[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] رفاعة الطهطاوي ، إمام البعثة المصرية إلى
فرنسا وواعظها ، الذي أصبح بين عشية وضحاها بوقًا من أبواق هجمات التغريب
والإنبهار بالحضارة الغربية ، فكيف تحول الأزهري الشرعي إلى داعية للتغريب ؟
رفاعة الطهطاوي.. المولد والنشأة وُلد رفاعة رافع الطهطاوي في 15 أكتوبر 1801م ، بمدينة طهطا إحدى مدن
محافظة سوهاج بصعيد مصر ، ونشأ في أسرة كريمة الأصل شريفة النسب ، فأبوه
ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب [1] ، وأمه فاطمة بنت الشيخ أحمد
الفرغلي ، ينتهي نسبها إلى قبيلة الخزرج الأنصارية .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] لقي رفاعة عناية من أبيه ؛ فحفظ القرآن الكريم ، وبعد وفاة والده رجع إلى
موطنه طهطا ، ووجد من أخواله إهتمامًا كبيرًا حيث كانت زاخرة بالشيوخ
والعلماء ، فحفظ على أيديهم المتون التي كانت متداولة في هذا العصر ، وقرأ
عليهم شيئًا من الفقه والنحو .
سافر رفاعة إلى القاهرة ، وهناك إلتحق وهو في السادسة عشرة من عمره
بالأزهر في عام 1817م[2] ، وشملت دراسته في الأزهر الحديث والفقه والتفسير
والنحو والصرف... وغير ذلك .
نقطة التحول في حياة الطهطاوي وبعد تلك السنوات التي قضاها رفاعة الطهطاوي في طلب العلم ، ودراسة
الشريعة ، أرسلته الحكومة المصرية إلى فرنسا مع البعثات التغريبية التي
نقلت الحضارة الغربية الغثّ منها قبل السمين ، فخرج في الأصل إمامًا للصلاة
والوعظ مع البعثة ، ولكنها كانت نقطة التحول وبداية مرحلة من جهوده
المناهضة للشريعة .
ولما عاد إلى مصر وَلِي رئاسة الترجمة في المدرسة الطبية ، وأنشأ جريدة "
الوقائع المصرية " ، وألف وترجم عن الفرنسية كتبًا كثيرة ، وأسس مدرسة
الألسن وعمل ناظرها ، وهي المدرسة التي ( أوحى له الفرنسيون بإنشائها ،
والتي كانت مركزًا لبث الحضارة الغربية بين طلبتنا باسم العلم والثقافة ،
عندما إستقدمت مصر أساتذة من فرنسا ؛ لتدريس المواد في تلك المدرسة التي
شوهت حضارة الإسلام ، وبذلك حقق الفصل بين الأزهر من جهة ، وعلوم العصر من
جهة ثانية ، وأحدث إنقسامًا بين النخبة التي يرى أطرافها نقائض لبعضهما
)[3].
ولقاء إنضوائه تحت لواء الحضارة الغربية ، فقد رضي محمد علي ومعظم أبنائه
الولاة عن الشيخ رفاعة الطهطاوي ، فقد بلغت ثروته يوم وفاته ألف وستمائة
فدان غير العقارات ، وهذه ثروته كما ذكرها علي مبارك باشا في خططه ، فقد
أهدى له إبراهيم باشا حديقة نادرة المثال في " الخانقاه " ، وهي مدينة تبلغ
36 فدانًا ، كما أهداه محمد علي 250 فدانًا بمدينة طهطا ، وأهداه الخديو
سعيد 200 فدانًا ، وأهداه الخديو إسماعيل 250 فدانًا ، بينما إشترى
الطهطاوي نفسه 900 فدانًا ، فبلغ جميع ما في ملكه إلى حين وفاته 1600 فدان ،
غير ما شراه من العقارات العديدة في بلده طهطا وفي القاهرة ، فماذا قدم
الطهطاوي حتى يخلع عليه هؤلاء الولاة هذه الأموال والأراضي ؟
جهود رفاعة الطهطاوي في مناهضة الشريعة رائد الإصلاح والتنوير كما يطلق عليه مؤيدوه ، كان الثغرة الأولى التي نفذ
منها الغربيون إلى عالمنا الإسلامي ، فكما يقول المستشرق " جب " : ( كانت
المصادر الأولى التي أخذ الفكر الأوربي يشع منها هي المدار المهنية التي
أنشأها محمد علي ، والبعثات العلمية التي أرسلها إلى أوربا ، ويذكر أن منها
مدرسة الألسن التي كان يشرف عليها العالم " الفذُّ " رفاعة الطهطاوي ، وهو
تلميذ جومار ألبار )[4].
