هيثم صبحي سيف
***************
مع الجزء الثالث، وملك مصر "أحمس الثاني" كان عنده رجل عبقري اسمه "فانيس".. الراجل دا كان من أصول يونانية، اتعلم وكبر في مصر وبقى خبير استراتيجي بمعنى الكلمة، وعارف كل كبيرة وصغيرة عن كل شبر من أرض مصر.. بيعرف يطور.. حافظ خرايط وتضاريس الأرض.. بيفهم في العسكرية والمالية وشؤون الحكم.. بيترقى لحد ما بيبقى مستشار الملك.
في يوم بيطمح "فانيس" بالجلوس على عرش مصر نفسها، فبيطلب الزواج من بنت "أحمس الثاني"، لكن البنت بترفض.. فبيحاول يخلي والدها يرغمها على الزواج.. وقطعًا بيرفض.. فبيسرق المستشار بضعة متعلقات من خزانة الملك، ويهرب إلى بلاد فارس.
وهناك.. في "فارس"، اتقرب "فانيس" من الملك الفارسي "قمبيز الثاني Cambyses II"، وعلمه حاجات كتير، كتير جدا.. طور له الجيش.. ساعده يقضي علي حالة التفكك والقلاقل اللي عنده.. و قدم له كل معلومة يعرفها عن الجيش المصري.. وبدأ يكون له كتائب مدربة على الحديث باللغة واللهجة المصرية.. ودمج له أسلحة الجيش المصري مع جيشه..وعمل له نهضة رهيبة مفاجئة..
وبعدين حرضه على إنه يطلب بنت "أحمس" للزواج..!
.طبعًا اترفض الطلب، فبقت دي حجة للفرس للزحف على مصر.
بيتحرك الجيش عشان يلتقي بالفرس.. وزي ما قلنا، "فانيس" كان كون كتائب فارسية بتتكلم باللغة المصرية.. اتربوا عليها منذ نعومة أظفارهم.. و كانوا بيلبسوا ويتكلموا وحتى بيناموا ويحلموا زي المصريين، بس هم أصلا فرس وولائهم لبلادهم.. بيجهز منهم 60 ألف... وعبر دروب جبلية ودهاليز عارفها كويس.. بيبعتهم يحيطوا بالجيش المصري من قمم الجبال ومن الخلف و الجانبين..
قائد القوات المصرية بيلتقي بقائد القوات دي و بيستوقفه في صرامة، و بيسأله عن هويتهم.. مين دول وجم منين.. فبيقول له قائدهم بلغة مصرية سليمة إنهم بعثة إضافية.. أرسلها الملك "بسماتيك الثالث"، وبيبرز له صك بردية يؤكد دا.. ممهور بختم مستحيل التزوير وقتها.. ختم ملكي كان "فانيس" سرقه قبل هروبه من مصر و لم ينتبه إليه أحد..
الصك دا بيسمح للدخيل الفارسي إنه يعسكر بقواته حوالين وفوق القوات المصرية.. لحد ما بتيجي القوات الفارسية السافرة في المواجهة.. وقبل الهجوم مباشرة، بيفاجأ المصريين بفرق المساندة اللي ظنوا انها تابعة لهم وبتحمل اختام الملك ولابسة نفس لبسهم و بتتكلم لغتهم و مسلحة تسليحهم.. بتذبحهم بلا سابق إنذار مع هجوم الفرس.. و مابقوش عارفين مين ضد مين و مين مع مين.
بيتهزم الجيش ويباد تمامًا، بيموت 49 ألف جندي، و بيفضل ألف جندي فقط من الجيش كله بسبب الخيانة المباغتة دي، بينسحبوا إلي "ممفيس".. بيبعت لهم ملك الفرس 4 سفن محملة بالجنود والرسل، بيطلب منهم الاستسلام، فبيصعدوا على متن السفن، ويذبحوا الفرس اللي عليها بالكامل..
بيثور ملك الفرس، و بيهاجم ممفيس ويقتلهم.. ماعدا بضع مئات قدروا يهربوا.. فبيقتل مقابل كل فارسي مات من البحارة المقاتلين والرسل 10 من المصريين الأبرياء.. و بيأسر "بسماتيك الثالث" ويحكم مصر فعليًا.
