مع Mohammed Hafez.
زنبيلي أفندي .. مفتي "المؤلفة جيوبهم"
=====================
«زنبيلي أفندي» .. اسم يحمل مأساة للعرب، خاصة في مصر وسوريا، هو التجسيد الأمثل لتحالف السلطة ورجال الدين، استغل سلاح الفتوى في تسهيل احتلال دول وإبادة مدنيين وقتال المسلمين الذين يئسوا من صلاح الحال تحت سطوة الدولة العثمانية، وكان "الذراع الطويلة" لأمراء وسلاطين في التلاعب بالشريعة وصنع الفتاوى المسمومة لإرضاء شهواتهم الجارفة داخل قصور الحكم بلا أدنى ضمير.
.
أسمه بالكامل "علي بن أحمد بن محمد الجمالي الرومي" ، الشهير بـ «زنبيلي أفندي»، رجل دين تركي، بدأ تقربه من البلاط العثماني عن طريق مصاهرته شيخ الإسلام «خسرو أفندي» ، فعينه السلطان «محمد الفاتح» مدرسا بالمدرسة الحجرية بـ «أدرنة» براتب 30 درهما، ولما تولى السلطان «بايزيد الثاني»، عينه قاضيا على مدينة «أماسيا»، فركبه الغرور وادعى العلم واشتهر بالتعالي واحتجب عن الناس، وجلس فوق بيته وأمسك بـ «زنبيل »(كلمة فارسية تعني السلة) مربوطة بحبل يستقبل عن طريقها طلبات الفتوى مكتوبة في ورقة وبجوارها قطع نقود حتى يهتم بالسؤال وكلما زادت النقود زاد اهتمامه بالفتوى لصالح صاحبها ، وأهمل قضايا الفقراء العاجزين عن تقديم هدايا ثمينة للفقيه المرتشي.
كان «زنبيلي» في مصر العام 1503 عندما وصله خبر وفاة شيخ الإسلام «أفضل زاده حميد الدين أفندي»، وصدور قرار السلطان العثماني «بايزيد الثاني» بتعيينه شيخا للإسلام ومفتيا للدولة العثمانية، وكان«زنبيلي » حينها متوجها لأداء فريضة الحج، فقرر على الفور إلغاء رحلة الحج والعودة سريعا إلى إسطنبول ليتسلم منصبه الجديد، وصرف له السلطان راتبا 150 درهما يوميا.
منذ تلك اللحظة ظلت مصر المملوكية عالقة في ذهن «زنبيلي»، وتمنى أن تدخلها القوات التركية غازية، خاصة بعد الهزيمة المروعة التي تلقاها بايزيد الثاني في معركة أضنة عام 1486 على يد السلطان المملوكي قايتباي.
.
بدأ تحالف الشر بين «زنبيلي» والأمير «سليم الأول» الذي اشتهر باسم «سليم العابس» ، منذ أن تولى الأخير حكم ولاية «طرابزون» ، واستطاع الحصول على فتوى من «زنبيلي» تجيز عزل أبيه «بايزيد الثاني» وقتل أخيه «أحمد» ولي العهد، لم يقتصر الأمر على الفتاوى بل قدم "المفتي الخصوصي" نصائح إلى "أميره العابس" مفادها دفع رشى لقائد الإنكشارية لكسبه وجنوده في صراعه على العرش، وكان أن نصب «سليم العابس» نفسه سلطانا على الأتراك بقوة السلاح، بعد أن عزل والده ثم دس له السم، وعقد العزم على القضاء على إخوته وأولادهم، ذبح أخاه أحمد ولي العهد والأمير«قرقود» وأولادهما بدم بارد برعاية شيخ الإسلام «زنبيلي أفندي».
.
لعب «زنبيلي أفندي» دورا بارزا في عهد السلطان «سليم الأول» ، بعدما سخر مؤسسة الفتوى لخدمة السلطان المتعطش لسفك المزيد من الدماء، فأصدر فتوى تجيز قتل جميع الشيعة بالسلطنة، فأمر«سليم الأول» بحصر عدد الشيعة في الولايات المتاخمة لبلاد فارس بشرق الأناضول وقتلهم جميعا عام 1513، وبلغ عددهم 40 ألفا من قبائل «القزلباش» ، ثم أفتى بإعدام أسرى معركة «جالديران» والتمثيل بجثثهم.
ومن أهم القضايا والأحداث التي تمت في أثناء مشيخة «زنبيلي»، الحرب العثمانية المملوكية (1516-1517)، وصدرت من أجلها 3 فتاوى من شيخ الإسلام تكفر دولة المماليك وتصفهم بالملحدين الذين أضاعوا الدين وتستبيح دماءهم وأعراضهم، وتكللت جهود زنبيلي بالقضاء على الدولة المملوكية السنية في مصر وبلاد الشام.
فقد طلب السلطان «سليم الأول» من «زنبيلي أفندي» أن يصدر فتوى شرعية تجيز الحرب ضد المماليك، كان السلطان يبحث عن سبب يبيح غزو بلد مسلم فلم يجد إلا "الرخصة الدينية" من مفتي السلطنة، وسبق إصدار الفتوى اتصالات غير رسمية كثيرة لترتيب صيغتها النهائية، وأعلن «سليم » أن السبب الظاهري للحرب يتمثل في مساعدة أهل الشام ومصر ضد دولة المماليك الظالمة المستبدة.
