العلماء الربانيون
أهل الله رجال كانوا يصدعون بالحق ولا يخافون في الله تبارك وتعالى لومة لائم **
خطب الجمعة فضيلة الشيخ / أحمد السيسي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102) } ( سورة آل عمران الآية: 102 )
{
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذين خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث
منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله
كان عليكم رقيباً } ( سورة النساء الآية: 1 )
{
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم
ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } ( سورة الاحزاب الآية: 70 -71 )
أما بعد ،،،
فإن
أصدق الحديث كتاب الله تعالى ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ،
وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
أما بعد ،،،
أخذ الله تبارك وتعالى العهد على العلماء ليبننه للناس ولا يكتمونه ، لأن الحياة لا تستقيم إلا حين يستقيم هذا الصنف من البشر .
صنفان
من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس ـ العلماء ، والأمراء ـ
فالعلماء يحيون القلوب ويربون الأرواح ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
ويأخذون بأيدي العباد إلى جادة الصواب وينيرون الطريق فيخرجونهم بشرع الله
من الظلمات إلى النور
والأمراء يسوسون الدنيا بدين الله تبارك وتعالى ويدعون ويأخذون على أيدي العابثين .
لذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : " إن الله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " .
لأن
السلطان يملك الآلة التي يضرب بها على يد العابثين والمفسدين ، فالله
تبارك وتعالى أنزل آيات بينات وأنزل الحديد فيه بأس شديد ، فكان قوام هذا
الدين كتاب هدي وسيف ينصر { وكفى بربك هادياً ونصيراً }
العلماء الربانيون الذين ساسوا هذه الأمة قاموا فيها مقام الأنبياء من بني إسرائيل .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن
بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء كلما هلك ـ أي مات ـ نبي تبعه آخر ،
أما هذه الأمة فإن الله تعالى يبعث لها على رأس مائة عام من يجدد لها أمر
دينها ) أي يأخذوا بناصية الأمة إلى جادة الصواب ، يأخذها إلى
الطريق الموصلة إلى الله لتسير على خطى النبي صلى الله عليه وسلم ومن سار
على خطاه من الصحابة والتابعين وأتباعهم من أئمة الدين العدول الثقات ، { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون } هذا الفارق بين علماء الأمة الإسلامية وبين علماء بني إسرائيل .
وقف
النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر يدعو الناس إلى الإشارة عليه فقام
المقتاد ابن الأسود رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله ، والله لا
نقول لك كما قالت بنوا إسرائيل لموسى { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن خلفك ومن بين يديك ، ولعل الله تبارك وتعالى أن يريك منا ما تقر به عينك .
هذا
هو الفارق بين علماء بني إسرائيل الذين أخذ الله عليهم العهد بالبيان
والإرشاد والنصح فإذا بهم يتنكبون الصراط المستقيم فأنزل الله تبارك وتعالى
فيهم قوله { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على
لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن
منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون }
ضرب
الله تبارك وتعالى قلوبهم بقلوب بعض ، لأن الرجل كان يمر على الرجل فلا
يقول له اتق الله حتى يكون أكيله وشريبه ، فضرب الله قلوبهم بقلوب بعض
ولعنهم
فلابد أن يقوم العلماء بمهمتهم وبدورهم الأصيل لأن العلماء قادة هذه الأمة { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يسنبطونه منهم }
ففي
غياب الشرعية وفي غياب الشريعة وفي غياب السلطان المقسط يقول لنا الإسلام :
اجعلوا ولاة أموركم العلماء الربانيين يسوسونكم ويقودونكم بشرع الله تبارك
وتعالى
لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من الناس أن يكون على مستوى المسئولية وألا تأخذه فيه تعالى لومة لائم ، فقال : ( ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه ) ، لابد أن يبين الحق وأن يظهر هذا الحق
في
تاريخنا نحن المسلمين نماذج مشرقة من مواقف هؤلاء العلماء الربانيين الذين
وقفوا سداً منيعاً أمام الفساد والمفسدين مهما كانت رتبة هؤلاء المفسدين
ولو كانوا أعلى رأس في البلاد ، وقفوا أمامهم وجهروا بالحق في وجوههم ،
أخذوا بأيديهم ومنعوهم أن يلغوا في دماء هذه الأمة أو أن يبدوا الحق باطلاً
أو يقلبوا الباطل حقاً .