وبتسقط مصر في إيدي الفرس، عدا بضعة من رجال جيشها، وخبراء استخباراتها، قسموا أنفسهم إلى قسمين، هرب بعضم إلى أقصى الشمال، بين جزيرة فاروس.. أو "الإسكندرية" وبين "مرسى مطروح" كما نعرفها اليوم.. والآخرين لجنوب الصعيد حتى النوبة، وذابوا وسط الناس، وراحوا يدربون الصيادين والفلاحين على القتال سرًا، ويؤسسوا أنوية لخلايا مقاومة.. راحت تكبر وتكبر.
القصة سجلها التاريخ إن "قمبيز" ملك الفرس بعدما دخل مصر، تترست النوبة مع أهلها و أغلقت عليها أسوارها أمام الفرس. ولأن جنوده منهكين، قرر يرشي النوبيين.. فارسل لهم هدايا لا تقدر بثمن مقابل استسلامهم..
لكن حاكم النوبة بيرد الرسل بالهدايا و بيطلب منهم يوصلوا رسالة لـ"قمبيز": "عد إلينا عندما يقوى جيشك.. وتستطيع قتالنا"..
عبارة كريهة مستفزة بتخليه يتغاظ، فبيزحف "قمبيز" على النوبة، و بيحاصرها..
لكن مابيخترقهاش أبدا.. يوم ورا يوم.. و الأيام أصبحت أسابيع.. ثم صارت شهور.. و دفاعات النوبة صامدة، وبدأ جنود الفرس ينهكوا من حر الصحراء نهاراً و بردها الرهيب ليلًا.. و انتهت مؤنهم.. و بدأ الجنود ياكلوا الحيوانات و القوارض و الأعشاب والحشائش الصحراوية والحشرات والعقارب.
ثم بدأوا يفترسوا بعضهم البعض.
الأول بدأوا بجثث من ماتوا منهم.. و بعدين بدأوا يقتلوا الضعفاء منهم و يأكلوهم.
إذا كان دا الوضع قبل ما يقتحم النوبة فإيه اللي حيحصل ساعة القتال نفسها؟ بيضطر "قمبيز" يلغي الحملة ويعود أدراجه.. وكان قد أرسل بالتوازي حوالي 50 الف جندي إلي سيوة، لإخضاع أهلها و تدمير معابدها.. فبيرجع و يستفسر عن الحملة دي.. وإيه اللي نفذته وحققته من أهداف.
لكن حملة سيوة كانت التقت برجال المقاومة، في كمين مباغت مخيف، وثارت عليهم كذلك الصحراء بعواصفها ورمالها، ولم يعد منهم أحد.. حتى إن "قمبيز" لم يعثر على جثثهم قط.
ومع الانتصارات المتتالية، بدأ رجال الاستخبارات المصريين، بالتعاون مع الكهنة ينشروا خبر حقيقي، أهدته إليهم الأقدار، من شأنه أنه يرفع معنويات المصريين ويضرب معنويات العدو في مقتل.
وفي الحرب النفسية، كل المهارة هي أنك تستخدم "أحداث حقيقية".. لو استخدم شائعة، حتتضح كذبتك عاجلًا أم آجلًا.. لكن الحقيقة المجردة.. هي اللي بترفع المعنويات أو تهدمها بالفعل.
وكان الخبر اللي استغله رجال الاستخبارات المصريين وقتها، أول أستاذة حرب نفسية في التاريخ، هو خبر حقيقي، بسيط للغاية عن ميلاد حيوان عادي، من جنس البقر.
مع عودة "قمبيز"، وجد المصريين بيحتفلوا بهزيمته في النوبة وسيوة، قبل حتى ما تصل الأخبار بالهزيمة.. فلما استدعى حكام "منف" من الفرس، وسألهم إزاي المصريين عرفوا بهزيمته قبلما يعرف هو نفسه.. حكوا له قصة عجيبة..
اللي عرفوه من عامة المصريين.. هو إن الرب "بتاح" بيرسل للمصريين بشرى من الإله الأعظم لما عدوهم يبقي حينهزم.. الإشارة دي بتتمثل في ميلاد عجل بقر صغير، لا تحبل أمه بغيره، بينزل ليوم ميلاده برق من السماء حتى لو كان الوقت صيفًا.. والعجل دا أسود اللون كله، عدا مثلث ابيض في جبهته، شعر ذيله شديد الكثافة؛ وفي علامة بيضاء على ظهره أشبه بالنسر، وهي إشارة من الرب "حورس"، بتعني إن النصر قريب..
العجل دا اسمه "عجل آبيس"...
