله فكانت تجتمع و تتألف لحم كل واحد و عظمه إلى رأسه، فطارت إلى إبراهيم، فعند ذلك قال إبراهيم إن الله عزيز حكيم.

أقول: و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره، عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام)، و روي من طرق أهل السنة عن ابن عباس.

قوله: إن إبراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال: يا رب أرني إلخ، بيان للشبهة التي دعته إلى السؤال و هي تفرق أجزاء الجسد بعد الموت تفرقا يؤدي إلى تغيرها و انتقالها إلى أمكنة مختلفة و حالات متنوعة لا يبقى معها من الأصل شيء.

فإن قلت: ظاهر الرواية: أن الشبهة كانت هي شبهة الآكل و المأكول، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض، و أكل بعضها بعضا، ثم فرعت على ذلك تعجب إبراهيم و سؤاله.

قلت: الشبهة شبهتان - إحداهما - تفرق أجزاء الجسد و فناء أصلها من الصور و الأعراض و بالجملة عدم بقائها حتى تتميز و تركبها الحياة - و ثانيتهما - صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزءا من بدن بعض آخر فيؤدي إلى استحالة إحياء الحيوانين ببدنيهما تامين معا لأن المفروض أن بعض بدن أحدهما بعينه بعض لبدن الآخر، فكل واحد منهما أعيد تاما بقي الآخر ناقصا لا يقبل الإعادة، و هذه هي شبهة الآكل و المأكول.

و ما أجاب الله سبحانه به - و هو تبعية البدن للروح - و إن كان وافيا لدفع الشبهتين جميعا، إلا أن الذي أمر به إبراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمن مادة شبهة الآكل و المأكول، و هو أكل بعض الحيوان بعضا، بل إنما تشتمل على تفرق الأجزاء و اختلاطها و تغير صورها و حالاتها، و هذه مادة الشبهة الأولى، فالآية إنما تتعرض لدفعها و إن كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما أجيب به في الآية كما مر، و ما اشتملت عليه الرواية من أكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.

قوله (عليه السلام) فأخذ إبراهيم الطاووس و الديك و الحمام و الغراب، و في بعض الروايات أن الطيور كانت هي النسر و البط و الطاووس و الديك، رواه الصدوق في العيون، عن الرضا (عليه السلام) و نقل عن مجاهد و ابن جريح و عطاء و ابن زيد، و في بعضها أنها الهدهد و الصرد و الطاووس و الغراب، رواه العياشي عن صالح بن سهل عن الصادق (عليه السلام) و في بعضها: أنها النعامة و الطاووس و الوزة و الديك»: رواه العياشي عن معروف بن خربوذ عن الباقر (عليه السلام) و نقل عن ابن عباس، و روي من طرق أهل السنة عن ابن عباس أيضا: أنها الغرنوق و الطاووس و الديك و الحمامة، و الذي تشترك فيه جميع الروايات و الأقوال: الطاووس.

قوله (عليه السلام): و فرقهن على عشرة جبال، كون الجبال عشرة مما اتفقت عليه الأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت و قيل إنها كانت أربعة، و قيل سبعة.

و في العيون، مسندا عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا علي بن موسى فقال له المأمون: يا بن رسول الله أ ليس من قولك: إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له فأخبرني عن قول الله: رب أرني كيف تحيي الموتى قال أ و لم تؤمن قال بلى - و لكن ليطمئن قلبي، قال الرضا: إن الله تبارك و تعالى كان أوحى إلى إبراهيم: إني متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في قلب إبراهيم أنه ذلك الخليل فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أ و لم تؤمن؟ قال بلى و لكن ليطمئن قلبي بالخلة، الحديث.

أقول: و قد تقدم في أخبار جنة آدم كلام في علي بن محمد بن الجهم و في هذه الرواية التي رواها عن الرضا (عليه السلام) فارجع.

و اعلم: أن الرواية لا تخلو عن دلالة ما على أن مقام الخلة يستلزم استجابة الدعاء، و اللفظ يساعد عليه فإن الخلة هي الحاجة، و الخليل إنما يسمى خليلا لأن الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجه إلى صديقه، و لا معنى لرفعها مع عدم الكفاية و القضاء.



مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (270) إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 2:08 pm

بيان

سياق الآيات من حيث اتحادها في بيان أمر الإنفاق، و رجوع مضامينها و أغراضها بعضها إلى بعض يعطي أنها نزلت دفعه واحدة، و هي تحث المؤمنين على الإنفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أولا مثلا لزيادته و نموه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، و ربما زاد على ذلك بإذن الله، و ثانيا مثلا لكونه لا يتخلف عن شأنه على أي حال و تنهى عن الرياء في الإنفاق و تضرب مثلا للإنفاق رياء لا لوجه الله، و أنه لا ينمو نماء و لا يثمر أثرا، و تنهى عن الإنفاق بالمن و الأذى إذ يبطلان أثره و يحبطان عظيم أجره، ثم تأمر بأن يكون الإنفاق من طيب المال لا من خبيثه بخلا و شحا، ثم تعين المورد الذي توضع فيه هذه الصنيعة و هو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثم تذكر ما لهذا الإنفاق من عظيم الأجر عند الله.

و بالجملة الآيات تدعو إلى الإنفاق، و تبين أولا وجهه و غرضه و هو أن يكون لله لا للناس، و ثانيا صورة عمله و كيفيته و هو أن لا يتعقبه المن و الأذى، و ثالثا وصف مال الإنفاق و هو أن يكون طيبا لا خبيثا، و رابعا نعت مورد الإنفاق و هو أن يكون فقيرا أحصر في سبيل الله، و خامسا ما له من عظيم الأجر عاجلا و آجلا.

كلام في الإنفاق

الإنفاق من أعظم ما يهتم بأمره الإسلام في أحد ركنيه و هو حقوق الناس و قد توسل إليه بأنحاء التوسل إيجابا و ندبا من طريق الزكاة و الخمس و الكفارات المالية و أقسام الفدية و الإنفاقات الواجبة و الصدقات المندوبة، و من طريق الوقف و السكنى و العمرى و الوصايا و الهبة و غير ذلك.

و إنما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة التي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد مالي من غيرهم، ليقرب أفقهم من أفق أهل النعمة و الثروة، و من جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال و الزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف و لا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإسراف و التبذير و نحو ذلك.

و كان الغرض من ذلك كله إيجاد حياة نوعية متوسطة متقاربة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيي ناموس الوحدة و المعاضدة، و تميت الإرادات المتضادة و أضغان القلوب و منابت الأحقاد، فإن القرآن يرى أن شأن الدين الحق هو تنظيم الحياة بشئونها، و ترتيبها ترتيبا يتضمن سعادة الإنسان في العاجل و الآجل، و يعيش به الإنسان في معارف حقة، و أخلاق فاضلة، و عيشة طيبة يتنعم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، و يدفع بها عن نفسه المكاره و النوائب و نواقص المادة.

و لا يتم ذلك إلا بالحياة الطيبة النوعية المتشابهة في طيبها و صفائها، و لا يكون ذلك إلا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، و لا يكمل ذلك إلا بالجهات المالية و الثروة و القنية، و الطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد مما اقتنوه بكد اليمين و عرق الجبين، فإنما المؤمنون إخوة، و الأرض لله، و المال ماله.

و هذه حقيقة أثبتت السيرة النبوية على سائرها أفضل التحية صحتها و استقامتها في القرار و النماء و النتيجة في برهة من الزمان و هي زمان حياته (عليه السلام) و نفوذ أمره.

: و هي التي يتأسف عليها و يشكو انحراف مجراها أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إذ يقول: و قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا، و الشر فيه إلا إقبالا، و الشيطان في هلاك الناس إلا طمعا، فهذا أوان قويت عدته و عمت مكيدته و أمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا؟ أو غنيا بدل نعمة الله كفرا؟ أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا أو متمردا كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرا؟ نهج البلاغة،.

و قد كشف توالي الأيام عن صدق القرآن في نظريته هذه - و هي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق و منع العالية عن الإتراف و التظاهر بالجمال - حيث إن الناس بعد ظهور المدنية الغربية استرسلوا في الإخلاد إلى الأرض، و الإفراط في استقصاء المشتهيات الحيوانية.

و استيفاء الهوسات النفسانية، و أعدوا له ما استطاعوا من قوة، فأوجب ذلك عكوف الثروة و صفوة لذائذ الحياة على أبواب أولي القوة و الثروة، و لم يبق بأيدي النمط الأسفل إلا الحرمان، و لم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضا حتى تفرد بسعادة الحياة المادية نزر قليل من الناس و سلب حق الحياة من الأكثرين و هم سواد الناس، و أثار ذلك جميع الرذائل الخلقية من الطرفين، كل يعمل على شاكلته لا يبقى و لا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، و اشتباك النزاع و النزال بين الفريقين و التفاني بين الغني و الفقير و المنعم و المحروم و الواجد و الفاقد، و نشبت الحرب العالمية الكبرى، و ظهرت الشيوعية، و هجرت الحقيقة و الفضيلة، و ارتحلت السكن و الطمأنينة و طيب الحياة من بين النوع و، هذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنساني، و ما يهدد النوع بما يستقبله أعظم و أفظع.

و من أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الإنفاق و انفتاح أبواب الرباء الذي سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الإنفاق، و يذكر أن في رواجه فساد الدنيا و هو من ملاحم القرآن الكريم، و قد كان جنينا أيام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيام.

و إن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه و اتقوه و أقيموا الصلوة و لا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون و إذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون إلى أن قال: فأت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله و أولئك هم المفلحون و ما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله و ما آتيتم من زكوة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون - إلى أن قال -: ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون الآيات»: الروم - 30 - 43، و للآيات نظائر في سور هود و يونس و الإسراء و الأنبياء و غيرها تنبىء عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إن شاء الله.

و بالجملة هذا هو السبب فيما يتراءى من هذه الآيات أعني آيات الإنفاق من الحث الشديد و التأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة «إلخ»، المراد بسبيل الله كل أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض ديني فعل الفعل لأجله، فإن الكلمة في الآية مطلقة، و إن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، و كانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإن ذلك لا يوجب التخصيص و هو ظاهر.

و قد ذكروا أن قوله تعالى: كمثل حبة أنبتت «إلخ»، على تقدير قولنا كمثل من زرع حبة أنبتت «إلخ»، فإن الحبة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الذي أنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق و هو ظاهر.

و هذا الكلام و إن كان وجيها في نفسه لكن التدبر يعطي خلاف ذلك فإن جل الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعة في القرآن كقوله تعالى: «مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء:» البقرة - 171، فإنه مثل من يدعو الكفار لا مثل الكفار، و قوله تعالى: إنما مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه» الآية: يونس - 24، و قوله تعالى: «مثل نوره كمشكوة:» النور - 35، و قوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: فمثله كمثل صفوان الآية، و قوله تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله و تثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

و هذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعا في أنها اقتصر فيها على مادة التمثيل الذي يتقوم بها المثل مع الإعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

توضيحه: أن المثل في الحقيقة قصة محققة أو مفروضة مشابهة لأخرى في جهاتها يؤتى بها لينتقل ذهن المخاطب من تصورها إلى كمال تصور الممثل كقولهم: لا ناقة لي و لا جمل، و قولهم: في الصيف ضيعت اللبن من الأمثال التي لها قصص محققة يقصد بالتمثيل تذكر السامع لها و تطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، و لذا قيل: إن الأمثال لا تتغير، و كقولنا: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، و هي قصة مفروضة خيالية.

و المعنى الذي يشتمل عليه المثل و يكون هو الميزان الذي يوزن به حال الممثل ربما كان تمام القصة التي هي المثل كما في قوله تعالى: «و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة:» الآية: إبراهيم - 26، و قوله تعالى: «مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا:» الجمعة - 5، و ربما كان بعض القصة مما يتقوم به غرض التمثيل و هو الذي نسميه مادة التمثيل، و إنما جيء بالبعض الآخر لتتميم القصة كما في المثال الأخير مثال الإنفاق و الحبة فإن مادة التمثيل إنما هي الحبة المنبتة لسبعمائة حبة و إنما ضممنا إليها الذي زرع لتتميم القصة.

و ما كان من أمثال القرآن مادة التمثيل فيه تمام المثل فإنه وضع على ما هو عليه، و ما كان منها مادة التمثيل فيه بعض القصة فإنه اقتصر على مادة التمثيل فوضعت موضع تمام القصة لأن الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمرا و وجدانه أمرا آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه و ليس به بوجه، فهذا من الإيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، السنبل معروف و هو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادته الستر سمي به لأنه يستر الحبات التي تشتمل عليها في الأغلفة.

و من أسخف الإشكال ما أورد على الآية أنه تمثيل بما لا تحقق له في الخارج و هو اشتمال السنبلة على مائة حبة، و فيه أن المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقق مضمونه في الخارج فالأمثال التخيلية أكثر من أن تعد و تحصى، على أن اشتمال السنبلة على مائة حبة و إنبات الحبة الواحدة سبعماة حبة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: و الله يضاعف لمن يشاء و الله واسع عليم، أي يزيد على سبعمائة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده و لا محدد لفضله كما قال تعالى: «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة:» البقرة - 245، فأطلق الكثرة و لم يقيدها بعدد معين.

و قيل: إن معناه أن الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمائة ضعف غاية ما تدل عليه الآية، و فيه أن الجملة على هذا يقع موقع التعليل، و حق الكلام فيه حينئذ أن يصدر بأن كقوله تعالى: «الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه و النهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس:» المؤمن - 61، و أمثال ذلك.

و لم يقيد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة و هو كذلك و الاعتبار يساعده، فالمنفق بشيء من ماله و إن كان يخطر بباله ابتداء أن المال قد فات عنه و لم يخلف بدلا، لكنه لو تأمل قليلا وجد أن المجتمع الإنساني بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء و الأشكال لكنها جميعا متحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر و الفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحة و الاستقامة، و عي في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، و خسرانها في أغراضها فالعين و اليد و إن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم و الفعل ظاهرا، لكن الخلقة إنما جهز الإنسان بالبصر ليميز به الأشياء ضوءا و لونا و قربا و بعدا فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، و تدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أولا كدا و تعبا لا يتحمل عادة، و ينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، و أما لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادخره لبعض الأعضاء الآخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، و عاد إليه من الفائدة الحقيقية أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافا ربما زاد على المئات و الألوف بما يورث من إصلاح حال الغير، و دفع الرذائل التي يمكنها الفقر و الحاجة في نفسه، و إيجاد المحبة في قلبه، و حسن الذكر في لسانه، و النشاط في عمله، و المجتمع يربط جميع ذلك و يرجعه إلى المنفق لا محالة، و لا سيما إذا كان الإنفاق لدفع الحوائج النوعية كالتعليم و التربية و نحو ذلك، فهذا حال الإنفاق.

و إذا كان الإنفاق في سبيل الله و ابتغاء مرضاة الله كان النماء و الزيادة من لوازمه من غير تخلف، فإن الإنفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغني للفقير لدفع شره، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته و يعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، و هذا نوع استخدام للفقير و استثمار منه لنفع نفسه، ربما أورث في نفس الفقير أثرا سيئا، و ربما تراكمت الآثار و ظهرت فكانت بلوى، لكن الإنفاق الذي لا يراد به إلا وجه الله و لا يبتغي فيه إلا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثر إلا الجميل و لا يتعقبه إلا الخير.

قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا و لا أذى «إلخ»، الاتباع اللحوق و الإلحاق، قال تعالى: «فأتبعوهم مشرقين:» الشعراء - 60، أي لحقوهم، و قال تعالى: «فأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة:» القصص - 42، أي ألحقناهم.

و المن هو ذكر ما ينغص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا و كذا و نحو ذلك، و الأصل في معناه على ما قيل القطع، و منه قوله تعالى: «لهم أجر غير ممنون»: فصلت - 8، أي غير مقطوع، و الأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، و الخوف توقع الضرر، و الحزن الغم الذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.

قوله تعالى: قول معروف و مغفرة خير من صدقة «إلخ» المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، و يختلف باختلاف الموارد، و الأصل في معنى المغفرة هو الستر، و الغنى مقابل الحاجة و الفقر، و الحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.

و ترجيح القول المعروف و المغفرة على صدقة يتبعها أذى ثم المقابلة يشهد بأن المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند رد السائل إذا لم يتكلم بما يسوء المسئول عنه، و الستر و الصفح إذا شفع سؤاله بما يسوؤه و هما خير من صدقة يتبعها أذى، فإن أذى المنفق للمنفق عليه يدل على عظم إنفاقه و المال الذي أنفقه في عينه، و تأثره عما يسوؤه من السؤال، و هما علتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإن المؤمن متخلق بأخلاق الله، و الله سبحانه غني لا يكبر عنده ما أنعم و جاد به، حليم لا يتعجل في المؤاخذة على السيئة، و لا يغضب عند كل جهالة، و هذا معنى ختم الآية بقوله: و الله غني حليم.

قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم «إلخ»، تدل الآية على حبط الصدقة بلحوق المن و الأذى، و ربما يستدل بها على حبط كل معصية أو الكبيرة خاصة لما يسبقها من الطاعات، و لا دلالة في الآية على غير المن و الأذى بالنسبة إلى الصدقة و قد تقدم إشباع الكلام في الحبط.

قوله تعالى: كالذي ينفق ماله رئاء الناس و لا يؤمن بالله و اليوم الآخر، لما كان الخطاب للمؤمنين، و المرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلق النهي بالرئاء كما علقه على المن و الأذى، بل إنما شبه المتصدق الذي يتبع صدقته بالمن و الأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أن عمل المرائي باطل من رأس و عمل المان و المؤذي وقع أولا صحيحا ثم عرضه البطلان.

و اتحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، و قوله: و لا يؤمن من دون أن يقال: و لم يؤمن يدل على أن المراد من عدم إيمان المرائي في الإنفاق بالله و اليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الإنفاق الذي يدعو إليها الله سبحانه، و يعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، و بيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، و أحب و اختار جزيل الثواب، و لم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأسا.

و يظهر من الآية أن الرياء في عمل يستلزم عدم الإيمان بالله و اليوم الآخر فيه.

قوله تعالى: فمثله كمثل صفوان عليه تراب إلى آخر الآية الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الذي ينفق ماله رئاء الناس و المثل له، و الصفوان و الصفا الحجر الأملس و كذا الصلد، و الوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.

و الضمير في قوله: لا يقدرون راجع إلى الذي ينفق رئاء لأنه في معنى الجمع، و الجملة تبين وجه الشبه و هو الجامع بين المشبه و المشبه به، و قوله تعالى: و الله لا يهدي القوم الكافرين بيان للحكم بوجه عام و هو أن المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، و الله لا يهدي القوم الكافرين، و لذلك أفاد معنى التعليل.

و خلاصة معنى المثل: أن حال المرائي في إنفاقه رئاء و في ترتب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الذي عليه شيء من التراب إذا أنزل عليه وابل المطر، فإن المطر و خاصة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض و اخضرارها و تزينها بزينة النبات، إلا أن التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقر في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل و يبقى الصلد الذي لا يجذب الماء، و لا يتربى فيه بذر لنبات، فالوابل و إن كان من أظهر أسباب الحياة و النمو و كذا التراب لكن كون المحل صلدا يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص و القصور من جانبهما فهذا حال الصلد.

و هذا حال المرائي فإنه لما لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتب على عمله ثواب و إن كان العمل كالإنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتب الثواب، فإنه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة و الكرامة.

و قد ظهر من الآية: أن قبول العمل يحتاج إلى نية الإخلاص و قصد وجه الله، و قد روى الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه قال: إنما الأعمال بالنيات.

قول تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله و تثبيتا من أنفسهم، ابتغاء المرضاة هو طلب الرضاء، و يعود إلى إرادة وجه الله، فإن وجه الشيء هو ما يواجهك و يستقبلك به، و وجهه تعالى بالنسبة إلى عبده الذي أمره بشيء و أراده منه هو رضاؤه عن فعله و امتثاله، فإن الأمر يستقبل المأمور أولا بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضاة الله عن العبد المكلف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عز و جل.

و أما قوله: و تثبيتا من أنفسهم فقد قيل: إن المراد التصديق و اليقين.

و قيل: هو التثبت أي يتثبتون أين يضعون أموالهم، و قيل: هو التثبت في الإنفاق فإن كان لله أمضى، و إن كان خالطه شيء من الرياء أمسك، و قيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، و قيل: هو تمكين النفس في منازل الإيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله.

و أنت خبير بأن شيئا من الأقوال لا ينطبق على الآية إلا بتكلف.

و الذي ينبغي أن يقال - و الله العالم - في المقام: هو أن الله سبحانه لما أطلق القول أولا في مدح الإنفاق في سبيل الله، و أن له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الإنفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، و لا يترتب عليهما الثواب، و هما الإنفاق رياء الموجب لعدم صحة العمل من رأس و الإنفاق الذي يتبعه من أو أذى فإنه يبطل بهما و إن انعقد أولا صحيحا، و ليس يعرض البطلان.

لهذين النوعين إلا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النية أعني ابتغاء المرضاة ثانيا بعد ما كانت عليها أولا، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصة من أهل الإنفاق الخالصة بعد استثناء المرائين و أهل المن و الأذى، و هم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ثم يقرون أنفسهم على الثبات على هذه النية الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل و يفسده.

و من هنا يظهر أن المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء و نحوه مما يجعل النية غير خالصة لوجه الله، و بقوله تثبيتا من أنفسهم تثبيت الإنسان نفسه على ما نواه من النية الخالصة، و هو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس.

فقوله تثبيتا تميز و كلمة من نشوية و قوله أنفسهم في معنى الفاعل، و ما في معنى المفعول مقدر.

و التقدير تثبيتا من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادته.

قوله تعالى: كمثل جنة بربوة أصابها وابل إلى آخر الآية، الأصل في مادة ربا الزيادة، و الربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيدة التي تزيد و تعلو في نموها، و الأكل بضمتين ما يؤكل من الشيء و الواحدة أكلة.

و الطل أضعف المطر القليل الأثر.

و الغرض من المثل أن الإنفاق الذي أريد به وجه الله لا يتخلف عن أثرها الحسن البتة، فإن العناية الإلهية واقعة عليه متعلقة به لانحفاظ اتصاله بالله سبحانه و إن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النية في الخلوص، و اختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أن الجنة التي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي أكلها إيتاء جيدا البتة و إن كان إيتاؤها مختلفا في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل و طل.

و لوجود هذا الاختلاف ذيل الكلام بقوله: و الله بما تعملون بصير أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، و لا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك و ثواب ذاك لهذا.

قوله تعالى: أ يود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل و أعناب «إلخ»، الود هو الحب و فيه معنى التمني، و الجنة: الشجر الكثير الملتف كالبستان سميت بذلك لأنها تجن الأرض و تسترها و تقيها من ضوء الشمس و نحوه، و لذلك صح أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، و لو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلا لم يصح ذلك لإفادته خلاف المقصود، و لذلك قال تعالى في مثل الربوة و هي الأرض المعمورة: «ربوة ذات قرار و معين:» المؤمنون - 50، و كرر في كلامه قوله: جنات تجري من تحتها الأنهار فجعل المعين و هو الماء فيها لا جاريا تحتها.

و من في قوله: من نخيل و أعناب للتبيين و يفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإن الجنة و البستان و ما هو من هذا القبيل إنما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنة العنب أو جنة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم و هي لا تخلو مع ذلك من شجر شتى، و لذلك قال تعالى ثانيا: له فيها من كل الثمرات.

و الكبر كبر السن و هو الشيخوخة، و الذرية الأولاد، و الضعفاء جمع الضعيف، و قد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر و وجود الذرية الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعية إلى الجنة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب التي يتوصل إليها في حفظ سعادة الحياة و تأمين المعيشة، فإن صاحب الجنة لو فرض شابا قويا لأمكنه أن يستريح إلى قوة يمينه لو أصيبت جنته بمصيبة، و لو فرض شيخا هرما من غير ذرية ضعفاء لم يسوء حاله تلك المساءة لأنه لا يرى لنفسه إلا أياما قلائل لا يبطىء عليه زوالها و انقضاؤها، و لو فرض ذا كبر و له أولاد أقوياء يقدرون على العمل و اكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، و أن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر و الذرية الضعفاء، و احترقت الجنة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب و القوة أو الأيام الخالية حتى يهيىء لنفسه نظير ما كان قد هيأها، و لا لذريته قوة على ذلك، و لا لهم رجاء أن ترجع الجنة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة و الأثمار.

و الإعصار الغبار الذي يلتف على نفسه بين السماء و الأرض كما يلتف الثوب على نفسه عند العصر.

و هذا مثل ضربه الله للذين ينفقون أموالهم ثم يتبعونه منا و أذى فيحبط عملهم و لا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحته و استقامته، و انطباق المثل على الممثل ظاهر، و رجا منهم التفكر لأن أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنما تصدر من الناس و معهم حالات نفسانية كحب المال و الجاه و الكبر و العجب و الشح، لا تدع للإنسان مجال التثبت و التفكر و تميز النافع من الضار، و لو تفكروا لتبصروا.

قوله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم إلخ، التيمم هو القصد و التعمد، و الخبيث ضد الطيب، و قوله: منه، متعلق بالخبيث، و قوله: تنفقون حال من فاعل لا تيمموا، و قوله: و لستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون، و عامله الفعل، و قوله أن تغمضوا فيه في تأويل المصدر، و اللام مقدر على ما قيل و التقدير إلا لإغماضكم فيه، أو المقدر باء المصاحبة و التقدير إلا بمصاحبة الإغماض.

و معنى الآية ظاهر، و إنما بين تعالى كيفية مال الإنفاق، و أنه ينبغي أن يكون من طيب المال لا من خبيثه الذي لا يأخذه المنفق إلا بإغماض، فإنه لا يتصف بوصف الجود و السخاء، بل يتصور بصورة التخلص، فلا يفيد حبا للصنيعة و المعروف و لا كمالا للنفس، و لذلك ختمها بقوله: و اعلموا أن الله غني حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه و حمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيب المال، أو أنه غني محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جل جلاله.

قوله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء إقامة للحجة على أن اختيار خبيث المال للإنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيبه فإنه خير لهم، ففي النهي مصلحة أمرهم كما أن في المنهي عنه مفسدة لهم، و ليس إمساكهم عن إنفاق طيب المال و بذله إلا لما يرونه مؤثرا في قوام المال و الثروة فتنقبض نفوسهم عن الإقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، و هذا من تسويل الشيطان يخوف أولياءه من الفقر، مع أن البذل و ذهاب المال و الإنفاق في سبيل الله و ابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض و الربح كما مر، مع أن الذي يغني و يقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى: «و أنه هو أغنى و أقنى:» النجم - 48.

و بالجملة لما كان إمساكهم عن بذل طيب المال خوفا من الفقر خطأ نبه عليه بقوله: الشيطان يعدكم الفقر، غير أنه وضع السبب موضع المسبب، أعني أنه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدل على أنه خوف مضر لهم فإن الشيطان لا يأمر إلا بالباطل و الضلال إما ابتداء و من غير واسطة، و إما بالآخرة و بواسطة ما يظهر منه أنه حق.

و لما كان من الممكن أن يتوهم أن هذا الخوف حق و إن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك باتباع قوله: الشيطان يعدكم الفقر بقوله: و يأمركم بالفحشاء أولا، فإن هذا الإمساك و التثاقل منهم يهيىء في نفوسهم ملكة الإمساك و سجية البخل، فيؤدي إلى رد أوامر الله المتعلقة بأموالهم و هو الكفر بالله العظيم، و يؤدي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإعسار و الفقر و المسكنة التي فيه تلف النفوس و انهتاك الأعراض و كل جناية و فحشاء، قال تعالى: «و منهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن و لنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به و تولوا و هم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه و بما كانوا يكذبون إلى أن قال: الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات و الذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم و لهم عذاب أليم:» التوبة - 79.

ثم بإتباعه بقوله: و الله يعدكم مغفرة منه و فضلا و الله واسع عليم ثانيا، فإن الله قد بين للمؤمنين: أن هناك حقا و ضلالا لا ثالث لهما، و أن الحق و هو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، و أن الضلال من الشيطان، قال تعالى: «فما ذا بعد الحق إلا الضلال»: يونس - 32، و قال تعالى: «قل الله يهدي للحق:» يونس - 35، و قال تعالى في الشيطان: «إنه عدو مضل مبين:» القصص - 15، و الآيات جميعا مكية، و بالجملة نبه تعالى بقوله: و الله يعدكم، بأن هذا الخاطر الذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإن مغفرة الله و الزيادة التي ذكرها في الآيات السابقة إنما هما في البذل من طيبات المال.

فقوله تعالى: و الله يعدكم «إلخ»، نظير قوله: الشيطان يعدكم «إلخ»، من قبيل وضع السبب موضع المسبب، و فيه إلقاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم و وعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين و يختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.

فحاصل حجة الآية: أن اختياركم الخبيث على الطيب إنما هو لخوف الفقر، و الجهل بما يستتبعه هذا الإنفاق، أما خوف الفقر فهو إلقاء، شيطاني، و لا يريد الشيطان بكم إلا الضلال و الفحشاء فلا يجوز أن تتبعوه، و أما ما يستتبعه هذا الإنفاق فهو الزيادة و المغفرة اللتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، و هو استتباع بالحق لأن الذي يعدكم استتباع الإنفاق لهذه المغفرة و الزيادة هو الله سبحانه و وعده حق، و هو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة و الزيادة و عليم لا يجهل شيئا و لا حالا من شيء فوعده وعد عن علم.

قوله تعالى: يؤتي الحكمة من يشاء، الإيتاء هو الإعطاء، و الحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدل على نوع المعنى فمعناه النوع من الإحكام و الإتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الذي لا يوجد فيه ثلمة و لا فتور، و غلب استعماله في المعلومات العقلية الحقة الصادقة التي لا تقبل البطلان و الكذب البتة.

و الجملة تدل على أن البيان الذي بين الله به حال الإنفاق بجمع علله و أسبابه و ما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقة الإلهية في المبدإ و المعاد، و المعارف التي تشرح حقائق العالم الطبيعي من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطرية التي هي أساس التشريعات الدينية.

قوله تعالى: و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، المعنى ظاهر، و قد أبهم فاعل الإيتاء مع أن الجملة السابقة عليه تدل على أنه الله تبارك و تعالى ليدل الكلام على أن الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبس بها يتضمن الخير الكثير، لا من جهة انتساب إتيانه إليه تعالى، فإن مجرد انتساب الإتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون «و آتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إلى آخر الآيات:» القصص - 76، و إنما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقا، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن و نفاسة الأمر لأن الأمر مختوم بعناية الله و توفيقه، و أمر السعادة مراعى بالعاقبة و الخاتمة.

قوله تعالى: و ما يذكر إلا أولوا الألباب، اللب هو العقل لأنه في الإنسان بمنزلة اللب من القشر، و على هذا المعنى استعمل في القرآن، و كان لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة و لذلك لم يستعمل في القرآن و إنما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.

و التذكر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدماتها، أو من الشيء إلى نتائجها، و الآية تدل على أن اقتناص الحكمة يتوقف على التذكر، و أن التذكر يتوقف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له.

و قد مر بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإدراك المستعملة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: و ما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعه و يؤاخذ من ظلم، ففيه إيماء إلى التهديد، و يؤكده قوله تعالى: و ما للظالمين من أنصار.

و في هذه الجملة أعني قوله: و ما للظالمين من أنصار، دلالة أولا: على أن المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء و المساكين في الإمساك عن الإنفاق عليهم، و حبس حقوقهم المالية، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإن في مطلق المعصية أنصارا و مكفرات و شفعاء كالتوبة، و الاجتناب عن الكبائر، و شفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى: «لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إلى أن قال: و أنيبوا إلى ربكم:» الزمر - 54، و قال تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم:» النساء - 31، و قال تعالى: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى:» الأنبياء - 28، و من هنا يظهر: وجه إتيان الأنصار بصيغة الجمع فإن في مورد مطلق الظلم أنصارا.

و ثانيا: أن هذا الظلم و هو ترك الإنفاق لا يقبل التكفير و لو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، و أنه لا يقبل التوبة، و يتأيد بذلك ما وردت به الروايات: أن التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلا برد الحق إلى مستحقه، و أنه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدل عليه قوله تعالى: «إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين و لم نك نطعم المسكين إلى أن قال: فما تنفعهم شفاعة الشافعين:» المدثر - 48.

و ثالثا: أن هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلا لمن ارتضى الله دينه كما مر بيانه في بحث الشفاعة، و من هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، حيث أتى بالمرضاة و لم يقل ابتغاء وجه الله.

و رابعا: أن الامتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم و احتياجهم من الكبائر الموبقة، و قد عد تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركا بالله و كفرا بالآخرة، قال تعالى: «ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكوة و هم بالآخرة هم كافرون:» فصلت - 7، و السورة مكية و لم تكن شرعت الزكاة المعروفة عند نزولها.

قوله تعالى: إن تبدوا الصدقات فنعما هي «إلخ»، الإبداء هو الإظهار، و الصدقات جمع صدقة، و هي مطلق الإنفاق في سبيل الله أعم من الواجب و المندوب و ربما يقال: إن الأصل في معناها الإنفاق المندوب.

و قد مدح الله سبحانه كلا من شقي الترديد، لكون كل واحد من الشقين ذا آثار صالحة، فأما إظهار الصدقة فإن فيه دعوة عملية إلى المعروف، و تشويقا للناس إلى البذل و الإنفاق، و تطييبا لنفوس الفقراء و المساكين حيث يشاهدون أن في المجتمع رجالا رحماء بحالهم، و أموالا موضوعة لرفع حوائجهم، مدخرة ليوم بؤسهم فيؤدي إلى زوال اليأس و القنوط عن نفوسهم، و حصول النشاط لهم في أعمالهم، و اعتقاد وحدة العمل و الكسب بينهم و بين الأغنياء المثرين، و في ذلك كل الخير، و أما إخفاؤها فإنه حينئذ يكون أبعد من الرياء و المن و الأذى، و فيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي و المذلة، و صون لماء وجوههم عن الابتذال، و كلاءة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجا، و صدقة السر أخلص طهارة.

و لما كان بناء الدين على الإخلاص و كان العمل كلما قرب من الإخلاص كان أقرب من الفضيلة رجح سبحانه جانب صدقة السر فقال: و إن تخفوها و تعطوها الفقراء فهو خير لكم فإن كلمة خير أفعل التفضيل، و الله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطىء في تمييز الخير من غيره، و هو قوله تعالى: و الله بما تعملون خبير.

قوله تعالى: ليس عليك هداهم و لكن الله يهدي من يشاء، في الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كان ما كان يشاهده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من فعال المؤمنين في صدقاتهم من اختلاف السجايا بالإخلاص من بعضهم و المن و الأذى و التثاقل في إنفاق طيب المال من بعض مع كونهم مؤمنين أوجد في نفسه الشريفة وجدا و حزنا فسلاه الله تعالى بالتنبيه على أن أمر هذا الإيمان الموجود فيهم و الهدى الذي لهم إنما هو إلى الله تعالى يهدي من يشاء إلى الإيمان و إلى درجاته، و ليس يستند إلى النبي لا وجوده و لا بقاؤه حتى يكون عليه حفظه، و يشنق من زواله أو ضعفه، أو يسوؤه ما آل إليه الكلام في هذه الآيات من التهديد و الإيعاد و الخشونة.

و الشاهد على ما ذكرناه قوله تعالى:، هداهم، بالتعبير بالمصدر المضاف الظاهر في تحقق التلبس.

على أن هذا المعنى أعني نفي استناد الهداية إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إسناده إلى الله سبحانه حيث وقع في القرآن وقع في مقام تسلية النبي و تطييب قلبه.

فالجملة أعني قوله: ليس عليك هداهم و لكن الله يهدي من يشاء جملة معترضة اعترضت في الكلام لتطييب قلب النبي بقطع خطاب المؤمنين و الإقبال عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، نظير الاعتراض الواقع في قوله تعالى: «لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرآنه الآيات:» القيامة - 17.

فلما تم الاعتراض عاد إلى الأصل في الكلام من خطاب المؤمنين.

قوله تعالى: و ما تنفقوا من خير فلأنفسكم و ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله «إلى آخر» الآية رجوع إلى خطاب المؤمنين بسياق خال عن التبشير و الإنذار و التحنن و التغيظ معا، فإن ذلك مقتضى معنى قوله تعالى: و لكن الله يهدي من يشاء كما لا يخفى.

فقصر الكلام على الدعوة الخالية بالدلالة على أن ساحة المتكلم الداعي منزهة عن الانتفاع بما يتعقب هذه الدعوة من المنافع، و إنما يعود نفعه إلى المدعوين، و ما تنفقوا من خير فلأنفسكم لكن لا مطلقا بل في حال لا تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، فقوله: و ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله حال، من ضمير الخطاب و عامله متعلق الظرف أعني قوله: فلأنفسكم.

و لما أمكن أن يتوهم أن هذا النفع العائد إلى أنفسهم ببذل المال مجرد اسم لا مسمى له في الخارج، و ليس حقيقته إلا تبديل الحقيقة من الوهم عقب الكلام بقوله: و ما تنفقوا من خير يوف إليكم و أنتم لا تظلمون، فبين أن نفع هذا الإنفاق المندوب و هو ما يترتب عليه من مثوبة الدنيا و الآخرة ليس أمرا وهميا، بل هو أمر حقيقي واقعي سيوفيه الله تعالى إليكم من غير أن يظلكم بفقد أو نقص.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 2:15 pm

و إبهام الفاعل في قوله: يوف إليكم، لما تقدم أن السياق سياق الدعوة فطوي، ذكر الفاعل ليكون الكلام أبلغ في النصح و انتفاء غرض الانتفاع من الفاعل كأنه كلام لا متكلم له، فلو كان هناك نفع فلسامعه لا غير.

قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله إلى آخر الآية، الحصر هو المنع و الحبس، و الأصل في معناه التضييق، قال الراغب في المفردات،: و الحصر و الإحصار المنع من طريق البيت، فالإحصار يقال: في المنع الظاهر كالعدو، و المنع الباطن كالمرض، و الحصر لا يقال، إلا في المنع الباطن، فقوله تعالى: فإن أحصرتم فمحمول على الأمرين و كذلك قوله: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، و قوله عز و جل: أو جاءوكم حصرت صدورهم، أي ضاقت بالبخل و الجبن، انتهى.

و التعفف التلبس بالعفة، و السيماء العلامة، و الإلحاف هو الإلحاح في السؤال.

و في الآية بيان مصرف الصدقات، و هو أفضل المصرف، و هم الفقراء الذين منعوا في سبيل الله و حبسوا فيه بتأدية عوامل و أسباب إلى ذلك: إما عدو أخذ ما لهم من الستر و اللباس أو منعهم التعيش بالخروج إلى الاكتساب أو مرض أو اشتغال بما لا يسعهم معه الاشتغال بالكسب كطالب العلم و غير ذلك.

و في قوله تعالى يحسبهم الجاهل أي الجاهل بحالهم أغنياء من التعفف دلالة على أنهم غير متظاهرين بالفقر إلا ما لا سبيل لهم إلى ستره من علائم الفقر و المسكنة من بشرة أو لباس خلق أو نحوهما.

و من هنا يظهر: أن المراد بقوله: لا يسألون الناس إلحافا أنهم لا يسألون الناس أصلا حتى ينجر إلى الإلحاف و الإصرار في السؤال، فإن السؤال أول مرة يجوز للنفس الجزع من مرارة الفقر فيسرع إليها أن لا تصبر و تهم بالسؤال في كل موقف، و الإلحاف على كل أحد، كذا قيل، و لا يبعد أن يكون المراد نفي الإلحاف لا أصل السؤال، و يكون المراد بالإلحاف ما يزيد على القدر الواجب من إظهار الحاجة، فإن مسمى الإظهار عند الحاجة المبرمة لا بأس به بل ربما صار واجبا، و الزائد عليه و هو الإلحاف هو المذموم.

و في قوله تعالى: تعرفهم بسيماهم دون أن يقال تعرفونهم نوع صون لجاههم و حفظ لسترهم الذي تستروا به تعففا من الانهتاك فإن كونهم معروفين بالفقر عند كل أحد لا يخلو من هوان أمرهم و ظهور ذلهم.

و أما معرفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحالهم بتوسمه من سيماهم، و هو نبيهم المبعوث إليهم الرءوف الحنين بهم فليس فيه كسر لشأنهم، و لا ذهاب كرامتهم، و هذا - و الله أعلم - هو السر في الالتفات عن خطاب المجموع إلى خطاب المفرد.

قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار إلى آخر الآية، السر و العلانية متقابلان و هما حالان من ينفقون و التقدير مسرين و معلنين، و استيفاء الأزمة و الأحوال في الإنفاق للدلالة على اهتمام هؤلاء المنفقين في استيفاء الثواب، و إمعانهم في ابتغاء مرضاة الله، و إرادة وجهه، و لذلك تدلى الله سبحانه منهم فوعدهم وعدا حسنا بلسان الرأفة و التلطف فقال: لهم أجرهم عند ربهم إلخ.

بحث روائي

في الدر المنثور، في قوله تعالى: و الله يضاعف لمن يشاء الآية:، أخرج ابن ماجة عن الحسن بن علي بن أبي طالب و أبي الدرداء و أبي هريرة و أبي أمامة الباهلي و عبد الله بن عمر و جابر بن عبد الله و عمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله أنه قال: ح، و أخرج ابن ماجة و ابن أبي حاتم عن عمران بن حصين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من أرسل بنفقة في سبيل الله و أقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، و من غزا بنفسه في سبيل الله و أنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم ثم تلا هذه الآية: و الله يضاعف لمن يشاء.

و في تفسير العياشي، و رواه البرقي أيضا عن الصادق (عليه السلام): إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف، و ذلك قول الله: و الله يضاعف لمن يشاء فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب الله.

و في تفسير العياشي، عن عمر بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف فذلك قول الله: و الله يضاعف لمن يشاء فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب الله، قلت: و ما الإحسان؟ قال: إذ صليت فأحسن ركوعك و سجودك، و إذا صمت فتوق ما فيه فساد صومك، و إذا حججت فتوق كل ما يحرم عليك في حجتك و عمرتك، قال: و كل عمل تعمله فليكن نقيا من الدنس.

و فيه، عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: أ رأيت المؤمن له فضل على المسلم في شيء من المواريث و القضايا و الأحكام حتى يكون للمؤمن أكثر مما يكون للمسلم في المواريث أو غير ذلك؟ قال: لا هما يجريان في ذلك مجرى واحدا إذا حكم الإمام عليهما، و لكن للمؤمن فضلا على المسلم في أعمالهما، قال: فقلت: أ ليس الله يقول: من جاء بالحسنة فله عشر: أمثالها، و زعمت أنهم مجتمعون على الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج مع المؤمن؟ قال: فقال: أ ليس الله قد قال: و الله يضاعف لمن يشاء أضعافا كثيرة؟ فالمؤمنون هم الذين يضاعف لهم الحسنات، لكل حسنة سبعين ضعفا، فهذا من فضيلتهم، و يزيد الله المؤمن في حسناته على قدر صحة إيمانه أضعافا مضاعفة كثيرة و يفعل الله بالمؤمن ما يشاء.

أقول: و في هذا المعنى أخبار أخر و هي مبتنية جميعا على الأخذ بإطلاق قوله تعالى: و الله يضاعف لمن يشاء بالنسبة إلى غير المنفقين، و الأمر على ذلك إذ لا دليل على التقييد بالمنفقين غير المورد، و لا يكون المورد مخصصا و لا مقيدا، و إذا كانت الآية مطلقة كذلك كان قوله: يضاعف مطلقا بالنسبة إلى الزائد عن العدد و غيره، و يكون المعنى: و الله يضاعف العمل كيفما شاء على من شاء، يضاعف لكل محسن على قدر إحسانه سبعمائة ضعف أو أزيد أو أقل كما يزيد للمنفقين على سبعمائة إذا شاء، و لا ينافي هذا ما تقدم في البيان من نفي كون المراد و الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء لأن الذي نفينا هناك إنما هو تقييده بالمنفقين، و المعنى الذي تدل عليه الرواية نفي التقييد.

و قوله (عليه السلام): أ ليس الله قد قال: و الله يضاعف لمن يشاء أضعافا كثيرة اه نقل بالمعنى مأخوذ من مجموع: آيتين إحداهما: هذه الآية من سورة البقرة، و الأخرى: قوله تعالى: «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة:» البقرة - 245، و مما يستفاد من الرواية إمكان قبول أعمال غير المؤمنين من سائر فرق المسلمين و ترتب الثواب عليها، و سيجيء البحث عنها في قوله تعالى: «إلا المستضعفين من الرجال الآية:» النساء - 98.

و في المجمع، قال: و الآية عامة في النفقة في جميع ذلك يشير إلى الجهاد و غيره من أبواب البر: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق في المصنف عن أيوب قال: أشرف على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل من رأس تل، فقالوا: ما أجلد هذا الرجل لو كان جلده في سبيل الله فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أ و ليس في سبيل الله إلا من قتل؟ ثم قال: من خرج في الأرض يطلب حلالا يكف به والديه فهو في سبيل الله، و من خرج يطلب حلالا يكف به أهله فهو في سبيل الله، و من خرج يطلب حلالا يكف به نفسه فهو في سبيل الله، و من خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان.

و فيه، أيضا أخرج ابن المنذر و الحاكم و صححه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل البراء بن عازب فقال: يا براء كيف نفقتك على أمك؟ و كان موسعا على أهله فقال: يا رسول الله ما أحسنها؟ قال: فإن نفقتك على أهلك و ولدك و خادمك صدقة فلا تتبع ذلك منا و لا أذى.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق الفريقين، و فيها أن كل عمل يرتضيه الله سبحانه فهو في سبيل الله، و كل نفقة في سبيل الله فهي صدقة.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله الآية: عن الصادق (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أسدى إلى مؤمن معروفا ثم آذاه بالكلام أو من عليه فقد أبطل صدقته إلى أن قال الصادق (عليه السلام): و الصفوان هي الصخرة الكبيرة التي تكون في المفازة إلى أن قال في قوله تعالى: كمثل جنة بربوة الآية وابل أي مطر، و الطل ما يقع بالليل على الشجر و النبات، و قال في قوله تعالى: إعصار فيه نار الآية الأعصار الرياح.

و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات الآية: أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب: في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، قال: من الذهب و الفضة و مما أخرجنا لكم من الأرض، قال: يعني من الحب و التمر و كل شيء عليه زكاة.

و فيه،: أيضا أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و الترمذي و صححه و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الحاكم و صححه و البيهقي في سننه عن البراء بن عازب: في قوله، و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون، قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل كان الرجل يأتي من نخلة على قدر كثرته و قلته، و كان الرجل يأتي بالقنو و القنوين فيعلقه في المسجد و كان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر و التمر فيأكل، و كان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص و الحشف، و بالقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله «يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم - و مما أخرجنا لكم من الأرض - و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون - و لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه» قال: لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطي لم يأخذه إلا عن إغماض و حياء، قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قول الله: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم - و مما أخرجنا لكم من الأرض - و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أمر بالنخل أن يزكى يجيء قوم بألوان من التمر و هو من أردإ التمر، يؤدونه عن زكاتهم تمر يقال له الجعرور و المعىفأرة قليلة اللحى عظيمة النوى، و كان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيد فقال رسول الله لا تخرصوا هاتين النخلتين و لا تجيئوا منها بشيء و في ذلك نزل: و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون - و لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه، و الإغماض أن تأخذ هاتين التمرتين، و في رواية أخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: أنفقوا من طيبات ما كسبتم فقال: كان القوم كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية فلما أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدقوا بها، فأبى الله تبارك و تعالى إلا أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا.

أقول: و في هذا المعنى أخبار كثيرة من طرق الفريقين.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر الآية، قال: قال: إن الشيطان يقول لا تنفقوا فإنكم تفتقرون و الله يعدكم مغفرة منه و فضلا أي يغفر لكم إن أنفقتم لله و فضلا يخلف عليكم.

و في الدر المنثور، أخرج الترمذي و حسنه و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و البيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن للشيطان لمة بابن آدم و للملك لمة: فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر و تكذيب بالحق. و أما لمة الملك فإيعاد بالخير و تصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، و من وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ: الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء الآية.

و في تفسير العياشي، أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا قال: المعرفة.

و فيه، عن الصادق (عليه السلام): أن الحكمة المعرفة و التفقه في الدين.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في الآية، قال: طاعة الله و معرفة الإمام.

أقول: و في معناه روايات أخر و هي من قبيل عد المصداق.

و في الكافي، عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن بعض أصحابنا رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما قسم الله للعباد شيئا أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، و إقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، و لا بعث الله نبيا و لا رسولا حتى يستكمل العقل و يكون عقله أفضل من جميع عقول أمته، و ما يضمر النبي في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، و ما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، و لا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، و العقلاء هم أولوا الألباب، قال الله تبارك و تعالى: و ما يذكر إلا أولوا الألباب.

و عن الصادق (عليه السلام) قال: الحكمة ضياء المعرفة و ميزان التقوى و ثمرة الصدق و لو قلت: ما أنعم الله على عبده بنعمة أعظم و أرفع و أجزل و أبهى من الحكمة لقلت، قال الله عز و جل: يؤتي الحكمة من يشاء - و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا - و ما يذكر إلا أولوا الألباب.

أقول: و في قوله تعالى: و ما أنفقتم الآية في الصدقة و النذر و الظلم أخبار كثيرة سنوردها في مواردها إن شاء الله.

و في الدر المنثور، بعدة طرق عن ابن عباس و ابن جبير و أسماء بنت أبي بكر و غيرهم: أن رسول الله كان يمنع عن الصدقة على غير أهل الإسلام و أن المسلمين كانوا يكرهون الإنفاق على قرابتهم من الكفار فأنزل الله: ليس عليك هداهم الآية فأجاز ذلك.

أقول: قد مر أن قوله: هداهم إنما يصلح لأن يراد به هدى المسلمين الموجود فيهم دون الكفار فالآية أجنبية عما في الروايات من قصة النزول، على أن تعيين المورد في قوله: للفقراء الذين أحصروا الآية لا يلائمه كثير ملاءمة، و أما مسألة الإنفاق على غير المسلم إذا كان في سبيل الله و ابتغاء مرضاة الله فيكفي فيه إطلاق الآيات.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قول الله عز و جل: و إن تخفوها و تؤتوها الفقراء - فهو خير لكم فقال: هي سوى الزكاة، أن الزكاة علانية غير سر.

و فيه، عنه (عليه السلام): كل ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره و ما كان تطوعا فإسراره أفضل من إعلانه.

أقول: و في معنى الحديثين أحاديث أخرى و قد تقدم ما يتضح به معناها.

و في المجمع،: في قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله الآية: قال قال أبو جعفر (عليه السلام): نزلت الآية في أصحاب الصفة.

قال: و كذلك رواه الكلبي عن ابن عباس:، و هم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة، و لا عشائر يأوون إليهم فجعلوا أنفسهم في المسجد، و قالوا نخرج في كل سرية يبعثها رسول الله، فحث الله الناس عليهم فكان الرجل إذا أكل و عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.

و في تفسير العياشي، عن أبي جعفر (عليه السلام): أن الله يبغض الملحف.

و في المجمع،: في قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار الآية، قال: سبب النزول عن ابن عباس نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب (عليه السلام) كانت معه أربعة دراهم، فتصدق بواحد ليلا و بواحد نهارا و بواحد سرا و بواحد علانية فنزل: الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سرا و علانية،: قال الطبرسي: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره، و المفيد في الاختصاص، و الصدوق في العيون،.

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس: في قوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم - بالليل و النهار سرا و علانية، قال: نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما و بالنهار درهما و سرا درهما و علانية درهما.

و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب في المناقب عن ابن عباس و السدي و مجاهد و الكلبي و أبي صالح و الواحدي و الطوسي و الثعلبي و الطبرسي و الماوردي و القشيري و الثمالي و النقاش و الفتال و عبد الله بن الحسين و علي بن حرب الطائي في تفاسيرهم: أنه كان عند ابن أبي طالب دراهم فضة فتصدق بواحد ليلا و بواحد نهارا و بواحد سرا و بواحد علانية فنزل: الذين ينفقون أموالهم بالليل و النهار سرا و علانية فسمى كل درهم مالا و بشره بالقبول.

و في بعض التفاسير: أن الآية نزلت في أبي بكر تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل و عشرة بالنهار و عشرة بالسر و عشرة بالعلانية.

أقول: ذكر الآلوسي في تفسيره، في ذيل هذا الحديث: أن الإمام السيوطي تعقبه بأن خبر تصدقه بأربعين ألف دينار إنما رواه ابن عساكر في تاريخه، عن عائشة و ليس فيه ذكر من نزول الآية، و كان من ادعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق قال: لما قبض أبو بكر و استخلف عمر خطب الناس فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس إن بعض الطمع فقر، و إن بعض اليأس غنى، و إنكم تجمعون ما لا تأكلون، و تؤملون ما لا تدركون، و اعلموا أن بعض الشح شعبة من النفاق، فأنفقوا خيرا لأنفسكم، فأين أصحاب هذه الآية، و قرأ الآية الكريمة و أنت تعلم أنها لا دلالة فيها على نزولها في حقه انتهى.

و في الدر المنثور، بعدة طرق عن أبي أمامة و أبي الدرداء و ابن عباس و غيرهم أن الآية نزلت في أصحاب الخيل.

أقول: و المراد بهم المرابطون الذين ينفقون على الخيل ليلا و نهارا، لكن لفظ الآية أعني قوله: سرا و علانية لا ينطبق عليه إذ لا معنى لهذا التعميم و الترديد في الإنفاق على الخيل أصلا.

و في الدر المنثور، أيضا أخرج المسيب: الذين ينفقون الآية كلها في عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة.

أقول: و الإشكال فيه من حيث عدم الانطباق نظير الإشكال في سابقه.


الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281)

بيان

الآيات مسوقة لتأكيد حرمة الربا و التشديد على المرابين و ليست مسوقة للتشريع الابتدائي، كيف و لسانها غير لسان التشريع: و إنما الذي يصلح لهذا الشأن قوله تعالى في سورة آل عمران: «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة و اتقوا الله لعلكم تفلحون:» آل عمران - 130، نعم تشتمل هذه الآيات على مثل قوله: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، و سياق الآية يدل على أن المسلمين ما كانوا ينتهون عن النهي السابق عن الربا، بل كانوا يتداولونها بينهم بعض التداول فأمرهم الله بالكف عن ذلك، و ترك ما للغرماء في ذمة المدينين من الربا، و من هنا يظهر معنى قوله: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف و أمره إلى الله الآية على ما سيجيء بيانه.

و قد تقدم على ما في سورة آل عمران من النهي قوله تعالى في سورة الروم و هي مكية: «و ما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله و ما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون:» الروم - 39، و من هنا يظهر أن الربا كان أمرا مرغوبا عنه من أوائل عهد رسول الله قبل الهجرة حتى تم أمر النهي عنه في سورة آل عمران، ثم اشتد أمره في سورة البقرة بهذه الآيات السبع التي يدل سياقها على تقدم نزول النهي عليها، و من هنا يظهر: أن هذه الآيات إنما نزلت بعد سورة آل عمران.

على أن حرمة الربا في مذهب اليهود على ما يذكره الله تعالى في قوله: «و أخذهم الربا و قد نهوا عنه:» النساء - 161، و يشعر به قوله: - حكاية عنهم - «ليس علينا في الأميين سبيل:» آل عمران - 75، مع تصديق القرآن لكتابهم و عدم نسخ ظاهر كانت تدل على حرمته في الإسلام.

و الآيات أعني آيات الربا لا تخلو عن ارتباط بما قبلها من آيات الإنفاق في سبيل الله كما يشير إليه قوله تعالى في ضمنها: يمحق الله الربا و يربي الصدقات، و قوله: و أن تصدقوا خير لكم، و كذا ما وقع من ذكره في سورة الروم و في سورة آل عمران مقارنا لذكر الإنفاق و الصدقة و الحث عليه و الترغيب فيه.

