إكرام الجار
الحمد لله الواحد القهار، مكور الليل على النهار، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، أوصى في كتابه العزيز بالجار، فقال: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾ [النساء: 36].
والصلاة والسلام على النبي المختار، وعلى آله وأصحابه الأخيار، ما تعاقب الليل والنهار، القائل - صلى الله عليه وسلم-: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»(1).
لقد كلف الله العبد بأعمالٍ كثيرةٍ وعظيمةٍ في هذه الحياة الدنيا، وذلك التكليف إنما هو للابتلاء والامتحان، قال الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2].
ومما ينبغي أن يكون عليه العبدُ المؤمنُ أن يخلصَ أعماله لله- عز وجل- وأن يعبد الله في القول والعمل، والعمل يكون في القلب كما يكون في الجوارح، وأعظم الأعمال عملُ القلب، وهذه الأعمال هي دليلُ الإيمان وبرهانه، فالأعمال الصالحة طاعاتٌ لله- عز وجل- والإيمان يزيد بها كما ينقصه ضدُّها، وهي المعاصي، ومن ضمن التكاليف العملية في الدين إكرام الجار، فهي مما يزيد الإيمان، والإيمان اعتقادٌ وعملٌ، فهو نطقٌ باللسان، واعتقادٌ بالجنان، وعملٌ بالجوارح والأركان، ومن الإيمان إكرام الجار، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن؟ فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعد خمساً وقال: اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب»(2), والناس جميعاً يبحثون عن السعادة، إلا أن مشاربهم قد اختلفت، ووسائلهم قد تنوعت، وها هو نبي الرحمة، بأبي وأمي هو-صلى الله عليه وسلم- يدل على الخير ويبين الطريق، عن نافع بن عبد الحرث قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من سعادة المرء الجار الصالح والمركب الهنيء والمسكن الواسع»(3).
فما المقصود بالجار؟ هذا هو ما نذكره في أول البحث.
أولاً: معنى الجوار:
1- في اللغة:
الجوار: المجاورة والجار الذي يجاورك، وجاور الرجل مجاورةً وجُوارً وجِواراً، والكسر أفصح، والاسم الجِوار والجُوار، والجارة: الضرة من المجاورة بينهما، أي ترى حسنها فتغيظها بذلك، ومنه حديث عمر، قال لحفصة: ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-منك(4)يعني عائشة، وجارك: الذي يجاورك، والجمع: أجوارٌ وجيرةٌ وجيرانٌ، والمرأة جارة زوجها؛ لأنه مؤتمرٌ عليها، وصار زوجها جارها؛ لأنه يجيرها ويمنعها ولا يعتدي عليها، وقد سمى الأعشى في الجاهلبة امرأته جارة فقال:
أيا جارتا! بِينِي فإنك طالقةٌ *** ومومقةٌ، ما دمتِ فينا، ووامقه.
ويقال للذي يستجير بك: جارٌ، وللذي يجير: جار، والجار الذي أجرته من أن يظلمه ظالمٌ، قال الهذلي:
وكنت إذا جاري دعا لمضُوفةٍ *** أُشمِّر حتى ينصفَ الساقَ مِئزري.
ومن معاني الجار: النِّفِّيخ، وهو الغريب، ومن معانيه: المقاسم والحليف والناصر والشريك في التجارة، والدمث الحسن الجوار، والصِّنّارة السيئ الجوار، وغيرها من المعاني، قال الأزهري: لما كان الجار في كلام العرب محتملاً لجميع المعاني التي ذكرها ابن الأعرابي، لم يجز أن يفسر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الجار أحق بسقبه»(5)، أنه الجار الملاصق إلا بدلالة تدل عليه، فوجب طلب الدلالة على ما أريد به، فقامت الدلالة في سننٍ أخرى مفسرةٍ أن المراد بالجار الشريك الذي لم يقاسم، ولا يجوز أن يجعل الشريك الذي لم يقاسم، ولا يجوز أن يجعل المقاسم مثل الشريك(6).
2- المقصود بإكرام الجار في الشرع:
امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة كالهدية والسلام وطلاقة الوجه عند لقائه وتفقد حاله ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية(7).
قال ابن حجر-رحمه الله-: "واسم الجار يشمل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والغريب والبلدي، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب داراً والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها (وهو الجار المسلم العابد الصديق النافع القريب الأقرب داراً) ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد وعكسه"(. ثانياً: حد الجوار:
يقول ابن حجر: "واختلف في حد الجوار فجاء عن علي -رضي الله عنه-: من سمع النداء فهو جار، وقيل: من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار، وعن عائشة: حد الجوار أربعون داراً من كل جانب، وعن الأوزاعي مثله"(9).
