Mohammed Haffz
***************
لم يلفت نظري في تسريب الدكتور محمد البرادعي الأخير الذى اذاعه الإعلامي أحمد موسى على قناة صدى البلد ، سوى الصراع الخفي بين البرادعي وما أصطلح على تسميتهم شباب الثورة ، وهى المجموعات التي ظهرت في ميدان التحرير وتنتمى في الاساس لخلفيات سياسية وحقوقية تصورت انها ملكت ثورة يناير وملكت الحقيقة المطلقة .. فما يرونه هو الصواب والدولة كلها على خطأ ، والتظاهر بلا توقف فرض عين ومن ينتقده خائن وفلول ، ولقد عشت بنفسي تلك الفترة القاسية بحكم عملي بين تغطية الانشطة الحقوقية والفاعليات السياسية بعد الثورة .
.
كان واضحا ان البرادعي لم يحب شباب الثورة ، و يراهم مجموعة من الحيوانات التي تتصارع معه على جزء من التورتة ، فكل واحد منهم كان يرى في نفسه حزبا مستقلا ومن حقه أن يتعالى على الناس وعلى الدولة نفسها .... الصورة تكتمل أكثر بالرجوع الى التسريبات التي سبق وأذاعها الإعلامي عبد الرحيم على في برنامجه "الصندوق الاسود" ، والتي تؤكد العلاقات المعقدة التي كانت تربط بين هؤلاء الشباب بعضهم البعض ، أو بأجهزة الدولة وكذلك علاقتهم بالخارج ، فالبعض كان يرى أن تظاهره كان السبب الأساسي في سقوط النظام وأن ذلك يسمح له ان يحصل على مكانه اجتماعية او سياسية ، أو استغلال الاهتمام الدولي في السفر الى الخارج والمتاجرة بقضية الوطن أو في بيع معلومات جهاز أمن الدولة لجهات خارجية (راجع تسريب محمد عادل مع صوفيا ) وكذلك الحصول على هدايا وأموال من رجال أعمال أو مسئولين عرب، وهو ما يفسر الطفرة الاقتصادية التي يعيش فيها هؤلاء الشباب وتجعل الكثيرون يقارنون بين حالهم الآن بما كان قبل ثورة يناير .
.
و لم يكن البرادعي مقتنعا أيضا بعد يناير بأي سياسي ..كان يراهم حسب تعبيره مجموعة " أفاقين " بداية من عمرو موسى وانتهاء بصباحى ، والأمر شخصي بينه وبين عمرو موسى الذي كان يمثل ندا فعليا له منذ أن عملا معا في وزارة الخارجية ، ثم تطور الأمر للتنافس على منصب الرئيس بعد تخلى الرئيس مبارك عن السلطة ، أما صباحى فالكل يعلم انه بلا وزن سياسي حقيقي سواء داخل مصر او خارجها ، وكذلك زويل رغم انه حصل على نوبل بمجهوده وليس بدعم أمريكي مثل البرادعي .
.
ورغم ذلك كان الكل يتلاعب بالبرادعي ..قبل الثورة كان عصام سلطان قريبا من البرادعي بحكم عضويته في الجمعية الوطنية للتغيير وكانت صدمته كبيرة حينما كشف الفريق أحمد شفيق تجسس سلطان على البرادعي لصالح جهاز أمن الدولة ، ثم غير رأيه بعد الثورة وقرب منه ابراهيم عيسى وكان يرى فيه نموذج المثقف ذو الكاريزما الذي يحتاجه للحديث بصوته ، يعلم البرادعي أزمته مع "اللعثمة " وكان يحتاج لصوت جهوري مثقف يعبر عنه ، لكن التقارب بينه وبين ابراهيم توقف في لحظة ما ليقترب وائل قنديل الذي قفز بعد فترة من مركب البرادعي للحاق بمركب الاخوان .
.
تعامل البرادعي بتعالي مع الجميع كان نابعا من تأكده انهم جميعا بلا وزن أو تأثير ، حتى تعامله مع المجلس العسكري والاخوان خضع لنفس اللهجة ، فلقد كان يعتقد ان مساره لرئاسة مصر سيكون ممهدا بفضل دعم أمريكي مباشر وربما يكون هناك اتفاق في الكواليس بينه وبين الادارة الامريكية و الاخوان لم يكشف الستار عنه بعد ، ولذلك لم يكن يضع في اعتباره احترام المؤسسة العسكرية أو احترام رفاق الثورة ، شعوره بالثقة الكاملة والتامة في انه الرئيس مهما تلاعب الجميع كان حاكما لكل تحركاته وتصوراته عن نفسه وعن المحيطين به ، الى أن قرر الاخوان التمرد عليه والسيطرة الكاملة على السلطة وتصفية وجوده السياسي بحملة تشويه ممنهجة عبر أذرعهم الاعلامية المتعددة ، و هنا حول البرادعي بوصلته وقرر المواجهة على طريقته .
.
لم يحب البرادعي مصطفى النجار ولا وائل غنيم وكان منحازا لزياد العليمي على حسابهم ، ولذلك اعتقد انه كان راضيا عن ترشيح زياد على رأس قائمة الكتلة المصرية في انتخابات 2011 في المقطم على حساب اسماء لامعة اخرى داخل الكتلة أعربت عن رغبتها في الحصول على مكان العليمي لأنه كان ضمانا الفوز ولكن المتحكمين في ترشيحات الكتلة انحازوا لزياد ، وهو ما أغضب الكثيرين ، ولم يكن معجبا بنجاح النجار في مدينة نصر ، أما وائل غنيم فكان خارج حسابات البرادعي وتصنيفه عنده انه مجرد "افاق " ووصفا اخر احتراما للقارئ الكريم لن اذكره .
.
ربما كان البوب أو "غاندي " يضيق بمريديه أو يريد ان يصنع مساحة لنفسه يمارس بها السلطة بعد ذلك عليهم ، وتسبب ذلك فى انقلابهم عليه مثل النجار نفسه الذي قال بوضوح في مكالمة عرضها الصندوق الأسود مع ناشط آخر قريب من البرادعي يدعى أحمد شكري "هندعم البرادعي وربنا يسامحنا على الجريمة دي " ..وكان محقا في وصفه .
.
اهمية هذه التسريبات ليس تشويه ما هو مشوه أصلا ، فالبرادعي ارتكب باسم الديمقراطية جرائم عديدة كلنا نعلمها ، لكن اهميتها تكمن في كشف علاقات بينيه كانت مخفية خلف ابتسامات زائفة تصورها لنا القنوات في ذلك التوقيت بينما في الكواليس كان الطعن من الخلف هو سيد الموقف بحثا عن أكبر قدر من المكاسب والتلميع الإعلامي بينما الوطن يصارع من اجل البقاء .
.
موقف البرادعي يتشابه الى حد بعيد مع موقف توكل كرمان الناشطة اليمينة الاخوانية التي حصلت على جائزة نوبل ايضا وهربت من بلادها الى تركيا حينما تدهورت الأوضاع في اليمن ، نفس الأمر مع البرادعي الذي هرب من المسئولية في مصر بعدما كان نائبا لرئيس الجمهورية ، ولا أحد يعلم على وجه الدقة هل هرب للنجاة بنفسه من التوقعات بتدهور الاوضاع بعد فض رابعة أم صدرت له أوامر بالهرب .
لكن المؤكد انه عاد لحضن الجماعة كما حدث قبل 30 يونيو وأن ظهوره في قناه العربي القطرية جزء من حملة تلميع اخوانية جديدة تحاول أن تعيد له هالة الضوء المحلية والدولية التي فقدها تمهيدا لاستخدامه او بمعنى أدق "ركوبه " مرة أخرى للوصول للسلطة وطمأنة العلمانيين و الليبراليين فهو واجهة مدنية مفيدة للجماعة في صراعها مع الدولة المصرية بمعاونة قطرية تركية ، وهو توجه يعكس في طياته احساسا بالفشل لدى جميع هذه الأطراف وعدم رضاهم عن الطريقة المتبعة حاليا و لذلك تسعى للاستفادة بالزعيم السابق لجبهة الانقاذ في مهاجمة الدولة المصرية وتكسير شعبيتها فضلا عن تشويه تاريخ الجيش المصري .
.
تسريبات البرادعي أصابتني بحالة من الحزن والغثيان على حال السياسة في مصر ..كيف رهنا مصيرنا ومصير دولتنا بهذه النوعية من البشر التي لم تكن ترى ألم الناس ولا الاختراقات الأمنية المتعددة بينما الجواسيس تمرح في ميدان التحرير وتصادق النشطاء والاخوان .. لم تكن ترى الانهيار الاقتصادي ولا تسريح العمال أو الكهرباء المقطوعة واختفاء الخدمات تحت عنوان براق اسمه الثورة ..لقد دفع الشعب المصري من دمه وحياة ابنائه ثمن لعبة البوب والاخوان ونجوم 25 يناير ولم يجنى من ورائها سوى القلق والتوتر و الشك والخوف من المستقبل.
.
--------------------------------
الكاتب الصحفي / محمود بسيوني
Mahmoud Bassiuony