أما ما يتعلق بإعجابه الهائل بزيف الحضارة الغربية ، فيقول في كتابه "
تخليص الإبريز في تلخيص باريز " : ( والغالب أن الجلوس للنساء ، ولا يجلس
أحد من الرجال إلا إذا إكتفى النساء ، وإذا دخلت امرأة على أهل المجلس ولم
يكن ثَمَّ كرسي خالٍ قام لها رجل وأجلسها ، ولا تقوم لها امرأة لتجلسها ،
فالأنثى دائمًا في هذه المجالس معظمة أكثر من الرجل ، ثم إن الإنسان إذا
دخل بيت صاحبه ؛ فإنه يجب عليه أن يحيي صاحبة البيت قبل صاحبه ولو كبر
مقامه ما أمكن ، فدرجته بعد زوجته أو نساء بيته )[5].
ويقول في وصفه لحال المراقص في باريس ، ولا أدري ما حاجة الواعظ والإمام
فضلاً عن غيره من المسلمين في دخول مثل تلك الأماكن : ( فالرقص في باريس
دائمًا غير خارج عن قوانين الحياء ، بخلاف الرقص في أرض مصر فإنه من
خصوصيات النساء ؛ لأنه لتهييج الشهوات ، أما في باريس فإنه لا يُشم منه
رائحة العهر أبدًا ! وكل إنسان يعزم امرأة يرقص معها ، فإذا فرغ الرقص
عزمها آخر للرقصة الثانية ، وهكذا ، وسواء أكان يعرفها أو لا ، وتفرح
النساء بكثرة الراغبين في الرقص معهن )[6].
ثم يسهب في وصف نوع الرقصات وشكلها ؛ فيقول : ( وقد يقع في الرقص رقصة
مخصوصة ؛ بأن يرقص الإنسان ويده في خاصرة من ترقص معه ، وأغلب الأوقات
يمسكها بيده )[7].
وهنا يعلق الدكتور العفاني قائلاً : ( وهذا الكلام يوحي لقارئه بدلالات ؛ نذكر منها إثنتين :
1- أن الأخلاق ليست مرتبطة بالدين ، وهي فكرة إنقدحت في ذهن الشيخ ، لكنه
لم يستطع أن يعبر عنها بجلاء ، فهاهو المجتمع يمارس ألوان الدياثة التي لا
يرضاها الدين طبعًا ، ولكنها مع ذلك ليست خارجة عن قوانين الحياء ، ولا
يُشم منها رائحة العهر، حتى قيل صراحة : إن الحجاب وسيلة لستر الفواحش ،
وأن التبرج دليل على الشرف والبراءة ، ومن ثَمَّ فلا علاقة بين الدين
والأخلاق .
2- أن هذا المجتمع الديوث يكرم المرأة ويحترمها ، وفي المقابل نرى المجتمع
الإسلامي عنده يحافظ على العرض ولكنه يحتقر المرأة ، ويصل إلى المفهوم
الذي وجد في أوربا نفسه ؛ وهو أن حقوق المرأة مرتبطة بتحررها من الدين ،
فما لم يُنبذ الدين فلن تحصل على هذه الحقوق )[8].
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] دفاعه عن قواعد الحضارة الغربية الباطلة فهو يقول في أحد مؤلفاته ، محاولاً تلبيس تلك القواعد العقلية الإعتزالية
الغربية لباس الشرع : ( ومن زاول علم أصول الفقه ، وفقه ما إشتمل عليه من
الضوابط والقواعد ؛ جزم بأن جميع الإستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي
باقي الأمم المتمدنة إليها وجعلوها أساسًا لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم ؛
قلَّ أن تخرج عن تلك الأصول التي بُنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها
مدار المعاملات ، فما يُسمى عندنا بعلم أصول الفقه ، يشبه ما يُسمى عندهم
بالحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية ، وهي عبارة عن قواعد عقلية تحسينًا
وتقبيحًا يؤسسون عليها أحكام المدنية .
وما نسميه العدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية ، وما يتمسك به أهل
الإسلام من محبة الدين والتولع بحمايته مما يفضلون به عن سائر الأمم القوة
والمنعة يسمونه محبة الوطن )[9].
وكان لتلك الدعوى آثار وتلاميذ يحملونها ؛ ومنهم محمد عثمان جلال لترى
موجة عاتية من موجات التغريب ، فقد كانت أبرز آثاره الأدبية ترجمات لبعض
المؤلفات الفرنسية ذات الشهرة ، مثل : " بول وفرجيني " ، و " خرافات
لافونتين " وبعض " ملاهي موليير " ، والأمر الذي يجب التنويه به في عمله
هذا ليس هو فكر الترجمة في ذاتها ، بل الروح التجديدية التي تكمن وراءها ،
فقد ترجم " لافونتين " إلى شعر سهل لا تصنع فيه ولا رهق .
إلا أنه حين ترجم " ملاهي موليير " كتبها بلهجة العامة في مصر ، ولم يكن
الوقت قد حان بعد للإقدام على مثل هذا العمل الجريء ، غير أن ما تجلى في
تلك الخطوة من إنفكاك تام من أسر الماضي كان دليلاً على روح العصر ، فقد
قال الخديو إسماعيل : " مصر أصبحت قطعة من أوربا " ؛ ولذا كان لا بد للأدب
المصري من أن يعبر عن إستقلاله عن التقاليد الآسيوية والإفريقية )[10].
رفاعة الطهطاوي والمرأة المسلمة وكعادة دعاة التغريب والإنحلال تحت مسمى التنوير والحداثة ، ينفثون سمومهم
من أجل تحرير المرأة ليس من الظلم الذي يدعونه ، ولكن من كل حياء إسلامي
رفيع ؛ ولذا فقد نالت المرأة من كتاباته الكثير، فقد عاد الطهطاوي من فرنسا
ليقول بملء فيه : ( إن السفور والإختلاط ليس داعيًا إلى الفساد )[11] ،
ويُبرر لدعوته ذلك بالإقتداء بالفرنسيين حتى في إنشاء المسارح والمراقص ،
وضمَّن ذلك كتابين : " تلخيص الإبريز في تلخيص باريز " ، وكتاب " المرشد
الأمين ".
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] العوامل المؤثرة في تكوينه الفكري وعن هذا يخبرنا الأستاذ سالم مبارك في كتابه " اللغة العربية.. التحديات
والمواجهة " ، فيقول عن رفاعة الطهطاوي : ( ذكيًّا نعم ، نابهًا بين أقرانه
نعم ، محبًّا للعلم نعم ، ولكنه مع ذلك في الخامسة والعشرين من العمر...
غريرًا ، طري العود ، جاء من أقصى الصعيد حيث البؤس والضنك إلى قلب باريس
بحدائقها وميادينها ومباهجها .
وتم تسليمه إلى أخطر مستشرق وأدهاهم ، إنه البارون الفرنسي " سلفستر دي
ساسي " ، فتنوه وجعلوه يشاهد أروع المحافل التي تتألق أنوارها ، فتتألق
معها مفاتن النساء ، إنتزعوه من بؤس الصعيد وأزقتها المخربة وقضى في باريس 6
سنوات ، تعلم فيها الفرنسية ، ودرس التاريخ ، والجغرافيا ، والفلسفة
والآداب الفرنسية ، وقرأ مؤلفات " فولتير " ، و" جان جاك روسو " ، و"
مونتسكيو " ، وتعلم فن العسكرية ، والرياضيات .
كيف يمكن لست سنوات أن تلم هذه العلوم التي شابت لها نواصي الرجال إلا أن
تكون خطفًا ، وأن يكون ما ألفه سطوًا على كتب ، حتى مدرسة الألسن التي
أنشأها لم تكن من بنات عبقريته بل بإيعاز ممن درَّبوه هناك ، وهذه المدرسة
أحدثت صدعًا في ثقافة الأمة وقسمتها إلى شطرين : الأزهر في ناحية ، ومدرسة الألسن في ناحية ، والوظائف طبعًا تكون للأخيرة حيث يدرس فيها المستشرقون )[12].
وفاة رفاعة الطهطاوي إنزوى رفاعة الطهطاوي في آخر حياته عن الساحة ، وترك مكان الصدارة الذي ظل
يشغله طيلة خمسين سنة يترجم علوم وأفكار أوربا والقوانين الوضعية ويرأس
تحرير جريدة " الوقائع المصرية " ، ويكتب المقالات ويؤلف الكتب ويقنن
الأفكار ، حتى وافته المنية في 1 ربيع الآخر سنة 1289هـ/1873م ، بعد أن قام
بالدور الأول في طمس معالم الحضارة الإسلامية وتحويلها لمسخ من الحضارة
الغربية .
.
[1] الزركلي : الأعلام 3/29.
[2] عمر كحالة : معجم المؤلفين 4/168.
[3] سمير أحمد الشريف : جذور الهيمنة على الثقافة العربية الإسلامية ، مجلة التاريخ العربي ، 1/8501.
[4] العفاني : أعلام وأقزام في ميزان الإسلام 1/57.
[5] الطهطاوي : تخليص الإبريز في تلخيص باريز ص168.
[6] المصدر السابق ص119.
[7] المصدر السابق ، نفس الصفحة.
[8] العفاني : أعلام وأقزام في ميزان الإسلام 1/58-60.
[9] الطهطاوي : المرشد الأمين ص36، 37.
[10] جب : دراسات في حضارة الإسلام ص320، 321.
[11] الطهطاوي : تخليص الإبريز في تلخيص باريز ص305.
[12] سالم مبارك : اللغة العربية.. التحديات والمواجهة ص 28، نقلاً عن محمود محمد شاكر : في الطريق إلى ثقافتنا ص210-213.
كتبه : مصطفى كريم . المصدر :موقع شبكة محبى الازهر الثقافية