بيرى "قمبيز" بنفسه التخاذل والقلق والرعب في وجوه رجاله، بعد العملية النفسية الناجحة دي، وغاضبًا.. بيطلب "قمبيز" من رجاله يجيبوا له الكهنة المصريين ومعاهم العجل ده، و لما بيمثلوا أمامه، بينتزع سيفه و بيهم بقتل العجل، فبيحذره كبير الكهنة في انفعال، بأنه إذا قتل عجل آبيس، فسوف تصيبه لعنة "بتاح"، ويلقي حتفه بنفس الطريقة اللي حيقتل بيها العجل.
لكن "قمبيز" مابيهتمش و بيطعن العجل الصغير طعنة مؤلمة في فخده، و بيرفع النصل المدمم للكاهن وبيسخر منه ومن الرب اللي بيرسل بشرى حيوانية من لحم ودم، ثم بيأمر رجاله فبينهالوا ضرب علي الكاهن، و بيرموه برا مع العجل و الإثنين مصابين متألمين.
بياخد كهنة مصر العجل و بيحاولوا يعالجوا جرحه، لكن الجرح اتلوث و اصابته الغنغرينا، وبيموت "عجل آبيس" بعد عذاب أليم، وخوار يمزق نياط القلوب، وبيدفنه الكهنة سرًا.
وانحدرت معنويات المصريين للصفر.
لكن اللي بيحصل له بعد كده كان عجيب بالفعل.. و اتسجل تاريخيًا كواقعة مش مفهومة في آلاف المراجع.. واستخدمه المصريين وقتئذ كعملية نفسية رهيبة، ضد الفرس، هبطت بمعنوياتهم للصفر.. أو للدقة، إلى ما تحت الصفر.
فبعد عام تقريبًا، من قتله للعجل، كان "قمبيز" على مشارف بلاد فارس وسط جنود وموكبه وعلى ظهر جواده، لما بيقرر يترجل عن الجواد للراحة والطعام، وبعد انتهاء الراحة، وهو بيركب الحصان، بينغرس نصل سيف "قمبيز" بدون قصد في فخذه هو نفسه.
وعلى الفور بيهرع أطباء الفرس ويطهروا ويضمدوا جرح "قمبيز".. وبيعود إلى قصره في هدوء بدون مشاكل.
لكن بعد يومين.. وزي ما حصل للعجل بالضبط، اتلوث جرح "قمبيز".
وبرضه أصابته الغنغريا.
و تصاعدت الحمى إلي رأسه.. وبدأ يهلوس ويفقد عقله الواعي، ويصرخ متحدثًا عن رؤى مجهولة، عن "أنوبيس" رب الميزان والتحنيط، وهو بينتزع قلبه ويضعه على الميزان ثم يلقي به في الجحيم الأبدي حيث العذاب الأليم.. وبعد معاناة هائلة، وكوابيس مفزعة، بيموت "قمبيز" بعد عشرين يوم بالضبط من إصابته، غارقًا في العذاب والحمى والهلوسة.
ومع انتشار الخبر المخيف، انحدرت معنويات الفرس في شتى بقاع إمبراطوريتهم... وهنا كانت الفرصة الذهبية لعملية استخباراتية جديدة، فنشط رجال مصر، وييمموا وجوههم شطر حليف جديد، بيخوض حرب ضد الفرس، وينقلوا له خبراتهم ومعارفهم.
اليوم الرابع من شهرأغسطس، من العام 480، قبل ميلاد المسيح.. أراضي اليونان المفككة المشتتة إلى دويلات صغيرة، و300 جندي من إسبرطة اليونانية، خارجين يتصدوا لأكبر جيوش الأرض عددًا وقتها، جيش الفرس.. بقوات قيل أنها كانت 400، أو 600 أو 800 ألف، وقال هيرودوت أنهم كانوا مليون جندي فارسي.
عشان الجيش الفارسي الهائل يمر لليونان كان لازم يعبر ممر جبلي ضيق على حدودها، اسمه ممر ثيرموبولي. المعركة دي حيتوقف عندها التاريخ ويدونها بالاسم دا.. معركة "ثيرموبولي Battle of Thermopylae".
كان مجلس شيوخ إسبرطة من الأصل هو المنوط بإعلان الحرب،والمجلس رفض، وقرر اللجوء للمفاوضات، فاتخذ المك قراره، وخرج من البلاد مع 300 مقاتل، عشان يحموا الحدود لوحدهم.. حينضم لهم فيما بعد حوالي 3000 أو 5000 يوناني، لكن العدد كان لازال لا يقارن بالنسبة لجيوش الفرس.
مقاتلي إسبرطة في المعتاد، كانوا تشكيلات "مشاة ثقيلة heavy infantry".. دروعهم مزيج من النحاس و البرونز و الحديد، و من الداخل مصنوعة من خشب البلوط ووزنها 18 كيلوجرام.. كان الجندي بيلبس خوذة تقيلة بتبين عينيه و أنفه بس.. ساعديه و ساقيه متغطيين بالبرونز و شايل رمح و سيف...
رمح الإسبرطي كان ثقيل و مصنوع من خشب لا يطفو في الماء.. وزنه 12 كيلوجرام تقريبا و له حد معدني أمامي و حد خلفي.. و السيف كان وزنه 8 كيلوجرامات تقريبا.. قصير لكن قاتل...
طبعا عشان الجندي يشيل مجموع الوزن دا كله و في نفس الوقت يتحرك و يقاتل و ينحني و يتفادي و ينطلق.. كان هو نفسه لازم يبقي قوي للغاية.. بالدروع و السلاح اللي شايله، كان جندي مشاة إسبرطة، عبارة عن دبابة بشرية حية...
تشكيل الإسبرطيين كان اسمه "التشكيل السلامي The phalanx" أو "الفلنكس".. تشكيل عسكري مربّع.. الكلمة مالهاش أصل عربي و متعربة إلي "سلامي" بمعني "مصطف كسلاميات الأصابع". الدروع بتستند على بعضها البعض، زي حراشف الثعابين، فتبقى مستحيلة الاختراق تقريبًا.. باختصار.. التشكيل الإسبرطي كان غابة معدنية ثقيلة، من الحراب والدروع.
بيقف الـ300 جندي في ممر "ثيرموبولي" بالعرض.. التقديرات بتقول أنهم كانوا 6 صفوف.. 50 رجل في كل صف.. وينتظروا قوات الفرس في الممر، الممر مينفعش يعديه قوات كبيرة، بيعدوا صف ورا صف، ويصطادهم الإسبرطيين موجة وراء موجة. ولما ينهك الصف الأول من رجال إسبرطة، يتراجع للخلف ويتقدم الصف الثاني، وبعدي الثالث، وهكذا.
وبدأت خسائر الفرس تزداد، واهتزت الثقة وحل القلق في النفوس وانهارت المعنويات، فقرر ملك الفرس اللجوء لخدعة استخباراتية، تؤمن له النصر المبين.
حظ يده على رجل من نخبة اليونان، أحد الساعين للثراء السريع، وكان خبير بطرق المنطقة ودروبها، واتفقوا على أنه يدله على أي طريق، يحيط به رجال إسبرطة، ويقدر يقتلهم ويعبر.
تمت الصفقة في هدوء، وقبض الجاسوس الثمن على خيانته، واتحاصر الإسبرطيين الشجعان بقوات فارسية هائلة، من أماكن مرتفعة، أمطرتهم بمئات الآلاف من السهام، وتمزق تشكيلهم القوي العصي على الاختراق، وماتوا عن بكرة أبيهم في ميدان القتال.. وبقى الطريق مفتوح إلى قلب اليونان.. وبيتحرك الفرس إلى الضحية التالية.. أثينا.
لكن العملية دي كان لها أثر بالغ الخطورة.. لأن المصريين استغلوا العملية الاستخبراتية الفارسية ضد إسبرطة، واثناء توجه السفن الفارسية إلى "ماراثون" في أثينا، كان رجال المخابرات المصريين القدماء قد وصلوا بالفعل إلى "ثيموستكليس"، بطل أثينا، وقدموا له خطة مبهرة، انطوت على خدع مخابراتية عجيبة لم يسمع مثلها قط، تؤمن له الانتصار على الفرس.
الخطة دي لولاها، و لو كمل الموضوع دا للفرس على خير.. كانت انقرضت فكرة الديموقراطية من العالم، ويمكن مكناش نسمع النهاردة اصلا عن بلد اسمها "اليونان".. وكانت بقت تاريخ مندثر زي يوغوسلافيا.. وربما ساد الفرس لقرون طويلة.
والخدع دي نتكلم عنها لاحقًا.
ويبقى للحديث بقية.