طرح سؤال الفتوى على الشكل التالي: "إذا أراد قائد مسلم أن يستأصل كل الملحدين (يقصد الفرس) بمساعدة جماعة هم أيضا يعانون من طاغية، فهل يكون مباحا قتل هذا الطاغية واستباحة أملاكه؟" وكان الجواب بـ"نعم" وكان شيخ الإسلام مرتكزا في جوابه على "من ساعد ملحدا فقد ألحد".
بينما أفتى «زنبيلي أفندي» بذلك، كان سلطان مصر المملوكي «قنصوه الغوري»، يرعى الأماكن المقدسة في مكة والمدينة المنورة والقدس، ويؤمن طرق الحجاج كما كان أسلافه من حكام مصر، بل كان أيضا مسؤولا عن صناعة كسوة الكعبة، وكان سلطان مصر حينها يلقب بـ"خادم الحرمين الشريفين".
أضفى «زنبيلي أفندي» مشروعية على محاربة دولة المماليك، إذ قرر أن أهداف الحرب لا تتعارض مع الدين، بل إن لها أسبابها الشرعية، وأوفد الوعاظ إلى سائر الولايات العثمانية يعلنون أن الحرب القادمة هي حرب دينية ضد أعداء الإسلام، ويناشد الرعية أن تقف صفا واحدا مع الجيش العثماني لإبادة المارقين.
ولما علم «قنصوه الغوري» بحشود العثمانيين، أرسل إلى السلطان «سليم الأول» رسالة قائلا: "علمنا أنك جمعتَ عساكرك، وعزمت على تسييرهم علينا، فتعجّبتْ نفسنا غاية التعجب لأن كلنا، والحمد لله، من سلاطين أهل الإسلام وتحت حكمنا مسلمون موحدون"، وجاء رد «سليم الأول» مخادعا غير صادق ، إذا أرسل يقول لقنصوه الغوري : "يعلم الله، وكفى به شهيدًا، أنه لم يخطر ببالنا قط طمع في أحد سلاطين المسلمين أو في مملكته، أو رغبة في إلحاق الضرر به، فالشرع الشريف ينهى عن ذلك".
لم يكتف «سليم الأول» بتلك الفتوى وأبواق شيخ الإسلام بالولايات، بل طلب فتاوى أخرى، للتشكيك في تدين المماليك، واتهمهم بإباحة أعراض نساء رعاياهم لغير المسلمين، ونص سؤال الفتوى الثانية: "إذا كان شعب يدين بالإسلام (يقصد أهل مصر والشام) يفضل أن يخلط أولاده بعائلات غير المؤمنين (الشركس) على أن يخلطهم بالمسلمين، فهل يحل قتاله؟"، وكان الجواب: نعم.
فيما نص سؤال الفتوى الثالثة: "إذا كان أناس تحت حجج ظاهرية لتكريم الإسلام الذي يعتنقونه، يصكون الشهادة (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) على قطع النقود المعدنية، وهم يعرفون أن هذه النقود تقع في أيدي النصارى واليهود وأصحاب الفرق الـ72، وإذا - لا سمح الله - دخلوا بها إلى دورات المياه أو حملوها وهم غير طاهرين، وصرفوها عند الحاجة، ما هو حكم الحق مع هؤلاء؟" وجاء الجواب: إذا لم يسمحوا بالدفاع فإن قتالهم في محله.
.
هكذا برر «زنبيلي أفندي» الحرب ضد الدولة المملوكية عبر هذه الفتاوى، ونشبت الحرب العثمانية المملوكية على أرض سوريا في سهل «مرج دابق» عام 1516، وكان من نتيجتها دخول بلاد الشام تحت السيطرة العثمانية، وواصل السلطان «سليم الأول»زحفه نحو مصر وحدثت المعركة الحاسمة الثانية في «الريدانية»عام 1517، وانتهت بهزيمة السلطان «طومان باي» واحتلال مصر.
الفتاوى الثلاث السابقة لم تكف «زنبيلي أفندي» بل أفتى بتكفير أي شخص يقف بجانب دولة المماليك، وتلقف سليم الأول الفتوى ونشرها بين جنوده، ما أدى إلى مذابح دموية للآلاف من أهالي الشام الذين دافعوا عن أرضهم ضد المغتصب التركي، وتكرر نفس الأمر في شوارع القاهرة التي ارتوت بدماء 10 آلاف مصري عارضوا الاحتلال العثماني.
.
حصل «زنبيلي أفندي» على مكافأة كبيرة على سيل الفتاوى الدموية، إذ أمر السلطان سليم بزيادة راتبه اليومي حتى وصل 300 درهم، خاصة بعدما أضفى هالة مقدسة على أفعال السلطان وجعل طاعته جزءا من الدين، واتهم معارضيه بالخروج عن الإسلام.
.
استمر «زنبيلي أفندي» في منصبه في عهد السلطان «سليمان القانوني»، بعد أن قدم فروض الطاعة للديكتاتور الجديد، ما جعله يظل في منصبه حتى وفاته في أكتوبر من العام 1525، بعد أن أفتى بسفك دماء آلاف الأبرياء.
.