والذي يظهر أن الإسلام لم يجعل للجوار حداً، فهو موكول إلى ما تعارفه الناس، قال ابن عاشور: "واختلف في حد الجوار: فقال ابن شهاب و الأوزاعي: أربعون داراً من كل ناحية، وروي في ذلك حديث وليس عن مالك في ذلك حدٌ، والظاهر أنه موكول إلى ما تعارفه الناس"(10).
ثالثاً: الحث على إكرام الجار في القرآن والسنة والمأثور عن علماء الأمة:
1- في القرآن الكريم -كلام رب العالمين-.
قال الله -تعالى- في محكم التزيل: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾ [النساء: 36].
المقصود بقوله: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾:
عن ابن عباس قوله: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ يعني: الذي بينك وبينه قرابة وعنه أيضاً: يعني: ذا الرحم.
وقال ميمون بن مهران: هو الرجل يتوسل إليك بجوار ذي قرابتك، ورده أبو جعفر قائلاً:
وهذا القول قولٌ مخالفُ المعروف من كلام العرب وذلك أن الموصوف بأنه ذو القرابة في قوله: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ الجار دون غيره فجعله قائل هذه المقالة جار ذي القرابة ولو كان معنى الكلام كما قال ميمون بن مهران لقيل: وجار ذي القربى ولم يقل: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ فكان يكون حينئذ -إذا أضيف الجار إلى ذي القرابة - الوصية ببر جار ذي القرابة دون الجار ذي القربى وأما: ﴿وَالْجَارِ﴾ بالألف واللام فغير جائز أن يكون ذِي الْقُرْبَى إلا من صفة الجار وإذ كان ذلك كذلك كانت الوصية من الله في قوله: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ ببر الجار ذي القرابة.
وقال آخرون: معنى ذلك: والجار ذي القربى منكم بالإسلام، فقال نوف الشامي: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾ المسلم، ورد على ذلك أبو جعفر محمد بن جرير الطبري-رحمه الله-: وهذا أيضا مما لا معنى له وذلك أن تأويل كتاب الله تبارك وتعالى غير جائز صرفه إلا إلى الأغلب من كلام العرب الذين نزل بلسانهم القرآن المعروف فيهم دون الأنكر الذي تتعارفه إلا أن يقوم بخلاف ذلك حجة يجب التسليم لها وإذ كان ذلك كذلك وكان معلوما أن المتعارف من كلام العرب إذا قيل: فلان ذو قرابة إنما يعنى به: أنه قريب الرحم منه دون القرب بالدين كان صرفه إلى القرابة بالرحم أولى من صرفه إلى القرب بالدين(11).
وبهذا يتبين أن المراد من الآية الكريمة أن المقصود بذي القربى: ما ذهب إليه ابن عباس -رضي الله عنهما- من أول قوليه: الذي بينك وبينه قرابة، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً ما ذهب إليه ثانيا وهو ذو الرحم.
المقصود بقوله: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾:
قال القرطبي -رحمه الله-: "والجار الجنُب: بفتح الجيم وسكون النون، قال المهدوي: هو على تقدير حذف المضاف أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية وأنشد الأخفش: "الناس جنب والأمير جنب".
والجنب الناحية: أي المتنحى عن القرابة والله أعلم"(12).
وروي عن عكرمة ومجاهد وميمون بن مهران والضحاك وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وابن عباس: ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ الذي ليس بينك وبينه قرابة(13).
المقصود بقوله: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ﴾:
قال ابن كثير: "قال الثوري عن جابر الجعفي عن الشعبي عن علي وابن مسعود قالا: هي المرأة. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وإبراهيم النخعي والحسن وسعيد بن جبير في إحدى الروايات نحو ذلك، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة: هو الرفيق في السفر، وقال سعيد بن جبير: هو الرفيق الصالح، وقال زيد بن أسلم: هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر"(14) قال القرطبي -رحمه الله-: "قال علي وابن مسعود وابن أبي ليلى: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ﴾ الزوجة, قال ابن جريج: هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك، والأول أصح وهو قول ابن عباس و ابن جبير و عكرمة و مجاهد و الضحاك وقد تتناول الآية الجميع بالعموم والله أعلم"(15).