هذا
الإمام أبي بكر النابلسي ، من نابلس في فلسطين ، هذا الرجل كان يعيش هنا
في مصر إبان عهد الدولة الفاطمية العبيدية التي بدلت الشريعة وحاربت الدين
ولعنت الصحابة على منابرها ، ومازال في مساجد القاهرة القديمة الأثرية لو
أنك دققت النظر في الزخارف التي نقشت على سقوف المساجد الفاطمية ستجد
تلطيخاً بالبويا وغيرها على كلام لو أنك أزحت الغطاء لوجدت سباً ولعناً
لأبي بكر وعمر والخلفاء الراشدين كان مكتوب على جدران المساجد في عهد هذه
الدولة الخبيثة .
هذا
الأمام النابلسي كان يقول للناس : " لو أن معي عشر أسهم لرميت الروم بسهم
ولرميت العبيدين بتسعة أسهم " فبلغت مقولته السلطان المعز الفاطمي فاستدعاه
فقال : بلغني أنك تقول لو أن عندي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ولرميت
العبيدين بسهم ، فقال له : ما قلت ذلك ، فظنه الرجل يكذب من الخوف ، فقال
فما قلت ؟ ، قال : قلت لو كان معي عشرة أسهم لرميتكم أنتم بتسعة أسهم
ولرميت الصليبيين بسهم واحد
فقال له : ولما ؟
قال : لأنكم غيرتم الدين وحرفتم الشرع وأطفأت نور الإلهية
فأمر به فلجد ثم صلب ، وجيئ برجل يهودي فسلخ جلده من رجلة حتى صدره ثم طعنه فقتله رحمة الله تعالى عليه .
هذا قام لله تبارك وتعالى بحقه ،كان في وسعه أن يداري أو يجمجم ، لكنه يعلم أن الأمة تنتظر مثل هذه الكلمات لتدوينها والعمل بها .
هذا حجز لنفسه مكاناً في قافلة الصادعين بالحق في سبيل الله ، فقد روحه لكنه أصبح من عظماء هذه الأمة .
كان
الخليفة المأمون العباسي وهو الذي أظهر الفلسفة والقول بخلق القرآن يقول :
لولا مكانة يزيد بن هارون ـ وهو من أكابر علماء السلف ـ لولا مكانة يزيد
بن هارون لأظهرت القول بخلق القرآن
فقالوا له : ومن يزيد بن هارون
يعني ماذا يصنع رجل واحد بين هذه الآلاف المؤلفة ؟
فقال لهم المأمون : يستطيع أن يشوش علينا العامة .
انظر
!! ، رجل واحد صلب في دين الله أوقف محنة وفتنة كان سيدعى لها على المنابر
، فلما أطلت هذه الفتنة برأسها واستعللت واستحكمت وقف الإمام أحمد بن حنبل
رضي الله عنه موقفاً ذكره له التاريخ حتى قال المؤرخون : إن الله تبارك
وتعالى أيد هذا الدين برجلين ـ بأبي بكر الصديق في يوم الردة ، وبأحمد بن
حنبل يوم فتنة القول بخلق القرآن ـ
لما
حمل الإمام أحمد إلى بغداد ليضرب بالسياط ضربا يهد الفيلة وجد آلاف البشر
يحيطون بالمقر الذي تم التحقيق معه فيه يحملون الأقلام والدفاتر ، يقف
عشرات الآلاف في انتظار الكلمة التي سيدلي بها أحمد بن حنبل ، لو قال
القرآن مخلوق لأصبحت هذه القاعدة التي يكبر عليها الصغير ويشيب عليه الكبير
، ولكنه رضي الله تعالى عنه وقف صلباً في دين الله حتى تم رفع هذه الفتنة
وانتصر أهل السنة على أعدائهم من المعتزلة الصادين عن سبيل الله .
إبان
هذه الفتنة كان كبير الوزراء رجل معتزلي اسمه " أحمد بن أبي دؤاد " ، هذه
الفتنة استمرت في عهد الثلاثة الخلفاء ـ المأمون ، والمعصم ، والواثق ،
والمتوكل ـ ، فلما كان عهد الواثق جاء أحمد بن أبي دؤاد وكانوا يمتحنون
الناس في المساجد والمدن بالقول بخلق القرآن فحمل رجل إلى الخليفة يرصف في
الأغلال والقيود فلما دخل لتضرب عنقه لأنه رفض القول بخلق القرآن قال له
أحمد بن أبي دؤاد : دعني فلأناظره يا أمير المؤمنين ، فقال : ناظره
فقال أحمد بن أبي دؤاد للرجل : ما تقول في القرآن ؟
فقال له هذا الشيخ : ما أنصفتني ، اجعل السؤال لي .
فقال : لك السؤال .
فقال له : ما تقول أنت في القرآن ؟
قال : أقول القرآن مخلوق
قال : هذا قول علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون
فقال أحمد بن أبي دؤاد : هذا قول لم يعلمه رسول الله ولا الخلفاء الراشدون
فقال له الرجل : يا لكع وابن لكع ، قول لم يعلمه رسول الله والخلفاء الراشدون علمته أنت ؟!!
فقال الرجل : رد السؤال إلى حاله ـ أي أعد المسألة ـ
فقال له الشيخ : ما تقول في القرآن
فقال أحمد بن أبي دؤاد : مخلوق
فقال له : أهذا قول علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون ؟
فقال أحمد بن أبي دؤاد : علموه ولم يحدثوا به الناس .
فقال له الشيخ : أفلا وسعك ما وسعهم من السكوت .
فلما
سمع الخليفة هذا الكلام أعجبه فدخل بيته واستلقى على ظهره ووضع ساقاً على
ساق كما يقول أبناؤه ، وظل يردد الكلام " هذا كلام علمه رسول الله صلى الله
عليه وسلم والخلفاء الراشدون ـ علمته أنت ـ أفلا وسعك ما وسعهم "
ثم خرج من فور فأنهى فتنة القول بخلق القرآن ومنع هذا القول وكرم الشيخ وأمر له بدابة ومال وحمل معززاً مكرماً .
هذا
الرجل كان داخلاً لتضرب عنقه ، ومع ذلك ثبت في سبيل الله تبارك وتعالى ،
في سبيل إظهار دين الله عزوجل تهون الحياة ، يهون القتل ، يهون السجن ، لكن
دين الله تبارك وتعالى لابد أن يكون في الصدارة ، لذلك جاهر هؤلاء العلماء
عبر عهودهم وعصورهم جاهروا بالحق أمام الطواغيت كائناً من كان أسلوبهم أو
طريقتهم في البطش والتنكيل بأهل العلم والدين
هذا
الإمام " عمر بن حبيب " كان في مجلس هارون الرشيد وكان ممن يجالسون هارون
الرشيد بعض المشتغلين بالعلم من المنحرفين عن أخلاق العلماء فحدثوا بحديث
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فقالوا : أبو هريرة كذاب ، فسكت الناس
وكأن هارون الرشيد مال وأعجبه هذا القول فقال عمر بن حبيب من مجلسه منتفضاً
فقال : أبو هريرة صادق والحديث ثابت وأنتم مخطئون ثم انقضى وتركهم ، فبعث
هارون الرشيد إلى بيته فاستدعاه ، قال : فدخلت عليه فإذا هو قائم مغضباً
والسيف في يده ، وهذا تقليد يعني الحكم بالإعدام ، إذا بعث الملك يستدعي
أحد فدخل عليه فوجد السيف في يده يعلم أن السيف سيحز رأسه بعد قليل ، فقال
له هارون الرشيد : ما هذا يا عمر بن حبيب ، جاهرتني بالسوء أمام جلاسي
فقال
: يا أمير المؤمنين هؤلاء طعنوا في راوي سنة رسول الله ، والطعن في
الصحابة طعن في الرسول والطعن في الرسول عليه الصلاة والسلام إبطال لهذا
الدين
قال : فهز رأسه ثم صرفه رحمه الله تعالى .
أولئك قوم قاموا لله تبارك وتعالى بحقه ،لا مجاملات في الحق ، لا مجاملات في دين الله تبارك وتعالى
هذا
الإمام أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة وهو من أكابر فقهاء المسلمين ، كان
يتولى الخلافة في عهد هارون الرشيد ، وكان لهارون الرشيد كبير وزراء
يعادل رئيس الوزراء الآن اسمه الفضل بن الربيع ، فلما جاء الفضل بن الربيع
إلى المحكمة ليشهد أمام القاضي أبي يوسف أبطل أبو يوسف شهادة رئيس الوزراء ،
وقال : شهادتك مردودة فذهب الرجل إلى هارون الرشيد يشكوا القاضي ، فلما
جاء هارون الرشيد إلى مجلس القاضي بنفسه ، قال : كيف ترد شهادة كبير
الوزراء ، قال : لأنني سمعته يوماً يقول لك يا مولاي أنا عبدك ، فإن كان
صادقاً فشهادة العبد لا تقبل ، وإن كان كاذباً فشهادة الكذاب لا تقبل ، فهز
هارون الرشيد رأسه وانصرف .
أرأيتم
؟!! ، الرجل سمع كلمة لكنه لم ينساها ، سمع رئيس الوزراء يقول لرئيس
الجمهورية أنا عبدك فلما جاء هذا الرجل ليشهد في قضية أبطل شهادته وقال له
إن كنت عبداًَ فالعبد لا تقبل شهادته وإن كنت كاذباً في ادعائك العبودة
لرئيس الجمهورية فشهادة الكذاب لا تقبل .
هكذا كانوا رحمهم الله تعالى ، إنصافاً وعدلاً وقياماً لله تبارك وتعالى بحقه كائناً من كان الواقف أمامهم
سلطان
العلماء عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى لما كانت الحروب الصليبية
وأراد السلطان نجم الدين أيوب ـ لو قرأتم تاريخ نجم الدين أيوب ! كان من
جبابرة سلاطين المماليك ، كان رجلاً شهماً مهاباً فتاكاً باطشاً سفاكاً
للدماء ـ فلما أراد أن يجمع الضرائب من الشعب قام عز الدين بن عبد السلام
فقال : لا يجوز أن تجمع الضرائب من الشعب حتى تفنى موارد خزينة الدولة ،
فقالوا : ليس عندنا مال لتجهيز جيش
فقال
: أولاً بيعوا أمراء المماليك ، هؤلاء عبيد يباعون وترد أموالهم إلى خزينة
الدولة ـ أمراء المماليك هم من كانوا يحكمون هذه الدولة ـ ولكنه قال
هؤلاء عبيد لابد أن يباعوا في سوق النخاسة ويجمع هو أثمانهم ويضع هذه
الأموال في خزانة الدولة ثم ينفقون بعد ذلك منها ، وهاج الناس وماجوا
واضطربوا ، كيف يباع الأمراء وقالوا أن هذا الرجل مجنون ، ولكنه أصر على
قوله ، فلما أبى السلطان أن بيع أمراء المماليك ماذا صنع ؟ وضع ثيابه
وأثاثه وأولاده على عربة من التي نسميها نحن الآن " كاروا " وضع متاعه
عليها وأولاده ودفعها وقال سأترك هذه البلدة فتهامس الناس بينهم عز الدين
بن عبد السلام سيترك مصر إلى الشام ، فماذا حدث ؟ كل من سمع حمل ثيابه على
كتبه وانطلق خلف عز الدين بن عبد السلام حتى إن أهل البلدة يكادون جميعم أن
يكونوا قد خرجوا خلفه فصاح الحراس على السلطان نجم الدين أيوب أن المملكة
ستخرج والشعب كله خارج مع عز الدين بن عبد السلام ، فجاء السلطان وقبل يده
واسترضاه ووقف الإمام عز الدين بن عبد السلام في السوق وعرض الأمراء الحكام
الذين كانوا يحكمون مصر وبيعوا في سوق النخاسة وضمت أموالهم وأثمانهم إلى
بيت مال المسلمين .
سلطان
العلماء دخل يوماً على نجم الدين أيوب فوجد الناس يسجدون أمامه يقبلون
الأرض فنادى عليه بأعلى صوته قال : يا أيوب ، فالتفت الرجل من هذا الذي
يناديه باسمه المجرد " يا أيوب " !! ، والناس كانوا يقبلون الأرض التي كان
يدوس عليها قبل أن يقبلوا يده فإذا بهذا يقول له : يا أيوب على مسمع الجميع
، فقال : لبيك يا مولاي ، قال : ماذا تقول لربك غداً عندما يسألك أنت
الذين أباح بيع الخمور في مصر ؟
قال : أوكائن هذا ؟
قال : نعم ، الحانة الفلانية تباع فيها الخمور
فقال : أنا ما رسمت أي ما أصدرت قانوناً بذلك ، هذا كان من عهد أبي
قال : وأنت من الذين يقولون { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون }
فأصدر السلطان مرسوماً بإبطال بيع الخمور في الديار المصرية
هكذا كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم
حين
عاد عز الدين بن عبد السلام إلى بيته سأله تلميذه الباجي ـ الإمام الباجي
العظيم ـ وكان أكبر تلامذته ، قال له : يا إمام أما خشيت من السلطان ؟
فقال له : يا بني تذكرت عظمة الله تعالى فرأيت السلطان في عيني كالقط .
هكذا كانوا ، لما استحضر عظمة الله جل وعلا رأى السلطان في عينه كالقط الصغير .
هذا
الخليفة المنصور دخل يوماً إلى الحرم المكي فقام جميع الشيوخ والعلماء
يسلمون عليه ويرحبون ، وكان الإمام ابن أبي ذئب جالساً ماداً رجليه فلم
يتحرك من مكانه فوقف الخليفة المنصور أمامه فسلم عليه ، فرد عليه السلام
وهو جالس فاستشاط الرجل غضباً فبعث فاستدعاه إلى قصره
فقال : أستهين بي ، قام الناس كلهم فلماذا لم تقم أنت ؟
فقال له : يا أمير المؤمنين أردت أن أقوم لك فاستحضرت قول الله تبارك وتعالى { يوم يقوم الناس لرب العالمين } فلم أتحرك
فقال له : اذهب فقد وقفت كل شعرة في رأسي .
هكذا
كانوا ، هؤلاء هم العلماء الربانيون مفخرة هذا الأمة المسلمة الذين حافظوا
على الدين وحافظوا على الأمة وإنجازاتها ومكتسباتها رضي الله تعالى عنهم
وأرضاهم .
لما
جيء بحطيط الزيات إلى مجس الحجاج بن يوسف السفاح الغشوم دخل عليه فقال له
الحجاج : هيه بلغنا أنك تسبنا ، فقال اسأل ما شئت يا حجاج فلقد عاهدت الله
تعالى لئن عوفيت لأشكرن ولئن ابتليت لأصبرن ولئن سئلت لأصدقن
قال لا ما تقول في ؟
قال أنت ظالم غشوم تسفك الدماء وتقتل بالظنة
قال فما تقول في أمير المؤمنين ؟ـ يعني عبد الملك بن مروان من حكام بني أمية ـ
قال : هو أسوء منك ، وهل أنت إلا سئية من سيئات عبد الملك ؟
فأخذوه
فما زالوا يجلدوه ثم جرده من ثيابه وشققوا له القصب فوضعوه على لحمه حتى
تساقط لحمه فمات رحمة الله تعالى عليه وكان في الثامنة عشر من عمره لكنه
صبر لله تعالى .
لما
جيء بسعيد بن جبير ليقتله الحجاج بن يوسف خرج سعيد من عنده فضحك ، وكان
المعلوم من حاله أنه لا يضحك أبداً ، فسأله الحجاج : لماذا تضحك ؟ قال :
تعجبت من جرأتك على الله وما أحلم الله تبارك وتعالى عليك
فقال : إني قاتلك يا سعيد
قال : والله لا تقتلني قتلة إلى قتلك الله مثلها
فكب على وجهه ليقتل فقال : اللهم لا تسلطه على أحد من بعدي
فمات
سعيد ثم وقعت الآكلة في بطن الحجاج فكان الدود يتناثر منه وكان يصيح وهو
على فراش الموت : ويلي ... مالي ولسعيد بن جبير حتى خرجت روحه .
هكذا
كانوا ، العلماء الربانيون هم دعائم هذه الأمة ، هم الذين حموا هذه الأمة ،
هم الذين صدوا عوادي المعتدين على أمة الإسلام ، هم الذين حفظوا دين الله
تبارك وتعالى ، لذلك كانت لهم أعظم المنزلة عند جميع المسلمين .
لهم حقوق عظيمة لأنهم قاموا بدين الله ، ضحوا في سبيل الله ، أفنوا أعمارهم لخدمة هذا الدين .
هذا
شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى ، هذا الرجل الذي ورث علوم السلف
وخاض غمار معارك على كافة الأصعدة في سبيل الله تبارك وتعالى ، لما جاء
التتار ونزلوا إلى بلاد الشام وكان قاذان أو غازان ملك التتار ملكاً مسلماً
لا يعرف شيئاً عن الإسلام واجتاح البلاد وأحرق القرى وذبح المسلمين حتى إن
الجنود من ميادين المعارك فذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى معسكر
قاذان فأغلظ له القول وقال له اتق الله إن آباءك وأجدادك كانوا كفاراً
ووفوا بالعهود وأنت ظلمت الناس وسفكت دماءهم ، فلما قدم له ملك التتار
طعاماً قبض يده ولم يأكل منه شيئاً
فقال : لما لا تأكل ؟
قال
: كيف آكل من طعامك وأنتم سرقتم طعام الناس من الأسواق ؟ وطالبه أن يرحل
وأن يفك حصاره فاستجاب له قاذان ؛ لأنه خرج في سبيل الله ، سمع كلام رجل
يعمل لله تبارك وتعالى ، حين فر الجنود من ميدان المعركة وكان الجنود
تابعين للجيش المصري رحل ابن تيمية من الشام إلى مصر وقال لسلاطين المماليك
: إما أن ترتبوا جيشاً يدافع عن الشام وإما أن نرتب نحن جيشاً يدافع عن
بلادنا ، ثم إنه ذهب بنفسه وأعد الجند وخرج في معركة شطحب الشهيرة التي كسر
فيها التتار كسرة لم يرفعوا بعدها رأساً في الديار الشامية ، قال الرواه :
وكان ابن تيمية يقف مقاتلاً في أول الجيش فقيل له يا إمام تنحى جانباً ،
قال : إني أريد أن أنال أشرف الميزات بأن أموت مقبل غير مدبر ، رحمه الله
تعالى ورضي عنه .
هكذا
كانوا ، كانوا يصدعون بالحق ولا يخافون في الله تبارك وتعالى لومة لائم ،
لم يجاهدوا فقط في المساجد والمعابد وإنما جاهدوا في ميادين القتال الحربية
، خرجوا في سبيل الله جل وعلا حتى نصر الله عزوجل هذه الأمة ، فهذا الصنف
من الناس العلماء الربانيون ، هم الذين يكفلون لهذه الأمة أن تحيا حياة
رغدة ، أن تحيا حياة آمنة مطمئنة ؛ لأنهم قاموا لله بحقه وأعلنوا وصدعوا
بهذا الحق على رؤوس الأشهاد ، لذلك أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على طلاب
العلم وبين أن الملائكة تضع أجنحتها على سبيل التحية لطالب العلم رضاً بما
يصنع ، لأن هؤلاء ينصعون لنا نهضتنا ، يحافظون على ديننا ، يدرسون شرع
الله عزوجل ويربون عليه البشر فكان هؤلاء العلماء هم صمام أمان هذه الأمة
عبر العصور .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
بعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــده