إن لعصور الرسالات أحكامها الخاصة، فالإيمان مقدم على كل ما هو سواه، ويجب اتخاذ مواقف حاسمة مع من أبى الإيمان، ولذلك أثنى الله تعالى على إبراهيم عليه السلام ومن آمن معه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }الممتحنة4
وأمر المسلمين بالتأسي بهم، فلابد من الفصل بين الفريقين في زمن الرسالة نفسها أي في الحياة الدنيا، هذه هي سنة الله تعالى في خلقه، وليس لأحد أن يقول لله تعالى: "ولماذا لم تترك لهم حرية الكفر والإيمان؟ أليس من الظلم أن تُهلك قوم عاد لأنهم أبوا الاستماع إلى رسولهم؟ أليس من الظلم أن تغرق قوم نوح؟ ألم تأخذك بهم الشفقة وهم يغرقون؟؟؟!!!"
-------
سنة إلهية ثابتة: إذا أرسل الله تعالى رسولا إلى قوم من المشركين أو الكافرين فلابد من الفصل بين الفريقين في الحياة الدنيا بهلاك من كفر ونجاة من آمن وبانتصار الرسول والمؤمنين، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} الروم47.
وإيمان الكافرين بعد رؤية بأس الله تعالى لا ينفع: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} غافر85، ولو لم يسلم العرب والأعراب لحاقت بهم هذه السنة على أيدي المؤمنين بعد نسخ استعمال الآيات الكونية مع أقوام الرسل، ولذلك أرسل الرسول الحملات لتحطيم أصنام كل القبائل، فأثناء فترة الرسالة لابد من احتدام الصراع الدامي بين الحق والباطل، ولابد من إلحاق عذاب الخزي بمن كفر برسالة الرسول.
-------
إن الله تعالى هو الذي يدبر الأمر ويبتلي الناس بعضهم ببعض، وعندما يرسل رسولا إلى قومه فبحكم الطبيعة البشرية لن يؤمن به إلا قلة منهم، هذا أمر لا ريب فيه، وكل قصص الرسل الواردة في القرءان تثبته، وقد يقول قائل لقد آمن قوم الرسول كلهم في النهاية، هذا ليس بصحيح، قال تعالى: {يس{1} وَالْقرءان الْحَكِيمِ{2} إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ{3} عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{4} تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ{5} لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ{6} لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ{7} يس، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}يوسف103، وحتى من آمن لم يخل من شرك: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ }يوسف106، فأكثر قوم الرسول –رغم كل حملات التقديس والتوثين- أسلموا ولم يؤمنوا! ولذلك سرعان ما ارتد أكثرهم بعد انتقال الرسول.
ولكن الله تعالى تعهد بأن ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا قبل الآخرة، والصراع بين الفريقين أمر حتمي، ولكن الرسول انفرد من بين كافة الرسل بأنه مرسل للناس كافة بالإضافة إلى بعثته الخاصة إلى قومه، هذا ما تذكره آيات القرءان والتي غفل عنها الكثيرون.
-------
نعم، حرية العقيدة من أقدس أسس الإسلام وقيمه، ولكن لأقوام الرسل أحكامهم الخاصة التي لا يجوز تعميمها، وكان على الرسول والذين آمنوا معه أن يقاتلوا المشركين (لأنهم هم في كل الأحوال معتدون ولا يمكن أن يسمحوا ببقاء الفئة المؤمنة) حتى يسلموا (الإسلام هنا هو الدخول في السلم والنطق بالشهادة، والتوبة عن عبادة الأصنام)؛ وليس حتى يؤمنوا (فلا إكراه في أمر الإيمان بمعنى أنه لا توجد سلطة أرضية تستطيع إدخال الإيمان في قلب من لا يؤمن)، هذه كانت أوامر القرءان، والتي التزم بها الرسول، ولذلك أرسل (بعد فتح مكة) الحملات لتحطيم أصنامهم وحظر الممارسات الشركية، وإلا فلماذا حطَّم أصنام الكعبة بعد فتح مكة؟ لماذا لم يعلن عليهم أنه لا إكراه في الدين وأنه من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر؟ لماذا لم يترك لهم حرية الاختيار؟ هل لأنه هزمهم قرر حظر ديانتهم وإهمال مبدأ حرية الإيمان؟ أم أن الناس هم الذين أساءوا فقه الآيات؟ أما مِن بعدهم فيجب الرجوع إلى الأحكام العامة؛ أي التمسك بحرية الدين والإيمان بل والدفاع عنها، لا يجوز الخلط بين أقوام الرسل وبين غيرهم!
أما بخصوص القتال فهو لا يكون مشروعا إلا عند توفر أسبابه الشرعية: رد العدوان، الدفاع عن المستضعفين، منع فتنة المؤمنين في دينهم، التصدي للبغي، والقتال ليس وسيلة للدعوة أبدا.
ولا يجوز لأحد أن يقول: "ولماذا لم تنزل الأوامر بالقتال إلا في المدينة بينما أُمِر المسلمون بالصبر في مكة؟" والجواب هو: "وهل كنت تظن أن الله تعالى سيأمر المؤمنين بأن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة؟ وكيف كان يمكن أن يتم هذا القتال وهم مختلطون ببعضهم البعض اختلاطاً شديدا؟ وهل نزلت كل أحكام الدين دفعة واحدة؟" وقد يقول قائلهم: "ألا يُعدّ نزول الأمر بقتال المعتدين نسخاً بعد أن كانت الأوامر هي الصبر عليهم؟ والجواب هو: "إن نزول أحكام جديدة لحالات جديدة لم تكن موجودة أصلا لا يُعدّ نسخا للأوامر القديمة الخاصة بحالات أخرى، والحالة الجديدة هاهنا هي أن المؤمنين أُخرِجوا ظلما من ديارهم ونُهبت أموالهم وديارهم واعتُدِي عليهم، فكانت هذه هي المناسبة الصالحة لتنزيل الأمر بقتال الكافرين والذي كان مقدرا سلفا".
-------
إن الرسل لا يرسلون إلى أقوامهم عبثا، إن الرسول يأتي لقومه برسالة الحق معلناً لقومه أنهم على باطل، وهو يبدأ في الدعوة إلى الحق الذي يعرفه، ولا يؤمن به عادة إلا القلة، وأكثرهم عادة من الضعفاء أو المغلوبين على أمرهم مثل العبيد، لذلك هم مأمورون دائما بالصبر، ولكن الملأ من قوم الرسول ومعهم أتباعهم وهم الأكثرية لا يمكن أن يصبروا على ما يتضمن مساسا بدينهم؛ الملأ لدفاعهم عن مصالحهم وسلطانهم، أما العامة فلكونهم متبعين ولا يعلمون، ولكونهم أكثر تمسكا بما ألفوا عليه آباءهم، ولذلك لا محيص من أن يبدأ من رفضوا الرسالة في اضطهاد المؤمنين، وهم عادة يتمادون في الإجرام إلى المدى الأقصى، والسنة الإلهية تقتضي أنه إذا تجاوز الاضطهاد حداً معينا يهدد بقاء الرسالة الجديدة فلابد من حسم الأمر مع الكافرين بإهلاكهم مع تدبير الأمر لنجاة الرسول والذين آمنوا معه، كان ذلك يتم قبل عصر خاتم النبيين بآية كونية، وتم نسخ ذلك في الرسالة الخاتمة، قال تعالى:
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ{137} هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ{138} وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{139} إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ{140} وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ{141} آل عمران، {....وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ{7} لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ{8}}الأنفال.
فالتدبير الإلهي يقصد إلى قطع دابر الكافرين من قوم الرسول، ولكن العدوان محرم تحريما باتاً لا ريب في ذلك، ولكن لا يمكن أن يصدر عدوان من الذين آمنوا من قوم الرسول لأنهم قلة، فالعدوان يأتي دائماً من جانب الذين كفروا، وعندها يجب قتالهم حتى يسلموا وحتى يكون الدين لله تعالى وحتى تنتهي الفتنة.