على أن الاعتبار أيضا يساعد الارتباط بينهما بالتضاد و المقابلة، فإن الربا أخذ بلا عوض كما أن الصدقة إعطاء بلا عوض، و الآثار السيئة المترتبة على الربا تقابل الآثار الحسنة المترتبة على الصدقة و تحاذيها على الكلية من غير تخلف و استثناء، فكل مفسدة منه يحاذيها خلافها من المصلحة منها لنشر الرحمة و المحبة، و إقامة أصلاب المساكين و المحتاجين، و نماء المال، و انتظام الأمر و استقرار النظام و الأمن في الصدقة و خلاف ذلك في الربا.

و قد شدد الله سبحانه في هذه الآيات في أمر الربا بما لم يشدد بمثله في شيء من فروع الدين إلا في تولي أعداء الدين، فإن التشديد فيه يضاهي تشديد الربا، و أما سائر الكبائر فإن القرآن و إن أعلن مخالفتها و شدد القول فيها فإن لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الأمرين، حتى الزنا و شرب الخمر و القمار و الظلم، و ما هو أعظم منها كقتل النفس التي حرم الله و الفساد، فجميع ذلك دون الربا و تولي أعداء الدين.

و ليس ذلك إلا لأن تلك المعاصي لا تتعدى الفرد أو الأفراد في بسط آثارها المشئومة، و لا تسري إلا إلى بعض جهات النفوس، و لا تحكم إلا في الأعمال و الأفعال بخلاف هاتين المعصيتين فإن لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين و يعفي أثره، و يفسد به نظام حياة النوع، و يضرب الستر على الفطرة الإنسانية و يسقط حكمها فيصير نسيا منسيا على ما سيتضح إن شاء الله العزيز بعض الاتضاح.

و قد صدق جريان التاريخ كتاب الله فيما كان يشدد في أمرهما حيث أهبطت المداهنة و التولي و التحاب و التمايل إلى أعداء الدين الأمم الإسلامية في مهبط من الهلكة صاروا فيها نهبا منهوبا لغيرهم: لا يملكون مالا و لا عرضا و لا نفسا، و لا يستحقون موتا و لا حياة، فلا يؤذن لهم فيموتوا، و لا يغمض عنهم فيستفيدوا من موهبة الحياة، و هجرهم الدين، و ارتحلت عنهم عامة الفضائل.

و حيث ساق أكل الربا إلى ادخار الكنوز و تراكم الثروة و السؤدد فجر ذلك إلى الحروب العالمية العامة، و انقسام الناس إلى قسمي المثري السعيد و المعدم الشقي، و بان البين، فكان بلوى يدكدك الجبال، و يزلزل الأرض، و يهدد الإنسانية بالانهدام، و الدنيا بالخراب، ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى.

و سيظهر لك إن شاء الله تعالى أن ما ذكره الله تعالى من أمر الربا و تولي أعداء الدين من ملاحم القرآن الكريم.

قوله تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، الخبط هو المشي على غير استواء، يقال خبط البعير إذا اختل جهة مشيه، و للإنسان في حياته طريق مستقيم لا ينحرف عنه، فإنه لا محالة ذو أفعال و حركات في طريق حياته بحسب المحيط الذي يعيش فيه، و هذه الأفعال محفوظة النظام بأحكام اعتقادية عقلائية وضعها و نظمها الإنسان ثم طبق عليها أفعاله الانفرادية و الاجتماعية، فهو يقصد الأكل إذا جاع، و يقصد الشرب إذا عطش، و الفراش إذا اشتهى النكاح، و الاستراحة إذا تعب، و الاستظلال إذا أراد السكن و هكذا، و ينبسط لأمور و ينقبض عن أخرى في معاشرته، و يريد كل مقدمة عند إرادة ذيها، و إذا طلب مسببا مال إلى جهة سببه.

و هذه الأفعال على هذه الاعتقادات مرتبطة متحدة نحو اتحاد متلائمة غير متناقضة و مجموعها طريق حياته.

و إنما اهتدى الإنسان إلى هذا الطريق المستقيم بقوة مودوعة فيه هي القوة المميزة بين الخير و الشر و النافع و الضار و الحسن و القبيح و قد مر بعض الكلام في ذلك.

و أما الإنسان الممسوس و هو الذي اختلت قوته المميزة فهو لا يفرق بين الحسن و القبيح و النافع و الضار و الخير و الشر، فيجري حكم كل مورد فيما يقابله من الموارد، لكن لا لأنه ناس لمعنى الحسن و القبح و غيرهما فإنه بالأخرة إنسان ذو إرادة، و من المحال أن يصدر عن الإنسان غير الأفعال الإنسانية بل لأنه يرى القبيح حسنا و الحسن قبيحا و الخير و النافع شرا و ضارا و بالعكس فهو خابط في تطبيق الأحكام و تعيين الموارد.

و هو مع ذلك لا يجعل الفعل غير العادي عاديا دون العكس فإن لازم ذلك أن يكون عنده آراء و أفكار منتظمة ربما طبقها على غير موردها من غير عكس، بل قد اختل عنده حكم العادة و غيره و صار ما يتخيله و يريده هو المتبع عنده، فالعادي و غير العادي عنده على حد سواء كالناقة تخبط و تضرب على غير استواء، فهو في خلاف العادة لا يرى العادة إلا مثل خلاف العادة من غير مزية لها عليه، فلا ينجذب من خلاف العادة إلى العادة فافهم ذلك.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 2:21 pm

و هذا حال المرابي في أخذه الربا إعطاء الشيء و أخذ ما يماثله و زيادة بالأجل فإن الذي تدعو إليه الفطرة و يقوم عليه أساس حياة الإنسان الاجتماعية أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه، و أما إعطاء المال و أخذ ما يماثله بعينه مع زيادة فهذا شيء ينهدم به قضاء الفطرة و أساس المعيشة، فإن ذلك ينجر من جانب المرابي إلى اختلاس المال من يد المدين و تجمعه و تراكمه عند المرابي، فإن هذا المال لا يزال ينمو و يزيد، و لا ينمو إلا من مال الغير، فهو بالانتفاص و الانفصال من جانب، و الزيادة و الانضمام إلى جانب آخر.

و ينجر من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايدا لا يتداركه شيء مع تزايد الحاجة و كلما زاد المصرف أي نمى الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص و يتداركه، و في ذلك انهدام حياة المدين.

فالربا يضاد التوازن و التعادل الاجتماعي و يفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الإنساني الذي هدته إليه الفطرة الإلهية.

و هذا هو الخبط الذي يبتلي به المرابي كخبط الممسوس، فإن المراباة يضطره أن يختل عنده أصل المعاملة و المعاوضة فلا يفرق بين البيع و الربا، فإذا دعي إلى أن يترك الربا و يأخذ بالبيع أجاب إن البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية، فلا موجب لترك الربا و أخذ البيع، و لذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم: إنما البيع مثل الربا.

و من هذا البيان يظهر: أولا: أن المراد بالقيام في قوله تعالى: لا يقومون إلا كما يقوم، هو الاستواء على الحياة و القيام بأمر المعيشة فإنه معنى من معاني القيام يعرفه أهل اللسان في استعمالاتهم، قال تعالى: «ليقوم الناس بالقسط:» الحديد - 25، و قال تعالى: «أن تقوم السماء و الأرض بأمره:» الروم - 25، و قال تعالى: «و أن تقوموا لليتامى بالقسط:» النساء - 127، و أما كون المراد به المعنى المقابل للقعود فمما لا يناسب المورد، و لا يستقيم عليه معنى الآية.

و ثانيا: أن المراد بخبط الممسوس في قيامه ليس هو الحركات التي يظهر من الممسوس حال الصرع أو عقيب هذا الحال على ما يظهر من كلام المفسرين، فإن ذلك لا يلائم الغرض المسوق لبيانه الكلام، و هو ما يعتقده المرابي من عدم الفرق بين البيع و الربا، و بناء عمله عليه، و محصله أفعال اختيارية صادرة عن اعتقاد خابط، و كم من فرق بينهما و بين الحركات الصادرة عن المصروع حال الصرع، فالمصير إلى ما ذكرناه من كون المراد قيام الربوي في حياته بأمر المعاش كقيام الممسوس الخابط في أمر الحياة!.

و ثالثا: النكتة في قياس البيع بالربا دون العكس في قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، و لم يقل: إنما الربا مثل البيع كما هو السابق إلى الذهن و سيجيء توضيحه.

و رابعا: أن التشبيه أعني قوله: الذي يتخبطه الشيطان من المس لا يخلو عن إشعار بجواز تحقق ذلك في مورد الجنون في الجملة، فإن الآية و إن لم تدل على أن كل جنون هو من مس الشيطان لكنها لا تخلو عن إشعار بأن من الجنون ما هو بمس الشيطان، و كذلك الآية و إن لم تدل على أن هذا المس من فعل إبليس نفسه فإن الشيطان بمعنى الشرير، يطلق على إبليس و على شرار الجن و شرار الإنس، و إبليس من الجن، فالمتيقن من إشعار الآية أن للجن شأنا في بعض الممسوسين إن لم يكن في كلهم.

و ما ذكره بعض المفسرين أن هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين، و لا ضير في ذلك لأنه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأ غير مطابق للواقع، فحقيقة معنى الآية، أن هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس، و أما كون الجنون مستندا إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن لأن الله سبحانه أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن.

ففيه: أنه تعالى أجل من أن يستند في كلامه إلى الباطل و لغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلا مع بيان بطلانه و رده على قائله، و قد قال تعالى: في وصف كلامه «كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه:» فصلت - 42، و قال تعالى: «إنه لقول فصل و ما هو بالهزل:» الطارق - 14.

و أما إن استناد الجنون إلى تصرف الشيطان بإذهاب العقل ينافي عدله تعالى، ففيه أن الإشكال بعينه مقلوب عليهم في إسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب الطبيعية، فإنها أيضا مستندة بالأخرة إلى الله تعالى مع إذهابها العقل.

على أنه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإذهاب الله إياه إشكال.

لأن التكليف يرتفع حينئذ بارتفاع الموضوع، و إنما الإشكال في أن ينحرف الإدراك العقلي عن مجرى الحق و سنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله، كان يشاهد الإنسان العاقل الحسن قبيحا و بالعكس، أو يرى الحق باطلا و بالعكس جزافا بتصرف من الشيطان، فهذا هو الذي لا يجوز نسبته إليه تعالى، و أما ذهاب القوة المميزة و فساد حكمها تبعا لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء أسند إلى الطبيعة أو إلى الشيطان.

على أن استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة و من غير واسطة بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب و الآفة الدماغية أسباب قريبة وراءها الشيطان، كما أن أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين، و قد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيوب (عليه السلام) إذ قال: «إني مسني الشيطان بنصب و عذاب:» ص - 41، و إذ قال: «إني مسني الضر و أنت أرحم الراحمين:» الأنبياء - 83، و الضر هو المرض و له أسباب طبيعية ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان.

و هذا و ما يشبهه، من الآراء المادية التي دبت في أذهان عدة من أهل البحث من حيث لم يشعروا بها حيث إن أصحاب المادة لما سمعوا الإلهيين يسندون الحوادث إلى الله سبحانه، أو يسندون بعضها إلى الروح أو الملك أو الشيطان اشتبه عليهم الأمر فحسبوا أن ذلك إبطال للعلل الطبيعية و إقامة لما وراء الطبيعة مقامها، و لم يفقهوا أن المراد به تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل، و قد مرت الإشارة إلى ذلك في المباحث السابقة مرارا.

و خامسا: فساد ما ذكره بعض آخر من المفسرين: أن المراد بالتشبيه بيان حال آكلي الربا يوم القيامة و أنهم سيقومون عن قبورهم يوم القيامة كالصريع الذي يتخبطه الجنون.

و وجه الفساد أن ظاهر الآية على ما بينا لا يساعد هذا المعنى، و الرواية لا تجعل للآية ظهورا فيما ليست بظاهرة فيه، و إنما تبين حال آكل الربا يوم القيامة.

قال في تفسير المنار:، و أما قيام آكل الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس فقد قال ابن عطية في تفسيره،: المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة: قد جن.

أقول: و هذا هو المتبادر و لكن ذهب الجمهور إلى خلافه و قالوا: إن المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث، و إن الله تعالى جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، و رووا ذلك عن ابن عباس و ابن مسعود بل روى الطبراني من حديث عوف بن مالك مرفوعا: إياك و الذنوب التي لا تغفر: الغلول فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة، و الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط.

ثم قال: و المتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطية لأنه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود في الأعمال، و لا قرينة تدل على أن المراد به البعث، و هذه الروايات لا يسلم منها شيء من قول في سنده، و هي لم تنزل مع القرآن، و لا جاء المرفوع منها مفسرا للآية، و لولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قال به ابن عطية إلا من لم يظهر له صحته في الواقع.

ثم قال: و كان الوضاعون الذين يختلقون الروايات يتحرون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون لهم رواية يفسرونه بها، و قلما يصح في التفسير شيء، انتهى ما ذكره.

و لقد أصاب فيما ذكره من خطإهم لكنه أخطأ في تقرير معنى التشبيه الواقع في الآية حيث قال: أما ما قاله ابن عطية فهو ظاهر في نفسه فإن أولئك الذين فتنهم المال و استعبدهم حتى ضربت نفوسهم بجمعه، و جعلوه مقصودا لذاته، و تركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، و يظهر ذلك في حركاتهم و تقلبهم في أعمالهم كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة و المغرمين بالقمار، يزيد فيهم النشاط و الانهماك في أعمالهم، حتى يكون خفة تعقبها حركات غير منتظمة.

و هذا هو وجه الشبه بين حركاتهم و بين تخبط الممسوس فإن التخبط من الخبط و هو ضرب غير منتظم و كخبط العشواء، انتهى.

فإن ما ذكره من خروج حركاتهم عن الاعتدال و الانتظام و إن كان في نفسه صحيحا لكن لا هو معلول أكل الربا محضا، و لا هو المقصود من التشبيه الواقع في الآية: أما الأول فإنما ذلك لانقطاعهم عن معنى العبودية و إخلادهم إلى لذائذ المادة، ذلك مبلغهم من العلم، فسلبوا بذلك العفة الدينية و الوقار النفساني، و تأثرت نفوسهم عن كل لذة يسيرة مترائية من المادة، و تعقب ذلك اضطراب حركاتهم، و هذا مشاهد محسوس من كل من حاله الحال الذي ذكرنا و إن لم يمس الربا طول حياته.

و أما الثاني فلأن الاحتجاج الواقع في الآية على كونهم خابطين لا يلائم ما ذكره من وجه الشبه، فإن الله سبحانه يحتج على كونهم خابطين في قيامهم بقوله: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا، و لو كان كما يقول كان الأنسب الاحتجاج على ذلك بما ذكره من اختلال حركاتهم و فساد النظم في أعمالهم.

فالمصير إلى ما قدمناه.

قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا، قد تقدم الوجه في تشبيه البيع بالربا دون العكس بأن يقال: إنما الربا مثل البيع فإن من استقر به الخبط و الاختلال كان واقفا في موقف خارج عن العادة المستقيمة، و المعروف عند العقلاء و المنكر عندهم سيان عنده، فإذا أمرته بترك ما يأتيه من المنكر و الرجوع إلى المعروف أجابك - لو أجاب - إن الذي تأمرني به كالذي تنهاني عنه لا مزية له عليه، و لو قال: إن الذي تنهاني عنه كالذي تأمرني به كان عاقلا غير مختل الإدراك فإن معنى هذا القول: أنه يسلم أن الذي يؤمر به أصل ذو مزية يجب اتباعه لكنه يدعي أن الذي ينهى عنه ذو مزية مثله، و لم يكن معنى كلامه إبطال المزية و إهماله كما يراه الممسوس، و هذا هو قول المرابي المستقر في نفسه الخبط: إنما البيع مثل الربا، و لو أنه قال: إن الربا مثل البيع لكان رادا على الله جاحدا للشريعة لا خابطا كالممسوس.

و الظاهر أن قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا حكاية لحالهم الناطق بذلك و إن لم يكونوا قالوا ذلك بألسنتهم، و هذا السياق أعني حكاية الحال بالقول، معروف عند الناس.

و بذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن المراد بقولهم: إنما البيع مثل الربوا نظمهما في سلك واحد، و إنما قلبوا التشبيه و جعلوا الربا أصلا و شبهوا به البيع للمبالغة كما في قوله: و مهمة مغبرة أرجاؤه.

كأن لون أرضه سماؤه.

و كذا فساد ما ذكره آخرون: أنه يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بناء على ما فهموه: أن البيع إنما حل لأجل الكسب و الفائدة، و ذلك في الربا متحقق و في غيره موهوم.

و وجه الفساد ظاهر مما تقدم.

قوله تعالى: و أحل الله البيع و حرم الربوا، جملة مستأنفة بناء على أن الجملة الفعلية المصدرة بالماضي لو كانت حالا لوجب تصديرها بقد.

يقال: جاءني زيد و قد ضرب عمرا، و لا يلائم كونها حالا ما يفيده أول الكلام من المعنى، فإن الحال قيد لزمان عامله و ظرف لتحققه، فلو كانت حالا لأفادت: أن تخبطهم لقولهم إنما البيع مثل الربا إنما هو في حال أحل الله البيع و حرم الربا عليهم، مع أن الأمر على خلافه فهم خابطون بعد تشريع هذه الحلية و الحرمة و قبل تشريعهما، فالجملة ليست حالية و إنما هي مستأنفة.

و هذه المستأنفة غير متضمنة للتشريع الابتدائي على ما تقدم أن الآيات ظاهرة في سبق أصل تشريع الحرمة، بل بانية على ما تدل عليها آية آل عمران: «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة و اتقوا الله لعلكم تفلحون:» آل عمران - 130، فالجملة أعني قوله: و أحل الله «إلخ» لا تدل على إنشاء الحكم، بل على الإخبار عن حكم سابق و توطئة لتفرع قوله بعدها: فمن جاءه موعظة من ربه إلخ، هذا ما ينساق إليه ظاهر الآية الشريفة.

و قد قيل: إن قوله: و أحل الله البيع و حرم الربوا مسوق لإبطال قولهم: إنما البيع مثل الربوا، و المعنى لو كان كما يقولون لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين مع أن الله أحل أحدهما و حرم الآخر.

و فيه أنه و إن كان استدلالا صحيحا في نفسه لكنه لا ينطبق على لفظ الآية فإنه معنى كون الجملة، و أحل الله «إلخ»، حالية و ليست بحال.

و أضعف منه ما ذكره آخرون: أن معنى قوله: و أحل الله «إلخ» إنه ليست الزيادة في وجه البيع نظير الزيادة في وجه الربا، لأني أحللت البيع و حرمت الربا، و الأمر أمري، و الخلق خلقي، أقضي فيهم بما أشاء، و أستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي.