ومن ذهب إلى القول بأن المقصود: هي الزوجة؛ لأن القرآن الكريم أطلق لفظ الصاحبة وأراد به الزوجة، كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً﴾ [الجن: 3] وقال: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيه ِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ [عبس: 34-36] والمقصود: الزوجة.
وليس في ذلك ما يدل على التخصيص، والأولى العموم كما دلت الآية الكريمة، فيدخل في ذلك الزوجة وكل مصاحب لك ملم بك، ويدخل في ذلك الوالدين دخولاً أولياً فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك». قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أبوك»(16).
فالآية كما ذكر القرطبي -رحمه الله- تتناول الجميع بالعموم.
وقال ابن عاشور: "وقوله: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ﴾ هو المصاحب الملازم للمكان فمنه الضيف ومنه الرفيق في السفر وكل من هو ملم بك لطلب أن تنفعه"(17), والمقصود أن نعرف أن إكرام الجار والإحسان إليه من الأعمال الكريمة والقربات العظيمة التي تزيد الإيمان، والتي دل عليها القرآن.
2- في السنة النبوية:
وقد اهتم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحق الجار وحث عليه بأساليب متنوعة، ويجمعها أمران:
الأمر الأول: الحض على إكرامه بصفة عامة، ومواساته.
الأمر الثاني: التحذير من إيذائه.
فمن أمثلة الأمر الأول ما يأتي:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»(18).
"أي يأمر عن الله بتوريث الجار من جاره واختلف في المراد بهذا التوريث فقيل: يجعل له مشاركة في المال بفرض سهم معطاه مع الأقارب، وقيل المراد: أن ينزل منزلة من يرث بالبر والصلة، والأول أظهر، فإن الثاني استمر والخبر مشعر بأن التوريث لم يقع ويؤيده، ما أخرجه البخاري من حديث جابر نحو حديث الباب بلفظ " حتى ظننت أنه يجعل له ميراثا " وقال بن أبي جمرة: الميراث على قسمين: حسي ومعنوي، فالحسي: هو المراد هنا، والمعنوي: ميراث العلم، ويمكن أن يلحظ هنا أيضاً فإن حق الجار على الجار أن يعلمه ما يحتاج إليه والله أعلم"(19).
قال السيوطي وآخرون: "قوله: «يوصيني بالجار» أي: يوصيني بأن آمر الأمة برعاية حقوق الجار؛ فيكون معنى قوله: «إنه سيورثه» أي: يحكم بتوريث أحد الجارين الآخر، ومن هذا لا يلزم أن يكون له -صلى الله عليه وسلم- ميراث، ولو سلم أن معنى الكلام يوصيني نفسي برعاية حق الجار حتى ظننت انه سيورثه مني، فيكون هذا قبل أن يوحى إليه أن الأنبياء لا يورثون؛ لما ورد في الصحيح أو المراد كمال المبالغة في ذلك حتى انه ظن بالتوريث فيما ليس فيه فافهم"(20).
وعن أبي شريح العدوي قال: سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته»(21).
ومن أمثلة أداء حقوقه ومواساته أن لا يبيع الجار داره لغير جاره إلا بإذنه، عن عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي إذ جاء أبو رافع مولى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا سعد ابتع مني بيتي في دارك فقال سعد: والله ما أبتاعهما فقال المسور: والله لتبتاعنهما فقال سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة أو مقطعة قال أبو رافع لقد أعطيت بها خمسمائة دينار ولولا أني سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم -يقول: «الجار أحق بصقبه» ما أعطيتُكها أربعة آلاف وأنا أعطي بها خمسمائة دينار فأعطاها إياه(22).
قال ابن حجر -رحمه الله-: قوله: أحق بصقبه، بفتح الصاد والقاف بعدها موحدة أي: بجواره(23).
وقد استدل بالحديث من رأى الشفعة للجار، وإن لم يكن شريكاً، والكلام في ذلك مفصل في كتب الفقه وشروح الحديث في الباب الخاص بالشفعة.
ومن ذلك إذن الجار لجاره أن ينتفع بجداره في ما لا يعود عليه بضرر، مثل غرز خشبة فيه وربط حبل أو إسناد حائط عليه، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يمنع أحدُكم جارَه أن يغرز خشبه في جداره»(24).
قال المناوي -رحمه الله-: "أي بسبب قربه من غيره، وهذا كما يحتمل كون المراد أنه أحق بالشفعة، يحتمل أنه أحق بنحو برٍ أو صلة"(25).
ومن ذلك مواساة الجار وإهداؤه ما تيسر من طعام أو غيره، لما فيه من جلب المحبة والمودة، كما روى أبو هريرة- رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:«يا نساء المسلمين لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة»(26).
قوله: «فرسن شاة» هو ما فوق الحافر وهو كالقدم للإنسان وهو بكسرِ أوله وثالثه(27).
قال النووي -رحمه الله-: "وهذا النهي عن الاحتقار نهي للمعطية المهدية ومعناه: لا تمتنع جارة من الصدقة والهدية لجارتها لاستقلالها واحتقارها الموجود عندها، بل تجود بما تيسر وإن كان قليلا كفرسن شاة وهو خير من العدم، وقد قال الله -تعالى-: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7] وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- «اتقوا النار ولو بشق تمرة»(28), قال القاضي: هذا التأويل هو الظاهر وهو تأويل مالك لإدخاله هذا الحديث في باب الترغيب في الصدقة قال: ويحتمل أن يكون نهياً للمعطاة عن الاحتقار"(29).
وعن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك»(30).
قال المناوي -رحمه الله-: "والأمر للندب عند الجمهور وللوجوب عند الظاهرية، قال العلائي: وفيه تنبيه لطيف على تسهيل الأمر على مزيد الخير حيث لم يقل فأكثروا لحمها أو طعامها إذ لا يسهل ذلك على كثير، وقال الحافظ العراقي: وفيه ندب إكثار مرق الطعام لقصد التوسعة على الجيران والفقراء وأن المرق فيه قوة اللحم فإنه يسمى أحد اللحمين؛ لأنه يخرج خاصية اللحم فيه بالغليان قال: وفيه أفضلية اللحم المطبوخ على المشوي لعموم الانتفاع، لأنه لأهل البيت والجيران؛ ولأنه يجعل فيه الثريد وهو أفضل الطعام، وفيه ندب الإحسان إلى الجار وفيه يندب أن يفرق لجاره من طعامه"(31).
وعن عائشة-رضي الله عنها-قلت يا رسول الله: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: «إلى أقربهما منك بابا»(32).
والذي يظهر من هذه الأحاديث وغيرها، أنه إذا استوى الجيران في الحاجة وعدمها قدم الجار الأقرب في الهدية والهبة ونحوها، إذا لم يكن عند الجار ما يسع الجميع، أما إذا كان بعض الجيران مكتفياً والآخر ذا مخمصة، فإنه يقدم المحتاج على غيره.
ومن أمثلة الأمر الثاني -وهو التحذير من إيذاء الجار- ما يأتي:
عن أبي شريح -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن». قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه»(33).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره»(34), في هذين الحديثين النهى عن إيذاء الجار بصفة عامة.
وجعل -صلى الله عليه وسلم- من أكبر الذنوب الزنا بامرأة الجار، كما روى عبدا لله بن مسعود قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قال: قلت له إن ذلك لعظيم قال: قلت ثم أي؟ قال: «ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قال: قلت ثم أي؟ قال: «ثم أن تزاني حليلة جارك»(35).
وسوء المجاورة من أمارات الساعة، كما قال عبد الله بن عمرو بن العاص: قال رسول الله - صلى الله علي وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش وقطيعة الرحم وسوء المجاورة»(36).
وإلى من ظن أن الدين إنما هو صلاةٌ وزكاةٌ، صيامٌ وحجٌ، وتغافل عن شمولية الدين للأخلاق والعبادات، والعقائد والمعاملات، وأن الدين يتناول جميع مظاهر الحياة، نجد النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر أن امرأةً دخلت النار بإيذائها لجيرانها، مع كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، فعن أبي هريرة قال: قال رجل: «يا رسول الله إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها؟ قال: هي في النار قال: يا رسول الله فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها وإنها تصدق بالأتوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها بلسانها قال: هي في الجنة»(37).
ثالثاً: من أقوال السلف في إكرام الجار:
قال الغزالي -رحمه الله-: "وجملة حق الجار أن يبدأه بالسلام ولا يطيل معه الكلام، ولا يكثر عن حاله السؤال، ويعوده في المرض، ويعزيه في المصيبة، ويقوم معه في العزاء، ويهنئه في الفرح، ويظهر الشركة في السرور معه، ويصفح عن زلاته، ولا يتطلع من السطح إلى عوراته، ولا يضايقه في وضع الجذع على جداره، ولا في مصب الماء في ميزابه، ولا في مطرح التراب في فنائه، ولا يضيق طرقه إلى الدار، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف له من عوراته، وينعشه من صرعته إذا نابته نائبة، ولا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، ولا يسمع عليه كلاماً، ويغض بصره عن حرمته، ولا يديم النظر إلى خادمته، ويتلطف بولده في كلمته، ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه"(38).
وذكر مالك عن أبي حازم بن دينار أنه قال كان أهل الجاهلية أبر بالجار منكم وهذا قائلهم يقول:
ناري ونار الجار واحدةٌ *** وإليه قبلي ينزل القدرُ
ما ضر جار ألا أجاوره *** ألا يكون لبابه سترُ
أعمى إذا ما جارتي برزت *** حتى يواري جارتي الخدرُ (39).
ويقول الغزالي: "ويمن المسكن: سعته وحسن جوار أهله، وشؤمه: ضيقه وسوء جوار أهله"(40).
ورأى الصديق -رضي الله عنه- ولده عبد الرحمن وهو يناصي جاراً له، فقال لا تناص جارك فإن هذا يبقى والناس يذهبون.
وقال الحسن بن عيسى النيسابوري سألت عبد الله بن المبارك فقلت: الرجل المجاور يأتيني فيشكو غلامي أنه أتى إليه أمراً، والغلام ينكره فأكره أن أضربه ولعله بريء، وأكره أن أدعه فيجد علي جاري، فكيف أصنع؟ قال: إن غلامك لعله أن يحدث حدثاً يستوجب فيه الأدب فاحفظه عليه، فإذا شكاه جارك فأدبه على ذلك الحدث، فتكون قد أرضيت جارك وأدبته على ذلك الحدث، وهذا تلطف في الجمع بين الحقين(41).
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "خلال المكارم عشر تكون في الرجل ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في سيده، يقسمها الله تعالى لمن أحب: صدق الحديث، وصدق الناس، وإعطاء السائل، والمكافأة بالصنائع، وصلة الرحم، وحفظ الأمانة، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، وقرى الضيف، ورأسهن الحياء"(42).
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: "حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة كالهدية والسلام وطلاقة الوجه عند لقائه وتفقد حاله ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك، وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية"(43).
وقال الغزالي-رحمه الله-: "واعلم أنه ليس حق الجوار كف الأذى فقط، بل احتمال الأذى، فإن الجار أيضاً قد كف أذاه فليس في ذلك قضاء حق، ولا يكفي احتمال الأذى، بل لابد من الرفق وإسداء الخير والمعروف.
وبلغ ابن المقفع أن جاراً له يبيع داره في دينٍ ركبه، وكان يجلس في ظل داره، فقال: ما قمت إذاً بحرمة ظل داره إن باعها معدماً، فدفع إليه ثمن الدار وقال: لا تبعها"(44).
رابعاً: حقوق الجار على وجه التفصيل كثيرةٌ جداً منها:
1- كف الأذى فالأذى بغير حق محرم وأذية الجار أشد تحريماً.
2- حماية الجار سواءً كان ذلك في عرضه أو بدنه أو ماله أو نحو ذلك.
3- الإحسان إلى الجار بالقول أو الفعل فمن الإحسان إلى الجار تعزيته عند المصيبة وتهنئته عند الفرح وعيادته عند المرض ومبادرته بالسلام وطلاقة الوجه عند لقائه.
4- احتمال أذى الجار فمن الناس من لا يصبر على أدنى هفوة تصدر من جاره فلا يتغاضى ولا يتغافل قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199], وهذا في حق الناس فكيف بالجار.
5- رد السلام وإجابة الدعوة: وهذه وإن كانت من الحقوق العامة للمسلمين بعضهم على بعض، إلا أنها تتأكد في حق الجيران لما لها من آثار طيبة في إشاعة روح الألفة والمودة.
6-كف الأذى عنه: نعم فهذا الحق من أعظم حقوق الجيران، والأذى وإن كان حرامًا بصفة عامة فإن حرمته تشتد إذا كان متوجهًا إلى الجار، فقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من أذية الجار أشد التحذير وتنوعت أساليبه في ذلك.
ج- تحمل أذى الجار: وإنها والله لواحدة من شيم الكرام ذوي المروءات والهمم العالية، إذ يستطيع كثير من الناس أن يكف أذاه عن الآخرين، لكن أن يتحمل أذاهم صابرًا محتسبًا فهذه درجة عالية: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ [المؤمنون: 96]. ويقول الله تعالى: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [الشورى: 43].
4- تفقده وقضاء حوائجه: عن عبد الله بن المساور قال سمعت بن عباس يخبر بن الزبير يقول سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع»(45).
ولما ذبح عبد الله بن عمر رضي الله عنهما شاة قال لغلامه: إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي. وسألت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منكِ بابًا»(46).
5- ستره وصيانة عرضه: وإن هذه لمن أوكد الحقوق، فبحكم الجوار قد يطَّلع الجار على بعض أمور جاره فينبغي أن يوطن نفسه على ستر جاره مستحضرًا أنه إن فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة، أما إن هتك ستره فقد عرَّض نفسه لجزاء من جنس عمله: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46].
6- مواساته بالطعام ولاسيما إذا كان فقيراً، فليس من حسن الجوار أن يشبع الإنسان وجاره جائع، والنبي -صلى الله عليه وسلم-يقول: «ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه»(47), وكثير من الناس لا يعبأ بجيرانه، فيأتي إلى بيته بالأطايب، ولا يفكر في جيرانه الفقراء، وهذا لا ينبغي، بل إذا صنع الإنسان طعاما فينبغي له أن يعطي جاره منه، وذلك توددا إليه، وتطييبا لنفسه، وتدعيما للمودة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك»(48). ولا يحتقر أن يرسل لجاره شيئا بسيطاً، أو يستقله، أو يستحي منه لأنه شيء متواضع، فقد قال -صلى الله عليه وسلم: «يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولوفر سن شاة»(49), فينبغي لكل مسلم أن يتنبه إلى هذا الأدب الرفيع، وألا يهمله، فإن له أثراً عظيماً على الجار، وهو دليلٌ على اتصاف المجتمع المسلم بالتراحم، والتعاطف، والتكافل بين إفراده، أما أن يشتري الطعام ويترك أولاده يخرجون بالحلوى والفاكهة أمام أبناء جاره الفقير، يغيظونهم بذلك، ولا يعطيه، فهذا إساءة إلى الجار وكسر لخاطره، ومخالفة لأمره صلى الله عليه وسلم.
7- مواساته بالمال إذا كان محتاجاً: فينبغي له أن يتفقد حال جاره إذا كان محتاجا، فيعطيه من المال حتى ممن غير أن يطلب، فذلك من حق المسلم على أخيه، وحق الجار أعظم.
8- مشاركته الفرح والحزن: فإذا كان عند جاره مناسبة سارة فينبغي له أن يذهب إليه، وأن يشاركه ويقاسمه فرحه، ما لم يكن فيه معصية وإذا ألمت به نازلة فينبغي له أن يحضره، وأن يقاسمه حزنه. ويواسيه بالكلمة الصالحة، ويشد من أزره. وكل هذا من حق المسلم أصلا على أخيه المسلم، والجار أولى بهذه الحقوق من غيره.
9- أن يعرض عليه البيت إذا أراد التحول عنه: فإذا أراد أن ينتقل من داره فليعرضها على جاره قبل غيره، فقد يرغب في شرائها، وكذلك أي أرض أو عقار.
10- ألاَّ يمنع جاره من غرس خشبة في جداره: إذا احتاج الجار إلى ذلك، فينبغي أن يسمح له بغرس هذه الخشبة، ولا يمنعه من الانتفاع بها.
11- تعظيم حرمة الجار وعدم خيانته: لا بإفشاء سره، ولا بهتك عرضه، ولا بالفجور بأهله، فإنه من أقبح الكبائر, يقول عنترة بن أبي شداد كما ذكر القرطبي - رحمه الله- في تفسيره:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مأواها(50).
وقال حاتم كما ذكر الزمخشري في تفسيره:
أعشوا إذا ما جارتي برزت *** حتى يواري جارتي الخدر(51)
12- يؤدي إليه حقوق المسلم على أخيه المسلم: فإن الجار أولى وأحق بها، فيحسن إليه من كل وجه، يعوده إذا مرض، ويشمته إذا عطس، وينصحه بما هو خيرٌ له، ويلبي دعوته، ويتفقد أهله وأولاده في حال غيابه أو سفره، وبعد مماته ويتبع جنازته إذا مات، ويدعو له، ويأخذ بيده إلى الخير.