فالسنة الإلهية تقضي بهلاك من كفر بالرسول وبانتصار هذا الرسول ونجاته هو ومن آمن معه، فلا مجال للكلام عن حرية العقيدة في زمن الرسالة ومع قوم الرسول وإلا لما حطّم الرسول أصنامهم ولاكتفى بأن قهرهم وتركهم وشأنهم في أمر دينهم.
هذا هو معنى وفحوى ومنطوق آيات القرءان وحديث الرسول وسيرته، اقرءوا كل القرءان وتدبروا سنة الله مع أقوام الرسل حتى يتبين لكم الحق، قد يكون كل ذلك صادما لمن يريد أن يرى الأمر بمقاييس العصر الحالي أو بمقاييس المجتهدين الجدد أو بمقاييس من يريدون أن يلغوا من الدين كل ما لا يتناسب مع أذواق الغربيين.
ومع كل ذلك فإنه يجب إدراك ما يلي: الدعوة إلى الإيمان شيء، والقتال شيء آخر، كما يجب معرفة أن المطلوب من قوم الرسول ممن أبوا الإيمان كان الإسلام للأمة المؤمنة، وليس إكراههم على الإيمان، ولذلك كان وجود المنافقين حقيقة يجب التعايش معها!!
أما يهود يثرب وغيرها فهم أهل كتاب، وليسوا من قوم الرسول بالمعنى الخاص، ولذلك تضمن القرءان أنواع من الخطاب؛ منها خطاب موجه إل المشركين من قوم الرسول، ومنها خطاب موجه إلى بني إسرائيل وأهل الكتاب، فأهل الكتاب لهم أحكامهم الخاصة، هي الأحكام المقررة في الرسالة العامة المتعلقة بالناس كافة، أي حرية العقيدة، ووجوب البر والإقساط إليهم طالما سالموا المؤمنين، فهم ملزمون بمسالمة المؤمنين وعدم المظاهرة عليهم، ولهم أن يلتزموا بما تقرره شريعتهم، وكان لهم أن يحتكموا إلى الرسول إذا شاءوا، ولكن إذا انحازوا إلى الكفار وتآمروا معهم ضد الأمة المؤمنة فإنه يتعين على هذه الأمة مواجهة هذا الموقف بدعوتهم سلميا إلى التراجع عن موقفهم فإن أبوا فهم أعداء معتدون، ويجب التصدي لعدوانهم، وحماية الأمة من شرهم، وعندها لا يجوز أن يتوقف القتال إلا بأن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، والجزية هي غرامة حربية يدفعونها بسبب بغيهم وعدوانهم، أما إذا أسلموا فإنهم يصبحون لتوِّهم إخوانا للمؤمنين وأعضاء في الأمة المؤمنة لهم كافة حقوق المؤمنين.
أما يهود بني قريظة فقد اقترفوا جريمة الخيانة العظمى ضد شركائهم في الوطن، وتحالفوا مع الكفار ضدهم أثناء حصار المدينة وتهديد من فيها بالهلاك التام، وكان على الأمة المؤمنة التصدي لهذا الخطر الداهم، وبالفعل تحرك الجيش المؤمن إلى صياصيهم وحاصرهم، وترتب على ذلك حدوث معركة دامية قُتل أكثر اليهود فيها، أما قادتهم الذين وقعوا في الأسر فحوكموا وحُكم عليهم بالحكم العادل، وليس صحيحا أنه حدثت مجزرة لكل اليهود بعد القتال كما يقول ابن إسحاق عميلهم الدجال، ولكن الصحيح هو أن المعركة معهم كانت شرسة ودامية لأنهم كانوا يعلمون مدى فداحة ما اقترفوه من الخيانة المهلكة ولأن المسلمين كانوا يعلمون ماذا كان من الممكن أن يترتب على خيانتهم.