و فيه: أنه أيضا مبني على أخذ الجملة حالية لا مستأنفة، على أنه مبني على إنكار ارتباط الأحكام بالمصالح و المفاسد ارتباط السببية و المسببية، و بعبارة أخرى على نفي العلية و المعلولية بين الأشياء و إسناد الجميع إلى الله سبحانه من غير واسطة، و الضرورة تبطله، على أنه خلاف ما هو دأب القرآن من تعليل أحكامه و شرائعه بمصالح خاصة أو عامة، على أن قوله في ضمن هذه الآيات: و ذروا ما بقي من الربوا إن كنتم مؤمنين الآية، و قوله: لا تظلمون الآية، و قوله: الذين يأكلون الربوا إلى قوله مثل الربوا، تدل على نوع تعليل لإحلال البيع بكونه جاريا على سنة الفطرة و الخلقة و لتحريم الربا بكونه خارجا عن سنن الاستقامة في الحياة، و كونه منافيا غير ملائم للإيمان بالله تعالى، و كونه ظلما.

قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف و أمره إلى الله، تفريع على قوله: و أحل الله البيع «إلخ»، و الكلام غير مقيد بالربا، فهو حكم كلي وضع في مورد جزئي للدلالة على كونه مصداقا من مصاديقه يلحقه حكمه، و المعنى: أن ما ذكرناه لكم في أمر الربا موعظة جاءتكم من ربكم و من جاءه موعظة «إلخ» فإن انتهيتم فلكم ما سلف و أمركم إلى الله.

و من هنا يظهر: أن المراد من مجيء الموعظة بلوغ الحكم الذي شرعه الله تعالى، و من الانتهاء التوبة و ترك الفعل المنهي عنه انتهاء عن نهيه تعالى، و من كون ما سلف لهم عدم انعطاف الحكم و شموله لما قبل زمان بلوغه، و من قوله: فله ما سلف و أمره إلى الله، إنه لا يتحتم عليهم العذاب الخالد الذي يدل عليه قوله: و من عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، فهم منتفعون فيما أسلفوا بالتخلص من هذه المهلكة، و يبقى عليهم: أن أمرهم إلى الله فربما أطلقهم في بعض الأحكام، و ربما وضع عليهم ما يتدارك به ما فوتوه.

و اعلم: أن أمر الآية عجيب، فإن قوله: فمن جاءه موعظة إلى آخر الآية مع ما يشتمل عليه من التسهيل و التشديد حكم غير خاص بالربا، بل عام يشمل جميع الكبائر الموبقة، و القوم قد قصروا في البحث عن معناها حيث اقتصروا بالبحث عن مورد الربا خاصة من حيث العفو عما سلف منه، و رجوع الأمر إلى الله فيمن انتهى، و خلود العذاب لمن عاد إليه بعد مجيء الموعظة، هذا كله مع ما تراه من العموم في الآية.

إذا علمت هذا ظهر لك: أن قوله: فله ما سلف و أمره إلى الله لا يفيد إلا معنى مبهما يتعين بتعين المعصية التي جاء فيها الموعظة و يختلف باختلافها، فالمعنى: أن من انتهى عن موعظة جاءته فالذي تقدم منه من المعصية سواء كان في حقوق الله أو في حقوق الناس فإنه لا يؤاخذ بعينها لكنه لا يوجب تخلصه من تبعاته أيضا كما تخلص من أصله من حيث صدوره، بل أمره فيه إلى الله، إن شاء وضع فيها تبعة كقضاء الصلاة الفائتة و الصوم المنقوض و موارد الحدود و التعزيرات و رد المال المحفوظ المأخوذ غصبا أو ربا و غير ذلك مع العفو عن أصل الجرائم بالتوبة و الانتهاء، و إن شاء عفا عن الذنب و لم يضع عليه تبعة بعد التوبة كالمشرك إذا تاب عن شركه و من عصى بنحو شرب الخمر و اللهو فيما بينه و بين الله و نحو ذلك، فإن قوله: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى، مطلق يشمل الكافرين و المؤمنين في أول التشريع و غيرهم من التابعين و أهل الأعصار اللاحقة.

و أما قوله: و من عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، فوقوع العود في هذه الجملة في مقابل الانتهاء الواقع في الجملة السابقة يدل على أن المراد به العود الذي يجامع عدم الانتهاء، و يلازم ذلك الإصرار على الذنب و عدم القبول للحكم و هذا هو الكفر أو الردة باطنا و لو لم يتلفظ في لسانه بما يدل على ذلك، فإن من عاد إلى ذنب و لم ينته عنه و لو بالندم فهو غير مسلم للحكم تحقيقا و لا يفلح أبدا.

فالترديد في الآية بحسب الحقيقة بين تسليم الحكم الذي لا يخلو عن البناء على عدم المخالفة و بين الإصرار الذي لا يخلو غالبا عن عدم التسليم المستوجب للخلود على ما عرفت.

و من هنا يظهر الجواب عن استدلال المعتزلة بالآية على خلود مرتكب الكبيرة في العذاب.

فإن الآية و إن دلت على خلود مرتكب الكبيرة بل مطلق من اقترف المعصية في العذاب لكن دلالتها مقصورة على الارتكاب مع عدم تسليم الحكم و لا محذور فيه.

و قد ذكر في قوله تعالى: فله ما سلف، و في قوله: و أمره إلى الله، و قوله: و من عاد «إلخ» وجوه من المعاني و الاحتمالات على أساس ما فهمه الجمهور من الآية على ما تقدم لكنا تركنا إيرادها لعدم الجدوى فيها بعد فساد المنشإ.

قوله تعالى: يمحق الله الربوا و يربي الصدقات «إلخ»، المحق نقصان الشيء حالا بعد حال، و وقوعه في طريق الفناء و الزوال تدريجا، و الإرباء الإنماء، و الأثيم الحامل للإثم، و قد مر معنى الإثم.

و قد قوبل في الآية بين إرباء الصدقات و محق الربا، و قد تقدم أن إرباء الصدقات و إنمائها لا يختص بالآخرة بل هي خاصة لها عامة تشمل الدنيا كما تشمل الآخرة فمحق الربا أيضا كذلك لا محالة.

فكما أن من خاصة الصدقات أنها تنمي المال إنماء يلزمها ذلك لزوما قهريا لا ينفك عنها من حيث إنها تنشر الرحمة و تورث المحبة و حسن التفاهم و تألف القلوب و تبسط الأمن و الحفظ، و تصرف القلوب عن أن تهم بالغضب و الاختلاس و الإفساد و السرقة، و تدعو إلى الاتحاد و المساعدة و المعاونة، و تنسد بذلك أغلب طرق الفساد و الفناء الطارئة على المال، و يعين جميع ذلك على نماء المال و دره أضعافا مضاعفة.

كذلك الربا من خاصته أنه يمحق المال و يفنيه تدريجا من حيث إنه ينشر القسوة و الخسارة، و يورث البغض و العداوة و سوء الظن، و يفسد الأمن و الحفظ، و يهيج النفوس على الانتقام بأي وسيلة أمكنت من قول أو فعل مباشرة أو تسبيبا، و تدعو إلى التفرق و الاختلاف، و تنفتح بذلك أغلب طرق الفساد و أبواب الزوال على المال و قلما يسلم المال عن آفة تصيبه، أو بلية تعمه.

و كل ذلك لأن هذين الأمرين أعني الصدقة و الربا مربوطان مماسان بحياة طبقة الفقراء و المعوزين و قد هاجت بسبب الحاجة الضرورية إحساساتهم الباطنية، و استعدت للدفاع عن حقوق الحياة نفوسهم المنكوبة المستذلة، و هموا بالمقابلة بالغا ما بلغت، فإن أحسن إليهم بالصنيعة و المعروف بلا عوض - و الحال هذه - وقعت إحساساتهم على المقابلة بالإحسان و حسن النية و أثرت الأثر الجميل، و إن أسيء إليهم بإعمال القسوة و الخشونة و إذهاب المال و العرض و النفس قابلوها بالانتقام و النكاية بأي وسيلة، و قلما يسلم من تبعات هذه الهمم المهلكة أحد من المرابين على ما يذكره كل أحد مما شاهد من أخبار آكلي الربا من ذهاب أموالهم و خراب بيوتهم و خسران مساعيهم.

و يجب عليك: أن تعلم أولا: أن العلل و الأسباب التي تبنى عليها الأمور و الحوادث الاجتماعية أمور أغلبية الوجود و التأثير، فإنا إنما نريد بأفعالنا غاياتها و نتائجها التي يغلب تحققها، و نوجد عند إرادتها أسبابها التي لا تنفك عنها مسبباتها على الأغلب لا على الدوام، و نلحق الشاذ النادر بالمعدوم، و أما العلل التامة التي يستحيل انفكاك معلولاتها عنها في الوجود فهي مختصة بالتكوين يتناولها العلوم الحقيقية الباحثة عن الحقائق الخارجية.

و التدبر في آيات الأحكام التي ذكر فيها مصالح الأفعال و الأعمال و مفاسدها مما يؤدي إلى السعادة و الشقاوة يعطي أن القرآن في بناء آثار الأعمال على الأعمال و بناء الأعمال على عللها يسلك هذا المسلك و يضع الغالب موضع الدائم كما عليه بناء العقلاء.

و ثانيا: أن المجتمع كالفرد و الأمر الاجتماعي كالأمر الانفرادي متماثلان في الأحوال على ما يناسب كلا منهما بحسب الوجود، فكما أن للفرد حياة و عمرا و موتا مؤجلا و أفعالا و آثارا فكذلك المجتمع في حياته و موته و عمره و أفعاله و آثاره.

و بذلك ينطق القرآن كقوله تعالى: «و ما أهلكنا من قرية إلا و لها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها و ما يستأخرون:» الحجر - 5.

و على هذا فلو تبدل وصف أمر من الأمور من الفردية إلى الاجتماعية تبدل نحو بقائه و زواله و أثره.

فالعفة و الخلاعة الفردية حالكونهما فرديين لهما نوع من التأثير في الحياة فإن ركوب الفحشاء مثلا يوجب نفرة الناس عن الإنسان و الاجتناب عن ازدواجه و عن مجالسته و زوال الوثوق بأمانته هذا إذا كان أمرا فرديا و المجتمع على خلافه، و أما إذا صار اجتماعيا معروفا عند العامة ذهبت بذلك تلك المحاذير لأنها كانت تبعات الإنكار العمومي و الاستهجان العام للفعل و قد أذهبه التداول و الشياع لكن المفاسد الطبيعية كانقطاع النسل و الأمراض التناسلية و المفاسد الآخر الاجتماعية التي لا ترضى به الفطرة كبطلان الأنساب و اختلالها و فساد الانشعابات القومية و الفوائد الاجتماعية المترتبة على ذلك مترتبة عليه لا محالة.

و كذا يختلف ظهور الآثار في الفرد فيما كان فرديا مع ظهورها في المجتمع إذا كان اجتماعيا من حيث السرعة و البطء.

إذا عرفت ذلك علمت: أن محقه تعالى للربا في مقابل إربائه للصدقات يختلف لا محالة بين ما كان الفعل فعلا انفراديا كالربا القائم بالشخص فإنه يهلك صاحبه غالبا، و قل ما يسلم منه مراب لوجود أسباب و عوامل خاصة تدفع عن ساحة حياته الفناء و المذلة، و بين ما كان فعلا اجتماعيا كالربا الدائر اليوم الذي يعرفه الملل و الدول بالرسمية، و وضعت عليها القوانين، و أسست عليها البنوج فإنه يفقد بعض صفاته الفردية لرضى الجامعة بما شاع فيها و تعارف بينها و انصراف النفوس عن التفكر في معائبه لكن آثاره اللازمة كتجمع الثروة العمومية و تراكمها في جانب، و حلول الفقر و الحرمان العمومي في جانب آخر، و ظهور الانفصال و البينونة التامة بين القبيلين: الموسرين و المعسرين مما لا ينفك عن هذا الربا و سوف يؤثر أثره السيىء المشئوم، و هذا النوع من الظهور و البروز و إن كنا نستبطئه بالنظر الفردي، و ربما لم نعتن به لإلحاقه من جهة طول الأمد بالعدم، لكنه معجل بالنظر الاجتماعي، فإن العمر الاجتماعي غير العمر الفردي، و اليوم الاجتماعي ربما عادل دهرا في نظر الفرد.

قال تعالى: «و تلك الأيام نداولها بين الناس:» آل عمران - 140، و هذا اليوم يراد به العصر الذي ظهر فيه ناس، على ناس و طائفة، على طائفة و حكومة على حكومة، و أمة، على أمة، و ظاهر أن سعادة الإنسان كما يجب أن يعتنى بشأنها من حيث الفرد يجب الاعتناء بأمرها من حيث النوع المجتمع.

و القرآن ليس يتكلم عن الفرد و لا في الفرد و إن لم يسكت عنه، بل هو كتاب أنزله الله تعالى قيما على سعادة الإنسان: نوعه و فرده، و مهيمنا على سعادة الدنيا: حاضرها و غابرها.

فقوله تعالى يمحق الله الربا و يربي الصدقات يبين حال الربا و الصدقة في أثرهما سواء كانا نوعيين أو فرديين، و المحق من لوازم الربا لا ينفك عنه كما أن الإرباء من لوازم الصدقة لا ينفك عنها، فالربا ممحوق و إن سمي ربا و الصدقة ربا رابية و إن لم تسم ربا، و إلى ذلك يشير تعالى: يمحق الله الربا و يربي الصدقات بإعطاء وصف الربا للصدقات بأقسامها، و توصيف الربا بوصف يضاد اسمه بحسب المعنى و هو الانمحاق.

و بما مر من البيان يظهر ضعف ما ذكره بعضهم: أن محق الربا ليس بمعنى إبطال السعي و خسران العمل بذهاب المال الربوي، فإن المشاهدة و العيان يكذبه، و إنما المراد بالمحق إبطال السعي من حيث الغايات المقصودة بهذا النوع من المعاملة، فإن المرابي يقصد بجمع المال من هذا السبيل لذة اليسر و طيب الحياة و هناء العيش، لكن يشغله عن ذلك الوله بجمع المال و وضع درهم على درهم، و مبارزة من يريد به أو بماله أو بأرباحه سوءا، و الهموم المتهاجمة على نفسه من عداوة الناس و بغض المعوزين له، و وجه ضعفه ظاهر.

و كذا ما ذكره آخرون: أن المراد به محق الآخرة و ثواب الأعمال التي يعرض عنها المرابي باشتغاله بالربا، أو التي يبطلها التصرف في مال الربا كأنواع العبادات، وجه الضعف: أنه لا شك أن ما ذكروه من المحق لكنه لا دليل على انحصاره في ذلك.

و كذا ضعف ما استدل به المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله تعالى: و من عاد «إلخ»، و قد مر ما يظهر به تقرير الاستدلال و الدفع جميعا.

قوله تعالى: و الله لا يحب كل كفار أثيم، تعليل لمحق الربا بوجه كلي، و المعنى أن آكل الربا كثير الكفر لكفره بنعم كثيرة من نعم الله لستره على الطرق الفطرية في الحياة الإنسانية، و هي طرق المعاملات الفطرية، و كفره بأحكام كثيرة في العبادات و المعاملات المشروعة، فإنه بصرف مال الربا في مأكله و مشربه و ملبسه و مسكنه يبطل كثيرا من عباداته بفقدان شرائط مأخوذة فيها، و باستعماله فيما بيده من المال الربوي يبطل كثيرا من معاملاته، و يضمن غيره، و يغصب مال غيره في موارد كثيرة، و باستعمال الطمع و الحرص في أموال الناس و الخشونة و القسوة في استيفاء ما يعده لنفسه حقا يفسد كثيرا من أصول الأخلاق و الفضائل و فروعها، و هو أثيم مستقر في نفسه الإثم فالله سبحانه لا يحبه لأن الله لا يحب كل كفار أثيم.

قوله تعالى: إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات «إلخ»، تعليل يبين به ثواب المتصدقين و المنتهين عما نهى الله عنه من أكل الربا بوجه عام ينطبق على المورد انطباقا.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين خطاب للمؤمنين و أمر لهم بتقوى الله و هو توطئة لما يتعقبه من الأمر بقوله و ذروا ما بقي من الربا، و هو يدل على أنه كان من المؤمنين في عهد نزول الآيات من يأخذ الربا، و له بقايا منه في ذمة الناس من الربا فأمر بتركها، و هدد في ذلك بما سيأتي من قوله: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله الآية.

و هذا يؤيد ما سننقله من الرواية في سبب نزول الآية في البحث الروائي الآتي.

و في تقييد الكلام بقوله: إن كنتم مؤمنين إشارة إلى أن تركه من لوازم الإيمان، و تأكيد لما تقدم من قوله: و من عاد «إلخ»، و قوله: و الله لا يحب كل كفار «إلخ».

قوله تعالى: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله، الإذن كالعلم وزنا و معنى، و قرىء فآذنوا بالأمر من الإيذان، و الباء في قوله بحرب لتضمينه معنى اليقين و نحوه، و المعنى: أيقنوا بحرب أو أعلموا أنفسكم باليقين بحرب من الله و رسوله، و تنكير الحرب لإفادة التعظيم أو التنويع، و نسبة الحرب إلى الله و رسوله لكونه مرتبطا بالحكم الذي لله سبحانه فيه سهم بالجعل و التشريع و لرسوله فيه سهم بالتبليغ، و لو كان لله وحده لكان أمرا تكوينيا، و أما رسوله فلا يستقل في أمر دون الله سبحانه قال تعالى: «ليس لك من الأمر شيء»: آل عمران - 128.

و الحرب من الله و رسوله في حكم من الأحكام مع من لا يسلمه هو تحميل الحكم على من رده من المسلمين بالقتال كما يدل عليه قوله تعالى: «فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله:» الحجرات - 9، على أن لله تعالى صنعا آخر في الدفاع عن حكمه و هو محاربته إياهم من طريق الفطرة و هو تهييج الفطرة العامة على خلافهم، و هي التي تقطع أنفاسهم، و تخرب ديارهم، و تعفي آثارهم، قال تعالى: «و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا:» الإسراء - 16.

قوله تعالى: و إن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون، كلمة و إن تبتم، تؤيد ما مر أن الخطاب في الآية لبعض المؤمنين ممن كان يأخذ الربا و له بقايا على مدينيه و معامليه، و قوله: فلكم رءوس أموالكم أي أصول أموالكم الخالصة من الربا لا تظلمون بأخذ الربا و لا تظلمون بالتعدي إلى رءوس أموالكم، و في الآية دلالة على إمضاء أصل الملك أولا: و على كون أخذ الربا ظلما كما تقدم ثانيا: و على إمضاء أصناف المعاملات حيث عبر بقوله رءوس أموالكم و المال إنما يكون رأسا إذا صرف في وجوه المعاملات و أصناف الكسب ثالثا.

قوله تعالى: و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، لفظة كان تامة أي إذا وجد ذو عسرة، و النظرة المهلة، و الميسرة اليسار، و التمكن مقابل العسرة أي إذا وجد غريم من غرمائكم لا يتمكن من أداء دينه الحال فانظروه و أمهلوه حتى يكون متمكنا ذا يسار فيؤدي دينه.

و الآية و إن كانت مطلقة غير مقيدة لكنها منطبقة على مورد الربا، فإنهم كانوا إذا حل أجل الدين يطالبونه من المدين فيقول المدين لغريمه زد في أجلي كذا مدة أزيدك في الثمن بنسبة كذا، و الآية تنهى عن هذه الزيادة الربوية و يأمر بالإنظار.

قوله تعالى: و أن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون، أي و إن تضعوا الدين عن المعسر فتتصدقوا به عليه فهو خير لكم إن كنتم تعلمون فإنكم حينئذ قد بدلتم ما تقصدونه من الزيادة من طريق الربا الممحوق من الزيادة من طريق الصدقة الرابية حقا.

قوله تعالى: و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله «إلخ»، فيه تذييل لآيات الربا بما تشتمل عليه من الحكم و الجزاء بتذكير عام بيوم القيامة ببعض أوصافه الذي يناسب المقام، و يهيىء ذكره النفوس لتقوى الله تعالى و الورع عن محارمه في حقوق الناس التي تتكي عليه الحياة، و هو أن أمامكم يوما ترجعون فيه إلى الله فتوفي كل نفس ما كسبت و هم لا يظلمون.

و أما معنى هذا الرجوع مع كوننا غير غائبين عن الله، و معنى هذه التوفية فسيجيء الكلام فيه في تفسير سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.

و قد قيل: إن هذه الآية: و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت و هم لا يظلمون، آخر آية نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و سيجيء ما يدل عليه من الروايات في البحث الروائي التالي.

بحث روائي

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: الذين يأكلون الربا الآية، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما أسري بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، و إذا هم بسبيل آل فرعون: يعرضون على النار غدوا و عشيا، و يقولون ربنا متى تقوم الساعة.

يتبع...


أقول: و هو مثال برزخي و تصديق لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): كما تعيشون تموتون و كما تموتون تبعثون.

و في الدر المنثور، أخرج الأصبهاني في ترغيبه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلا يجر شقيه، ثم قرأ: لا يقومون - إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.

أقول: و قد ورد في عقاب الربا روايات كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة، و في بعضها أنه يعدل سبعين زنية يزنيها المرابي مع أمه.

و في التهذيب، بإسناده عن عمر بن يزيد بياع السابري قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك إن الناس زعموا أن الربح على المضطر حرام فقال: و هل رأيت أحدا اشترى غنيا أو فقيرا إلا من ضرورة؟ يا عمر قد أحل الله البيع و حرم الربا، فاربح و لا ترب. قلت: و ما الربا؟ قال: دراهم بدراهم مثلين بمثل، و حنطة بحنطة مثلين بمثل.

و في الفقيه، بإسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن.

أقول: و قد اختلف فيما يقع فيه الربا على أقوال و الذي هو مذهب أهل البيت (عليهم السلام)؟ أنه إنما يكون في النقدين و ما يكال أو يوزن، و المسألة فقهية لا يتعلق منها غرضنا إلا بهذا المقدار.

و في الكافي، عن أحدهما و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى الآية، قال الموعظة التوبة.

و في التهذيب، عن محمد بن مسلم قال: دخل رجل على أبي عبد الله (عليه السلام) من أهل خراسان قد عمل بالربا حتى كثر ماله ثم إنه سأل الفقهاء فقالوا ليس يقبل منك شيء حتى ترده إلى أصحابه، فجاء إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقص عليه قصته، فقال أبو جعفر (عليه السلام) مخرجك من كتاب الله عز و جل: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى - فله ما سلف و أمره إلى الله. قال: الموعظة التوبة.

و في الكافي، و الفقيه، عن الصادق (عليه السلام): كل ربا أكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة: و قال لو أن رجلا ورث من أبيه مالا و قد عرف أن في ذلك المال ربا و لكن قد اختلط في التجارة بغيره فإنه له حلال فليأكله و إن عرف منه شيئا معروفا فليأخذ رأس ماله و ليرد الزيادة.

و في الفقيه، و العيون، عن الرضا (عليه السلام): هي كبيرة بعد البيان. قال: و الاستخفاف بذلك دخول في الكفر.

و في الكافي،: أنه سئل عن الرجل يأكل الربا و هو يرى أنه حلال قال: لا يضره حتى يصيبه متعمدا، فإذا أصابه متعمدا فهو بالمنزلة التي قال الله عز و جل.

و في الكافي، و الفقيه، عن الصادق (عليه السلام): و قد سئل عن قوله تعالى: يمحق الله الربا و يربي الصدقات الآية، و قيل: قد أرى من يأكل الربا يربو ماله قال: فأي محق أمحق من درهم الربا يمحق الدين و إن تاب منه ذهب ماله و افتقر.

أقول: و الرواية كما ترى تفسر المحق بالمحق التشريعي أعني: عدم اعتبار الملكية و التحريم و تقابله الصدقة في شأنه، و هي لا تنافي ما مر من عموم المحق.

و في المجمع، عن علي (عليه السلام): أنه قال: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الربا خمسة: آكله و موكله و شاهديه و كاتبه أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، بطرق عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام) قال: قال الله تعالى: أنا خالق كل شيء وكلت بالأشياء غيري إلا الصدقة فإني أقبضها بيدي حتى أن الرجل و المرأة يتصدق بشق التمرة فأربيها له كما يربي الرجل منكم فصيله و فلوه حتى أتركه يوم القيامة أعظم من أحد.

و فيه، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله ليربي لأحدكم الصدقة كما يربي أحدكم ولده حتى يلقاه يوم القيامة و هو مثل أحد.

أقول: و قد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن عدة من الصحابة كأبي هريرة و عائشة و ابن عمر و أبي برزة الأسلمي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في تفسير القمي،: أنه لما أنزل الله: الذين يأكلون الربا الآية، قام خالد بن الوليد إلى رسول الله و قال يا رسول الله ربا أبي في ثقيف و قد أوصاني عند موته بأخذه فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله - و ذروا ما بقي من الربا الآية.

أقول: و روي قريبا منه في المجمع، عن الباقر (عليه السلام).

و في المجمع، أيضا عن السدي و عكرمة قالا: نزلت في بقية من الربا كانت للعباس و خالد بن الوليد و كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير: ناس من ثقيف فجاء الإسلام و لهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله هذه الآية فقال النبي: ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، و أول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، و كل دم في الجاهلية موضوع، و أول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مرضعا في بني ليث فقتله هذيل.

أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن السدي: إلا أن فيه و نزلت في العباس بن عبد المطلب و رجل من بني المغيرة.

و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و الترمذي و صححه و النسائي و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص: أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و المتحصل من روايات الخاصة و العامة أن الآية نزلت في أموال من الربا كانت لبني المغيرة على ثقيف، و كانوا يربونهم في الجاهلية، فلما جاء الإسلام طالبوهم ببقايا كانت لهم عليهم فأبوا التأدية لوضع الإسلام ذلك فرفع أمرهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية.

و هذا يؤيد ما قدمناه في البيان: أن الربا كان محرما في الإسلام قبل نزول هذه الآيات و مبينا للناس، و أن هذه إنما تؤكد التحريم و تقرره، فلا يعبأ ببعض ما روي أن حرمة الربا إنما نزلت في آخر عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنه قبض و لم يبين للناس أمر الربا كما في الدر المنثور، عن ابن جرير و ابن مردويه عن عمر بن الخطاب: أنه خطب فقال: من آخر القرآن نزولا آية الربا، و أنه قد مات رسول الله و لم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.

على أن من مذهب أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أن الله تعالى لم يقبض نبيه حتى شرع كل ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم و بين ذلك للناس نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في الدر المنثور، بطرق عديدة عن ابن عباس و السدي و عطية العوفي و أبي صالح و سعيد بن جبير: أن آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى: و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى آخر الآية و في المجمع، عن الصادق (عليه السلام): إنما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضا أو رفدا.

و في المجمع، أيضا عن علي (عليه السلام): إذا أراد الله بقرية هلاكا ظهر فيهم الربا.

أقول: و قد مر في البيان السابق ما يتبين به معنى هذه الروايات.

و فيه،: في قوله تعالى: و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة الآية قال: و اختلف في حد الإعسار فروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته و قوت عياله على الاقتصاد.

و فيه،: أنه أي إنظار المعسر واجب في كل دين: عن ابن عباس و الضحاك و الحسن و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

و فيه،! قال الباقر (عليه السلام): إلى ميسرة معناه إذا بلغ خبره الإمام فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في المعروف.

و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) قال: صعد رسول الله المنبر ذات يوم فحمد الله و أثنى عليه و صلى على أنبيائه ثم قال: أيها الناس ليبلغ الشاهد منكم الغائب، ألا و من أنظر معسرا كان له على الله في كل يوم صدقة بمثل ماله حتى يستوفيه، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة و أن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون أنه معسر فتصدقوا عليه بمالكم فهو خير لكم.

أقول: و الرواية تشتمل على تفسير قوله: إن كنتم تعلمون، و قد مر له معنى آخر، و الروايات في هذه المعاني و ما يلحق بها كثيرة و المرجع فيها كتاب الدين من الفقه.

بحث علمي

تقدم مرارا في المباحث السابقة: أن لا هم للإنسان في حياته إلا أن يأتي بما يأتي من أعماله لاقتناء كمالاته الوجودية، و بعبارة أخرى لرفع حوائجه المادية، فهو يعمل عملا متعلقا بالمادة بوجه، و يرفع به حاجته الحيوية، فهو مالك لعمله و ما عمله و العمل في هذا الباب أعم من الفعل و الانفعال و كان نسبة و رابطة يرتب عليه الأثر عند أهل الاجتماع أي أنه يخص ما عمل فيه من المادة لنفسه، و يعده ملكا جائز التصرف لشخصه، و العقلاء من أهل الاجتماع يجيزون له ذلك فافهم.

لكنه لما كان لا يسعه أن يرفع جميع حوائجه بعمل نفسه وحدة دعي ذلك إلى الاجتماع التعاوني و أن ينتفع كل بعمل غيره و ما حازه و ملكه غيره بعمله، فأدى ذلك إلى المعاوضة بينهم، و استقر ذلك بأن يعمل الإنسان في باب واحد أو في أبواب معدودة من أبواب العمل و يملك بذلك أشياء ثم يأخذ مقدار ما يرفع به حاجته، و يعوض ما يزيد على حاجته مما ليس عنده من مال الغير، و هذا أصل المعاملة و المعاوضة.

غير أن التباين التام بين الأموال و الأمتعة من حيث النوع، و من حيث شدة الحاجة و ضعفها، و من حيث كثرة الوجود و قلته يولد الإشكال في المعاوضة، فإن الفاكهة لغرض الأكل، و الحمار لغرض الحمل، و الماء لغرض الشرب، و الجوهرة الثمينة للتقلد و التختم مثلا لها أوزان و قيم مختلفة في حاجة الحياة، و نسب مختلفة لبعضها إلى بعض.

فمست الحاجة إلى اعتبار القيمة بوضع الفلوس و الدرهم و الدينار، و كان الأصل في وضعه: أنهم جعلوا شيئا من الأمتعة العزيزة الوجود كالذهب مثلا أصلا يرجع إليه بقية الأمتعة و السلعات فكان كالواحد التام من النوع يجعل مقياسا لبقية أفراده كالمثاقيل و المكائيل و غيرهما، فكان الواحد من وجه النقد يقدر به القيمة العامة و يقوم به كل شيء من الأمتعة فيتعين به نسبة كل واحد منها بالنسبة إليه و نسبة بعضها إلى بعض.

ثم إنهم لتعميم الفائدة وضعوا آحاد المقاييس للأشياء كواحد الطول من الذراع و نحوه، و واحد الحجم و هو الكيل، و واحد الثقل و الوزن كالمن و نحوه، و عند ذلك تعينت النسب و ارتفع اللبس، و بان مثلا أن القيراط من الألماس يعدل أربعة من الدنانير و المن من دقيق الحنطة عشر دينار واحد، و تبين بذلك أن القيراط من الألماس يعدل أربعين منا من دقيق الحنطة مثلا و على هذا القياس.

ثم توسعوا في وضع نقود أخر من أجناس شتى نفيسة أو رخيصة للتسهيل و التوسعة كنقود الفضة و النحاس و البرنز و الورق و النوط على ما يشرحه كتب الاقتصاد.

ثم افتتح باب الكسب و التجارة بعد رواج البيع و الشراء بأن تعين البعض من الأفراد بتخصيص عمله و شغله بالتعويض و تبديل نوع من المتاع بنوع آخر لابتغاء الربح الذي هو نوع زيادة فيما يأخذه قبال ما يعطيه من المتاع.

فهذه أعمال قدمها الإنسان بين يديه لرفع حوائجه في الحياة، و استقر الأمر بالآخرة على أن الحاجة العمومية كأنها عكفت على باب الدرهم و الدينار، فكان وجه القيمة كأنه هو المال كله، و كأنه كل متاع يحتاج إليه الإنسان لأنه الذي يقدر الإنسان بالحصول عليه على الحصول بكل ما يريده و يحتاج إليه مما يتمتع به في الحياة، و ربما جعل سلعة فاكتسب عليه كما يكتسب على سائر السلع و الأمتعة و هو الصرف.

و قد ظهر بما مر: أن أصل المعاملة و المعاوضة قد استقر على تبديل متاع من متاع آخر مغاير له لمسيس الحاجة بالبدل منه كما في أصل المعاوضة، أو لمسيس الحاجة إلى الربح الذي هو زيادة في المبدل منه من حيث القيمة، و هذا أعني المغايرة هو الأصل الذي يعتمد عليه حياة المجتمع، و أما المعاملة بتبديل السلعة من ما يماثله في النوع أو ما يماثله مثلا فإن كان من غير زيادة كقرض المثل بالمثل مثلا فربما اعتبره العقلاء لمسيس الحاجة به و هو مما يقيم أود الاجتماع، و يرفع حاجة المحتاج و لا فساد يترتب عليه، و إن كان مع زيادة في المبدل منه و هي الربح فذلك هو الربا، فلننظر ما ذا نتيجة الربا؟ الربا - و نعني به تبديل المثل بالمثل و زيادة كإعطاء عشرة إلى أجل، أو إعطاء سلعة بعشرة إلى أجل و أخذ اثنتي عشرة عند حلول الأجل و ما أشبه ذلك - إنما يكون عند اضطرار المشتري أو المقترض إلى ما يأخذه بالإعسار و الإعواز بأن يزيد قدر حاجته على قدر ما يكتسبه من المال كأن يكتسب ليومه في أوسط حاله عشرة و هو يحتاج إلى عشرين فيقرض العشر الباقي باثني عشر لغد و لازمه أن له في غده ثمانية و هو يحتاج إلى عشرين، فيشرع من هناك معدل معيشته و حياته في الانمحاق و الانتقاص و لا يلبث زمانا طويلا حتى تفنى تمام ما يكتسبه و يبقى تمام ما يقترضه، فيطالب بالعشرين و ليس له و لا واحد 20 - 0 = المال و هو الهلاك و فناء السعي في الحياة.

و أما المرابي فيجتمع عنده العشرة التي لنفسه و العشرة التي للمقترض، و ذلك تمام العشرين، فيجتمع جميع المالين في جانب و يخلو الجانب الآخر من المال، و ليس إلا لكون الزيادة مأخوذة من غير عوض مالي، فالربا يؤدي إلى فناء طبقة المعسرين و انجرار المال إلى طبقة الموسرين، و يؤدي ذلك إلى تأمر المثرين من المرابين، و تحكمهم في أموال الناس و أعراضهم و نفوسهم في سبيل جميع ما يشتهون و يتهوسون لما في الإنسان من قريحة التعالي و الاستخدام، و إلى دفاع أولئك المستخدمين المستذلين عن أنفسهم فيما وقعوا فيه من مر الحياة بكل ما يستطيعونه من طرق الدفاع و الانتقام، و هذا هو الهرج و المرج و فساد النظام الذي فيه هلاك الإنسانية و فناء المدنية.

هذا مع ما يتفق عليه كثيرا من ذهاب المال الربوي من رأس فما كل مدين تراكمت عليه القروض يقدر على أداء ديونه أو يريد ذلك.

هذا في الربا المتداول بين الأغنياء و أهل العسرة، و أما الذي بين غيرهم كالربا التجاري الذي يجري عليه أمر البنوك و غيرها كالربا على القرض و الاتجار به فأقل ما فيه أنه يوجب انجرار المال تدريجا إلى المال الموضوع للربا من جانب، و يوجب ازدياد رءوس أموال التجارة و اقتدارها أزيد مما هي عليها بحسب الواقع، و وقوع التطاول بينها و أكل بعضها، بعضا و انهضام بعضها في ب
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 2:29 pm

و أكل بعضها، بعضا و انهضام بعضها في بعض، و فناء كل في ما هو أقوى منه فلا يزال يزيد في عدد المحتاجين بالإعسار، و يجتمع الثروة بانحصارها عند الأقلين، و عاد المحذور الذي ذكرناه آنفا.

و لا يشك الباحث في مباحث الاقتصاد أن السبب الوحيد في شيوع الشيوعية، و تقدم مرام الاشتراك هو التراكم الفاحش في الثروة عند أفراد، و تقدمهم البارز في مزايا الحياة، و حرمان آخرين و هم الأكثرون من أوجب واجباتهم، و قد كانت الطبقة المقتدرة غروا هؤلاء الضعفاء بما قرعوا به أسماعهم من ألفاظ المدنية و العدالة و الحرية و التساوي في حقوق الإنسانية، و كانوا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، و يعنون بها معاني هي في الحقيقة أضداد معانيها، و كانوا يحسبون أنها يسعدهم في ما يريدونه من الإتراف و استذلال الطبقة السافلة و التعالي عليهم، و التحكم المطلق بما شاءوا، و أنها الوسيلة الوحيدة لسعادتهم في الحياة لكنهم لم يلبثوا دون أن صار ما حسبوه لهم عليهم، و رجع كيدهم و مكرهم إلى أنفسهم، و مكروا و مكر الله و الله خير الماكرين، و كان عاقبة الذين أساءوا السوآى، و الله سبحانه أعلم بما تصير إليه هذه النشأة الإنسانية في مستقبل أيامها، و من مفاسد الربا المشئومة تسهيله الطريق إلى كنز الأموال، و حبس الألوف و الملايين في مخازن البنوك عن الجريان في البيع و الشرى، و جلوس قوم على أريكة البطالة و الإتراف، و حرمان آخرين من المشروع الذي تهدي إليه الفطرة و هو اتكاء الإنسان في حياته على العمل، فلا يعيش بالعمل عدة لإترافهم، و لا يعيش به آخرون لحرمانهم.

بحث آخر علمي

قال الغزالي في كتاب الشكر من الإحياء:، من نعم الله تعالى خلق الدراهم و الدنانير و بهما قوام الدنيا، و هما حجران لا منفعة في أعيانهما و لكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه و ملبسه و سائر حاجاته، و قد يعجز عما يحتاج إليه و يملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران و هو محتاج إلى جمل يركبه و من يملك الجمل و ربما يستغني عنه و يحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة، و لا بد في مقدار العوض من تقدير إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران، و لا مناسبة بين الزعفران و الجمل حتى يقال: يعطى مثله في الوزن أو الصورة، و كذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها، فلا يدري أن الجمل كم يسوي بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا، فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينهما يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته و منزلته حتى إذا تقررت المراتب، و ترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير و الدراهم حاكمين و متوسطين بين الأموال حتى تقدر الأموال بهما، فيقال: هذا الجمل يساوي مائة دينار و هذا المقدار من الزعفران يسوي مائة، فهما من حيث إنهما متساويان لشيء واحد متساويان، و إنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما، و لو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحا و لم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر، فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي، و يكونا حاكمين بين الأموال بالعدل.

و لحكمة أخرى و هي: التوسل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما عزيزان في أنفسهما، و لا غرض في أعيانهما، و نسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء، لا كمن ملك ثوبا فإنه لم يملك إلا الثوب، فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لأن غرضه في دابة مثلا، فاحتيج إلى شيء آخر هو في صورته كأنه ليس بشيء و هو في معناه كأنه كل الأشياء، و الشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذ لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها، كالمرآة لا لون لها و تحكي كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه و هو وسيلة إلى كل غرض، و كالحرف لا معنى له في نفسه و تظهر به المعاني في غيره، فهذه هي الحكمة الثانية.

و فيهما أيضا حكم يطول ذكرها.

ثم قال ما محصله: إنهما لما كانا من نعم الله تعالى من جهة هذه الحكم المترتبة عليهما كان من عمل فيهما بعمل ينافي الحكم المقصودة منهما فقد كفر بنعمة الله.

و فرع على ذلك حرمة كنزهما فإنه ظلم و إبطال لحكمتهما، إذ كنزهما كحبس الحاكم بين الناس في سجن و منعه عن الحكم بين الناس و إلقاء الهرج بين الناس من غير وجود من يرجعون إليه بالعدل.

و فرع عليه حرمة اتخاذ آنية الذهب و الفضة فإن فيه قصدهما بالاستقلال و هما مقصودان لغيرهما، و ذلك ظلم كمن اتخذ حاكم البلد في الحياكة و المكس و الأعمال التي يقوم بها أخساء الناس.

و فرع عليه أيضا حرمة معاملة الربا على الدراهم و الدنانير فإنه كفر بالنعمة و ظلم، فعنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما، إذ لا غرض يتعلق بأعيانهما.

و قد اشتبه عليه الأمر في اعتبار أصلهما و الفروع التي فرعها على ذلك: أما أولا: فإنه ذكر أن لا غرض يتعلق بهما في أنفسهما، و لو كان كذلك لم يمكن أن يقدرا غيرهما من الأمتعة و الحوائج، و كيف يجوز أن يقدر شيء شيئا بما ليس فيه؟ و هل يمكن أن يقدر الذراع طول شيء إلا بالطول الذي له؟ أو يقدر المن ثقل شيء إلا بثقله الذي فيه؟.

على أن اعترافه بكونهما عزيزين في نفسهما لا يستقيم إلا بكونهما مقصودين لأنفسهما، و كيف يتصور عزة و كرامة من غير مطلوبية.

على أنها لو لم يكونا إلا مقصودين لغيرهما بالخلقة لم يكن فرق بين الدينار و الدرهم أعني الذهب و الفضة في الاعتبار، و الواقع يكذب ذلك، و لكان جميع أنواع النقود متساوية القيم، و لم يقع الاعتبار على غيرهما من الأمتعة كالجلد و الملح و غيرهما.

و أما ثانيا: فلأن الحكمة المقتضية لحرمة الكنز ليس هي إعطاء المقصودية بالاستقلال لهما، بل ما يظهر من قوله تعالى: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله الآية:» التوبة - 34، من تحريم الفقراء عن الارتزاق بهما مع قيام الحاجة إلى العمل و المبادلة دائما كما سيجيء بيان ذلك في تفسير الآية.

و أما ثالثا: فلأن ما ذكره من الوجه في تحريم اتخاذ آنية الذهب و الفضة و كونه ظلما و كفرا موجود في اتخاذ الحلي منهما، و كذا في بيع الصرف، و لم يعدا في الشرع ظلما و كفرا و لا حراما.

و أما رابعا: فلأن ما ذكر من المفسدة لو كان موجبا لما ذكره من الظلم و الكفر بالنعمة لجرى في مطلق الصرف كما يجري في المعاملة الربوية بالنسيئة و القرض، و لم يجر في الربا الذي في المكيل و الموزون مع أن الحكم واحد، فما ذكره غير تام جمعا و منعا.

و الذي ذكره تعالى في حكمة التحريم منطبق على ما قدمناه من أخذ الزيادة من غير عوض.

قال تعالى: «و ما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله و ما آتيتم من زكوة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون:» الروم - 39، فجعل الربا رابيا في أموال الناس و ذلك أنه ينمو بضم أجزاء من أموال الناس إلى نفسه كما أن البذر من النبات ينمو بالتغذي من الأرض و ضم أجزائها إلى نفسه، فلا يزال الربا ينمو و يزيد هو و ينقص أموال الناس حتى يأتي إلى آخرها، و هذا هو الذي ذكرناه فيما تقدم، و بذلك يظهر أن المراد بقوله تعالى: و إن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون الآية يعني به لا تظلمون الناس و لا تظلمون من قبلهم أو من قبل الله سبحانه فالربا ظلم على الناس.


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

بيان

قوله تعالى: إذا تداينتم «إلخ»، التداين، مداينة بعضهم بعضا، و الإملال و الإملاء إلقاء الرجل للكاتب ما يكتبه، و البخس هو النقص و الحيف و السأمة هي الملال، و المضارة مفاعلة من الضرر و يستعمل لما بين الاثنين و غيره.

و الفسوق هو الخروج عن الطاعة.

و الرهان، و قرىء فرهن بضمتين و كلاهما جمع الرهن بمعنى المرهون.

و الإظهار الواقع في موقع الإضمار في قوله تعالى: فإن كان الذي عليه الحق، لرفع اللبس برجوع الضمير إلى الكاتب السابق ذكره.

و الضمير البارز في قوله: أن يمل هو فليملل وليه، فائدته تشريك من عليه الحق مع وليه، فإن هذه الصورة تغاير الصورتين الأوليين بأن الولي في الصورتين الأوليين هو المسئول بالأمر المستقل فيه بخلاف هذه الصورة فإن الذي عليه الحق يشارك الولي في العمل فكأنه قيل: ما يستطيعه من العمل فعليه ذلك و ما لا يستطيعه هو فعلى وليه.

و قوله: أن تضل إحداهما، على تقدير حذر أن تضل إحداهما، و في قوله: إحداهما الأخرى وضع الظاهر موضع المضمر، و النكتة فيه اختلاف معنى اللفظ في الموضعين، فالمراد من الأول إحداهما لا على التعيين، و من الثاني إحداهما بعد ضلال الأخرى، فالمعنيان مختلفان.

و قوله و اتقوا أمر بالتقوى فيما ساقه الله إليهم في هذه الآية من الأمر و النهي، و أما قوله: و يعلمكم الله و الله بكل شيء عليم، فكلام مستأنف مسوق في مقام الامتنان كقوله تعالى في آية الإرث: «يبين الله لكم أن تضلوا:» النساء - 176، فالمراد به الامتنان بتعليم شرائع الدين و مسائل الحلال و الحرام.

و ما قيل: إن قوله: و اتقوا الله و يعلمكم الله يدل على أن التقوى سبب للتعليم الإلهي، فيه أنه و إن كان حقا يدل عليه الكتاب و السنة، لكن هذه الآية بمعزل عن الدلالة عليه لمكان واو العطف على أن هذا المعنى لا يلائم سياق الآية و ارتباط ذيلها بصدرها.

و يؤيد ما ذكرنا تكرار لفظ الجلالة ثانيا فإنه لو لا كون قوله و يعلمكم الله، كلاما مستأنفا كان مقتضى السياق أن يقال: يعلمكم بإضمار الفاعل، ففي قوله تعالى: و اتقوا الله و يعلمكم الله و الله بكل شيء عليم، أظهر الاسم أولا و ثانيا لوقوعه في كلامين مستقلين، و أظهر ثالثا ليدل به على التعليل، كأنه قيل: هو بكل شيء عليم لأنه الله.

و اعلم: أن الآيتين تدلان على ما يقرب من عشرين حكما من أصول أحكام الدين و الرهن و غيرهما، و الأخبار فيها و فيما يتعلق بها كثيرة لكن البحث عنها راجع إلى الفقه، و لذلك آثرنا الإغماض عن ذلك فمن أراد البحث عنها فعليه بمظانه من الفقه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 2:36 pm

لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)

بيان

قوله تعالى: لله ما في السموات و ما في الأرض، كلام يدل على ملكه تعالى لعالم الخلق مما في السماوات و الأرض، و هو توطئة لقوله بعده: و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، أي إن له ما في السماوات و الأرض و من جملتها أنتم و أعمالكم و ما اكتسبتها نفوسكم، فهو محيط بكم مهيمن على أعمالكم لا يتفاوت عنده كون أعمالكم بادية ظاهرة، أو خافية مستورة فيحاسبكم عليها.

و ربما استظهر من الآية: كون السماء مسانخا لأعمال القلوب و صفات النفس فما في النفوس هو مما في السماوات، و لله ما في السماوات كما أن ما في النفوس إذا أبدي بعمل الجوارح كان مما في الأرض، و لله ما في الأرض فما انطوى في النفوس سواء أبدي أو أظهر مملوك لله محاط له سيتصرف فيه بالمحاسبة.

قوله تعالى: و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، الإبداء هو الإظهار مقابل الإخفاء، و معنى ما في أنفسكم ما استقر في أنفسكم على ما يعرفه أهل العرف و اللغة من معناه، و لا مستقر في النفس إلا الملكات و الصفات من الفضائل و الرذائل كالإيمان و الكفر و الحب و البغض و العزم و غيرها فإنها هي التي تقبل الإظهار و الإخفاء.

أما إظهارها فإنما تتم بأفعال مناسبة لها تصدر من طريق الجوارح يدركها الحس و يحكم العقل بوجود تلك المصادر النفسية المسانخة لها، إذ لو لا تلك الصفات و الملكات النفسانية من إرادة و كراهة و إيمان و كفر و حب و بغض و غير ذلك لم تصدر هذه الأفعال، فبصدور الأفعال يظهر للعقل وجود ما هو منشؤها.

و أما إخفاؤها فبالكف عن فعل ما يدل على وجودها في النفس.

و بالجملة ظاهر قوله: ما في أنفسكم، الثبوت و الاستقرار في النفس، و لا يعني بهذا الاستقرار التمكن في النفس بحيث يمتنع الزوال كالملكات الراسخة، بل ثبوتا تاما يعتد به في صدور الفعل كما يشعر به قوله: إن تبدوا و قوله: أو تخفوه فإن الوصفين يدلان على أن ما في النفس بحيث يمكن أن يكون منشأ للظهور أو غير منشإ له و هو الخفاء، و هذه الصفات يمكن أن تكون كذلك سواء كانت أحوالا أو ملكات، و أما الخطورات و الهواجس النفسانية الطارقة على النفس من غير إرادة من الإنسان و كذلك التصورات الساذجة التي لا تصديق معها كتصور صور المعاصي من غير نزوع و عزم فلفظ الآية غير شامل لها البتة لأنها كما عرفت غير مستقرة في النفس، و لا منشأ لصدور الأفعال.

فتحصل: أن الآية إنما تدل على الأحوال و الملكات النفسانية التي هي مصادر الأفعال من الطاعات و المعاصي، و أن الله سبحانه و تعالى يحاسب الإنسان بها، فتكون الآية في مساق قوله تعالى: «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم:» البقرة - 225، و قوله تعالى: «فإنه آثم قلبه»: البقرة - 283، و قوله تعالى: «إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا:» الإسراء - 36، فجميع هذه الآيات دالة على أن للقلوب و هي النفوس أحوالا و أوصافا يحاسب الإنسان بها، و كذا قوله تعالى: «إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا و الآخرة:» النور - 9، فإنها ظاهرة في أن العذاب إنما هو على الحب الذي هو أمر قلبي، هذا.

فهذا ظاهر الآية و يجب أن يعلم: أن الآية إنما تدل على المحاسبة بما في النفوس سواء أظهر أو أخفى، و أما كون الجزاء في صورتي الإخفاء و الإظهار على حد سواء، و بعبارة أخرى كون الجزاء دائرا مدار العزم سواء فعل أو لم يفعل و سواء صادف الفعل الواقع المقصود أو لم يصادف كما في صورة التجري مثلا فالآية غير ناظرة إلى ذلك.

و قد أخذ القوم في معنى الآية مسالك شتى لما توهموا أنها تدل على المؤاخذة على كل خاطر نفساني مستقر في النفس أو غيره و ليس إلا تكليفا بما لا يطاق، فمن ملتزم بذلك و من مؤول يريد به التخلص.

فمنهم من قال: إن الآية تدل على المحاسبة بكل ما يرد القلب، و هو تكليف بما لا يطاق، لكن الآية منسوخة بما يتلوها من قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها الآية.

و فيه: أن الآية غير ظاهرة في هذا العموم كما مر.

على أن التكليف بما لا يطاق غير جائز بلا ريب.

على أنه تعالى يخبر بقوله: «و ما جعل عليكم في الدين من حرج:» الحج - 78، بعدم تشريعه في الدين ما لا يطاق.

و منهم من قال: إن الآية مخصوصة بكتمان الشهادة و مرتبطة بما تقدمتها من آية الدين المذكورة فيها و هو مدفوع بإطلاق الآية كقول من قال: إنها مخصوصة بالكفار.

و منهم من قال: إن المعنى أن تبدوا بأعمالكم ما في أنفسكم من السوء بأن تتجاهروا و تعلنوا بالعمل أو تخفوه بأن تأتوا الفعل خفية يحاسبكم به الله.

و منهم من قال: إن المراد بالآية مطلق الخواطر إلا أن المراد بالمحاسبة الأخبار أي جميع ما يخطر ببالكم سواء أظهرتموها أو أخفيتموها فإن الله يخبركم به يوم القيامة فهو في مساق قوله تعالى: «فينبؤكم بما كنتم تعملون:» المائدة - 105، و يدفع هذا و ما قبله؟ بمخالفة ظاهر الآية كما تقدم.

قوله تعالى: فيغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و الله على كل شيء قدير، الترديد في التفريع بين المغفرة و العذاب لا يخلو من الإشعار بأن المراد بما في النفوس هي الصفات و الأحوال النفسانية السيئة، و إن كانت المغفرة ربما استعملت في القرآن في غير مورد المعاصي أيضا لكنه استعمال كالنادر يحتاج إلى مئونة القرائن الخاصة.

و قوله: و الله تعليل راجع إلى مضمون الجملة الأخيرة، أو إلى مدلول الآية بتمامها.

بحث روائي

في صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لله ما في السموات و ما في الأرض - و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اشتد ذلك على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم جثوا على الركب فقالوا يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة و الصيام و الجهاد و الصدقة و قد أنزل الله هذه الآية و لا نطيقها. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ تريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا و عصينا؟ بل قولوا: سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير. فلما اقترأها القوم و ذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إلى آخرها: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن أحمد و مسلم و أبي داود في ناسخه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن أبي هريرة، و روي قريبا منه بعدة من الطرق عن ابن عباس.

و روى النسخ أيضا بعدة طرق عن غيرهما كابن مسعود و عائشة.

و روي عن الربيع بن أنس: أن الآية محكمة غير منسوخة و إنما المراد بالمحاسبة ما يخبر الله العبد به يوم القيامة بأعماله التي عملها في الدنيا.

و روي عن ابن عباس بطرق: أن الآية مخصوصة بكتمان الشهادة و أدائها. فهي محكمة غير منسوخة.

و روي عن عائشة أيضا: أن المراد بالمحاسبة ما يصيب الرجل من الغم و الحزن إذا هم بالمعصية و لم يفعلها، فالآية أيضا محكمة غير منسوخة.

و روي من طريق علي عن ابن عباس: في قوله: و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه: فذلك سرائرك و علانيتك يحاسبكم به الله فإنها لم تنسخ، و لكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم و يغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم و هو قوله: يحاسبكم به الله يقول يخبركم. و أما أهل الشك و الريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، و هو قوله: و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم.

أقول: و الروايات على اختلافها في مضامينها مشتركة في أنها مخالفة لظاهر القرآن على ما تقدم أن ظاهر الآية هو: أن المحاسبة إنما تقع على ما كسبته القلوب إما في نفسها و إما من طريق الجوارح، و ليس في الخطور النفساني كسب، و لا يتفاوت في ذلك الشهادة و غيرها و لا فرق في ذلك بين المؤمن و الكافر، و ظاهر المحاسبة هو المحاسبة بالجزاء دون الإخبار بالخطورات و الهمم النفسانية، فهذا ما تدل عليه الآية و تؤيده سائر الآيات على ما تقدم.

و أما حديث النسخ خاصة ففيه وجوه من الخلل يوجب سقوطه عن الحجية: أولها: مخالفته لظاهر الكتاب على ما تقدم بيانه.

ثانيها: اشتماله على جواز تكليف ما لا يطاق و هو مما لا يرتاب العقل في بطلانه.

و لا سيما منه تعالى، و لا ينفع في ذلك النسخ كما لا يخفى، بل ربما زاد إشكالا على إشكال فإن ظاهر قوله في الرواية: فلما اقترأها القوم «إلخ» أن النسخ إنما وقع قبل العمل و هو محذور.

ثالثها: أنك ستقف في الكلام على الآيتين التاليتين: أن قوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لا يصلح لأن يكون ناسخا لشيء، و إنما يدل على أن كل نفس إنما يستقبلها ما كسبته سواء شق ذلك عليها أو سهل، فلو حمل عليها ما لا تطيقه، أو حمل عليها إصر كما حمل على الذين من قبلنا فإنما هو أمر كسبته النفس بسوء اختيارها فلا تلومن إلا نفسها فالجملة أعني قوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، كالمعترضة لدفع الدخل.

رابعها: أنه سيجيء أيضا: أن وجه الكلام في الآيتين ليس إلى أمر الخطورات النفسانية أصلا، و مواجهة الناسخ للمنسوخ مما لا بد منه في باب النسخ.

بل قوله تعالى: آمن الرسول إلى آخر الآيتين مسوق لبيان غرض غير الغرض الذي سيق لبيانه قوله تعالى: لله ما في السموات و ما في الأرض إلى آخر الآية على ما سيأتي إن شاء الله.


آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

بيان

الكلام في الآيتين كالفذلكة يحصل بها إجمال ما اشتملت عليه السورة من التفاصيل المبينة لغرضها، و قد مر في ما مر أن غرض السورة بيان أن من حق عبادة الله تعالى: أن يؤمن بجميع ما أنزل على عباده بلسان رسله من غير تفرقة بين رسله، و هذا هو الذي تشتمل عليه الآية الأولى من قوله، آمن الرسول إلى قوله: من رسله، و في السورة قصص تقص ما أنعم الله به على بني إسرائيل من أنواع نعمه من الكتاب و النبوة و الملك و غيرها و ما قابلوه من العصيان و التمرد و نقض المواثق و الكفر، و هذا هو الذي يشير إليه و إلى الالتجاء بالله في التجنب عند ذيل الآية الأولى و تمام الآية الثانية، فالآيتين يرد آخر الكلام في السورة إلى أوله و ختمه إلى بدئه.

و من هنا يظهر خصوصية مقام البيان في هاتين الآيتين، توضيحه: أن الله سبحانه افتتح هذه السورة بالوصف الذي يجب أن يتصف به أهل التقوى، أعني ما يجب على العبد من إيفاء حق الربوبية، فذكر أن المتقين من عباده يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و ينفقون من رزق الله و يؤمنون بما أنزل الله على رسوله و على الرسل من قبله و يوقنون بالآخرة، فلا جرم أنعم الله عليهم بهداية القرآن، و بين بالمقابلة حال الكفار و المنافقين.

ثم فصل القول في أمر أهل الكتاب و خاصة اليهود و ذكر أنه من عليهم بلطائف الهداية، و أكرمهم بأنواع النعم، و عظائم الحباء، فلم يقابلوه إلا بالعتو و عصيان الأمر و كفر النعمة، و الرد على الله و على رسله، و معاداة ملائكته، و التفريق بين رسل الله و كتبه.

فقابلهم الله بحمل الإصر الشاق من الأحكام عليهم كقتلهم أنفسهم و تحميلهم ما لا طاقة لهم به كالمسخ و نزول الصاعقة و الرجز من السماء عليهم.

ثم عاد في خاتمة البيان إلى وصف حال الرسول و من تبعه من المؤمنين فذكر أنهم على خلاف أهل الكتاب ما قابلوا ربهم فيما أنعم عليهم بالهداية و الإرشاد إلا بأنعم القبول و السمع و الطاعة، مؤمنين بالله و ملائكته و كتبه و رسله، غير مفرقين بين أحد من رسله، و هم في ذلك حافظون لحكم موقفهم الذي أحاطت به ذلة العبودية و عزة الربوبية، فإنهم مع إجابتهم المطلقة لداعي الحق اعترفوا بعجزهم عن إيفاء حق الإجابة.

لأن وجودهم مبني على الضعف و الجهل فربما قصروا عن التحفظ بوظائف المراقبة بنسيان أو خطإ، أو قصروا في القيام بواجب العبودية فخانتهم أنفسهم بارتكاب سيئة يوردهم مورد السخط و المؤاخذة كما أورد أهل الكتاب من قبلهم، فالتجئوا إلى جناب العزة و منبع الرحمة أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطئوا، و لا يحمل عليهم إصرا، و لا يحملهم ما لا طاقة لهم به، و أن يعفو عنهم و يغفر لهم و ينصرهم على القوم الكافرين.

فهذا هو المقام الذي يعتمد عليه البيان في الآيتين الكريمتين، و هو الموافق كما ترى للغرض المحصل من السورة، لا ما ذكروه: أن الآيتين متعلقتا المضمون بقوله في الآية السابقة: أن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية الدال على التكليف بما لا يطاق، و أن الآية الأولى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون الآية، حكاية لقبول الأصحاب تكليف ما لا يطاق، و الآية الثانية ناسخة لذلك!.

و ما ذكرناه هو المناسب لما ذكروا في سبب النزول: أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة فإن هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة و استقراره فيها لما قارن الاستقبال التام من مؤمني الأنصار للدين الإلهي و قيامهم لنصرة رسول الله بالأموال و الأنفس، و ترك المؤمنين من المهاجرين الأهلين و البنين و الأموال و الأوطان في جنب الله و لحوقهم برسوله كان هو الموقع الذي يناسب أن يقع فيه حمد من الله سبحانه لإجابتهم دعوة نبيه بالسمع و القبول، و شكر منه لهم، هذا، و يدل عليه بعض الدلالة آخر الآية: أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين فإن الجملة يومىء إلى أن سؤالهم هذا كان في أوائل ظهور الإسلام.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالسبت يناير 08, 2011 2:38 pm

و في الآية من الإجمال و التفصيل، و الإيجاز ثم الإطناب، و أدب العبودية و جمع مجامع الكمال و السعادة عجائب.

قوله تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون، تصديق لإيمان الرسول و المؤمنين، و إنما أفرد رسول الله عنهم بالإيمان بما أنزل إليه من ربه ثم ألحقهم به تشريفا له، و هذا دأب القرآن في الموارد التي تناسب التشريف أن يكرم النبي بإفراده و تقديم ذكره ثم اتباع ذلك بذكر المؤمنين كقوله تعالى: «فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين:» الفتح - 26، و قوله تعالى: «يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا:» التحريم - 8.

قوله تعالى: كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله، تفصيل للإجمال الذي تدل عليه الجملة السابقة، فإن ما أنزل إلى رسول الله يدعو إلى الإيمان و تصديق الكتب و الرسل و الملائكة الذين هم عباد مكرمون، فمن آمن بما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد آمن بجميع ذلك، كل على ما يليق به.

قوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله، حكاية لقولهم من دون توسيط لفظ القول، و قد مر في قوله تعالى: «و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم:» البقرة - 127، النكتة العامة في هذا النحو من الحكاية، و أنه من أجمل السياقات القرآنية، و النكتة المختصة بالمقام مضافا إلى أن فيه تمثيلا لحالهم و قالهم أن هذا الكلام إنما هو كلام منتزع من خصوص حالهم في الإيمان بما أنزل الله تعالى، فهم لم يقولوه إلا بلسان حالهم، و إن كانوا قالوه فقد قاله كل منهم وحده و في نفسه، و أما تكلمهم به لسانا واحدا فليس إلا بلسان الحال.

و من عجيب أمر السياق في هذه الآية ما جمع بين قولين محكيين منهم مع التفرقة في نحو الحكاية أعني قوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله و قالوا سمعنا و أطعنا «إلخ»، حيث حكى البعض من غير توسيط القول و البعض الآخر بتوسيطه، و هما جميعا من قول المؤمنين في إجابة دعوة الداعي.

و الوجه في هذه التفرقة أن قولهم: لا نفرق «إلخ» مقول لهم بلسان حالهم بخلاف قولهم: سمعنا و أطعنا.

و قد بدأ تعالى بالإخبار عن حال كل واحد منهم على نعت الأفراد فقال: كل آمن بالله ثم عدل إلى الجمع فقال: لا نفرق بين أحد إلى آخر الآيتين، لأن الذي جرى من هذه الأمور في أهل الكتاب كان على نعت الجمع كما أن اليهود فرقت بين موسى و بين عيسى و محمد، و النصارى فرقت بين موسى و عيسى، و بين محمد فانشعبوا شعبا و تحزبوا أحزابا و قد كان الله تعالى خلقهم أمة واحدة على الفطرة، و كذلك المؤاخذة و الحمل و التحميل الواقع عليهم إنما وقعت على جماعتهم، و كذلك ما وقع في آخر الآية من سؤال النصرة على الكافرين، كل ذلك أمر مرتبط بالجماعة دون الفرد، بخلاف الإيمان فإنه أمر قائم بالفرد حقيقة.

قوله تعالى: و قالوا سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير، قولهم سمعنا و أطعنا، إنشاء و ليس بإخبار و هو كناية عن الإجابة إيمانا بالقلب و عملا بالجوارح، فإن السمع يكنى به لغة عن القبول و الإذعان.

و الإطاعة تستعمل في الانقياد بالعمل فمجموع السمع و الإطاعة يتم به أمر الإيمان.

و قولهم سمعنا و أطعنا إيفاء لتمام ما على العبد من حق الربوبية في دعوتها.

و هذا تمام الحق الذي جعله الله سبحانه لنفسه على عبده: أن يسمع ليطيع، و هو العبادة كما قال تعالى: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق و ما أريد أن يطعمون:» الذاريات - 57، و قال تعالى: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني:» يس - 61.

و قد جعل سبحانه في قبال هذا الحق الذي جعله لنفسه على عبده حقا آخر لعبده على نفسه و هو المغفرة التي لا يستغني عنه في سعادة نفسه أحد: الأنبياء و الرسل فمن دونهم فوعدهم أن يغفر لهم إن أطاعوه بالعبودية كما ذكره أول ما شرع الشريعة لآدم و ولده فقال: «قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون:» البقرة - 38، و ليس إلا المغفرة.

و القوم لما قالوا: سمعنا و أطعنا و هو الإجابة بالسمع و الطاعة المطلقين من غير تقييد فأوفوا الربوبية حقها سألوه تعالى حقهم الذي جعله لهم و هو المغفرة فقالوا عقيب قولهم سمعنا و أطعنا: غفرانك ربنا و إليك المصير، و المغفرة و الغفران: الستر، و يرجع مغفرته تعالى إلى دفع العذاب و هو ستر على نواقص مرحلة العبودية، و يظهر عند مصير العبد إلى ربه، و لذلك عقبوا قولهم: غفرانك ربنا بقولهم: و إليك المصير.

قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت، الوسع هو الجدة و الطاقة، و الأصل في الوسع هو السعة المكانية ثم يتخيل لقدرة الإنسان شبه الظرفية لما يصدر عنه من الأفعال الاختيارية، فما يقدر عليه الإنسان من الأعمال كأنه تسعه قدرته، و ما لا يقدر عليه لا تسعه فانطبق عليه معنى الطاقة، ثم سميت الطاقة وسعا فقيل: وسع الإنسان أي طاقته و ظرفية قدرته.

و قد عرفت: أن تمام حق الله تعالى على عبده: أن يسمع و يطيع، و من البين أن الإنسان إنما يقول: «سمعا» فيما يمكن أن تقبله نفسه بالفهم، و أما ما لا يقبل الفهم فلا معنى لإجابته بالسمع و القبول.

و من البين أيضا أن الإنسان إنما يقول: «طاعة» فيما يقبل مطاوعة الجوارح و أدوات العمل، فإن الإطاعة هي مطاوعة الإنسان و تأثر قواه و أعضائه عن تأثير الأمر المؤثر مثلا، و أما ما لا يقبل المطاوعة كأن يؤمر الإنسان أن يسمع ببصره، أو يحل بجسمه أزيد من مكان واحد، أو يتولد من أبويه مرة ثانية فلا يقبل إطاعة و لا يتعلق بذلك تكليف مولوي، فأجابه داعي الحق بالسمع و الطاعة لا تتحقق إلا في ما هو اختياري للإنسان تتعلق به قدرته، و هو الذي يكسب به الإنسان لنفسه ما ينفعه أو يضره، فالكسب نعم الدليل على أن ما كسبه الإنسان إنما وجده و تلبس به من طريق الوسع و الطاقة.

فظهر مما ذكرنا أن قوله: لا يكلف الله، كلام جار على سنة الله الجارية بين عباده: أن لا يكلفهم ما ليس في وسعهم من الإيمان بما هو فوق فهمهم و الإطاعة لما هو فوق طاقة قواهم، و هي أيضا السنة الجارية عند العقلاء و ذوي الشعور من خلقه، و هو كلام ينطبق معناه على ما يتضمنه قوله حكاية عن الرسول و المؤمنين: سمعنا و أطعنا من غير زيادة و لا نقيصة.

و الجملة أعني قوله: لا يكلف الله نفسا، متعلقة المضمون بما تقدمها و ما تأخر عنها من الجمل المسرودة في الآيتين.

أما بالنسبة إلى ما تقدمها فإنها تفيد: أن الله لا يكلف عباده بأزيد مما يمكنهم فيه السمع و الطاعة و هو ما في وسعهم أن يأتوا به.

و أما بالنسبة إلى ما تأخر عنها فإنها تفيد أن ما سأله النبي و المؤمنون من عدم المؤاخذة على الخطإ و النسيان، و عدم حمل الإصر عليهم، و عدم تحميلهم ما لا طاقة لهم به، كل ذلك و إن كانت أمورا حرجية لكنها ليست من التكليف بما ليس في الوسع، فإن الذي يمكن أن يحمل عليهم مما لا طاقة لهم به ليس من قبيل التكليف، بل من قبيل جزاء التمرد و المعصية، و أما المؤاخذة على الخطإ و النسيان فإنهما و إن كانا بنفسهما غير اختياريين لكنهما اختياريان من طريق مقدماتهما.

فمن الممكن أن يمنع عنهما مانع بالمنع عن مقدماتهما أو بإيجاب التحفظ عنهما، و خاصة إذا كان ابتلاء الإنسان بهما مستندا إلى سوء الاختيار، و مثله الكلام في حمل الإصر فإنه إذا استند إلى التشديد على الإنسان جزاء لتمرده عن التكاليف السهلة بتبديلها مما يشق عليه و يحترج منه، فإن ذلك ليس من التكليف المنفي عنه تعالى غير الجائز عند العقل، لأنها مما اختاره الإنسان لنفسه بسوء اختياره فلا محذور في توجيهه إليه.

قوله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، لما قالوا في مقام إجابة الدعوة سمعنا و أطعنا و هو قول ينبىء عن الإجابة المطلقة من غير تقييد ثم التفتوا إلى ما عليه وجودهم من الضعف و الفتور، و التفتوا أيضا إلى ما آل إليه أمر الذين كانوا من قبلهم و قد كانوا أمما أمثالهم استرحموا ربهم و سألوه أن لا يعاملهم معاملة من كان قبلهم من المؤاخذة و الحمل و التحميل لأنهم علموا بما علمهم الله أن لا حول و لا قوة إلا بالله، و أن لا عاصم من الله إلا رحمته.

و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إن كان معصوما من الخطإ و النسيان لكنه إنما يعتصم بعصمة الله و يصان به تعالى فصح له أن يسأل ربه ما لا يأمنه من نفسه، و يدخل نفسه لذلك في زمرة المؤمنين.

قوله تعالى: ربنا و لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، الإصر هو الثقل على ما قيل، و قيل هو حبس الشيء بقهره، و هو قريب من المعنى الأول فإن في الحبس حمل الشيء على ما يكرهه و يثقل عليه.

و المراد بالذين من قبلنا: هم أهل الكتاب و خاصة اليهود على ما تشير السورة إلى كثير من قصصهم، و على ما يشير إليه قوله تعالى: «و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم:» الأعراف - 157.

قوله تعالى: ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، المراد بما لا طاقة لنا به ليس هو التكليف الابتدائي بما لا يطاق، إذ قد عرفت أن العقل لا يجوزه أبدا، و أن كلامه تعالى أعني ما حكاه بقوله: و قالوا سمعنا و أطعنا يدل على خلافه بل المراد به جزاء السيئات الواصلة إليهم من تكليف شاق لا يتحمل عادة، أو عذاب نازل، أو رجز مصيب كالمسخ و نحوه.

قوله تعالى: و اعف عنا و اغفر لنا و ارحمنا، العفو محو أثر الشيء، و المغفرة ستره، و الرحمة معروفة، و أما بحسب المصداق فاعتبار المعاني اللغوية يوجب أن يكون سوق الجمل الثلاث من قبيل التدرج من الفرع إلى الأصل، و بعبارة أخرى من الأخص فائدة إلى الأعم، فعليها يكون العفو منه تعالى هو إذهاب أثر الذنب و إمحاؤه كالعقاب المكتوب على المذنب، و المغفرة هي إذهاب ما في النفس من هيئة الذنب و الستر عليه، و الرحمة هي العطية الإلهية التي هي الساترة على الذنب و هيئته.

و عطف هذه الثلاثة أعني قوله: و اعف عنا و اغفر لنا و ارحمنا على قوله: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا على ما للجميع من السياق و النظم يشعر: بأن المراد من العفو و المغفرة و الرحمة ما يتعلق بذنوبهم من جهة الخطإ و النسيان و نحوها.

و منه يظهر أن المراد بهذه المغفرة المسئولة هاهنا غير الغفران المذكور في قوله: غفرانك ربنا فإنه مغفرة مطلقة في مقابلة الإجابة المطلقة على ما تقدم، و هذه مغفرة خاصة في مقابل الذنب عن نسيان أو خطإ، فسؤال المغفرة غير مكرر.

و قد كرر لفظ الرب في هذه الأدعية أربع مرات لبعث صفة الرحمة بالإيماء و التلويح إلى صفة العبودية فإن ذكر الربوبية يخطر بالبال صفة العبودية و المذلة.

قوله تعالى: أنت مولينا فانصرنا على القوم الكافرين، استيناف و دعاء مستقل، و المولى هو الناصر لكن لا كل ناصر بل الناصر الذي يتولى أمر المنصور فإنه من الولاية بمعنى تولي الأمر، و لما كان تعالى وليا للمؤمنين فهو مولاهم فيما يحتاجون فيه إلى نصره، قال تعالى: «و الله ولي المؤمنين:» آل عمران - 68، و قال تعالى: «ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم:» محمد - 11.

و هذا الدعاء منهم يدل على أنهم ما كان لهم بعد السمع و الطاعة لأصل الدين هم إلا في إقامته و نشره و الجهاد لإعلان كلمة الحق، و تحصيل اتفاق كلمة الأمم عليه، قال تعالى: «قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين:» يوسف - 108، فالدعوة إلى دين التوحيد هو سبيل الدين و هو الذي يتعقب الجهاد و القتال و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و سائر أقسام الدعوة و الإنذار، كل ذلك لحسم مادة الاختلاف من بين هذا النوع، و يشير إلى ما به من الأهمية في نظر شارع الدين قوله تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه:» الشورى - 13، فقولهم أنت مولانا فانصرنا يدل على جعلهم الدعوة العامة في الدين أول ما يسبق إلى أذهانهم بعد عقد القلب على السمع و الطاعة، و الله أعلم.

و الحمد لله

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل





تاريخ التسجيل : 31/12/1969

تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة    تفسير سورة البقرة  - صفحة 2 I_icon_minitimeالخميس سبتمبر 01, 2011 9:48 am

ممممممممممممم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تفسير سورة البقرة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 2 من اصل 2انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير سورة البقرة
» القران الكريم :: مشروع حفظ وتفسير سورة البقرة شاطر | المزيد! سورة البقرة : وما فيها من فضائل ومنافع وفوائد
» سورة البقرة بصوت القارئ الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الله بن محمد السديس وهي سورة مدنية وعدد آياتها 286 - mp3
» التفسير الميسر للقرأن الكريم ..تفسير سورة الملك/ - سورة القلم - / الحاقة/ المعارج/نوح/الجن /المزمل/ المدثر /القيامة/**
» أسرار ترتيب سور القرآن الكريم(سورة التحريم .سورة ن .68-سورة ن. سورة الحاقة . سورة نوح . سورة الجن...

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات سيفن ستارز :: المنتدى الاسلامى :: القرأن الكريم-
انتقل الى: